أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي صالح جيكور - قصة قصيرة أيام سعدون















المزيد.....

قصة قصيرة أيام سعدون


علي صالح جيكور

الحوار المتمدن-العدد: 5136 - 2016 / 4 / 18 - 07:56
المحور: الادب والفن
    



قصة قصيرة أيام سعدون

اليوم الذي لم تضحك فيه ، هو اليوم الذي لم تعش فيه ، هذا ما يردده سعدون ، وهو يدور بين المحلات والدكاكين في السوق الكبير ، حاملا على كتفه كيساً من الجنفاص الأبيض بجيبين ،إمتلأ أحدهما بالحَب الأبيض ، والآخر بالحب الأحمر ..
يطبق بكلتا يديه على عنق الكيس ، ويسويه فوق كتفه ، ثم يهرول مسرعاً حينما يقترب من دكاكين بعض التجار ثقال الدم أصحاب الوجوه المتجهمة الكئيبة ، كما يسميهم ..
ويبطيء حينما يقترب من الدكاكين والحوانيت الأخرى ، التي يحب أصحابها ويحبونه ..
ينتظر الجميع مَقدَمَ سعدون ، يدعونه بلهفة ، لا لشراء الكرزات اللذيذة التي يحملها فقط ، ولكن لسماع صوته الشجي العذب ، ونكاته التي يطلقها بسرعة بديهة لاتُصدق ، نكات حاضرة فوق طرف لسانه ، أراجيز وأشعار ينظمها في غضون ثوانٍ ، ثم يختم هذه الاشعار والنكات بنهايات مضحكة لاتخطر على بال من لايعرف سعدون..
من بين هذه الطرائف جمع المتناقضات في بيت شعر واحد ، فيكون الصدر مثلاً ، عن معركة تأريخية ، وعجز البيت عن أدوات سيارة ..!
أو الصدر في رثاء ملك ، والعجز عن سندويشة فلافل ، وغيرها الكثير من الطرائف التي يتفنن بتجديدها وتقديمها لمُحبيه..
مُدة غنائه وإنشاده ، أو إلقاء نُكاتَهُ ، تتأرجح بطولها أو قصرها ، وفق مايُدفع له مُقدماً .. يمنح يدفع له أي مبلغٍ ، مهما كان ضئيلاً ، قبضة من الحب الأحمر أو الأبيض ، يرفض بشدة أي عطاء دون هذا الشرط ، إذ يعتبرها تسول وشحاتة ، وهذا مالايرضاه سعدون ..
فمقابل الربع دينار ، ينشد بيتين قصيرين ، يختمهما برعشة كتفيه ، وهز رقبته اللولبية ، ومقابل النصف دينار يقرأ ابياتاً أطول ويدور دورتين او ثلاثة برقصة غريبة..
أما إذا دُقع له ديناراً أو أكثر ، فأنه ينشد قصيدة طويلة يعقبها غناء لأبيات أبو ذية ، يختمها بضرطات مموسقة ، ثم يحمل كيسه ويهرب ، تاركاً الحاضرين يغرقون بثمالة ضحك هستيري ، يُسمع من بعيد..
يلاحقونه ، يتوسلون إليه أن يعيد ماقام به ، يزيدون له العطاء ، فيماطل ويفاوض بخبثٍ محبب ، منتهزاً حبهم له ، وعشقهم لفنه الساحر العجيب..
تنفذ أكياس الحَب ، ولاتنفذ حكايات سعدون ومرحه ، ينفضّ الناس من حوله ، ينصرفون الى متاجرهم وأعمالهم ممتلئين ، فرحين ، تعتلي وجوههم البسمة ، مستقبلين بتفائل يومهم الجديد ..
لسعدون عينان صغيرتان ، تتوهجان بمكر فطري وتلتمعان كعيني ذئب ، أنفه كبير ، عليه آثار كدمات وبثور ، وندب ثلاثين عاماً من التدخين وكؤوس العرق ، وجهه مثلث قاعدته الى الأعلى ، في خديه غمازتين كبيرتين يضفيان على بسمته سحراً ، وشارب رفيع إختط فوق شفته العليا.
لاتفارق البسمة وجهه الصغير ، حتى عندما يكون غافياً في إحدى زوايا السوق ، بعد جولة مرح وضحك تمتد الى الواحدة ظهراً ، وبعد أن يمج آخر قطرة من زجاجة العرق الصغيرة التي لاتفارق جيب معطفه البالي..
عندما تنكمش الشمس في نهاية جدران الدكاكين المقفلة ، يستيقظ سعدون ، يطوي كيسي الحب الفارغين ، وينحدر صوب الشارع العام.
على الرغم من حضور سعدون بين الناس لسنين طويلة ، لكن أحداً لايعرف أين يعيش ، ولامن أين يأتي !! ظل لغزاً مُحيراً ، قيل عنه الكثير ، نسجوا حوله حكايات تشبه الأساطير ..
قال أحدهم ، أنه شاهد سعدون خارجاً من إحدى النوادي الليلة الشهيرة ، يرتدي بدلة غالية ، بصحبة حسناء كالقمر..
والبعض إدعى أن لسعدون أبناءً ، مهندسون وأطباء ، تبرأوا منه ، بعد عجزهم عن ثنيه من امتهان بيع الكرزات ، والدوران في الأسواق ..
وقال رجل بدين ، أحمر ، أنه رأى سعدون أو شخص يشبهه تماماً ، أمام مديرية الأمن ، ترجل من سيارة فارهة ، وعلى كتفيه ثلاث نجمات !! بل هو سعدون بعينه ، كما قال، مؤكداً مارآه ..
وأقسم آخر ، أن سعدون كان في مزاد علني ، إشترى صفقة كبيرة من آلآت ثقيلة ومعدات زراعية وشاحنات ..
قالوا وقالوا ، أحاديث كثيرة ، وقصص أكثر ، وهذا هو ديدن الناس ، فيما يجهلون..
لم يكن بوسع أحد أن يُثبت أو ينفي تلك الاقاويل ، أو أن يُقطع بذلك ..
تبعه بعض الفضوليون الى مرآب المدينة ، ليعرفوا أي مكان يقصد ، وأي حافلة يستقل ، لعلهم يقعوا على شيء من أسراره !! لكن دون جدوى ، فقد كان يتبدد على نحو غامض ، ويختفي اثره ، مثل فص ملح يذوب في الماء ، كما قالوا..
في سفرتي الأولى الى الوطن ، وبعد عشرين عاماً من الغربة ، كنت أجلس في مكتبٍ للعقار وسط المدينة ، مَرَّ رجل يسحل برجله ويتكأ على عكاز خشبي عتيق ، هرعتُ الى الخارج ..
سعدون ..
سعدون ..
توقف ، إستدار نحوي بعد عناء ، دنوت منه ، حدقت في وجهه ، تلاشت شكوكي ، كونه هو ، أم لا !!
نقلت نظري بحزن فوق جسده الضئيل وثيابه الرثة التي تشي بحياة بائسة مريرة..
سعدون ؟؟؟!!
إختلجت قسماته وهو يتفحص وجهي وقامتي بإستغراب ودهشة !!..
هل عرفتني ياسعدون ؟؟؟
أستاذ سامي قفطان ؟؟ قالها ، ( رغم عدم شبهي بالأستاذ سامي قفطان ) ..
ضحكت بفرح : أنت كما أنت ياسعدون ، لم تكبر ولم تغيرك السنين ، مازالت النكتة حاضرة على طرف لسانك !!
تبسم بلوعة ، مسد لحيته البيضاء بيده ، وأشار الى رجله المشلولة والعكاز ..
لاتؤاخني ياأستاذ ، الزمان اللعين أنسانا حتى أسمائنا ، شكلك ليس غريباً عني ..
لاعليك ياسعدون ، مَرَّ زمن طويل ..
لاحظتُ كيس نايلون طويل يتدلى من كتفه ، فيه صوراً للزعيم عبدالكريم قاسم ، ولممثلين أتراك!!
والحَب الأحمر والأبيض ياسعدون ؟؟؟؟؟
هزَّ رأسه بأسف ولوعة ، إلتمعت عيناه بحزن عميق ، اخرج من جيبه علبة دخان رخيصة ، إستل سيكارة وقدمها لي ، وألقم فمه بواحدة ..
سارعتُ الى إشعالها ، ربتَّ على يدي شاكراً ، ثم سحب نفساً عميقاً موجعاً ، ونفث الدخان بعيداً :
لم تعد للناس أسنان يكرزون بها يا أستاذ ، ولاوجوه تضحك ، ثم أشار بيده التي تحمل السيكارة وحركها حوله بنصف دائرة ، أنظر الى الخراب الذي شمل كل شيء ، ولاأعني هذه البنايات المتداعية والشوارع المقفرة الخربة فحسب ، أنظر الى وجوه الناس المطاطية المقيتة ، وجوه تلتحي الكآبة والوجوم ، كأنهم من عالم آخر ، يتصنعون الأيمان والتقوى والشرف ، أغلبهم لصوص ومرتشون ، وعديمي الذمة ، أعرف آباء هؤلاء المنافقين التافهين الذي يحدقون بك وبي الآن وهم يجلسون أمام دكاكينهم المترعة بالبضاعة والسلع الفاسدة ، كفساد عقولهم ..
أعرف آبائهم جميعاً ، كانوا مرحين يعشقون الحياة ، متسامحين ، متحابين ، ضحكاتهم تجلجل وتملأ السوق الكبير ، لاأعرف كيف خلفّوا هذا الجيل اللعين؟؟!!
دنا مني وهمس : تصور ياأستاذ أن هؤلاء لايضحكون حتى في الاعراس ، يلطمون ويبكون بمناسبة أو بدونها !!
هل لك ان تتخيل شكل الحياة بلافرح ياأستاذ ؟؟؟
وأنت ياسعدون ، كيف تعيش ؟؟؟
الحمدلله ، مستورة ، كثيرون هم مُحبي الزعيم ، يشترون صوره ، مازالوا متعلقين به ..
وآخرون يعشقون صور ( مُهند ) التركي ، وهذه الحسناء التي لاأعرف إسمها ههههههه
سعل ، ضحك ، فبانت أسنانه المتهرئة المنخورة ..
بكم تبيع الصورة ياسعدون؟؟
الف دينار ياأستاذ .. خذ هذه مني لك ، قدم لي صورة الزعيم ..
تناولت ورقة من فئة الخمسة والعشرين الف دينار من محفظة نقودي ، دسستها في جيبه ، قلت إحتفظ بالباقي ياسعدون ..
إرتمى على يدي ليقبلها ، سحبتها بسرعة وقبلت رأسه..
أسمِعني شيئاً من غناء الأمس ياسعدون..
سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي ترمدت بين أصابعه ، رماها قريباً ، ثم راح يغني هذا البيت الزهري بصوته الدافيء المبحوح :
ياصاح دنياك مُظلم كــــــــــل وكت جوها *
وتشوف سمح الأرض لاجن من نكر جوها
أخبرك نفس الصحيب الساعدك جوها
من حيث عسر الدهر ينيسر بالعانة
والعبراك إبفلس صارت عبرته بعانة
لايامريض الحسد ماكو ناس بالعانة
دنياك هَم وقهر ، ذبها ، لاتذب جوها
تدحرجت دمعة من عيني ، وتراقصت مثلها في عيني سعدون ، مازالت عيناه الثعلبيتان تحتفظان بذاك البريق القديم ..
مددت يدي الى محفظتي لأستل ورقة نقدية أخرى ، ضغط على كفي بقوة ،أقسم أنه لن يأخذ شيئاً آخر مني..
تذكرت عناده ، وعزة نفسه ، وفي غمرة الحزن ، حضنته وبكيت ، إستشعرت اهتزاز جسده الضئيل وهو ينتحب معي ..
كفكف دموعه بظاهر كفه المُنمشة ، مثل طفل صغير..
جَرَّ عكازه ، أومأ لي شاكراً ،
ثم ذاب في السوق.



#علي_صالح_جيكور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي صالح جيكور - قصة قصيرة أيام سعدون