|
النظام السياسي بين الإصلاح الطائفي وضرورة التغيير الديمقراطي
مهدي عامل
الحوار المتمدن-العدد: 5176 - 2016 / 5 / 28 - 10:30
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مقال نشر في جريدة ” النداء ” في أربعة أعداد متعاقبة ابتداء من تاريخ 4/3/1984
الفصل السابع من كتاب ” في الدولة الطائفية ” عن دار الفارابي 1986
القسم الأول : في تحديد الطائفية
تمهيد:
هذه أفكار سريعة نطرحها للنقاش. لن نعطيها شكل البحث المرصوص. نريد لها شكلا آخر هو قريب من شكل الفرضية، يستكشف بها الفكر، في نشاطه النظري، حقل الممكن من الواقع. وهي أفكار لها علاقة بما اصطلح تسميته بالطائفية. وهي أفكار تنغرس في تربة الأحداث الراهنة، من الغزو الإسرائيلي حتى انتفاضة بيروت، مرورا بمعركة الجبل و الضاحية، في خط امتداد الحرب الأهلية المستمرة. وهي، لذلك، لا تحاول إخفاء موقعها في هذه الحرب، بل تعلن بوضوح: إنه موقع رفض الفاشية في شتى أشكال تجسّدها الحدثي، وموقع النضال من أجل تغيير جذري ترتسم ضرورته في منطق العصر، من حيث هو منطق الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، في حركة تاريخية ثورية هي حركة تحرر وطني من الإمبريالية. وهي – أعني تلك الأفكار – لذلك، يتمفصل فيها النظري على السياسي في وحدة فكر مناضل.
1- الطائفية في مفهومها البرجوازي:
حتى لا يكون انزلاق إلى موقع الإيديولوجية البرجوازية المسيطرة في شكلها كإيديولوجية طائفية، لا بد من التمييز، في تحديد الطائفية، بينها في مفهومها البرجوازي، و بينها في مفهومها النقيض. فالطائفية، في مفهومها البرجوازي هي نظام حكم الطوائف. و الحكم هذا مشاركة بينها في توازن دقيق به تقوم الدولة، و به تدوم. فإذا اختل، تفككت الدولة – أو تهددها التفكك – فتعطّل دورُها في إدارة مصالح الطوائف، و تأمين ديمومة حكمها. إذّاك، يدخل المجتمع في أزمة تشخصها البرجوازية، بحسب مفهومها ذاك، كأزمة تعايش بين الطوائف: فإما عودة إلى التوازن في الحكم، بعودة إلى المشاركة فيه، و إما استقلال لكل طائفة بحكمها الذاتي، في إطار خارجي من التعدد الطائفي، ربما كان عند البعض إطارا لكونفدرالية من الكانتونات.
حجر الزاوية في هذا التحديد للطائفية هو تحديد الطائفة. فالطائفة، في مفهومها البرجوازي، هي كيان مستقل قائم بذاته، متماسك بلحمته الداخلية. لذا، كانت العلاقات بين الطوائف، بالضرورة، خارجية، لا وحدة بينها سوى ما تقيمه الدولة من أطر لتعايشها السلمي. لا وجود لشعب، ما دام الشعب طوائف، لا وجود لوطن. على قاعدة هذا التعدد تقوم دولة الطوائف، و تدوم بديمومته. كأن منطقها الخفي أن تنتظر تفككا هو ضروري بضرورة بنيتها. و التاريخ كفيل بتحقيق هذه الضرورة. فضيلة هذا التحديد أنه يريح الفكر من عناء النظر في تعقد الواقع المادي والبحث في طبقاته الاجتماعية و في الصراع وأشكاله بينها. فيستكين الفكر، إذّاك، لظاهر من الواقع هو الذي ينتظم في مفاهيم الإيديولوجية الرجوازية.
2- الطائفية في مفهومها النقيض:
لكن الطائفية، في موقع نقض هذه الإيديولوجية الطبقية المسيطرة، هي الشكل التاريخي المحدد للنظام السياسي الذي تمارس فيه البرجوازية اللبنانية سيطرتها الطبقية. معنى هذا، بدقة، أن التلاؤم قائم بين النظام السياسي (والإيديولوجي و الحقوقي) للسيطرة الطبقية، وبين شكله التاريخي الذي هو شكله الطائفي. والبحث في العوامل التاريخية التي تضافرت في تحديد تكون هذا النظام في شكله هذا، على أهميته البالغة، لا يدخل في إطار هذا المقال. فلقد لامسناه بعض الشيء في كتابات لنا سابقة، بإمكان القارئ – إن شاء – الرجوع إليها. أما المشكلة التي نود أن نطرحها للنقاش فهي التالية:
3- علاقة تلاؤم أم علاقة تلازم؟
هل هذه العلاقة القائمة بين النظام السياسي لسيطرة البرجوازية اللبنانية و الشكل الطائفي لهذا النظام هي علاقة تلاؤم تاريخي، أم انها، أكثر من ذلك، علاقة تلازم بنيوي؟ الفارق بين العلاقتين، في رأينا، كبير. العلاقة الثانية تتضمن، بالطبع، الأولى، دون أن تنحصر فيها. لكن الأولى لا تتضمن الثانية. ففي شروط تاريخية محددة من تطورها، بإمكان علاقة التلاؤم بين النظام وشكله أن تنقلب علاقة من عدم التلاؤم، فتظهر، حينئذ، ضرورة انتقال النظام من شكله الطائفي السابق، إلى شكل آخر جديد، لا يُحدث تغييرا في بنيته الطبقية، من حيث هو سيطرة البرجوازية. فهل نحن الآن، في المرحلة الراهنة من تفجر أزمة النظام في هذه الحرب الأهلية المستمرة، في حالة كهذه، تسمح بتغيير الشكل الطائفي للنظام السياسي البرجوازي، و الانتقال بهذا النظام إلى شكل آخر منه، قد يكون طائفيا و قد لا يكون، دون تغيير في طابعه الطبقي؟ أم أن الوضع الراهن مختلف، ولا بد في فهمه من إعادة النظر في طبيعة العلاقة نفسها بين ذاك النظام و شكله، من حيث هي علاقة تلازم بنيوي؟ في حالة كهذه، كل تغيير في الشكل الطائفي لهذا النظام السياسي يفرض تغييرا في طبيعة هذا النظام وبنيته، في شروط تاريخية محددة من الصراع الطبقي هي شروط سيرورة تطور ديمقراطي وطني. وسيرورة هذا التطور هي سيرورة الانتقال إلى الاشتراكية.
ليس للمشكلة التي نطرح طابع شكلي بحت، أو طابع مفهومي بحت. إن لهذه المشكلة النظرية علاقة مباشرة بمجرى المعركة السياسية الراهنة التي قد يكون طابعها التاريخي المميز هو ما نلحظه فيها من تسابق، هو صراع طبقي، خفي حينا، و علني حينا آخر، بين حل أو إصلاح طائفي للنظام السياسي الطائفي، و حل أو إصلاح ديمقراطي وطني لهذا النظام، معاد للطائفية. و مثل هذا الصراع بين الإصلاحين أو الحلين، ليس قائما بين القوى الوطنية وبين القوى الفاشية وحسب، بل نراه يجري، موضوعيا، بين أطراف التحالف الوطني نفسه.
نميل من جهتنا، إلى تأكيد أن العلاقة تلك هي علاقة تلازم بنيوي. و لقد بينا ذلك بالتفصيل في دراستينا: ” مدخل إلى نقض الفكر الطائفي “، و “بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان “. وبإيجاز كلي نقول إن الشروط التاريخية التي تكونت فيها دولة البرجوازية اللبنانية كدولة طائفية هي نفسها شروط تكون الرأسمالية في لبنان في طور أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي على الصعيد العالمي. وهي، بالتالي، الشروط نفسها التي حالت دون تكون البرجوازية اللبنانية كطبقة ثورية، على نموذج البرجوازية الأوروبية، مثلا، في طور صعود الرأسمالية. لهذه الأسباب، وغيرها أيضا، كان الشكل الطائفي للدولة اللبنانية أساسيا لوجودها كدولة برجوازية، من حيث هو الشكل الضروري الذي فيه تقوم الدولة بوظيفتها الطبقية في حماية مصالح الطبقة البرجوازية المسيطرة، عبر تأمين التحقق الآلي لإعادة إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة في إطار علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية، وبإعادة إنتاج علاقة التبعية هذه. و لئن سأل سائل: لماذا الشكل الطائفي لهذه الدولة هو أساسي لوجودها كدولة برجوازية؟ فالجواب هو باختصار، أن هذا الشكل يسمح للبرجوازية بالتحكم بمجرى الصراع الطبقي، بإبقاء الطبقات الكادحة فيه أسيرة علاقات من التبعية الطبقية بها هي، بالتحديد، علاقة تمثيل طائفي تربط الطبقات هذه بممثليها الطائفيين من البرجوازية ربطا تبعيا تفقد فيه وجودها السياسي كقوة مستقلة، لتكتسب فيه، و به، وجودا آخر هو، بالضبط، وجودها الطائفي، أي وجودها كطوائف. فما دامت الطبقات الكادحة موجودة في مثل هذه العلاقة من التبعية الطبقية التي هي فيها موجودة كطوائف، فإنها لا تمثل أي قوة سياسية مستقلة هي قوتها الطبقية المناهضة للبرجوازية. إن هذا الشكل التاريخي المحدد من وجود الطبقات الكادحة كطوائف، في حركة الصراع الطبقي نفسه الذي تتحكم به البرجوازية المسيطرة عبر تمثيلها الطائفي لنقيضها الطبقي، هو الذي يؤمن للبرجوازية المسيطرة ديمومة السيطرة الطبقية، عبر تأمينه ديمومة التجدد لنظامها الطائفي الذي هو نظام سيطرتها الطبقية. من هنا أمكن القول، بدقة، إن الشكل الطائفي لدولة البرجوازية اللبنانية أساسي لوجودها كدولة طبقية برجوازية.
4- في نقض مفهوم الطائفية:
هذا ما يسمح لنا بنقض المفهوم البرجوازي للطائفة. فالطائفة، إذن، ليست كيانا. ليست الطائفة جوهرا. ليست شيئا. إنها علاقة سياسية يحددها شكل تاريخي معين من حركة الصراع الطبقي، هو الذي تتحكم فيه البرجوازية بهذا الصراع، في غياب سياسي لنقيضها الطبقي. و العلاقة السياسية هذه علاقة تبعية طبقية تربط الطبقات الكادحة بالبرجوازية ربطا طائفيا، بانقطاعه تتحرر تلك الطبقات من علاقة تبعيتها هذه التي هي هي علاقة تمثيلها الطائفي، فتستحيل ، إذ ذاك، قوة سياسية مستقلة، و يبطل وجودها الطائفي.
لن نطيل التحليل. نطرح ما سبق للنقاش ونقول: لا بد من ثورة في الفكر بها يتحرر الفكر من أسره في أيديولوجية البرجوازية المسيطرة، فلا يفهم الطائفية، حينئذ، بحسب مفهومها البرجوازي، من حيث هي نظام حكم الطوائف. بل يفهمها بحسب مفهومها النقيض من حيث هي الشكل التاريخي الذي تمارس البرجوازية الكولونيالية اللبنانية سيطرتها الطبقية في نظام سياسي طائفي. والفكر بحاجة أيضا إلى شيء من التاريخ و من المادية و من الديالكتيكية حتى يفهم الطائفة، لا ككيان، بل كعلاقة سياسية محددة يفسر وجودها شكل من الصراع الطبقي، و يفسر إلغاءها شكل آخر من الصراع الطبقي.
5- في التناقض المأزقي للدولة اللبنانية:
بمثل ذلك الفكر المادي الدياليكتيكي نطرح للنقاش هذا القول الآخر: إن الشكل الطائفي الذي هو أساسي لوجود الدولة اللبنانية كدولة برجوازية، هو هو العائق الأساسي الذي يحول دون تكوّن هذه الدولة كدولة برجوازية. فالدولة اللبنانية واقعة، إذن، في هذا التناقض المأزقي بينها كدولة طائفية وبينها كدولة برجوازية. ولا سبيل إلى خروجها من هذا التناقض الذي هو هو بنيتها، إلا بانتقالها إلى بنية أخرى، ربما كانت بنية انتقالية يصعب تحديدها بدقة، بشكل مسبق. فقد يتداخل فيها الطابع البرجوازي بطابع آخر ينفيه، بحسب نسبة القوى الفعلية في حقل الصراع الطبقي.
ذلك أن من الصعب تحديد ملامح الآتي، لا سيما في زمن الانتقال. فالآتي هو رهن بتطور حركة الصراع الطبقي في الراهن، ليس بين قوى التحالف الوطني الثوري و قوى التحالف الرجعي وحسب، بل بين أطراف قوى التحالف الثوري نفسه. (وبين أطراف التحالف الرجعي أيضا). و لعل التسابق الراهن الذي أشرنا إليه بين الحل الطائفي والحل الديمقراطي لأزمة النظام البرجوازي، قائم حتى في صفوف هذا التحالف الوطني نفسه الذي قد يستهوي الحل الطائفي بعضا من أطرافه. غير أن ما نريد تأكيده، في هدف طرحه للنقاش، هو أن من الخطأ، تاريخيا و سياسيا و نظريا، تصور أن الأزمة الراهنة هي أزمة انتقال الدولة اللبنانية من شكلها البرجوازي، الذي هو شكلها الطائفي، إلى شكلها البرجوازي، الذي هو شكلها الديمقراطي. هذا الخطأ يستعيد خطأ آخر يكمن في إقامة علاقة من عدم التلاؤم بين بناء تحتي للمجتمع اللبناني له طابع برجوازي، وبناء فوقي ” متخلف “، في طابعه غير البرجوازي، عن تطور الرأسمالية في لبنان، بحيث تفرض إعادة التلاؤم بين البناءين إصلاحا برجوازيا للنظام السياسي.
هذا الخطأ المزدوج يكمن في تجاهله واقعا ماديا متميزا هو أن ذلك الشكل الطائفي من الدولة ليس الشكل الملائم، تاريخيا، لوجود الدولة البرجوازية في لبنان و حسب، من حيث هو الشكل الذي فيه وجدت هذه الدولة كدولة برجوازية، بل هو أساسي لوجودها البرجوازي نفسه. و في تعبير آخر نقول إن الدولة الطائفية هي هي الدولة البرجوازية. و هي هي التي تحول، في آن، دون وجودها كدولة برجوازية. كأن الشكل الطائفي الملموس الذي هي فيه برجوازية، هو الشكل الذي تتحقق فيه، ماديا، إستحالة وجودها، في اتساق مع مفهومها النظري، كدولة برجوازية. و ما هذه الاستحالة، في منطق تحققها المادي، سوى استحالة أن تكون، أو أن تصير، البرجوازية اللبنانية، كبرجوازية كولونيالية، طبقة ً ثورية ً ، كما كانت البرجوازية الأوروبية في طورها الصاعد. ومنطق هذه الاستحالة، أو تلك، هو نفسه المنطق الذي يحكم آلية تحرك ما سميناه في حينه ” نمط الإنتاج الكولونيالي”، في استحالة تماثله بنمط الإنتاج الرأسمالي الذي هو منه شكل تاريخي مميز. و ما هذا المنطق، في تعبير آخر، سوى الذي يحكم آلية تطور الرأسمالية التبعية التي يتماثل فيها طورها الصاعد الذي هو طور تكونها، بطور أزمتها التي هي هي أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي في كونيته.
4- أزمة النظام السياسي:
هل نبالغ في القول، أو نخطئ فيه، إذا وضعنا أزمة النظام السياسي الطائفي، من حيث هي أزمة نظام السيطرة الطبقية للبرجوازية اللبنانية، في إطارها الصحيح الذي هو إطار أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي في كينونته؟ هل نخطئ، في القول، أو نبالغ فيه، إذا قلنا إن زمن تلك الأزمة يندرج في زمن هذه الأزمة، و إن الزمنين هذين واحد، هو زمن الانتقال، ليس، بالطبع، ليس من زمن ما قبل سلطة البرجوازية و دولتها إلى زمنها و زمن سلطتها و دولتها الديمقراطية، بل هو زمن الانتقال الكوني من الرأسمالية إلى الاشتراكية، في أشكال و مراحل تختلف باختلاف الشروط التاريخية الملموسة الخاصة بحركة الصراع الطبقي في كل بلد محدد؟ لا نخطئ، و لا نبالغ، بل نقول إن الأزمة ليست مجرد أزمة الشكل الطائفي للنظام السياسي البرجوازي، كأن هذا الشكل هو في علاقة خارجية بهذا النظام، فإذا تغير، سلم النظام و دام. الأزمة هي، بالعكس، أزمة هذا النظام، في شكله هذا، من حيث هو نظام السيطرة الطبقية للبرجوازية اللبنانية. أزمة هذا النظام انه لم يعد قادرا على تأمين ديمومة التجدد لهذه السيطرة الطبقية. و أزمته، فوق تلك، أن الدولة التي كان عليها، بحسب مفهومها النظري كقائدة لمصالح الطبقة البرجوازية المسيطرة، أن تبادر إلى إصلاحه ليكون قادرا على القيام بوظيفته، عجزت عن ذلك، و هي عاجزة عنه، لأنها، بالضبط، دولة طائفية. و قادها منطق العجز هذا الذي هو هو منطق تناقضها المأزقي إلى السير، بالعكس، في نهج فاشي طائفي عنصري، به تتفاقم أزمة النظام، بدلا من أن تجد به حلاً. لذا، كانت القوى التي بادرت إلى طرح برامج لإصلاح النظام إصلاحا ديمقراطيا برجوازيا، هي القوى المناهضة للبرجوازية، في مناهضتها النهج الفاشي.
7- ملاحظة أولى:
ولنا في هذا السياق، و عليه، ملاحظتان: الأولى هي ان الإصلاح لا يتحدد بمضمونه فقط، بل يتحدد، فوق ذلك، و قبل ذلك، سياسيا، بطبيعة القوى التي تطرحه و تقوم به، و بنسبة القوى بين الطرفين الرئيسين في الصراع الطبقي. فإصلاح تبادر البرجوازية، مثلا، إلى القيام به، من موقع قوة في علاقتها بنقيضها الطبقي، و من موقع وجودها في السلطة، يختلف اختلافا جذريا، أي سياسيا، عن إصلاح تفرضه على البرجوازية، القوى المناهضة لها، من موقع قوة في علاقتها بها، ومن موقع وجودها المسيطر في حقل الصراع الطبقي، حتى لو كانت خارج السلطة. الاختلاف بين الإصلاحين قائم، إذن، حتى لو تماثلا، فكانا إصلاحا واحدا في مضمونه. الإصلاح، في الحالة الأولى، ينتهي بانتهاء ما تحقق منه، في ظل سيطرة البرجوازية، فتنغلق المرحلة على نفسها، وهي التي به تتحدد، فتنتفي، بذلك، إمكانية انفتاحها على مرحلة جديدة ممكنة، وتعود حركة الصراع الطبقي إلى سابق عهدها دون تغيير، في تحددها كحركة فيها تتجدد سيطرة الطبقة المسيطرة. أما الحالة الثانية، فأهم من الإصلاح – على أهمية هذا الإصلاح – أن يكون مفروضا على البرجوازية من القوى المناهضة لها. حينئذ، تنفتح في حقل الصراع الطبقي إمكانية أن تكون البرجوازية أسيرة نسبة من القوى، في هذا الحقل، ليست في صالحها، فلا تنغلق المرحلة على نفسها بانتهاء ما تحقق من إصلاح، بل تظل بالعكس منفتحة على آت يجيء في إنجاز مهماتها، فيتسارع التاريخ بدينامية حركة من الصراع الطبقي هي التي تحدثها سيطرة القوى المناهضة للبرجوازية الفاشية في حقله، في بنية محددة من الزمن هي، بالضبط، بنية زمن الانتقال الذي أشرنا إليه. فهل نحن الآن في مرحلة كهذه؟ هل بإمكان القوى الوطنية و الديمقراطية أن تفرض على البرجوازية و نظامها إصلاحا من هذا النوع، يقوم على أنقاض الفاشية الكتائبية، و يفتتح في التاريخ أولى حلقات سيرورة طويلة و معقدة من التغيير، هي هي سيرورة ذلك الانتقال؟ سؤال نطرحه للنقاش، و نستدرج القارئ إلى البحث في شروط تحقق هذا الإمكان التاريخي.
8- ملاحظة ثانية:
والملاحظة الثانية هي أن تحديد القوى المناهضة للنهج الكتائبي الفاشي بأنها قوى مناهضة للبرجوازية نفسها، و لنظام سيطرتها الطبقية، قد يجد من له عليه اعتراض نظري، و ربما سياسي أيضا. فالقوى الوطنية و الديمقراطية ليست كلها، بالضرورة، قوى معادية للبرجوازية، و ليست تنتمي كلها، بالطبع، إلى الطبقة العاملة. إنها في غالبيتها، بالعكس، برجوازية، سواء في انتماءاتها الطبقية و موقعها في علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة، أم حتى في توجهاتها و طموحاتها السياسية، وفي أيديولوجيتها أيضا. فكيف يستقيم تحديدها بأنها مناهضة للبرجوازية و نظامها، وهي كما نقول؟ بإيجاز نجيب بأن الكلام على قوى طبقية، سواء أكانت فاشية أم ديمقراطية وطنية، هو كلام يجري على الصعيد السياسي. فمفهوم “القوى الطبقية” هو، إذن، بحد ذلته، مفهوم سياسي، و تحديد هذه القوى أم تلك هو، بالتالي، تحديد سياسي. هذا يعني أن الموقع الذي تحتله هذه القوى في حقل الصراع الطبقي هو الذي يحددها سياسيا، فيحدد طابعها الطبقي – أو قل إنه يحدد الطابع الطبقي لممارستها السياسية – وليس الموقع الذي تحتله في بنية علاقات الإنتاج القائمة. الموقع الأول هو موقعها السياسي، و الموقع الآخر هذا موقعها الاقتصادي ولا يجوز الخلط بين الموقعين، بل النظرية والسياسة تقضيان، معا، بضرورة التمييز بينهما، مع العلم بأن هذا يحدد ذاك، فيتحدد به، تاليا، بالشكل الذي به يحدده. بهذا التمييز وحده نفهم كيف يمكن لفئات، أو أقسام من فئات برجوازية، مثلا، أن تكون، في شروط تاريخية محددة، في حقل الممارسات السياسية للصراع الطبقي، في موقع الطبقة العاملة، أو أن تكون، بالمقابل، أقسام من هذه الطبقة التي عي نقيض البرجوازية المسيطرة، سياسيا، و أيديولوجيا أيضا، في موقع البرجوازية، نقيضها الطبقي. (أليس هذا ما حدث في لبنان في هذه الحرب المستمرة، حين انتقلت، بالممارسة السياسية والعسكرية و الإيديولوجية، أقسام واسعة من الطبقات الكادحة إلى مواقع الفاشية؟).
9- القوى المناهضة للفاشية:
التحديد السياسي، و كذلك الإيديولوجي، للقوى الطبقية يجري، إذن، في حقل الصراع الطبقي، دياليكتيكيا، و ليس نيتافيزيقيا، لأن كل قوة من هذه القوى ليست، في هذا الحقل، كيانا مستقلا، أو جورا مفارقا – كما الطائفة، مثلا، في مفهومها البرجوازي – يتحدد بذاته و في ذاته، من حيث هو الذي هو. بل هي – أعني تلك القوة – علاقة، و لا توجد إلا في شكل علاقة ديالكتيكية، ضدية أو تحالفية، أي في الحالتين صراعية، سواء أكان هذا الصراع تناحريا أم غير تناحري. أو قل في تعبير آخر، إن كل قوة من تلك القوى الطبقية تتحدد في حقل الصراع الطبقي في علاقتها بالقوى الأخرى، و بهذه العلاقة بالذات. لذا، كانت القوى المناهضة للفاشية مناهضة للبرجوازية، لأن النهج الكتائبي الفاشي تمكن من أن يفرض نفسه، بقوة السلاح و الإيديولوجية، على أطراف البرجوازية جميعا، لا سيما على الطغمة المالية التي هي الفئة المهيمنة من البرجوازية، من حيث هو النهج السياسي الأوحد للبرجوازية المسيطرة. لقد انحازت هذه الطبقة الكولونيالية إلى الحل الفاشي ضد الحل الديمقراطي لأزمة نظامها السياسي الطائفي، فتحددت القوى الديمقراطية، بمناهضتها الحل الفاشي، من حيث هو الحل البرجوازي نفسه، كقوى مناهضة للبرجوازية، برغم الانتماءات الطبقية البرجوازية لأقسام واسعة منها. معنى هذاأن الموقع السياسي الذي احتلته في حقل الصراع الطبقي، بممارستها المعادية للفاشية، هو ، بالضبط، موقع الطبقة العاملة التي هي هي، في علاقتها التناحرية بالبرجوازية المسيطرة، الطبقة المهيمنة النقيض. من هنا وجب الكلام، في الكلام على القوى الوطنية الديمقراطية، على تحالف طبقي ثوري يتمحور حول الطبقة العاملة، حتى لو لم تحتل هذه الطبقة بعد فيه موقع الهيمنة الطبقية الذي هو موقعها الطبقي، من حيث هي الطبقة المهيمنة النقيض. هذا يعني أن الوجود السياسي للطبقة العاملة، بوجود حزبها الطليعي و نهجه الثوري، في هذا التحالف هو الذي يحدد طابعه الطبقي الثوري المعادي للبرجوازية و نهجها الفاشي، و نظامها الطائفي. بل إن وجودها فيه، في موقعها الهيمني ذاك، هو الذي يؤمن للتحالف ديمومة طابعه الثوري، هذا الذي بدونه من الصعب جدا على حركة الصراع الطبقي ضد الفاشية الطائفية أن تنفتح على أفقها الضروري الذي هو، في سيرورة التحرر الوطني نفسها، أفق سيرورة الانتقال إلى الاشتراكية.
ضد هذه الفاشية الطائفية، يرتسم منطق الحل الديمقراطي في منطق هذه السيرورة التاريخية في هذه الحرب الأهلية المستمرة.
هذا أيضا قول مطروح للنقاش.
القسم الثاني
في التوازن الطائفي
1- في التوازن الهيمني:
للتوضيح نقول إن التوازن الطائفي الذي هو أساسي لوجود الدولة و ديمومتها،لا يعني المساواة في الطوائف، و إن كان من وظيفته الايديوليجية أن يوحي بها، أو أن يولد في الوعي وهما بها. إنه، بالعكس، توازن هيمني لا يقوم إلا بهيمنة طائفية هي التي بها يتأمن وجوده كتوازن طائفي. لكن المشكلة الفعلية ليست في وجود هذه الهيمنة، أو في عدم وجودها، بقدر ما هي في العلاقة القائمة، في الدولة نفسها، بين الهيمنة الطبقية و الهيمنة الطائفية. ولقد أشرنا سابقا إلى أن الدولة اللبنانية واقعة في تناقض مأزقي هو الذي يحدد بنيتها، وهو قائم فيها، بينها كدولة برجوازية، وبينها كدولة طائفية. في ضوء هذا التناقض البنيوي يجب فهم ذاك التوازن الهيمني.
فموقع الهيمنة الطبقية الذي هو في الدولة أساسي لوجودها كدولة برجوازية ، له، في الدولة اللبنانية، بالضرورة، طابع طائفي، لأن لهذه الدولة طابعا طائفيا. لذا، كانت الهيمنة الطبقية في هذه الدولة تتمظهر، حكما، في هيمنة طائفية هي شرط قيام الدولة بوظيفتها الطبقية كدولة برجوازية. ولمزيد من التحليل، بإمكان القارئ- إن شاء – أن يرجع إلى الفقرة الثامنة من الفصل الثالث من كتابنا: “مدخل إلى نقض الفكر الطائفي”.
لا نريد، إذن، أن نستعيد تحليلا قمنا به في مكان آخر. من موقع النظر في المنطق الطازج للأحداث، و قد تسارع دفقها، فتسارع التفكك في نظام حكم كتائبي أتى لينقذ، بفاشيته، نظاما طائفيا لسيطرة برجوازية متعفنة، تساعده على الانهيار؛ من موقع البحث في تحديد الشكل الذي يمكن للتغيير السياسي الجذري – وقد بات ضروريا – أن يتم فيه، نطرح للنقاش فكرة هي التالية:
لقد كان التوازن الطائفي، كتوازن هيمني، هو الذي يؤمن للدولة إمكانية القيام بوظيفتها الطبقية كدولة برجوازية، فكان، بالتالي، أساسيا لوجودها، لأسباب تاريخية مختلفة لا مجال، الآن، للدخول في تفاصيلها. لكن الحرب الأهلية، بمراحلها المتعددة، و ما سبقها أيضا من نضالات ديمقراطية، تؤكد، بالملموس التاريخي، أن هذا التوازن لم يعد يؤمن للدولة تلك الإمكانية، بل بات العائق الرئيسي الذي يحول دون قيام الدولة بوظيفتها تلك. فحركة الصراعات الطبقية فجرت، بالعنف، التناقض المأزقي الكامن في بنية الدولة اللبنانية، و فرضت ضرورة إحداث تغيير في ذلك التوازن، وبالتالي، في الشكل الطائفي للدولة. أما السؤال الذي يطرح نفسه فهو التالي: هل “المشاركة” تحدث هذا التغيير؟ هل “المشاركة” نقيض للتوازن الهيمني؟ هل “المشاركة” تؤمن المساواة بين الطوائف؟ هل تقدم حلا؟ هل تلغي في الدولة تناقضها المأزقي؟ و “المشاركة” مفهوم كثر الحديث عنه دون تدقيق. و “المشاركة” شعار رفع كحل ممكن. فهل هي الحل؟
2- في مفهوم “المشاركة”:
نمهد للجواب فنقول إن مفهوم ” المشاركة ” يتضمن تشخيصا للمشكلة هو أن المشكلة تكمن في وجود هيمنة طائفية على الدولة – (كأن الدولة في موقع محايد من “الطوائف” ومن الطبقات و صراعاتها، و في علاقة خارجية بها. كأن الدولة غاية مستقلة عنها). وزوال هذه الهيمنة يكون بالمشاركة فيها. فبدلا من أن تكون السلطة إحتكارا لطائفة بعينها، هي الطائفة المارونية، عليها أن تكون، كما اتفق في حينه (1943) أن تكون: مشاركة بين طائفتين: الموارنة والسنة. (راجع ميشال شيحا). المشكلة هي، إذن، في أن طرفا من طرفي عقد طائفي أخل، فاستأثر بما للإثنين دون الآخر.حتى جاء، من خارج الإثنين، من يطالب لنفسه بما للإثنين، فكبرت اللعبة، وانفرط العقد. و للاثنين السلطة التنفيذية التي بها – دون السلطة التشريعية؟ – تكون الهيمنة. فموقعها هو موقع الهيمنة، من يكون فيه، تكون له دون غيره. أما الحل، فإصلاح به تستقيم الدولة، في ممارسة طائفية مشتركة للسلطة، ( مزدوجة، أم مثلثة، أم مسدسة؟ أم حتى أكثر؟)، فتستعيد اتساقا فقدته مع مفهومها الأصلي كدولة طائفية.
بفجاجة، بلا مواربة، نقول إن هذا الحل يعبر عن حنين أطراف من البرجوازية المسيطرة، إلى زمن ماض هو زمن ما قبل انفجار أزمة النظام، حين كانت هذه الأطراف ( الإسلامية )، في غياب سياسي شبه كامل للطبقات الكادحة، تشارك في السلطة، عبر ممثليها الطائفيين، من موقع قبولها بفتات من السلطة، في خضوعها، و قبوله بخضوعها هذا للهيمنة إياها التي باتت ترفض، أو للدقة، باتت تطمح إلى تخفيف حدتها، من موقع الحرص عليها و على نظامها، لا سيما بعد أن أخذت تلك الطبقات الكادحة تتكون في قوة سياسية مستقلة، فتتحرر من شكل وجودها السابق كطوائف، في سيرورة طويلة معقدة من النضالات الوطنية الديمقراطية. و يعبر ذلك الحل أيضا عن طموح تلك الأطراف إلى تعزيز مواقعها في السلطة، أي قُل إلى تغيير مواقعها في النظام السياسي الطائفي – لا إلى تغيير هذا النظام – في اتجاه اقتسام الهيمنة و مواقعها في السلطة. خلاصة القول إن الإصلاح الذي يفترضه البعض من أطراف البرجوازية ممكنا بالمشاركة يقود، لو تحققت هذه المشاركة، أو لو كان تحققها، على سبيل الافتراض، ممكنا، إلى تكريس النظام السياسي الطائفي و تعزيزه، بدلا من تغييره و إلغائه. إذن، فالحل هذا ليس بحل. إنه تعميق لأزمة النظام.
وبوضوح أيضا نقول إن مفهوم ” المشاركة ” يندرج في منظومة مفاهيم الإيديولوجية البرجوازية، في تحددها كإيديولوجية طائفية. و طابعه الطبقي البرجوازي يظهر، بوجه خاص، في تغييبه الطابع الطبقي لنظام التوازن الطائفي، و في عرضه الأمور و حلولها كأنها قائمة بين طوائف، في غياب كلي للطبقات و للصراع بين الطبقات. لكن هذا القول لا يكفي في نقد هذا المفهوم، و ليس هذا هو الأهم في نقده. قد تكون ” المشاركة “، في وجه منها، حلا طوباويا لأزمة فعلية، أي حلا، بالوهم، لهذه الأزمة. و الحل الوهمي هذا هو في إلغاء مساوئ النظام الطائفي، دون إلغاء النظام نفسه، أي بالتحديد، كما أشرنا، في إلغاء الهيمنة فيه، بتقاسمها بين أكثر من طائفة.
———-
– حل وهمي:
شبيهٌ هو هذا الحل، في طابعه الوهمي، و في طابعه الطبقي، و في دلالته الإيديولوجية، بالحل الذي تقترحه الشعبية ( أو الشعبوية ) – هذا التيار البرجوازي الصغير – لأزمة الرأسمالية، و هو الذي يقضي بإلغاء مساوئ النظام الرأسمالي دون إلغائه، أي بإلغاء وهمي لتناقضاته البنيوية وآثارها الوخيمة. مثل هذا الجنوح بالوعي في اتجاه الوهم الطبقي هو الذي يميز، بوجه عام، وعي الفئات غير المهيمنة من البرجوازية، في طموحها ( الشرعي ؟ ) إلى احتلال موقع الهيمنة الطبقية بدلا من الفئة المهيمنة من البرجوازية المسيطرة، أو إلى جنبها، و إلى التماثل به – إن أمكن – في السياسة و الاقتصاد. و ما الشعارات الطوباوية التي ترفعها مثل تلك الفئات في حالات معينة سوى تعبير عن هذا الطموح، و عن العجز في تحقيقه، في آن. من هذه الشعارات، مثلا، شعار العدالة، أو المساواة، بمعنى العدالة و المساواة بين فئات البرجوازية المسيطرة، حتى لا يكون منها فئة هي المهيمنة، وأخرى غير مهيمنة، خاضعة لهيمنة الفئة المهيمنة. و منها شعار تذويب الفروقات الطبقية بين الطبقات. و منها أيضا شعار ” المشاركة ” الذي يحكمه منطق واحد من الوهم الطبقي الخاص بوعي الفئات غير المهيمنة من البرجوازية المسيطرة، هو منطق إلغاء هيمنة الفئة المهيمنة من الطبقة المسيطرة، دون إلغاء السيطرة الطبقية لهذه الطبقة. إنه، بالنسبة لهذه “المشاركة”، منطق إلغاء الهيمنة الطائفية، دون إلغاء سيطرة الطوائف، أي قل دون إلغاء نظام هذه السيطرة، من حيث هو هو نظام السيطرة الطبقية للبرجوازية المسيطرة. نحدد هذا المنطق، بأنه منطق طوباوي، هو منطق ذلك الوهم الطبقي، لأن السيطرة الطبقية للبرجوازية ليست ممكنة إلا بهيمنة الفئة المهيمنة منها. فالهيمنة الطبقية لهذه الفئة هي إذن أساسية لوجود سيطرة الطبقة المسيطرة نفسها، بجميع فئاتها دون تمييز. فتلك الهيمنة هي التي بها تتأمن ديمومة تجدد هذه السيطرة الطبقية. و إلغاء تلك الهيمنة، أو قل إلغاء نظامها، يقود، بضرورة منطقه، إلى إلغاء هذه السيطرة، أو قل إلى إلغاء نظامها، في سيرورة معقدة من الصراع الطبقي تختلف، في أشكالها و مراحلها، باختلاف الشروط التاريخية الملموسة لهذا الصراع.
4- تعطيل دور الدولة:
في ضوء ما سبق نعود فنقول إن التوازن الطائفي لا يكون بالمشاركة، بل بالهيمنة، و لا يكون إلا بها. ولا تقوم دولة طائفية إلا بمثل هذا التوازن الهيمني. لا لضرورة طائفية، – (أو لحكمة إلهية تقضي بأن تكون الهيمنة لطائفة بعينها، هي الطائفة المارونية، لأنها هي التي هي، بحسب العنصرية الطائفية لهذا النهج الفاشي الذي ارتضته لنفسها – حتى حين آخر – الفئة المهيمنة من البرجوازية المسيطرة نهجا لها في ممارسة الصراع الطبقي في هذه الحرب الأهلية المستمرة، ضد القوى الوطنية و الديمقراطية، و بالتالي، حتى ضد فئات من البرجوازية نفسها، هي بوجه عام، فئات غير مهيمنة)، – بل لضرورة طبقية هي ضرورة الدولة في وجودها الطبقي كدولة. ذلك أن السلطة، بما هي سلطة الدولة، لها بالضرورة طابع هيمني. ولا وجود للسلطة إلا في هذا الشكل الذي هي هي فيه الهيمنة. فالهيمنة هي لمن في السلطة و كل إلغاء للهيمنة هو، بالضرورة إلغاء للسلطة، إي لسلطة الدولة نفسها. فكيف تقوم الدولة بوظيفتها الطبقية وقد ألغي فيها موقع الهيمنة، فألغيت سلطتها؟ هذا ما يدفعنا إلى القول بلا تردد إن ” المشاركة ” الطائفية، بما تعنيه، أو بما تطمح إليه من إلغاء للهيمنة الطائفية، في إطار الدولة الطائفية نفسها، و مع الحفاظ عليها، هي – أعني تلك ” المشاركة ” – مستحيلة في مبدئها النظري نفسه، في إطار دولة مركزية واحدة، حتى لو حاول البعض تحقيقها عمليا. ذلك أنها تقود، لو تحققت، إلى تعطيل دور الدولة، و إبطال وظيفتها الطبقية، بإلغاء موقع الهيمنة الذي هو فيها، كدولة مركزية واحدة، موقع السلطة. إن تلك ” المشاركة ” تقود الدولة المركزية، إذن، إلى الشلل أو إلى تعدد في مواقع الهيمنة، و بالتالي، في مواقع السلطة، هو تعدد للدولة، بحسب منطقها الطائفي. حينئذ، تتعدد الدولة المركزية، أو قل تنفجر في دويلات طائفية، بحسب مبدأ اللامركزية السياسية.
إن هذا المنطق من وجود البرجوازية في دولة طائفية – وهو هو منطق تناقضها المأزقي – هو الذي يحكم إمكان تعددها في دويلات طائفية. بتعددها هذا، يتحقق فعليا مفهومها النظري كدولة طائفية، في انتفاء وجودها كدولة برجوازية. هكذا تتفكك دولة البرجوازية، إذ يكتمل منطق وجودها الطائفي الذي هو أساسي لوجودها البرجوازي، كأنها، في عجزها عن الوجود كدولة برجوازية، في اكتمال وجودها في دولة الطوائف، هي في اتساق مع مفهومها النظري كدولة برجوازية كولونيالية. فمنطق عجزها ذاك هو هو منطق مفهومها النظري هذا، والتاريخ في هذه الحرب الأهلية المستمرة يؤكد صحة هذا المنطق في عجز البرجوازية اللبنانية وعجز نظامها الطائفي عن توحيد المجتمع و الشعب و الوطن. أما الإصلاح الطائفي للدولة الطائفية، بحسب مبدأ ” المشاركة “، فليس – كما رأينا – بإصلاح. خلاصة هي نطرحها للنقاش ونتساءل: هل من إصلاح طائفي آخر قد يكون ممكنا ؟ أي الإصلاحات هو الممكن؟ في أي شروط؟
(ملاحظة: أما مبدأ المساواة في السلطة بين الطوائف، فهو كمبدأ ” المشاركة ” – إن لم نقل إنه هو هو مبدأ ” المشاركة “، أو تعميمه – يحول دون تحقيقه وجود الدولة كدولة، من حيث هي لا تقوم، كما سبق القول، إلا بالهيمنة. فإذا تحقق، برغم استحالة تحقيقه النظرية، فتحقيقه العملي هذا يقود،
#مهدي_عامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلمة شكر الى حسين مروة
-
الثقافة و الثورة
-
في الدولة الطائفية – مقتطفات
-
نمو حركة ثورية عربية من نوع جديد
-
مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطن
...
-
عن نقد الاقتصادية والارادية
-
مسألة الديموقراطية
-
حركة التحرر الوطني: طبيعتها وأزمتها
المزيد.....
-
من أوكرانيا إلى فلسطين.. تحديات الأممية المتسقة
-
الشرطة الباكستانية تطلق الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهري
...
-
ترامب يهدد اليساريين المتطرفين بهذا الإجراء..وحملة هاريس ترد
...
-
بلاغ السكرتارية الوطنية للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة
...
-
بيان اللجنة الوطنية لمربيات ومربي التعليم الأولي FNE التوجه
...
-
س?بار?ت ب? ه??بژاردني خولي ش?ش?مي پ?رل?ماني کوردستان
-
س?بار?ت ب? ه??بژاردني خولي ش?ش?مي پ?رل?ماني کوردستان
-
س?بار?ت ب? ه??بژاردني خولي ش?ش?مي پ?رل?ماني کوردستان
-
الفصائل الفلسطينية تواصل خوض معارك ضارية ضد القوات الإسرائيل
...
-
الانتخابات البرلمانية لحكومة إقليم كوردستان؛ إفلاس سياسي وتع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|