أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نوال زويدي - إنشائية اللوحة لدى الفنان كاندنسكي قبل اللون وبعده:















المزيد.....


إنشائية اللوحة لدى الفنان كاندنسكي قبل اللون وبعده:


نوال زويدي

الحوار المتمدن-العدد: 5066 - 2016 / 2 / 5 - 20:00
المحور: الادب والفن
    


إنشائية اللوحة لدى الفنان كاندنسكي قبل اللون وبعده:

• التجريد في اللون وتشكل الصورة الغائبة:
نهتم في هذا المجال يرصد حالات تكون اللوحة الفنية في مجال الفنان كاندنسكي الذي طور لنفسه مباحث جديدة على علاقة باللون. في وقت تعددت التجارب الفنية وتنوعت فيه الآراء، صرنا نتحدث عن عدد من الفنون، قد نستطيع اليوم أن نتحدث عن اللون كفن ولون من خلال ذلك الأسلوب التجريدي في تجريد الأشياء والإبقاء على جوهرها بالوصول إلى الجمالي المحض، وباعتماد جمالية قائمة على علاقات صرفة للألوان. فتجاوز الشكل المألوف إلى شكل قد يكون أكثر دقة أو أكثر إطلاقا من أي الأشكال المركبة الموجودة في الواقع كلها تؤسس لفن تجريدي، يقيم تلك العلاقات الخالصة التي تحدثها الألوان. مع محاولة التعبير عن مضمون أو حتى دون الاهتمام بموضوع لإجلاء العالم الداخلي في قطع وطيد مع الأصول الكلاسيكية، ليتبنى هذا الموقف (التجريدي) "ورنجر" (worringer) الذي يقول بأن النزعة التجريدية هي نزعة حضارية صار كل فن يتوق إليها كلحظة من لحظات التعبير المكتمل. "لا تكمن أهمية التجريد في مكونات الموضوع (...)وإنما فيها يحمل الفنان بداخله من اللامرئي، لأن اللون والخطط الهندسية المشكلة لموضوع التجريد تحمل دلالات داخلية" .
لعلنا نسميها لحظة التحرر من محاكاة الطبيعة وملاقاة الواقع بواقع آخر أكثر تلقائية، يندمج في العالم الخارجي بالعالم الآخر الداخلي. ولعل ذلك جلي الوضوح في تلك العلاقة التي توالدت بين كل من الفنان كاندنسكي والفيلسوف ادموند هوسرل ، لقاء ازدوجت فيه الأفكار بالجانب الفينومنولوجي التردستانية مع الجانب الحسي الروحي. قد نصفها بأفكار تأسيسية أسست في نفس الوقت لفكر روحي وفن حسي نابع من الداخل وبتعبير كاندنسكي الرسام "لا يصور مادية المواضيع، بل يصور الإشارات الروحية التي ينتجها داخل تلك الموضوعات وفي مخبلة الرسام المبدعة" .
تضعنا إنشائية اللوحة في البحث عن ماذا تضيف لنا اللوحة الملونة بمعنى ما قبل اللون وما بعد اللون, ونقول عنها فترة يعيشها الفنان لينتقل حدث مخاض ألوانه، يساءل نفسه أية الألوان تنقل وتتفاعل مع موضوعه أيها تعكس ذاته. فتكون لإنشائية اللوحة تكامل الذي بموجبه يحث التطابق والتجانس بين المحتوى واللون.
فللألوان وجود لا يخلو من أهمية، طالما ألغيت المسافة الفاصلة بيم ماهو مرئي وما في ذهن الفنان. وتتلخص العملية بحضور كل من العناصر التالية:اللوحة-الألوان-المحتوى.

تتفاضل الألوان عن الأشكال، فتتجرد عن رمزيتها، وتقتل كل حكم مسبق صدر فيها. تخرج تباعا من قيود اللوحة وحتى الأشكال، لتعبر عن المدسوس فيها. تؤلف لنا واقعا غير الذي ألفناه، تدفعنا للتفكير في واقع غير الذي استأنسنا به، واقع يترفع باللون من بعده المادي إلى بعده التدلالي. فتضعنا اللوحة في حالة تفكير في ما هو مرئي، ثم ذلك التحول إلى بعد لامرئي. اللون قبل إنشائية اللوحة معطى مرئي لأنه تمثابة الرمز والحدس فهو ظاهرة واقعية موضوعية في حين أنه بعد إنشائية اللوحة يضير اللون معطى غير مرئي لأنه يثير التفكير والرؤيا فيتحول إلى دليل للقراءة كتجربة خاصة
تصور لنا عملية إنشائية الألوان، تحول جلي من حياته المرئية إلى اللامرئية، هذا التحول هو التجريد في اللون، الذي يصير انعكاسا لمحتوى أو موضوع اللوحة الفنية. تصبح الألوان نقطة رابطة بين ما يظهر في اللوحة وما يخفى وراءها. فتمارس العناصر اللونية فيما بينها تفاعلا وانسجاما لتطرح لنا وصلا مع عالمها التجريدي البحث الذي بدوره دخول في منطقة المسكوت عنه. نقول عنه أيضا دعوة الفنان إلى بث ألوان في اللوحة بشحنة متخفية متجردة من واقعيتها.
قد يدفعنا الحديث عن اللون إلى استعراض ذاك الجانب الخفي الذي ينعتق في خصائصه فيجعله عنصرا قائما بذاته بل كائنا مستقلا، له من الطاقات التعبيرية لا تحصى ولا تعد مما يجعلنا في حيرة: فتتواتر تباعا الأسئلة عن ما إذا كانت الألوان تستقرئنا أن نحن من نستقرؤها؟ هل هو لون الذات أو لون اصطبغ بخاصيات معينة وبقي حبيس ذاته؟ هل رؤيتنا لها تبقى موضوعية؟
وقد يدعونا الفنان التشكيلي كاندنسكي إلى التعرف أن هناك ثنائية تقول بالداخل الخارج، أي ضرورة استقراء الواقع والتعوّد على رؤية ما لا يرى فيها. رؤية اللامرئي بمعنى رؤية الرؤية. ويكون التجريد وفقا لذلك رحلة في لامرئيات بمثابة حفر في المرئي لبلوغ اللامرئي، أي الرجوع إلى الذات لإدراكه. إنه توجه روحي يعبر عنه كاندنسكي بذلك الرد (فينومنولوجي) إلى الذات وكأنه ممارسات يقيمها الفنان ليكاشف الخفي. ويكون اللون مطية لاستجلاء الغائب الحاضر فهو لم يكن قطعة من الخارج رغم كونه يبدو كذلك، اللون طاقة كامنة أو انطباع مخفي كما عده هوسرل لون نوامي ( (couleur noématiqueيصير وفق لذلك اللون هو الذي يستقرئني لتنبع الحقيقة الغائبة متجاوزة الظاهرة وفي دعوة لتركه وهتك حجبه لاعتلاء اللاواقع في إيقاع لوني حي. ولنا في هذا السياق أن نقول اللون فن اعتلى ناصية اللامرئي، هدفه وحاجياته الأصلية يتمثلون في إظهار تمثلات الروح وفي إجلاءها باعتبار عملها. لعلها تمظهرات الألوان في مسائلة الواقع الظاهر والبحث أو إنشاء بديل لنسج الذاتي.
هذا الجانب الخفي الذي يزخر به اللامرئي يجعلنا نقر ضرورة التكامل بين اللون واللامرئي لما كان اللون مطية للكشف قادر على تحويل الخارج إلى داخل، فهو بدوره قادر على استكشاف اللامرئي الذي يمثل نمطا للظهور لا يحيل إلى أشياء خارجية بل معاني في الوعي تنكشف كمعنى .
ويقر كاندنسكي أن الألوان تطول الذات وأعماقها. فتجليها وتكشفها فهي القادرة على اللامرئي ولعل ما وجده هذا الفنان من معالم التجريد في الرسم باللون وفي اللون، هو استئناس ينادي بضرورة الاستجابة للحاجيات الداخلية باعتبار أن اللون هو غذاء الروح.
هذا التأكيد على العودة إلى اللون، هو تأكيد على العودة إليه بما فيه من انطباعية وحيوية وتلقائية وطاقة تعبيرية فذة. فاللون هو اللحظة التي نلتقي فيها بالمقاصد التي ماتزال صامتة ومعتلة.
يكون إذن اللون التعبيرة الأنسب عن الانفتاح على اللامرئي فيكتسي بعدا تعبيريا بذاك التزاوج الذي يقع بين داخل وخارج أي مرئي ولامرئي ليصير الفكر فكرنا. ليس اللون إذن سوى قوة تعبير وقد يتجلى ذلك بوضوح في لوحة الفنان كاندنسكي بعنوان "تركيبة، 1917"
ولقراءة هذا العمل "تركيبة، 1917"، نهتم في الدرجة أولى بالألوان الأولية التي حرر بها مختلف الثنائيات التي تنشأ بينهما: "لقد طور كاندنسكي أفكار تعبر عن قناعته بأن العناصر الفنية، خاصة الألوان، لها القابلية على التأثير في تجاربنا الداخلية حتى منفردة عن الفعل الثلاثي التقليدي للفن. اللون له تأثير مباشر في الروح، اللون هو المفتاح، العين هي المطرقة، الفنان هو اليد التي تضع الروح في تموجات بواسط هذا المفتاح أو ذاك" .
فكانت ولادة أول قطبيين من الألوان، الأصفر والأزرق وفي تواجدها، تعبير عن ذاك التقابل بين النور والظلمة. بين الحار والبارد بمعنى الأصفر لدى كاندنسكي هو مصدر النور يثير في المشاهد البعد الروحي، في حين أن اللون الأزرق فيه من الظلمة ما يجعلنا
في اللوحة تميز بين اتجاهين: اتجاه أول يرتبط باللون الأصفر الذي يمر به مباشرة للمشاهد يخرج عن حدوده ليبث فينا رغبة الغوص أكثر في الذات. واتجاه ثان مقترن بالأزرق لون العتمة المتمحور حول المشاهد من هذا اللون. تولد إذن بقية الألوان لتحدث بدورها تضاد بين الأحمر والأخضر ثم بين البرتقالي والبنفسجي.
وتحدد خاصية كل لون من خلال القيمة المضافة من الإضاءة والعتمة بمعنى بين الأصفر والأزرق لينتج تباعا التضاد بين الأسود والأبيض اللذان يمثلان تدرج اللون نحو الفاتح ونحو الداكن. تمثل اللوحة تآلف بين الألوان أو لنقل تآلف القطب الأول من التضاد بين أصفر وأزرق والقطب الثاني الأبيض والأسود. إذن تكون وفقا لذلك الألوان تفاعلا تتأثر بالجانب الروحي لها.
تغيب من اللوحة كل العناصر التشكيلية التشخيصية ليكون الحضور للألوان تتزاوج فيما بينها ليولد إيقاع ينقسم بين تدرجات الألوان وتفاوت أحجام الخطوط تميل كلها للتجريد. ليكون مركز الثقل في الأسفل، فتنطلق الألوان من الجانب السفلي تتفرع وتتناغم بأسلوب حر بين قتامة الألوان من ناحية وإضاءتها من ناحية أخرى.
في استعمال الألوان القاتمة: الأزرق المائل للسواد، ربما هي ترجمة حرة لإحساس الفنان تجاه ثنائية الألوان، كذلك تترجم الحالة التي يعيشها الفنان من خلال بلورة الخطوط الحادة لتلين أحيانا أخرى، فتعبر في لحظات عن تهدئة الحالة التي يعيشها. فكان التدرج من المظلم إلى المضيء ومن الحاد إلى اللين ترجمة عن تطلعات كاندنسكي . إنها دائما تتخاطب مع الألوان لتستشف أحاسيسه وداخله. إنه بالأحرى خطاب لامرئي يولد في الألوان وبها. حيث تتركز المشرقة منها في القسم الأعلى من اللوحة.
هكذا كان العمل خاليا من أية إشارات تشخيصية، لتترك المجال لتعبيرية الألوان. والتي تمثل مع كاندنسكي عنصرا أو دليلا لقراءة العمل، لا يمكن إقصاءه وعزله. لعله تمثل صريح للرغبات الباطنية للفنان. إذ يعد اللون، شيئا محسوسا ذا بعد جمالي، شيئا منظما نحكمه قواعد تجعل كل نعمة لونية تكمل الأخرى وتصنع معها عالما متآلفا تسير العين برؤية وتنجذب النفس لاقتحام خلفيته.
وفي قراءة أخرى للوحات الفنان كاندنسكي تتميز اللوحة المعنونة "الحافة الخضراء" بإيقاع عميق، فيه استدعاء للون كغطاء سابح وحالم، خطوط مستقيمة، أخرى حادة ولولبية، مثلثات، دوائر تتداخل في فضاء اللوحة لتغيب الأشكال منها. يبدو للوهلة الأولى في هذه اللوحة، صورة لشخصية راقصة، يصعب تمييزها، نظرا لتداخل الخطوط وغلبة المساحات اللونية. هذا التناغم اللوني تترجمه رغبة كاندنسكي في إدراك الصورة غير المرئية بأسلوب عمل عرف بالتجريد، يبحث فيه عن علاقات اللون بمزيج روحاني متحرر من القواعد والوصايا المألوفة في الفن. فل يقف محاكيا مواضيعه، بل أضفى عليها لمسات لونية بمضمون عميق، متخطيا بذلك الظواهر بعيدا عن موطنها وعن المكنون البيئي المتعارف عليه، إلى ما يعرف بالصورة اللاموضوعية في الفن، مستعينا بحاسة الاستماع إلى الموسيقى ودمج العلاقات الحسية السمعية والمرئية، وارتجال الصورة لتوضيح العالم المستتر/ اللامرئي بتوازن شديد الحساسية، ودمج الشفافية اللونية مع الذات لتعميق إظهار الحيز الداخلي مستعينا بطاقاتها الكامنة فيها. تتفاعل علائقية الألوان فيما بينهما.
وجد كاندنسكي مع اللون ضالته في وتيرة أصوات الموسيقى، وقد قال في هذا الصدد اللون قوة لم تعرف جيدا بعد، لكنها حقيقة خلية تؤثر على الجسم كله، بعبارة أخرى إن صورة الموضوع تختفي: هذا التداخل المشترك بين الإفراط اللوني والإيعاز الموسيقي استحوذ على كاندنسكي وقاده إلى فكرة تلاشي وضوح الصورة، وإحلال سلطة موسيقى اللون ومقاربة الأصوات بين الإحساس بالوتريات في الصعود والنزول في توزيع تلقائي.
على ضوء هذا التعبير المندرج، يميل كاندنسكي إلى وضع التصورات لمداخلات فنية التي أوصلته إلى تنظيم علاقة الصور المرئية بالطرف غير المرئي المتجانس مع النفس، تلك العلاقات التي يحكمها اللون بين ما يقدمه لنا وبين ما تكتسحه العين وتجول في أعماقها. لعلها تكون تلك التي نبحث عنها بين الألوان اللامرئية. فلقراءة أعمال كاندنسكي ، لا بد من التعويل كثيرا على دراسة الألوان الأساسية المختارة من الأحمر + الأزرق + أصفر، وعلى مساحات فنية مفعمة بالعاطفة كما يراه باستمرار في عناصر هندسية دائرة +مثلث +مربع+منحنيات الخط ومحصلة درجات اللون عوضا عن الصور الموحية. فحلت البقع الدائرية المنفجرة باللون في حيز متحرر من الأشكال العضوية والظواهر، وقد توصل إلى التوفيق بين الصورة المرئية واللامرئية في نفس تجريدي "(...) فالفنان التجريدي ينشأ أفكارا مختلفة بتناسق غير مرئي، وتموجات غير منتهية وتضادات أبدية من معاني محررة أو عناصر أصباغ، خطوط، مسطحات وألوان محررة من عبودية التقليد تفرز تضادا جديدا، كل عنصر أو مجموعة عناصر تولد وتتكاثر في طاقات جديدة ومثيرة"
فما تقدمه لنا الألوان ليست ضرورة ذاك اللون المرئي الذي تدركه العين، بل هو واقع ذاك اللون الذي يتكون من خلال التباين بين أقطاب اللون والأزرق والأصفر وكذلك الأسود الأبيض يخاطب اللامرئي. فتفصح عن العلاقة الخفية بين لون – لامرئي، باعتباره كشف جلي لما لم تدركه العين، تتولد أثره تلك الحركات الدؤوبة نحو العالم المخفي فتتجلى وتظهر بعد خفاءها.
يعد اللون مع كاندنسكي إيحاءا لغويا قائما على أساس تداخل الدلالات الذهنية بالدلالات المسموعة، واكتساب إحداهما لخصائص الأخرى. بمعنى أنه يمنح اللون خصائص صوتية تمتزج بخصائص الرؤية، فتشكل كاندنسكيا قادرا على الولوج إلى عوالم الإنسان الداخلية والخارجية.
فالألوان تحفر ممرا تخترق من خلاله أذوات الآخرين أو تنصهر فيها وتتباهى معها، فضلا عن قدرتها في النفاذ إلى عمق الأشياء واستنباطها واشتغالها على إعطاء الأحداث ألوانها وخصوصياتها. إنها قدرتها في التعبير اللامرئي، وتلك صور بعض تجليات اللامرئي الذي ينصهر مع اللون ليخرج في صمت محسوس تدركه العين .

• ثنائية اللون والشكل في إنشائية اللوحة:
الشكل كلمة تثير تساؤلا في ارتباطه باللون، نقول عنه هو كل، لا يمكن أن ينزل أو ينخفض إلى مستوى مجموعة أشياء أو أجزاء هو التحديد الخارجي يتعارض مع مجال الداخل الذات حيث يقيم اللون. لكن السؤال يبقى مباحا عن تكونه، محيطه، أنواعه.
يمثل تباعا الشكل مبدأ توزع الألوان فيه، كأنه محور لتكافئها، يحتضنها ككيانا يتداعى لاحتضان الفكرة. فيتمازج لينفلت من كل قيد فضائي أو حتى زماني، "إنه هنا إنه تسامى، إنه هو ا نعبر عنه أيضا ونحن نتكلم عن عموميته، عن شفافيته ــ إنه الأساس المزدوج للمعاش" .
من الواضح أن الشكل أضحى فكرة يحتلها اللون، ليصير مدلول داخل حدث الفعل التشكيلي، يمتلك خبرة العالم ليشكل نظاما لعالم قد لا أراه ولا استطيع تمثله سوى بدمجه في الممارسة الفنية، في فيض اللاوجود. وهذا ما يستنفي عنه صفة العدم. الشكل وحده يحرك مدار الانفتاح على عالم اللامرئي. ليحدد كيانه بارتباطه باللون. يكون أيضا أفقا تتلاقى فيه الذات بفعل اللون، فيحدد صفة العالم اللامرئي الذي لم يعد ذاك المفهوم الذي يعني شيئا ما مخفي / محجوب ولكن هذا اللامرئي هو في حد ذاته مرئي، قد تدركه العين من جهة أخرى أو بطريقة أخرى. ولعل اللون كفيل باستنباطه والإفصاح عنه. إنها درجات الوعي باللامرئي يفصح عنها اللون.
وقد حاول كاندنسكي إقامة نوع من المطابقة بين بعض الألوان والأشكال، فالدائرة هي العالم الروحي للمشاعر والنفحة المتوجة لذلك، فهو يتطابق مع اللون الأزرق الأحمر. أما المثلث فهو العالم المنطقي والفكري، عالم التركيز والضوء. لذلك نجده يتطابق مع اللون الأصفر. ومن هنا نستطيع القول أن الوحدات البسيطة، سواء تعلق الأمر بالشكل أو اللون لا يمكن أن توجد معزولة أو خارج أي تحقق، فالوضوح والحمرة والسواد والانفتاح والعمودية والأفقية تمثل كلها عناصر لايمكن النظر إليها، بل في تقابلاتها الاستبدالية والتوزيعية. هذا الترابط بين الوحدات من حيث التحقق واحتمالية التدليل ممكن لتمتع الألوان بدلالات مسبقة.
فالألوان ترتبط بالأشكال استنادا إلى وجود قيم دلالية مشتركة بينهما، أو وجود نوع من التناظر بين ما يثير وما يحيل عليه الشكل. وبما أننا إزاء دراسة تهتم باللون في كامل جزئياته وتمثلاته، فإن تعاملنا معها يكون باللون من خلال الموقع الذي تحتله داخل ملفوظ، لبا يعتبرها موضوعات محسوسة. كما لا يمكن تصور أي شيء خارج الأشكال، لا يمكن تصور أي شيء خارج الألوان سواء في حالتها الدنيا (الأبيض و الأسود) أو في حالتها القصوى (أطياف اللون).
في هذا النسق عبر كاندنسكي بالألوان وادمجها مع الأشكال بنفس روحاني لخلق دلالات جديدة. إذ لم تأت هيمنة الألوان على الأشكال في التصوير الحديث من النازع الروحاني الذي اعتبره كاندنسكي مظهر المادة البصري. إن تعمق اللون الضوء في الانعكاس من الحساس لصورة العالم على اللوحة، بتركيب جزئيات الضوء من الدرجات اللونية التي تنعقد من خلالها وبداخلها العلاقة الموقعية لتوزع الخط في الشبكة المؤسسة للشكل الدال داخل العمل الفني، فالضوء يأتي بالخط إلى الوجود، ولا يمكن معالجتها بالاستقلال عن بعضهما عبر التعليل الروحي فقط فالخط يتموقع ويكون ذا قيمة موقعية، عبر اللون وليس العكس. وبلغة أدق الأشكال لا تكتسب قيمة إلا في اقترانها باللون، ومن ثمة يصح القول أن هو طاقة كامنة، عالم قائم بذاته. إذن "يعد اللون جزءا لا ينفصل عن الشيء، بل يصبح هو نفسه هدفا وغاية، ويحمل، بل يجسد ــ بحد ذاته ــ رسالة عاطفية" .
أعود في مرحلة موالية لأثبت ما قيل عن اللون ــ اللامرئي، فأستجلي لوحات الفنان كاندنسكي ، فتعتريني قوة غريبة للكشف عن مختلف العلاقات التي توخاها في بناء عمله.
أتمعن اللوحات كثيرا، فلا شيء يكلني سوى الألوان، تناديني في صمت بسحر علاقاتها الخفية والتي ترسم على الشكل لتضفي عليه رونقا خاصا. فتراني أتساءل:
هل في إقصائنا للألوان تختل قراءتنا للعمل الفني؟
يأتي هذا السؤال من خلال أن اللون طالما اعتبرناه من متممات العمل الفني، ظل في علاقة وطيدة بالشكل المرسوم، لا يمكن عزل هذا عن ذاك، رجوعا إلى أن اللون لم يحظ في ما مضى بمكانة مميزة إذ عد من متممات العمل ودوره يقتصر في البعد الجمالي الذي يضفيه عليه. لنعمق أهمية اللون في التجربة الكاندنسكية ، فنبحث في لوحاته التي كانت اختفاء لصورة الموضوع وعين تستمع موسيقى اللون، فلم يقف حاكيا نظرات الطبيعة بل ترك اللون يحاكي نفسه، يعزف أوتاره بموضوع عميق متخطيا بذلك الظواهر بعيدا عن موطنها وعن مكنوناتها المتعارف عليه إلى ما يعرف بالصورة اللاموضوعية في الفن.
في محاولتنا لقراءة العمل المقدم بعنوان « Dans le gris » (في الرمادي) 1919 ألوان مائية حبر صيني وقلم على ورق يدعونا فيها كاندنسكي إلى الدخول في رموز تشكيلية متنوعة كتل لونية متفاوتة الحجم، مختلفة المحيط، إشارات خطية رفيعة منتشرة في فضاء اللون وطبقة لونية موحدة تسيطر على الفراغات، في نظام مبهم خال من أي إشارة تشخيصية أو مرجعية قابلة للفك. هو عمل يحمل أحد الخصائص الجديدة التي جاءت مع التجريدية وفيها نفي للاتجاه ايجابي للعمل، أي قابلية عرضه في أي اتجاه، يشكل هذا العمل صورة حية عن مرحلة دخلها كاندنسكي في العشرينية الثانية من قرن العشرين وهي مرحلة التجريدية الغنائية التي من خلالها حاول تأسيس تيار مخالف لما كان سائد آنذاك (التعبيرية، التكعيبية، الوحشية، المسقبلية).

جعل كاندنسكي من الألوان أهم العناصر المشاهدة في اللوحة إذ قلت الخطوط وتلاشت حدود الأشكال فبرزت الألوان باحثة عن ترجمة تشكيلية "للصفاء المطلق". باعتبار أن الألوان هو ما يحدث بين الأبيض والأسود من خلال ولادة الرمادي، فحضروها وتمازجها وتكاملها هي ترجمة لهذا اللون، الذي يسمو بنا بمعرفتنا السابقة عن الألوان إلى معرفة أكثر نقاوة. نقاوة الألوان في الرمادي معرفة جلية تحملنا إلى شفافية اللون وحتى شفافية الشكل الذي ارتسم بها. فتنعكس صورة الأشياء كأنها مرت بالضوء: "فالضوء في شفافيته هو نقيض المادة الثقيلة التي تبحث عن وحدتها.وعن طريق الضوء، تغد الطبيعة لأول مرة ذاتية، ويضفى عليها الطابع المثالي، والضوء هو الوسيلة التي تستخدمها الطبيعة لكي تجعل الأشياء مرئية بصفة عامة..."
تتوزع ألوان كاندنسكي في لوحته « dans le gris » في فضاء كامل اللوحة بدرجات لونية تبدو في مجملها متباينة لتحقق بدورها تباين أحجام الأشكال، فيؤسس اللون قانونه البصري الذي يرسم الشكل، إذ تحضر جميع الألوان بمختلف درجاته فضلا عن حضور اللون الأسود في كتل لونية ثقيلة أو خطوط تتلاشى وتضمحل لتضفي على العمل نوعا من الحركية. لعل التباين يظهر بتموضع درجة مشرقة إلى جانب أخرى داكنة، أو لون جلي إلى جانب لون كامد، بحيث تنعدم القدرة على إبصار الطاقة / الثقل اللوني لانتقال الطاقة من القسم المشرق إلى القسم الجلي المشبع حركية من خلال تلك الخطوط التي تعرف وجودها في سلم موسيقي كالنوتة العلامة الموسيقية فتسهم وتعمق علاقة الشكل بالألوان. هذا إلى جانب حضور اللون الأخضر ملطخا بطبقة سوداء، فيرتسم شكل المثلث بزاوية حادة تنتهي بالأخضر المشرق. الذي يمثل مزيجا بين اللون الأصفر والأزرق يتصارعان معا حتى يصير اللون الأخضر حياة جديدة أو متنفسا لما ستر عنا. فيرتسم الشكل باللون، دون أن ينفصلا عن بعضهما فيندلج الواحد في الأخر، فتعدد الأشكال والخطوط لتغيب الصور والمواضيع فيتماهى اللون مع الشكل وينشدان معا عالما تجريديا يطول الداخل الغائب.
فقد توصل كاندنسكي إلى تنظيم علاقة الصور المرئية بالطرف غير المرئي/ لامرئي، من خلال تلك العلاقات التي تثير الجانب الخفي واستثمر دراساته القانونية لتثبيت مثل هذه العلاقة بين الجانب المرئي للألوان والجانب الآخر اللامرئي تتجانس وفقه الألوان والأشكال فتؤلف عالم الشكل واللون كتمثيل الظاهر بالباطن، اللون في أعماله من العناصر التي تساهم في توضيح العالم المستتر بتوازن شديد الحساسية. بدمج الشفافية اللونية مع الذات، لتعميق إظهار الحيز الداخلي في تضافره مع الشكل، فكانت فضلا عن ذلك وتيرة أصوات الموسيقى والإيقاع والوتريات في خدمة اللون، لتختلف صورة الموضوع. مثل هذا التداخل المشترك بين الإفراط اللوني والإيعاز الموسيقي غاية لبلورة فكرة وضوح الصورة هذا فضلا عن إحلال سلطة موسيقية اللون مقاربة الأصوات والاستماع إليها عن طريق العين. أي بما يوازي ترجمة النغمات لونيا في عدة مستويات بين الإحساس بالوتريات في لصعود والنزول والتوزيع التلقائي.
"كان ينظر إلى الأشياء، كألوان يجد فيها سلطة الموسيقى نفسها، ولكنه إذ يسعى إلى أن يحرر التصوير من عبء التمثيل الصوري، متجنبا تحويله إلى مجرد تزيين هندسي، فإنما كي يتوصل إلى خلق نظام من الرموز المتحرر إزاء كل ضرورة خارجية (...) بهدف التعبير عن ضرورة داخلية" .
إنها تلك العلاقة الخفية التي تؤسسها الألوان في توليف أشكالها. لون الذات، مخزون ظل مخفيا، فكشفت عنه الألوان من خلال تلك الصور اللامرئية. لم يقتصر الفنان كاندنسكي على الألوان في نحت نتيجة تعبيرية مجردة ليترجم لنا صفاء الموضوع ودقة الاختيار إذ تظهر في بعض الأعمال الأخرى غياب جلي للألوان. فلا شيء غير الأسود على ورقة المحمل أسود يثير الخطوط ينتقل من فئة إلى أخرى من خط رقيق المتلاشي إلى الخط السميك الداكن بالسواد لا شيء غير الحبر الصيني يتجول في اللوحات تارك انتشاء الفعل بين سواد المادة وبياض الورقة. هذا الغياب اللوني، بمعنى اللون اللامرئي هو ما قدمه لنا اللون الأسود. باعتبار أن في اللون الأسود استدعاء للظلمة كما فيه استدعاء للنور. النور والظلمة هما أيضا استدعاء للتباين بين قطبي الأصفر والأزرق الذي بموجبهما تحضر باقي الألوان لتنسج تجانس الشكل في ظل غياب اللون، تلقى حظها في الظهور نقول تباعا أن الأسود محدد الشكل لم يكن نفي حضور الألوان إنما هو عكس للون اللامرئي بل ألوان لامرئية، بمعنى أن حقيقة اللوحة الفنية ومحتواها إنما هي معرفة تلك العلاقات المتخفية التي تقع في الداخل.




المراجع:
1- د.عيدابي (يوسف): مرايا الرؤى في شأن بلاغة التشكيل واقع الندوة دولية حول الشعرية البصرية، الطبعة الأولى 2001، ص166.
2- الزراعي (محمد محسن) : في التواصل بين الفلسفة والتصوير ، ص.135.
3- د. عيدان (يوسف): نفس المرجع، ص 91
4- د عيدان (يوسف): نفسه المرجع، ص 92
5- ميرلوبنتي (موريس): مرئي واللامرئي، نص كلود لوفر،ترجمة وتعليق سعاد خضر، مراجعة الابن يقولا داغا، الطبعة الأولى، دار الشؤون العامة بغداد ــ العراق، 1987، ص186,
6- د. عيدان (يوسف): نفس المرجع، ص 93,
7 - محمد غانم (رمضان بسطاويسي): جماليات الفنون وفلسفة تاريخ الفن عند هيجل، الطبعة الأول، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992، ص143.
8-عيدان (يوسف): نفس المرجع، ص100





#نوال_زويدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نوال زويدي - إنشائية اللوحة لدى الفنان كاندنسكي قبل اللون وبعده: