أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - تطبيقاتٌ فقهيَّة - 1















المزيد.....


تطبيقاتٌ فقهيَّة - 1


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 5133 - 2016 / 4 / 15 - 16:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كثيرٌ مِن المُسلمين الجُدد، الرَّافضين لحُجيَّة السُّنة أو المُتشككين بها، يلوذون بالقرآن، على اعتبار أنَّ السُّنَّة قد تعرَّضت للتحريف والإضافة، سواءٌ من غير المُسلمين أو من المُسلمين أنفسهم. وهذه النُّقطة وحدها تستدعي التَّوقف عندها، ولكن ما يهمني تناوله في هذا المقال هو مُحاولة النَّظر -بشكلٍ عقلانيٍ- في بعض العقوبات التي يرفض بعض المُسلمين وجودها في التَّشريع الإسلامي؛ باعتبار أنَّه لم يرد فيها نصٌ قرآنيٌ صريح. وفي رأيي فإنَّ هذه الحُجَّة واهيةٌ جدًا؛ إذ أنَّ كثيرًا جدًا من "الجرائم" والمُحرَّمات (المُعاصرة) ليست واردةً نصًا في القرآن، ورغم ذلك قد لا يختلف على تحريمها أحد، وذلك إمَّا "قياسًا" على أحكامٍ وتشريعاتٍ أُخرى مُشابهة، أو "استنباطًا" من حُكمٍ أو تشريعٍ قرآني.

في هذا المقال سوف أتناول عقوبة (الزِّنى) في الإسلام، لنعرف ما إذا كانت عقوبة الزِّنى هي الجلد إطلاقًا، كما يقول بذلك بعض المُتأخرين والمُجددين من المُسلمين، أم أنَّ الأمر به تفصيلٌ كما عليه جمهور علماء السَّلف من اشتراط التَّحصين مِن عدمه. وفيما يلي سوف أقوم باستعراض الآيات التي وردت فيها عقوباتٌ صريحةٌ على الزِّنى ثمَّ نأتي للتفصيل لاحقًا.

1- {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(النُّور:2)
من النَّاحية المبدئيَّة والظَّاهرية، تبدو هذه الآية صريحةً في تنصيص عقوبة الجلد 100 جلدة على كُلٍ من الزَّانية والزَّاني. وقد وردت هذه اللفظة مُجملةً غير مُفصَّلة؛ مما يعني "كُلَّ" الزُّناة دون تفصيلٍ أو تحديدٍ مُشترطٍ بالإحصان أو بغيره، وهو ما يعتمد عليه المُسلمون الجدد، وقد تبدو حجَّتهم ذات وجاهةٍ من النَّاحية الظَّاهرية.

2- {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النساء:25)
هذه الآية (من النَّاحية الظَّاهرية) تبدو مُؤيدةً ومُؤكدةً للآية السَّابقة، حيث ذكرت عقوبة الزِّنى للأمة المُتزوجة، وحدَّدتها بأنَّها نصف عقوبة "المُحصنة" وحيث لا يُمكن تنصيف عقوبة الرَّجم، فتبدو الآية مُتسقةً تمامًا مع الآية السَّابقة، وعليه فتكون عقوبة الزِّنى للأمة المُتزوجة 50 جلدة، وهي نصف عقوبة المائة جلدة.

3- {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}(النساء:15)
هذه الآية تتناول عقوبةً أُخرى للزِّنى، مُختلفةٌ عن العقوبة الواردة في الآية رقم (1) والتي حدَّدت العقوبة بمائة جلدة، وهنا تذكر الآية عقوبةً أُخرى مُختلفةً، وهي الإمساك في البيت، وهو ما قد نُسمِّيه بلغة عصرنا (الإقامة الجبريَّة)، فهل هنالك تعارضٌ بين هاتين الآيتين؟

التَّفصيل:
سأبدأ تفصيلي بالآية الأخيرة، رقم (3) إذ يميل بعض المُتأخرين من المُسلمين إلى القول بأنَّها مُخصَّصةٌ للمثليَّة الجنسيَّة، ويستندون في تأويلهم هذا على الآية التَّالية لها مُباشرة، وفيما يلي نستعرض الآيتين معًا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء:15-16)وشاهدهم من هذا الاستشهاد هو جُملة {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} فيقولون إنَّ الآية الأولى تناولت المثليات جنسيًا من الإناث {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} بينما تتناول الآية الثَّانية المثليين جنسيًا من الذُّكور {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} فبمقارنتهم بين اسمي الإشارة الواردين في الآيتين {وَاللَّاتِي} و {وَاللَّذَانِ} يستنتجون أنَّهما مُتعلقان بالمثليين جنسيًا. فهل تأويلهما صحيح؟

الواقع أنَّ هذا التَّأويل غير صحيحٍ بالمرَّة، وذلك لسبيين، أولهما لُغوي، والثَّاني منطقي. فاسم الإشارة (اللذان) لا يشترط أن يكون مُفردهما (ذكر + ذكر)، فقد يكون المُشار إليهما (ذكر + أنثى)، كما في قولنا: "الزَّوجان اللذان تزوَّجا بالأمس سعيدان في زواجهما." وكما في قولنا أيضًا: "الطالبان اللذان فازا بالجائزة هما: فاطمةٌ وزيدٌ" وهكذا هي اللُّغة؛ إذ عندما تكون جماعة المُخاطَبين أو المُشار إليهم خليطًا من ذكورٍ وإناث، يتم اعتماد صيغة المُذكر، حتَّى وإن كان عدد الإناث أكبر، ولا يتم اعتماد صيغة المُؤنث إلا في حال كانت جماعة المُخاطَبين أو المُشار إليهم إناثًا فقط. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى، فإنَّ كلمة (نساء) هي كلمة جمعٍ، وليس لها مُفردٌ من جنسها، ومُفردها هو (امرأة)، وكلمة امرأةٍ تُطلق على المُتزوجة غالبًا، تمامًا كما في لهجتنا المحكيَّة؛ إذ نُطلق على الأنثى غير المُتزوجة اسم "فتاة"، وعلى الأنثى المُتزوجة اسم "مَرَة"، وهي تخفيفٌ من كلمة (امرأة)، إضافةً إلى هذا فإنَّ إضافة أو نسبة هذه الكلمة إلى جماعةٍ بضمير ملكيَّةٍ مثل (الكاف) أو (كم) أو (هم) تُعطي دلالاتٍ أكثر وُضوحًا، فعندما أقول مثلًا: "امرأتي" فهذا يعني زوجتي، وكذلك: "امرأتك" أو "امرأته" أي زوجتكَ أو زوجته، وبهذا المعنى ذكر القرآن "امرأة العزيز" بنسبة المرأة إلى العزيز، للدلالة على أنَّها زوجته، وكذلك عندما نقول جمعًا: "نسائكم" أي "زوجاتكم" كما في الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فليس كُلُّ النِّساء حرثٌ لنا، ولكن فقط الزَّوجات.

كان ذلك من النَّاحية اللغوية، أمَّا من النَّاحية المنطقيَّة؛ فإذا أقررنا بأنَّ الزِّنى بين (رجل + أنثى) عقوبته الجلد 100 جلدة، فكيف يكون الفعل "الشَّاذ" (رجل + رجل) أو (امرأة + امرأة) أقل من عقوبة الفعل "الطَّبيعي"؟ الآية السَّابقة تنص على حبس "السِّحاقيات" (بحسب تأويل المُتأخرين)، وكذلك بإيذائهم والإيذاء هو أي فعلٍ دون العذاب، وقد يتراوح الإيذاء ما بين الضَّرب بالنِّعال إلى الجَلد بأقل من الحد، لأنَّ هذه العقوبة ليست مُنصوصةً تحديدًا. ثمَّ كيف يُعاقب "الله" قوم لوطٍ بالخسف، وهي عقوبةٌ قاسيةٌ جدًا، ثم يُشرِّع للبشر عقوبةً مُخففةً لنفس الفعل؟ إذن؛ فالأمر لا يُمكن أن يُؤخذ على هذا التَّأويل أبدًا، فما المقصود؟ سوف نترك الإجابة على هذا السُّؤال الآن، ونأتي لشرح وتفصيل الآيتين المُتبقيتين.

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النساء:25)

سوف نبدأ من هذه الآية، التي قلنا إنَّها تبدو مُتسقةً مع عقوبة الجلد مائة جلدة، حيث أنَّ العقوبة الواردة هنا هي النِّصف، وحيث لا يُمكن تنصيف عقوبة الرَّجم، فلا يتبقى أمامنا سوف الإقرار بأنَّ المعنى هنا هو تنصيف عقوبة الجلد. فهل الأمر كذلك فعلًا؟ الحقيقة أنَّه كذلك، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض التَّفصيل.

لقد ذكرنا أنَّ الآية الأولى التي تناولت عقوبة الجلد 100 جلدةٍ لم تُحدِّد أو تُخصِّص نوع الزُّناة ولم تشترط كونهم مُحصنين أم لا، وكان استنتاجنا -بناءً على ذلك- أنَّ "كُلَّ" الزُّناة تُطبق عليهم العقوبة ذاتها (100 جلدة)، وهذه الآية تتكلَّم عن عقوبة الأمة (الجارية)، فإذا كان المقصود هو تنصيف عقوبة الإماء والجواري الزُّناة مع عقوبة الزُّناة من الأحرار، فلماذا جاء التَّخصيص في الآية بأنَّ عقوبة الجارية هي نصف عقوبة "المُحصنة" تحديدًا؟ لماذا لم تقل الآية مثلًا: "فعليهن نصف ما عليكم من العذاب" حيث أنَّ ضمير المُخاطب "كم" هنا تدلُّ على الأحرار، أو كأن يقول مثلًا: "فعليهن نصف ما على الحرائر من العذاب" أو رُبَّما أيُّ صيغةٍ أُخرى يُفهم منها الإشارة إلى الزُّناة الوارد عقوبتهم في سورة النُّور؟

دعوني أُوضح فكرتي بمثالٍ تبسيطي: إذا قُلنا: "الكُتَّاب المُحترفون الفائزون يحصلون على جائزةٍ ماليَّةٍ قدرها 1000 دولار" فهُنا كلمة (كُتَّاب) كلمة جنسٍ، تشمل الإناث والذُّكور، ونفهم من هذا الكلام أنَّ الكاتب أو الكاتبة الفائزة سوف يحصل كُلُّ واحدٍ منهم 1000 دولار. حسنًا، فماذا لو قُلنا: "الكُتَّاب الهُواة يحصلون على جائزة هي نصف جائزة الكاتبات البالغات." وكما عرفنا سابقًا، فإنَّ الكاتبات الفائزات سوف يحصلن على 1000 دولار، وكذلك الكُتَّاب الذُّكور أيضًا سوف يحصلون على نفس القيمة، فلماذا خصَّصنا في جُملتنا الأخيرة أنَّ قيمة جائزة الكُتَّابة الهُواة هي نصف قيمة جائزة الكاتبات "الإناث" تحديدًا، إذا كان الكُتَّاب الذُّكور أيضًا سيحصلون على نفس القيمة؟ كان من المُفترض (من النَّاحية البلاغيَّة) أن نقول: "الكُتَّاب الهُواة سوف يحصلون على نصف قيمة جائزة الكُتَّاب المُحترفين" هكذا بكُل بساطةٍ وسهولةٍ، دون تخصيصٍ، لأنَّ الجُملة الأولى لم تفرِّق بين الكُتَّاب الذُّكور والكُتَّاب الإناث.

بنفس المنطق أيضًا، إذا كان الزُّناة (مُحصنين وغير مُحصنين) سيُعاقبون بمائة جلدةٍ، فلماذا حُدَّدت عقوبة الزَّانية الأمة في هذه الآية بنصف عقوبة "المُحصنة"؟ هذه النُّقطة تجعلنا نتوقف عندها قليلًا لنغوص أكثر في الآية في مُحاولة لمعرفة سبب هذا التَّخصيص، لنكتشف أنَّ السِّر يكمن في دلالات كلمة "مُحصنة" نفسها؛ إذ أنَّ الإحصان قد يكون بقرارٍ أو بفعلٍ، فإحصان الفعل هو الزَّواج، لأنَّ المُتزوَّج يعفُّ نفسه -بالزَّواج- عن الوقوع في الخطأ، إذا خشي على نفس منه، فيكون الزَّواج حِصنًا له من الوقوع في الإثم، وأمَّا الإحصان بالقرار هو التَّعفف كما في الآية التي تناولت ذكر السَّيدة مريم، إذ تقول الآية في وصفها {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فقد كانت مُحصنةً حتَّى دون زواج بحسب القرآن.

ولكن لماذا نذكر كُلَّ ذلك؟ الواقع أنَّ قوله {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} لا تدلُّ على الإحصان بالزَّواج أو الإحصان بالفعل، وإنَّما على الإحصان بالقرار أو التَّعفف، والمُراد هو أنَّ الأمة المُحصنة بالزَّواج إذا زنت بعد زواجها، فعقوبتها هي نصف عقوبة الفتاة الحُرَّة العفيفة إذا زنت. ولكن كيف حكمنا بأنَّها فتاةٌ غير مُتزوجة، وليست امرأةً مُتزوجة؟ الواقع أنَّ الإجابة كامنةٌ في الآية نفسها، ودعونا نتذكَّر بداية الآية؛ إذ تقول: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} فالآية تتكلَّم عن ضرورة الزَّواج من المُحصنات، وبالتَّأكيد فإنَّ المُحصنات هنا في هذا السياق لا يعني المُتزوجات؛ إذ لا يجوز الزَّواج من المُتزوِّجة، فيكون المعنى هو التَّحريض على الزَّواج من الفتيات العفيفات "الحرائر"، وفي حال لم يستطع الرَّجل الزَّواج من فتاةٍ حُرَّةٍ عفيفةٍ فعندها يجوز له أن يلجأ إلى الزَّواج من "أمةٍ" (جارية)، ومن هنا عرفنا أنَّ المقصود بالمُحصنات المُؤمنات في بداية الآية هنَّ الحرائر العفيفات. وفي حال زنت هذه الأمة التي تزوَّج بها الرَّجل فإنَّ عقوبتها ستكون عقوبة "المُحصنة" (أي الفتاة الحرة العفيفة الواردة أصلًا في بداية الآية)، وبالتَّالي فإنَّه لا تُوجد في هذه الآية أيَّة إشارةٍ إلى آية سورة النُّور؛ بل الآية تهضم بعضها بعضًا من داخلها.

** دعونا نتذكَّر أنَّ الآية هنا تُؤكِّد على ضرورة الزَّواج من "عفيفةٍ" مُؤمنةٍ، وفي حال العدم، فأمةٌ جاريةٌ مُؤمنة. وهذه سوف تكون لها ضرورةٌ دلاليَّةٌ سوف نتطرَّق لها لاحقًا.

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(النُّور:2)
الآن دعونا نفهم أكثر.

قُلنا من قبل إنَّ هذه الآية حدَّدت عقوبة الزِّنى بمائة جلدة، ولكنها (ظاهريًا) لم تُحدد ما إذا كانت هذه العقوبة للمُتزوجين أم غير المُتزوجين، والواضح من هذه الآية أنَّها حدَّدت هذه العقوبة لكُل الزُّناة، فهل هذا صحيح؟ الحقيقة سيكون ذلك صحيحًا إذا اكتفينا بقراءة هذه الآية، ولم ننتبه للآية التي تليها مُباشرةً، ودعونا هنا نستعرض الآيتين معًا:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالَزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الَمُؤْمِنِيْن}(النُّور:2-3)

من النَّاحية المبدئيَّة لاحظوا معي أنَّ الفاصل بين الآيتين هو فاصلٌ تشكيليٌ وليس فاصلٌ بنائيٌ لُغويٌ، ومثل هذه الأخطاء كثيرةٌ جدًا وتعود إلى نسخ المُصحف، إذا تكون الآية غير مُكتملة المعنى بغير الآية التي تليها، ورغم ذلك تجد أنَّهما مفصلتان بعلامة الفصل التشكيلي المُرقَّمة، ويبدو أنَّ هذه العلامات تُحدد انتهاء عدد الآية، ولا تُحدد انتهاء الآية، وسورة الرَّحمن مثالٌ جيِّدٌ على ذلك. على أيَّة حال، نُلاحظ أنَّ الآية التَّالية مُباشرةً (بعد عرض العقوبة) تكلَّمت عن تحريم "زواج" المُؤمنين من الزُّناة، وتفضيل الزَّواج من الأمة المُشركة على الزَّواج من الحُرَّة الزَّانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الذُّكور أيضًا. وهذا -ببساطةٍ شديدةٍ جدًا- يُوضح أنَّ الزُّناة الواردين في الآية الأولى هُم زُناةٌ ليسوا مُتزوجين، وإلَّا لما أتى على ذكر موضوع الزَّواج، وتحريم الزَّواج منهم في الآية الثانية.

رُبما قد لا يقتنع البعض بهذا الأمر، وعندها سيكون لابُدَّ من تفعيل المنطق قليلًا. فهل من المنطق أن تكون عقوبة الزَّاني المُتزوج مُماثلةً لعقوبة الزَّاني غير المُتزوج؟ عندما يزني غير المُتزوج فقد نجد له تبريرًا، ولكن عندما يزني المُتزوج فلا مُبرر له، وبالنتيجة يجب أن تكون عقوبة الزَّاني المُتزوج أكبر وأقسى من عقوبة الزَّاني غير المُتزوج. أليست هذه العدالة: أن تتناسب العقوبة مع الجريمة؟ هنا يظهر بوضوحٍ الفرق بين العدالة والمُساواة؛ فتحقُّق المُساواة في العقوبة تنفي تحقق العدالة.

الخلاصة:
1- لدينا آية الجلد 100 جلدةٍ، وهي خاصةٌ بغير المُتزوجين، بدلالة الآية التي تليها، والتي تُحرَّم الزَّواج من الزُّناة المُعاقبين الواردين في الآية التي قبلها والمُفصولة عنها بعلامةٍ تشكيليَّة فقط.
2- لدينا آيةٌ تتناول الكلام عن الزَّواج من المُحصنات (وهن العفيفات الحرائر)، وفي حال عدم الاستطاعة يُباح الزَّواج من الأمة (الجارية) وفي حال زنت الأمة، فإنَّ عقوبتها تكون نصف عقوبة الحرَّة العفيفة غير المُتزوجة الواردة في نفس الآية. وهذه العقوبة مُتسقةٌ مع آية الجلد السَّابقة.

تتبقى لدينا آية (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) والتي تُحدِّد عقوبة الحبس للزَّانية، وقد أوضحنا أنَّ الآية لا تتكلَّم عن المثليين جنسيًا، وعندها سوف نكون أمام تعارضٍ واضحٍ بين هذه الآية، وبين آية سورة النُّور، إذ ستكون أمامنا عقوبتان (الجلد 100 جلدة + الحبس حتى الموت) وبما أنَّه لا يُمكن أن يقع مثل هذا التَّعارض في النَّص القرآني، فإنَّ النَّسخ هو الحل الوحيد، وهو ما قال به جُمهور المُفسرون بالاستناد على أقوال الصَّحابة، وأحاديث الرَّسول (وهي في هذه الحال لن تكون مُتعارضةً مع النَّص القرآني)؛ بل على العكس تمامًا، ستكون هي القطعة النَّاقصة من الأُحجية، لاسيما إن نحن أخذنا في الاعتبار جُملة {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} عندها سوف نفهم أنَّ عقوبة الحبس ما هي إلا عقوبةٌ مُؤقتةٌ، فالواجب المقصود في هذه الآية هو أن يتم حبس الزَّانية في البيت إلى أن تموت أو إلى أن يجد الله لهن مخرجًا آخر، فطالما لم يظل حبس المرأة في البيت عقوبةً مُطبقةً؛ ما هو هذا المخرج؟

إنَّ القرآن لم يذكر (بحسب تفصيلنا السَّابق) لم يذكر أيَّ عقوبةٍ خاصةٍ بالزُّناة المُتزوجين، فكُلُّ ما تقدَّم ذكره من عقوباتٍ كانت للزُّناة غير المُتزوجين من الأحرار، وعقوبةٌ للأمة المُتزوجة الزَّانية. وهنالك آياتٌ تناولت عقوبة الرِّجال الذين يتهمون زوجاتهم دون وجود شهود، وحدَّدت عقوبة هذه التُّهمة بثمانين جلدةٍ، وكذلك تناولت عقوبة الرَّجل الذي يتهم الفتاة العفيفة أو المرأة المُتزوجة بالزنى دون شهود أو دون إثبات، ولكن لا تُوجد عقوبةٌ للزَّاني أو الزَّانية المُتزوجين. فهل القرآن ناقصٌ مثلًا؟ هل إذا قلنا إنَّ هنالك عقوبةٌ في السُّنَّة غير مذكورةٍ في القرآن، نكون بذلك نقوم بعمل غير منطقي؛ أم على العكس تمامًا نكون قد وضعنا القطعة الأخيرة من الأحجية، لتكتمل الصُّورة بشكلٍ شديد الوضوح؟

نعم قد تكون عقوبة الرَّجم قاسيةً جدًا، ولكن هذه القسوة ليست مُبررًا لرفض العقوبة جُملةً وتفصيلًا، فها نحن نقبل بعقوبة الصَّلب وقطع الأيدي والأرجل من خِلاف، رغم قسوتها. فإذا كان رفض الرَّافضين لمُجرَّد أنَّ العقوبة غير مُنصوصٍ عليها في القرآن، فسوف يقعون في إشكال أنَّ التَّشريع ناقصٌ كما رأينا وفصَّلنا، وإذا كان رفضهم لمُجرَّد أنَّ العقوبة قاسيةٌ وبشعةٌ، فهي لا تقل بشاعةً عن بقية العقوبات المنصوص عليها أبدًا، والشارع عندما يُحدد عقوبةً فلا يجب على المُسلم أن يعترض بدافعٍ شخصيٍ ويتحجَّج به، وذلك بنص القرآن نفسه: {وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُوُلُه أَمْرًا أَنْ يَكَونَ لَهُمُ الخِيَرَةَ مِنْ أمْرِهِم وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُوُلَه فَقد ضَلَّ ضَلالًا مُبِيِنًا} مع ملاحظة أنَّ الآية تفصل (أقول تفصل ولا أقول تُفرِّق) بين الله ورسوله في جُملة {قَضَى الله وَرَسُوُلُه} فهذا مما يُحتج به على حُجيَّة السُّنة، وارتباطها بالتَّشريع الإسلامي، وهنالك آياتٌ كثيرةٌ تجدًا تفصل بين الله ورسوله من حيث الأمر بالطَّاعة أو حتَّى النَّهي عن العصيان.

نقطةٌ على الهامش:
بصرف النَّظر عن طبيعة ونوع عقوبة الزِّنى والزُّناة؛ لماذا فرَّق القرآن بين عقوبة الأمة الزَّانية والحُرَّة الزَّانية؟ لماذا جعل عقوبة الأمة نصف عقوبة الحُرَّة؟ ما هي مُبررات ودلالات هذا التَّفريق بين أُناس ارتكبوا نفس الجُرم؟



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحربُ على النَّقد
- جناية الإسلام المُعتدل
- ميكانيزم النفي
- الإيقاع والموسيقى في الشِّعر
- أزمة اللاأدرية العربيَّة
- دكتاتورية -الله- في القرآن – 2
- دكتاتورية -الله- في القرآن – 1
- الكوزمولوجيا الدينية
- هل تذكرون كاجومي؟
- النار كأداة تعذيب
- كشف أكاذيب برنامج الدليل (الأخيرة)
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 8
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 7
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 6
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 5
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 4
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 3
- كشف أكاذيب برنامج الدليل 2
- كشف أكاذيب برنامج الدليل
- في الرد على إسلام بحيري 3


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - تطبيقاتٌ فقهيَّة - 1