أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر نعيم المصري - قصة قصيرة : سبعة وستون يوماً على بناء الجدار















المزيد.....

قصة قصيرة : سبعة وستون يوماً على بناء الجدار


عامر نعيم المصري

الحوار المتمدن-العدد: 5057 - 2016 / 1 / 27 - 16:34
المحور: الادب والفن
    


سبعةٌ وستون يومًا على بناءِ الجدار !

قطعُ الشمسِ مرتبةٌ على الأرض بشكلٍ جيدٍ والغيومُ مختبئةٌ في بقايا الأمس فلا متسـعَ لها اليوم, بعضُ السحاباتِ الخفيفة تتجولُ فوق رؤوسِ العـابرين كأنها تسرقُ عيونَ اليتامى أبناءَ القمر.
آثارُ يدِ الأبِ على الفأسِ تجعـل له رونقًا خاصًا تصنعُ منه تحفةً فنيةً تلمعُ كالنجومِ في عيـون الناظرين, وأشجارُ الزيتـون تزين وجهَ البيتِ الطيــنيّ, وبعضُ الورودِ على الهوامشِ تسرقُ القلب, كلُّ شيءٍ كما يحبُ العاشقُ أن يراه.
يحملُ حقيبتَه المدرسية, ويدنـو من البــاب خارجًا ليتنفسَ الصبـحَ الجمـيل, يسير نحو العتبات , والتفاصيلُ الصغيرة تشيّدُ أبراجًا في رأسِه, ثمةَ تفصيلةٌ وخطوةٌ تأرّقُـهُ منذُ أمس.
كيف سأعبر ؟ كيف سأحملُ عمـري في كفّي ؟ أتُحمَلُ خمسَ عشرةَ سنةً في صندوقٍ ضيقٍ من الجلدِ الطريّ ؟
يهزُّ رأسَه فيصابُ برعشةِ دوارٍ خفيفةٍ كأنها لحــظةُ اختلافٍ مع العدم على بعضِ الأمورِ الحياتية, فتتـسربُ كلُّ جنودِ الإحبـاطِ منــه, ويصـبحُ حيًا في مداه.
ينــظرُ إلى كرمِ البــرتقال, فيــذوب حبًا وانتعــاشًا برائحةِ الجــنة الدنيـوية, وتخطـف عيناه تلك الوردةَ الحمـراءَ التي تعلو شجرةَ الورد..فيركضُ إليها بسرعةِ نيْزك, خوفًا من أن يخطفَـها الريح, يشتَمُها, ثم يضـمُها, ثم يـقطفُها برفقٍ ويضعُها بترتيبٍ دقيقٍ بجانبِ كتاب اللغةِ العربية ويغلقُ الحقيبةَ جيدًا ويمضي سعيدًا مبتهجًا للحظاتٍ قليلةٍ وكأنَّ أوجاعَ الطريق تبخّرتْ حينها قبلَ أن تبدأ.
يسيرُ قليلًا.. فتضطربُ مشاعرُهُ وتتناثرُ بمجردِ التفكيرِ بها,ويبدأُ الخوفُ بسعقِ جسدِهِ كلَّ ثانية, في حيرةٍ بات, أيشفِقُ على ذاته التي ستُدغدغُ حتى تصلَ إليها, مع الاحتمــالاتِ الكثــيرةِ لعدمِ الوصول !
أم عليها وعلى شوقِها وانتظــارِها, وعلى ألـمِ النظرِ إلـى الـطبقةِ السماويةِ الملقاةِ أمامَ ناظريها, تنتظرُ سقــوطَه من عــليه مع أيِّ نــسمةِ ريحٍ قادمة.
أيقلقُ لقلقِها..أم لقلقِه !
يمشي وهو يداعبُ حباتِ التراب صاعدًا إلى حلمه, فتناجيه ترنيماتُ مارسيل ويبدأُ بالدندنةِ بصوتٍ خافتٍ: "بين ريتا وعيوني بندقية"
فيضيعُ معها وتنقطعُ خلاياه عن التفكير, يتذكرُ ذاتَه, فيتمتتُ في جسدِه :
أنا من تربّى على صوتِ مارسيل وهو يغردُ ويدللُ حـروفَ درويش , أنا من سَــرَحَ مع أحمد العــربي وضـاعَ خـلفَ حطامِ الموجِ المتــواترِ علـى شاطـئ حيفا.
لم أرَكِ حيفا ولكني أحبكِ كحبِّ النساء يوسُفا.
بعد مصاحبةِ صُنَاَعِ الهُوُيّةِ وزيارةِ حيفا, يفتحُ عينيه والدمعُ يوشِكُ على الانحدار..يصطدمُ بذلك الحاجزِ العاجز, حاجزٌ يفصلُ السماءَ عن الأرض , قطعةٌ سماويةٌ رماديةٌ متهالكةٌ على بعضِها, لا تسُرُّ الناظرين أبدًا , حاجزٌ كحدٍ فاصلٍ بين الحياةِ والموت, يفصلُ هوائي عن هوائِها وأنفاسي عن أنفاسِها, والريحُ التي تحرّكُ بنطالي ليستْ التي تحرّكُ شعرَها الغجريّ, والترابُ يحملُنا سويًا لكنّه مختلفٌ .. كلُّ شيءٍ بات شيئَه هو..لا الشيءَ نفسَه.
جالسًا على بقايا حجرٍ ربّما استُعمِلَ منذُ مــدةٍ في مطـاردةِ الأطفــالِ لجـنودِ الاحتلالِ وهم يسلبون الأرضَ ويرصّون الحـقدَ بجــدارٍ بــأس, سـبعٌ مـن الدقائقِ الثقيلةِ تسيرُ على جسدِهِ وهـو غائبٌ عن الحضورِ، جميعُ أسئلةِ ليلةِ أمسٍ عبَـرت جمجمتَه مرةً أخرى، فغَمَرَهُ شعـــورٌ بالوجعِ الذي نما بجلدِه كحباتِ السّنابل، كلُّ نبتةٍ تنمو تحرقُ بساقها ساقًا منه وتتلفُ ما تبقّى فيه من أمل.
كان على وشكِ الانكسار, ولكنّه في الثانيةِ الأخيرةِ من الدقيقـة السابعة ، تذكّـرَ قولَ غسان كنفاني " لكَ شيءٌ في هذا العالمِ فقُم " وتذكّـرَ أيضًا " إنَّ الموتَ السلبيَّ للمقهورين و المظلومين مجردُ انتحارٍ و هروبٍ و خيبةٍ و فشل " .
لينهضَ من مكانهِ شامخًا , متمردًا على نفسِه, وعلى المستحيلِ أيضًا .

يتفحصُ بعينيه المكانَ زاويةً زاوية, باحثًا عن أملٍ يأخذه إليها, ويأخذه إليه, وإذ بسلمٍ خشبيٍّ يبدو وكأنّه من العصرِ الحجري، متهالكًا ومهترئًا جدًا وبالكادِ يحملُ نفسَه.
يتكونُ من عشرةِ خشبات، اثنتان طويلتان والاعوجاجُ يرسم لوحاتٍ فيهما , ثمانيةٌ يرتكزُ عليهن بطريقةٍ أو بأخرى..مترابطاتٍ بشكل مؤقت.
هو لم يعرفْ من أين جاء السلم، ولكنّه كانَ على قناعةٍ دائمةٍ أنَّ الإنسانَ إذا أراد شيئًا, كلُّ شيءٍ يقودُه إليه, لقدْ أصبحَ حكيمًا من شدةِ عشقِهِ للأدب.
لم يعرفْ من هو في تلك اللحظة، كلُّ شيءٍ كان جميلًا في تلك اللحظةِ فقط , لم يعرفْ شيئًا حينَها سوى العبور، العبورِ إلى نصفِه الآخر بأيِّ ثمن, وذلك كان كفيلًا بسعادةٍ لحظيةٍ غمرَتْهُ تضاهي حياةً كاملة.
يضعُ السّلمَ على الجدار، يصلُ نصفَه ويبقى النصفُ العلويُّ عاريًا ،
يا إلهي ما هذه اللحظة ! لقد عاد الإحباطُ يستبيحُه تدريجيًا، ولكنّه لم يسمحْ له بالنموِ أكثرَ من (سنتمتر) واحدٍ في رأسِه وسرعانَ ما مسحَهُ حينما تذكرَ طولَه الفارعَ الذي لطالما أنّبَه عليه الأصدقاءُ لفظيًا في المدرسة ومن قبلها الروضة, فمن حسنِ الحظِ أنه كان طويلًا بما يكفي ليضعَ أطرافَ أصابعِه على آخر رمقٍ من السّلم، وما تبقّى من يديه على حافةِ الجدار من الأعلى.
من عادته أنّه يحبُّ نسماتِ الرياحِ الخفيفةِ التي تذكره بالمساءاتِ الجميلةِ تحتَ شجرةِ البرتقال, ولكنّه في تلك اللحظةِ تبرّأَ من كل رياحِ الكونِ,
فقد عذّبتْه وهي تأخذه يمينَ يسار, حتى باتَ متيقنًا أنها تقصد إيذاءَه !
حمل نفسَهُ على نفسِهِ لا أعرفُ كيــف، حتى صعـدَ أعلى الجدارِ بعد محاولاتٍ كثيرةٍ تشبه محاولاتِ العودةِ من الموت، والتي نادرًا ما تنجح.
رآها وباتَ الكونُ حينها جميلًا , كلُّ آلامِ الطريقِ تبخّرت وكأنها لم تكن واقعًا أبدًا ، فرؤيته لها كرؤيتِه وطنَه..هي وطن,وطنٌ لا يُؤْتَمَن فيه الخائنون, وطـنٌ أعظــمُ من بندقيةٍ تألفه، أعظمُ من أحــزابٍ كاذبة، وطنٌ لا حقدَ في ترابِه، فلا فرقَ بين البرتقالِ والزيتون, وطنٌ مات في ناظرِهم وفي ناظرِه ما زال ينمو في أطرافِه كلَّ ثانيةٍ ينمو كالسّماء.
تلهثُ راكضةً إليه مقتربةً منه أكثر، تحملُ في جيبِها حنينَ سبعةٍ وستينَ يومًا , تلهثُ لتتعمّقَ تفاصيلَه وتخطَّ ملامحَه كحلًا على رموشِها، بعد أنْ شوّهتْ الدموعُ كحلتَها القديمةَ طيلةَ ليالي السّهد،
ترصدُ ملامحَه من مسافةٍ قريبةٍ حسابيًا، بعيدةٍ جدًا وجدًا في قانونِ العناق،
قلبُها يكادُ يسبقُها إليه من شدةِ نبضِه، فتهدّئُ سرعتَه باقترابِها من شعرِه الأسودِ اللامع , والعيونُ الخضراءُ الراكضةُ على وجهِه كحباتِ الزيتون , والكوفيةُ التي تزينُ عنقَه, فتسرَحُ في عينيه دون وعيٍ وتناديه قائلةً : أحبكَ ثوريًا , وتطأطئ رأسَها خجلًا وحبًا،
يبتسمُ وهو منشغلٌ بتفحّصِ لونِها القمحيِّ المرسومِ على جسدِها , والشعرُ البنيُّ الذي يرتلُ أغنياتِ السّلامِ كالبلابلِ على كتفِها , يحدّقُ بشامةٍ سوداءَ تسكن أعلى جبينِها فيتأكدُ من سلامتِها التامةِ من الحنين ويطْمئن ,
يغرقُ في عينيها العسليّتين , كما يغرقُ العابرون من المساء إلى الصباحِ في الانتظار، يرُدُّ وقلبُه ينطقُ قبلَه : عيناكِ ثورتي، والرموشُ سلاحي،
ويستعدُ للانحدار, فقد حانَ وقتُ نزولِه من أعلى الجدارِ إلى أعلى الترابِ, كيف ينزل ! بدأ يفكرُ وهو ينظرُ إلى عينيها ويستمدُ الطاقةَ منهما,هل ألقي بنفسي كمجنونٍ؟ أم هل من سحابةٍ تنقلُني إلى أسفلَ برفقٍ ؟ هل أمُدُّ يدي فأحملُها إليّ ونبقى سويًا فوق الجدار ؟ وفي لحظةٍ يقرر الانسكابَ على الأرض كقطعةِ ماءٍ تنسكبُ من غيمة !
رفضتْ ذلك ونادتْ بأعلى صوتها: لا تفعلْ ذلك أرجوك, سأصعدُ أنا إليك, ولكن كيف ؟ يجيبُها, تسيلُ دموعُها ولا تعرفُ ماذا تجيبه, لكنّهُ بجنونِ عاشق سرعانَ ما يلقي بنفسِه, ليهبطَ بسرعةٍ ترعِبُ من شدةِ الارتفاعِ, كأنّه ألقى بنفسِه من السماءِ السابعة !
يضربُ الأرضَ كأنَّ زلزالًا أصابَ ساقَه الأيمن, والدمُ تدفّقَ من إصبعِه الصغير, آلامُ الإصابةِ رافقتْ معظمَ أنحائه, غمرتهُ هي فسرعانَ ما نسِيَ الوجع, يمسكُ حقيبتَه يفتحُها برفقٍ, يريد أن يُخرِجَ تلك الوردةَ التي تحملتْ أذى الطريقِ كلَّه, يخرجُ الوردةَ وقد هلَكَ نصفُها من شدةِ الوقوعِ, يمسِكُها بيدهِ ، لم يكن هناك فرقٌ بين الوردةِ وجُرحِهُ , كلاهم أحمرُ اللون !
يمدُّ يدَهُ وهي تحملُ ما تحملُ من احمرارِ جرحٍ ووردٍ, يقدم لها الوردةَ والخجلُ يحتلُّ ملامحَ الوجعِ على وجهِه, تأخذُها منه برفقٍ وتقول : "على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياة, على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة"

عامر المصري



#عامر_نعيم_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عامر نعيم المصري - قصة قصيرة : سبعة وستون يوماً على بناء الجدار