أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - كمال بالهادي - التعليم و التنمية في تونس: المرجعية و الرهانات















المزيد.....


التعليم و التنمية في تونس: المرجعية و الرهانات


كمال بالهادي

الحوار المتمدن-العدد: 5147 - 2016 / 4 / 29 - 01:45
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


تشهد تونس حالة ثوريّة، منذ سنة 2011، وهذه الحالة الثّورية تمسّ مجالات مهمّة منها ما هو سياسيّ ومنها ما هو اقتصاديّ و اجتماعيّ و ثقافيّ. يحاول التّونسيون رسم خارطة إصلاحات كبرى، تشمل المجالات التي ذكرناها. فتمّ تحقيق إصلاحات سياسيّة مهمّة، تمثلت في صياغة دستور الجمهوريّة الثّانيّة، و يقع تركيز المؤسسات الدّستوريّة التي تمثّل لبنات مهمّة في بناء الدّولة الديمقراطيّة الجديدة باعتبارها مطمحا قديما بالنّسبة للنّخب التّونسيّة التي قادت معركة بناء دولة ما بعد الاستقلال. توازيا مع عملية التّنميّة السّياسيّة التي ينجزها التّونسيون، تطفو على السّطح عدّة قضايا تستوجب إصلاحات عاجلة و أهمّها ملف التّعليم.
لقد كان التّعليم في تونس منذ نيل الاستقلال، قاطرة التّنمية. فبالتّعليم تمّ بناء مؤسّسات الدولة، و تمّ تحقيق النّهضة الاقتصاديّة و الاجتماعيّة. و لهذا تمّ الرّبط بين التّعليم و بين دوره كمصعد اجتماعي يساهم في تغيير حياة الناس و نقلهم من وضع إلى وضع أفضل. و لأنّ تونس لا تمتلك ثروات طبيعيّة تمكّنها من تكديس الأموال، دون الاعتماد على قيم العلم و التّعليم مثلما هو الحال في دول عربيّة أخرى، فإنّها راهنت على التّعليم و جعلته رافعة التقدّم، و وسيلة التّنميّة الشّاملة. غير أنّ النّظام التّعليمي في تونس، يبدو أنه قد بلغ مرحلة الشّيخوخة، ولم يعد قادرا على الاستجابة لمتطلّبات المجتمع، و لا قادرا على المساهمة في التّنميّة، فضلا عن كونه قد أصبح عاجزا عن أن يكون مصعدا اجتماعيّا، في مجتمع منفتح وفي مجتمع تتقاطع فيه عدّة روافد ثقافيّة و إيديولوجيّة.
إنّ وعي النّخبة التونسيّة بأنّ واقع التّعليم قد تردّى في أزمات عميقة، هو الذي يدفعها إلى قيادة عمليّة إصلاح جذريّة، ترنو إلى أن تحقّق تنميّة ثقافيّة شاملة. و تهدف إلى أن يكون التّعليم مساهما في بناء الدولة الجديدة. لكنّ إشكالات كثيرة تتعلّق بهذه الثورة التّعليميّة التي ينشدها التّونسيون. فليس من الهيّن قيادة عمليّة تثوير جذريّة في مجتمع غير مستقرّ، و ربّما بمرجعيّات غير واضحة. كما أنّه ليس من الهيّن الاستقرار على منهج تعليمي واحد في ظلّ تعدّد مصادر المعرفة، و في ظلّ الرهانات و التحدّيات التي تفرضها التغييرات التكنولوجية المتسارعة في العالم. وفي ظلّ كل هذه العناصر المتداخلة تطرح أكثر من إشكاليّة حول عملية الإصلاح المنشودة. فأيّ مرجعيّة ستستند إليها عملية الإصلاح الشّامل؟ و أيّ روابط بين إصلاح التّعليم و التّنمية الشّاملة التي تسعى النّخبة التونسيّة تحقيقها كهدف ثوري طالبت به الجماهير بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟ ثمّ بأي وسائل يمكن تحقيق هذا الإصلاح؟ و بأي إمكانات؟
إنّ جملة هذه الشواغل، هي التي يقع تدارسها في هذا الوقت، ضمن إطار حوار شامل يشارك فيه كلّ التّونسيين بآرائهم، و على اختلاف مشاربهم الفكريّة و الإيديولوجية. وهم ساعون بكلّ جدّية نحو بناء نظام تعليمي جديد، يلبّي كلّ المطامح. وهم في ذلك لا فقط مخيّرون بل مجبرون، لأنّ الثّروة الوحيدة التي تمتلكها تونس هي الثروة البشريّة التي استطاعت أن تنجز " معجزات" أذهلت العالم. إنّ قيادة عملية إصلاح شاملة للتعليم في تونس، تفترض أن يكون المشاركون في هذه العملية المعرفيّة العميقة أن يكونوا قد اطّلعوا على التجارب النّاجحة في العالم، للنسج على منوالها، بما تسمح به الإمكانات، لأنّ تجارب الإصلاح السابقة التي تمّ تنفيذها في تسعينات القرن الماضي و في سنة 2002، كانت مسقطة و أدّت إلى نتائج كارثيّة.
البحث في هذه القضيّة، يتطلّب الوقوف عند جملة من المحاور و التفريعات يمكن تبويبها كما الآتي.
- المحور الأول: مرجعيات الإصلاح
و في هذا المحور يمكن أن نتناول جملة من القضايا الفكرية المتعلّقة بالخلفيّة الحضاريّة التي سيقوم عليها مشروع الإصلاح. وهنا ندرس في مبحث أوّل منطلقات الإصلاح. وندرس في مبحث ثان آليات الإصلاح، و ندرس في مبحث ثالث الانتظارات من الإصلاح.
- المحور الثاني: رهانات إصلاح التعليم في تونس
في هذا المحور نحاول تفكيك العلاقة بين التّنمية و التّعليم في تجارب الدّول المتقدّمة، و ما هو مطروح على التّجربة التّونسيّة. و سنقسّمه إلى مباحث ثلاث، الأوّل نهتمّ فيه بما يريده التّونسيون من التعليم، و الثاني نبحث فيه أهمية التّعليم في قيادة التّنميّة الشّاملة و الثالث نتوقّف فيه عند تجارب مقارنة و إمكانات التفاعل معها من خلال حقائق الواقع.
و نخلص في خاتمة هذه الدّراسة إلى جملة من النتائج و التّصوّرات و المقترحات.



Ι-;- – مرجعيّة الإصلاح
إنّ الحديث عن إصلاح تربوي في تونس ليس جديدا، فقد كان هذا المشغل هاجس النّخب التونسية في فترة ما بعد الاستقلال و استطاعت النّخبة آنذاك أنّ تؤسس لمدرسة تونسية عصرية رغم قلة الإمكانات المادية و البشريّة في ذلك الوقت. لكنّ إرادة التونسيين كان أقوى من كلّ العراقيل و تم نشر المدارس الابتدائية في كل القرى، و تم تركيز المعاهد الثّانوية، ثم شيّدت الجامعات و المعاهد العليا. و التونسيون مدينون لرجال راهنوا على التّعليم، و خصّصوا له من مقدّرات الدّولة البسيطة، ما سمح لتونس أن تكون استثناء عربيا في مجال التّعليم، لكنّ المتغيّرات التي تعيشها تونس في السّنوات الأخيرة صارت تفرض إعادة إصلاح جذري لنظام التّعليم. وهنا تطرح مسألة المرجعيّة التي سينى عليها الإصلاح. فالمعلوم أنّ تونس بلد منفتح، ومثل على مدى التّاريخ ملتقى الحضارات. ومن هنا فإنّ الإصلاح يجب أن يبنى على خلفيّة ثقافية منفتحة، تعطي الأهمية القصوى للبعد الوطني في مرحلة أولى و تعطي أهمية للهويّة العربية الإسلامية و للقيم الكونية في مرحلة ثانية.
1- المرجعيّة الدّستوريّة
إذا كان الدستور الجديد، قد أقرّ الجمهورية الثانية، ذات الطّابع المدني و الديمقراطي،"تونس دولة مدنيّة، تقوم على المواطنة و إرادة الشعب وعلوية القانون" . فإنّ تركيز أسس هذه الجمهورية يفترض، إنشاء جيل جديد مؤمن بالتّحوّلات التي شهدتها البلاد، و ساعيا إلى ترسيخ الجمهورية الديمقراطيّة. لكنّ تحقيق هذه الأهداف لا يمكن أن ينجز على أرضا الواقع ما لم تنخرط المؤسّسة التّعليميّة، في جملة هذه التّحوّلات. و ما عمليّة إصلاح التّعليم المرتقبة إلاّ وجها من وجوه انخراط المؤسسة التّعليميّة في هذا المشروع التّغييري. ومن هنا أسّس الدستور الجديد للبلاد التونسيّة مرتكزات لهذا الإصلاح. فالمبدأ الأساسي الأوّل في أيّ مشروع إصلاحي يجب أن يتناغم مع مسألة الهوية التي حسمها الدستور حسما جازما، إذ نجد في الفصل الأوّل " تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها و العربيّة لغتها، و الجمهوريّة نظامها." مسألة السّيادة تفترض أن يكون إصلاح التّعليم نابعا من خيارات وطنية تحقق طموحات الشّعب، لا من خلال برامج مسقطة أو مفروضة من مؤسسات دولية. و الهوية الدينية حسمها الدستور من خلال " الإسلام الوسطي المعتدل" بحسب ما جاء في الفصل السّادس، حيث نجد" تلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال و التّسامح .." . و تحقيق هذه الهدف يستوجب مراجعة البرامج المدرسيّة، في إطار دعم اللّغة الأمّ و هي اللّغة العربيّة، ومراجعة برامج التّربية الإسلاميّة، وبرامج المواد الاجتماعيّة الأخرى كالتّاريخ و الجغرافيا و التربية المدنيّة، حتى يمكن بناء شخصيّة تونسيّة جديدة، مستلهمة للهويّة الوطنيّة و منخرطة في القيم الكونيّة.
إنّ إصلاح التعليم المنشود في تونس، يقتضي بناء إنسان تونسي جديد، وعملية البناء تقتضي بحسب الدستور الجديد، أن تلتزم الدولة بتوفير ضمانات للشباب التونسي، تمكّنه من أن يكون فاعلا في عملية التّغيير الحضاري التي تسعى تونس لتحقيقها، إذ ينص الدستور الجديد على" توفير الظروف الكفيلة بتنمية قدرات الشباب و تفعيل طاقاته وتعمل على تحمّله المسؤولية وعلى توسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية." إنّ هذا المبدأ يقتضي أن تتولّى الدولة من خلال مؤسساتها توفير كل الظروف التي تكفل للأطفال التونسيين و للشباب موارد تعليميّة تسمح بتمكينهم من هذا الحقّ، أي المشاركة الفعّلة في المجتمع. و تتطابق هذه المبادئ مع جملة مبادئ تنص عليها القوانين الدولية التي تسعى لتمكين الإنسان من الأدوات التي تجعله غير مهمّش، إذ "يعدُّ التعليم حقّا من حقوق الإنسان في حدّ ذاته، وهو في الوقت نفسه وسيلة لا غنى عنها لإعمال حقوق الإنسان الأخرى. فالتّعليم بوصفة حقّا تمكينيّا، هو الأداة الرئيسيّة التي يمكن بها للكبار و الأطفال المهمشين اقتصاديا و اجتماعيا، أن ينهضوا بأنفسهم من الفقر، و أن يحصلوا على وسيلة المشاركة كليّا في مجتمعهم." غير أن تحقيق هذه الأهداف يفرض على الدولة التونسية وهي المشرفة على عملية إصلاح التعليم في كلّ مراحله أن تكيّف النظام التعليمي الجديد مع المبادئ الأساسية التي نصّ عليها الدستور الجديد، و أن تضمن توفير كلّ الآليات التي سيُنفّذ من خلالها الإصلاح الجديد، وهذا يمكن ترجمته في ما يلي:
- ضرورة توفير مؤسسات تعليميّة قادرة على استيعاب من هم في سنّ الدراسة، استجابة إلى مبدإ دستوري يقتضي "إلزامية التّعليم إلى سن السادسة عشرة، و ضمان الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وسعيها إلى توفير الإمكانيات الضروريّة لتحقيق جودة التّربية و التّعليم و التّكوين."
- المساواة في حقّ التعليم، و المساواة في حقّ الحصول على تعليم جيّد، بمعنى ضرورة إنهاء واقع التمييز و التهميش الذي تعاني منه الجهات، و ضرورة تطبيق المبادئ الدستورية التي تنصّ على التّمييز الإيجابي للفئات و الجهات المهمّشة. إذ ينص الدستور الجديد على " سعي الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية و التنمية المستدامة و التوازن بين الجهات، استنادا إلى مؤشرات التنمية و اعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي." ودون توفير شرط المساواة، سيظل الإصلاح أعرجا، و لن يحقق أهدافه التنموية و الحضارية المنشودة. ذلك أن غياب المساواة في الحصول على التعليم الجيّد، كان سببا في انخرام نظام التوجيه الجامعي، حيث يحصل طلبة الجهات المحظوظة على فرص تعليم أفضل و بالتالي يحصلون على فرص توجيه أفضل، فيما يحصل طلبة الجهات المهمّشة على توجيه جامعي لشعب تعليميّة يعاني خرّيجوها من أزمة بطالة متفاقمة .
- قابلية التكيّف، وهو مبدأ مهمّ في التشريعات الدولية، " إذ يجب أن يكون التّعليم مرنا، كما يتسنّى له التكيّف مع احتياجات المجتمعات و المجموعات المتغيّرة، و أن يستجيب لاحتياجات الطلاب في محيطهم الاجتماعية و الثقافي المتنوّع."
إنّ إصلاح التعليم يجب أن يستجيب لهذه المرجعية التي تشكل هوية تونس المعاصرة بكل عناصرها المرتبطة بالتاريخ و الهوية و الحداثة التي يمثلها الدستور الجديد، غير أن مشروع الإصلاح يجب أن يستند أيضا إلى المرجعية الواقعية، بمعنى مرجعية ما يتطلبه هذا المجتمع المتغيّر من استحقاقات المشروع النهضوي الجديد.
2- مرجعية الواقع المتغّير
إن المشرفين على عملية الإصلاح التربوي في تونس، عليهم أن يتسلّحوا بوعي "مطابق" لحاجيات واقعهم، ولحاجيات تاريخهم الآني، و أن يتسلّحوا بوعي مطابق أيضا لحاجيات المستقبل. فبناء الدولة الحديثة -وهو هدف مشروع ومنشود- يبدأ ببناء إنسان حديث، وذلك لا يتحقّق إلاّ بتوفير ثلاثة أقانيم، هي العقلنة و العلمنة و الديمقراطية.
إن مشروع الإصلاح الجديد يجب أن يبنى على أسس عقلانية، و يجب أن تكون غائياته واضحة وهي تثوير الإنسان و المجتمع. و هذه الأهداف إنّما تنبني على روافد معرفية لا بدّ من التسلّح بها. إنّ التّعليم في تونس قطع أشواطا تقدميّة لم يعد بالإمكان التّراجع عنها، ورغم كل المنجزات التي تمّ تحقيقها فإنّ الانتظارات تظلّ أكبر مما تقدّم. وحتى يكون القادم أفضل فإن اتّجاه التعليم في تونس يجب أن يواصل مراكمة الزخم النّقدي الذي سارت فيه التجربة العقلانية العربية المعاصرة، ويجب أن يواصل مسيرة التحديث و التغيير التي لا تنتهي. إن الواقع التونسي الجديد وهو في مرحلة تشكّل راهنية، يستوجب مسار تحديث التّعليم، وهذا المسار يقتضي السّير في اتّجاهين مترابطين كما يقول هشام شرّابي:" الاتجاه العقلاني و الاتجاه العلماني أي عقلنة الحضارة و علمنة المجتمع".
و باعتبار مشروع الإصلاح التربوي، هو مشروع ثوري يتناغم مع المسار الإصلاحي و الثوري الذي تشهده تونس في مجالات متعدّدة، فإنّ " المشروع الثوري هو مشروع تحديث و عقلنة و دمقرطة" ، و إلاّ فإنّ النتائج لن تكون معبّرة عن طموحات الذين ينتظرون مدرسة تونسية عصريّة.
إنّ التّعليم التونسي المنشود، وجب أن يكون تعليما عصريا في مناهجه و برامجه و وسائل تنفيذه، لأنّ التّفكير أو الوعي المطابق لحاجيات المجتمع التونسي الرّاهنة و المستقبليّة، لا يمكنه إلاّ أن ينتج تعليما عصريّا، يرتقي بالمجتمع، وينفتح على التحارب التحديثية في العالم المتقدّم. هنا علينا أن نستحضر تجارب الدول النّاجحة، التي استطاعت أن تغادر بوتقة التخلّف و التأخّر، و أن تدخل نادي الدول المتقدّمة، المتسلّحة بالعلم العصري.
إنّ الحديث عن حاجيات الواقع و المستقبل لا تحيلنا ضرورة على استيراد مناهج تعليمية، ومحاولة فرضها على واقع تونسي. فالتجارب الإصلاحية السابقة أثبتت فشلها، لأنها رغبت في فرض مناهج تعليمية في أرض غير أرضها، و أنتجت نوعا جديدا من الأمّيين، دخلوا المدرسة لسنوات و خرجوا منها دون اكتساب أدنى المهارات. وهذه الإشكالية تنسحب على التعليم بكافة مراحله، أي من التعليم الأساسي إلى التعليم الجامعي. يقول الدكتور منجي بوسنينة:" تؤكّد البحوث و الدّراسات أنّ غربة التّعليم العالي عن واقعه العربي، و ضعف ارتباطه بقضايا التّنمية، يمكن إرجاعها بالأساس إلى أنّه تعليم مستورد من ثقافات أخرى في محتواه و في لغته معا."
إنّ مشروع الإصلاح بقدر ما يرنوا إلى إحلال نقلة نوعية في المدرسة التونسية، فإنّه من الخطأ المضي قدما في استيراد مناهج تعليميّة أثبتت عدم جدواها، وضعف مردوديتها. و عليه فإنّ الإيمان بأهمية مشروع وطني يمثل منطلقا حضاريا للدولة العصريّة في تونس، يفترض أن تكون من أولى الأولويات، التفكير في آليات تنفيذ هذا المشروع.
Ι-;-Ι-;-- آليات الإصلاح
إنّ العقبة التي تواجه عملية الإصلاح اليوم هي مسألة آليات التّنفيذ، والمتفرّعة إلى جملة من العناصر مثل الآليات القانونية، و الهيكلية و الماليّة و البشريّة. و لأنّ المشروع وطني، فإنّ المفترض هو أن تكون جلّ الآليات منتجا محليّا، و أن يكون الاعتماد على الذّاتي هو الخيار الأوّل، ثم يكون الاعتماد على التّعاون الخارجي في مرحلة ثانية. فالنّظام التعليمي الجديد يجب أن يكون تونسيا لحما ودما كما يقال، لأنّ الدستور التونسي في فصله التاسع و الثلاثين ينصّ على أن الدولة هي الضامنة للتعليم العمومي المجاني في كلّ مراحله.
1- الآليات القانونية
يحتاج تنفيذ مشروع الإصلاح إلى إعادة صياغة النصوص القانونية التي تنظم قطاع التّعليم في تونس. و في هذا المستوى، يجب التفكير في "تثوير" كل النصوص القانونية التي لم تعد متلائمة مع واقع المجتمع التونسي الحالي و المستقبلي. فهناك قوانيين تعود إلى عقود خلت وهناك قوانين وقعت مراجعاتها و تنقيحها ممّا جعلها غير فعّلة في تحسين مردودية قطاع التّعليم. و الأمثلة على هذه النصوص القانونية كثيرة ويمكن الإشارة إليها في نقاط موجزة.
أ- النّصوص القانونية المتعلّقة بموقع التّعليم الخاصّ في النّظام التعليمي العمومي التونسي، تحتاج إلى مراجعة مؤكّدة حتّى تكون الصورة واضحة في علاقة بين التعليم العمومي الحكومي و التعليم الخاص. خاصة أن الدستور التونسي الجديد يؤكّد على مجّانية التّعليم في كلّ مراحله. و في المقابل فإن هناك عقد الشّراكة بين القطاع العام و القطاع الخاصّ، و بالتالي لا يمكن دفع الشراكة بين القطاعين في مجالات إنتاجيّة معيّنة و " تحريمها" في مجالات أخرى.
ب- النّصوص القانونية الخاصة بمكانة موظفي التّربية(*) – بكلّ أصنافهم- تحتاج إلى مراجعة بل إنّه من غير العقلاني أن تكون بعض أصناف موظفي التّربية لا تملك إلى اليوم قانونا أساسيا، خاصّا بها، رغم أن تاريخ المدرسة التونسية الحديثة يعود إلى نحو ستّة عقود كاملة. و لا يمكن الحديث عن إعادة الاعتبار للتّعليم، وإعطائه المكانة التي يستحقّها باعتباره مصعدا اجتماعيّا دون الحديث عن نصوص قانونية جديدة تخصّ مكانة موظفي قطاع التّربية ومكانتهم في المجتمع التونسي المتغيّر.
ج - النّصوص القانونية الخاصّة بكيفيّة تسيير المؤسسة التّربويّة، قد لا تتماشى مستقبلا مع التّنظيم الإداري الجديد للبلاد التونسي، باعتبار أن الدستور الجديد يؤكّد التزام الدّولة بدعم اللاّمركزيّة، إذ نجد فيه " تلتزم الدولة بدعم اللامركزيّة و اعتمادها بكامل التّراب الوطني، في إطار وحدة الدّولة" . ويقتضي هذا الأمر أن تصاغ النّصوص القانونيّة الجديدة في علاقة بما قد يترتّب عليه من تنظيم إداري محلّي و جهوي و إقليمي جديد.
2- الآليات الهيكليّة
إنّ التنظيم الهيكلي، لوزارة التربية ووزارة التعليم العالي سيكون محكوما بمجمل التغييرات الهيكلية في البلاد التونسية، فالمؤسسة التربوية المحلية أو الجهوية أو الوطنية ستكون في علاقة تنظيمية حتميّة بجملة المؤسسات التنظيمية التي ستنشأ عن نظام السّلطات الجديد الذي أقرّه الدستور التونسي الجديد . غير أنّ التنظيم الهيكلي لقطاع التربية في تونس، يعتمد على إرادة مجتمعيّة في تكوين مجلس أعلى للتّربية تكون من مهمّاته التخطيط الاستراتيجي لقطاع التّعليم في تونس وهو مطلب ترفعه النقابات و المنظمات و تتبناه الكثير من الأحزاب السياسية.
3 – الموارد البشرية و الماليّة
إنّ الحديث عن أيّ مشروع ضخم في أهميّة إصلاح نظام تعليميّ، يعني أن تمتلك الدولة الآليات التي تمكّنها من تنفيذ مخططات الإصلاح. و أهمّ آليتين هما التّمويل و الموارد البشريّة. الحقيقة أنّه يوجد في تونس أنظمة تعليميّة وليس نظاما تعليميّا واحدا، فهناك التعليم العمومي و هناك التعليم الخاص الذي ينقسم إلى نوعين الأولى تعليم جيّد يمكن القول إنه ينافس التعليم العمومي و يتفوق عليه خاصة في المرحلة الابتدائية، و الثاني تعليم خاصّ عرف في تونس بكونه "تعليم حرّ"، يلجأ إليه عادة، الفاشلون في النظام التعليمي العمومي، وهو يمثّل مشكلة حقيقيّة. المردودية في كلّ هذه الأنظمة صارت تقاس بما يقع إنفاقه من تمويلات لتحصيل تعليم جيد و لضمان تكوين عصري للمدرسين، و للانفتاح على أكبر الجامعات او عقد اتفاقيات شراكة مع مركز بحث عملاقة. إنّ كلّ هذه الأهداف تستوجب توفير التمويلات، فالدّولة التي تشرف على القطاع العمومي عليها أن تكون واعية بأهمية الرّهان على التّعليم و ضرورة توفير الموازنة اللازمة له، ضمن الإنفاق الحكومي. هناك مقاييس عالمية، تستوجب أن تكون الدولة فاعلة في تنمية التعليم و في التّنمية عموما. إذ نجد في تقرير التنمية البشرية لسنة2013، الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ما يؤكّد أهمية أن تكون الدولة فاعلة، إذ يقول محرّرو التقرير" تتولّى الدّولة الفاعلة و المسؤولة وضع السياسات للقطاعين العام و الخاص،مستندة إلى رؤية ثاقبة و قيادة قوية، ومعايير مشتركة و قوانين ومؤسسات تبني الثقة و التماسك للمستقبل... فباستطاعة الحكومات أن تدعم القطاعات التي لم تكن لتنهض لولا هذا الدّعم."
من هذه المنطلق فإن مرجعية الإصلاح يجب أن تنبني على فكرة مركزية و هي الاستثمار في العقل و في الإنسان. وهذا النوع من الاستثمار الذي يستهدف بناء قدرات مجتمع المعرفة و الذكاء، يفترض ألاّ يبحث فيه عن نتائج آنيّة، بل إنّه مشروع للمستقبل يتطلّب تضحيات كبرى من كلّ أطياف المجتمع.
Ι-;-Ι-;-Ι-;-- رهانات الإصلاح
ما من شكّ في أنّ أيّ مشروع إصلاح، إنّما يهدف لتحقيق غائيّات و أهداف تمّ التخطيط لها مسبقا. و عليه فإنّ تثوير التّعليم في تونس له ما يبرّره. وهو تثوير منشود ومنتظر، لأنّ المجتمع يعيش حالة تغيير حضاري شامل، و الوسيلة الأولى و الفضلى لهذا التّغيير هي المدرسة.
من هذا المنطلق يصبح رهان إصلاح التعليم، لا فقط رهانا يُختزل في إصلاح البرامج أو تجاوز النقائص الماثلة في إنجاز العمليّة التربويّة، بل هو رهان التّنمية الشّاملة الذي يؤسّس للإنسان التونسي الجديد، أخذا بعين الاعتبار كلّ المتغيّرات الحادثة و استتباعاتها الثّقافيّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة و الاقتصاديّة.
- الرّهان الأول، لعمليّة إصلاح التّعليم في تونس، يتمثّل في إعادة المدرسة التونسية إلى موقعها الطّبيعي في المجتمع، باعتبارها مصنع العقل التّونسي و باعتبارها المصعد الاجتماعي، وباعتبارها أداة الرّقي الحضاري الشّامل . و إذا كانت المدرسة التّونسيّة، هي الهدف في هذا المستوى، فإنّ التّفكير الأشمل، لا يتوقّف عند هذا الحدّ، لأنّ التّعليم هو القاطرة التي تقود إلى بناء المجتمع الجديد و المجتمع الحديث. وهنا تأتي عملية الإصلاح كتمشّ ضروري، وكحركة نحو التّقدّم لا بدّ منها، حتّى يجني المجتمع الثّمار غدا. وهذه الحركة الإصلاحية لا يجب أن تتوقّف، لأنّ التّغيير هو مسار دائب. و الثّقافات التي استطاعت أن تنجح في تحقيق التّقدّم هي التي تمكّنت من تمثّل أهميّة التّعليم و التطوير في مسار التّغيير الشّامل. إذ يقول المرحوم علاّلة الفاسي في كتابه النّقد الذّاتي:" إذا كان للغرب من فضل، فهو في كونه دائم الحركة، مستمرّ السّير، لا يقنع بمجهود و لا يرضى بما نال، إنّ روحه التي تنقصنا هي الإيمان بالتطوّر الفكري الدّائب.
إنّ فضل عمليّة الإصلاح الشمولي للتّعليم في تونس، هو في كونها، يجب أن تنهض من منطلقات كبرى، و يجب أن تكون لها أهداف كبرى أيضا. لأنّ الرّهان على بناء إنسان تونسي جديد، هو رهان عظيم.
- المقصد الثّاني من عمليّة إصلاح التّعليم في تونس، هو ترسيخ عقليّة جديدة قوامها، التّفكير الحرّ، و المتحرّر من كل المعوقات، التي كانت تحول سابقا دون تمكين المدرسة من آليات الإبداع العلمي و الفكري. فالمدرسة التّونسيّة اليوم، هي في وضع حرّية شاملة، بفضل الدستور الجديد و القوانين التي ستترجم ذلك الدستور على أرض الواقع. ويفترض أن يقع استغلال مناخ الحرّية العامّ في دفع المدرسة و التعليم بكافّة مستوياته إلى رحاب الإبداع و التّحرّر، الذي هو شرط أساسي من شروط مراكمة المنجزات العلميّة، التي هي قنطرة الحياة العصرية. إنّ تحرير الفكر، وتحرير البحث العلمي، هو المقصد من كلّ عملية إصلاح ثوري للتّعليم، ودون ذلك، فلن يكون للإصلاح أي معنى وأي فائدة أو مغزى.
- الرّهان الثّالث لإصلاح التّعليم في تونس، يتأسّس على جملة المتغيّرات الاجتماعية و السّياسيّة، التي حدثت منذ العام 2011. وهذه المتغيّرات كشف عن نَقص حادّ في تماسك البنى الفكرية و الاجتماعيّة، في المجتمع التونسي، وذلك برغم محاولات المدرسة التونسية، تصفية كلّ إرث اجتماعي أو قَبَلي، و طائفي يمكن أن يهدّد وحدة المجتمع. وقد برزت جملة مؤشّرات، تثبت أن الارتداد عن تلك المكاسب التي تحقّقت طوال سنوات ما بعد الاستقلال، هو أمر يمكن أن يتحقّق في لمح البصر. ولعلّ تسجيل أعداد كبرى من أبناء المدرسة التونسية في رحاب الجماعات المتطرّفة في العالم، لهو دليل على أن التّحصين الفكري للأجيال الشّابة يحتاج تعليما جديدا، وتعليما مغايرا في منطلقاته و في أهدافه أيضا.
خلاصة
إنّ المقياس العامّ لعمليّة الحضارة، هو أنّ الحضارة هي التي تلد منتجاتها. و إذا ما اعتمدنا هذا المقياس، فإنّ الحديث عن منتجات تقدّميّة في ثقافة ما، هو رهين جملة العوامل الاجتماعية و الثقافيّة لذلك المجتمع. و من الطبيعي أن تكون المدرسة هي المصهر الأوّل التي تتمّ فيه عمليّة صهر كلّ تلك العوامل، لتتمّ عملية الإثمار في ما بعد. المدرسة إذن هي المحضنة الأولى لأيّ عملية إنتاج حضاري، و لا ينتظر أن تعطينا المدرسة نتائج ممتازة، إن لم يتمّ منحها، الأدوات و الوسائل الكفيلة لعملية إنتاج ممتازة.
ولذلك فإنّ عملية الإصلاح التي وقع تدشينها في تونس، هي من الأهميّة و الخطورة في آن، ما يجعلها تحدّيا حضاريّا، تستوجب وحدة اجتماعيّة صمّاء و تستوجب أفقا تفكيريّا رحبا.



#كمال_بالهادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - كمال بالهادي - التعليم و التنمية في تونس: المرجعية و الرهانات