أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نواف خلف السنجاري - الرجل الغريب














المزيد.....

الرجل الغريب


نواف خلف السنجاري

الحوار المتمدن-العدد: 1373 - 2005 / 11 / 9 - 12:41
المحور: الادب والفن
    


كثيرة هي الأحاديث والقصص التي رواها والدي عندما كنت صغيرا ،وهي ملتصقة بذاكرتي وأعتبرها كنزا وثروة أحتفظ بها وأحكيها بدوري لأولادي.كانت أغلبها تدور حول ميادين العمل الشاق،كالحصاد بالمنجل ،وطحن الحبوب بماكنة يدوية يحملونها على أكتافهم ويدورون بها في كل أرجاء مدينة الموصل هو ورجل عجوز بأجر زهيد - لا يسدّ الرمق - لحساب مالك هذه المكائن - وهو رجل طمّاع - كان يطالبهم بالغلّة عند عودتهم في المساء منهوكي القوى مع الكثيرين الذين يحملون مكائنه ويقضون ليلتهم في خان بسيط..ثم يخرجون مع خيوط الفجر الأولى كل حسب المنطقة المخصّصة له..كان كل واحد منهم يعرف البيوت المتميّزة التي جرشوا لأصحابها (البرغل) قبل سنة أو سنتين ،فهذا بيت (أبو العسل) وذاك (بيت الكبابجي) والآخر (أبو الجوز) و(أبو القيمر) ..الخ .

كان يحكي لي كيف وعدهم أحد الملاكين بأنه سيأتيهم بالثلج إذا ما أنهوا حصاد أرضه خلال يوم واحد ،(سيشربون ماءا باردا ،فيا لها من جائزة مغرية حقا !) وكيف اشتركوا هو وبقية ألحوا صيد في مقلب لـ(حسن المعلان) الذي كان يتملق الملاكين ولا يقبل باستراحة أكثر من نصف ساعة للغداء ،عندما تمدد وغفى في إحدى المرات فصنعوا حوله مظّلة من أكداس السنابل وتبرّع أحد ألحوا صيد (بتهويته)بعصا ملفوف عليها قطعة قماش إلى وقت (الحلّة) وكيف نهض (حسن) كالمجنون يتوعّدهم بأنه لن يشغلّهم بعد ذلك اليوم وهم يضحكون لذلك الإنجاز

الكبير ..!

ولكن أغرب ما سمعته منه ما حدث لهم مع ذلك الرجل الغريب حين كانوا يعملون في حقل على حافة النهر (الحاوي ) هو وثمانية آخرون من قريتنا الصغيرة التي تقع خارج مدينة الموصل .ولقلة السيارات - بل ندرتها - في حينه ،فقد أخذوا معهم كل ما يحتاجونه من مؤن وأغطية ومنام بحيث يبقون هناك أسبوعين أو ثلاث.وفي أحد الأيام وبينما هم منهمكين في العمل وإذا بأحدهم يلمح ما يشبه جثة غريق قادمة من بعيد

تقترب شيئا فشيئا من الطرف المحاذي للنهر، هكذا تحدّث والدي وهو يضع بين شفتيه بقايا لفافة تبغ وتابع يقول :سحبناه من النهر بصعوبة وقد ازرقّ جسمه و امتلأت بطنه بالماء.. لم يكن هناك ما يدل على انه حي ولكننا قلبناه وضغطنا ظهره ورفعنا رجليه إلى أعلى فخرج الماء من فمه ..حاولنا معه بكل الطرق لكن دون جدوى فسحبناه إلى مرتفع مشمس وتركناه هناك ، بحيث كان متدلّيا رأسه إلى أسفل ورجليه إلى أعلى وكأنه قطعة غسيل منشورة على حبل .عدنا إلى عملنا ونحن يائسون تماما من حالته . عند الظهيرة رجعنا لتناول الغداء فدهشنا عندما شاهدنا الرجل جالسا يسعل سعالا مصحوبا بخروج رذاذ الماء .حملناه بسرعة إلى المكان الذي توجد فيه حاجياتنا ،أستبدلنا ملابسه الموحلة وغطيناه ببطانية إلى أن أستعاد تنفسه العادي وحرارته الطبيعية ،ولكن الإعياء كان قد أخذ منه كل مأخذ ، وشلّ لسانه .

تناولنا الغداء وتركناه ممدّدا فوق أحد المطارح المفروشة والتي تشبه في ترتيبها ثكنة عسكرية ..كان ملجأنا عبارة عن حفرة كبيرة تشبه المغارة محفورة في تلة منذ سنين طويلة ،استخدمناها كغرفة ومخزن لمؤو نتنا وحاجياتنا الأخرى .لما رجعنا إلى الحقل مرّة أخرى كنت أعمل وأنا أفكّر في ذلك الرجل والحزن العميق الذي يسكن عينيه المتعبتين ودهشته عندما جلسنا حوله ،لا يصدّق انه نجا من الغرق وألأمتنان الذي كان باديا على وجهه دون أن يتكلّم .لم نسأله حتى عن أسمه لإعيائه الشديد وصعوبة تنفسه..كان رجلا نحيفا في منتصف العمر ،عيناه واسعتان وشعره أسود بلون الفحم ، وكان مرتديا ملابس تدلّ على أنه من إحدى العوائل الغنيّة ..كنت أفكر في مصيره لو لم نشاهده بالصدفة وننقذه أين كان سينتهي به المطاف ؟وكيف ستعرف عائلته ما حلّ به ؟

كنت متلهفا للعودة إلى (مغارتنا) لأراه وأتبادل معه أطراف الحديث لمعرفة كل ما حصل له بالتفصيل ..متأملا أن يصبح صديقي ، فقد شعرت بمودّة غريبة نحوه ممزوجة بالشفقة على حالته تلك.قبل الغروب بقليل عدنا أدراجنا باتجاه التلّة التي تبعد عنّا مسافة ربع ساعة من المشي ،كنت أسابق رفاقي الآخرين وهم يتمتمون بأغاني قديمة ويتمازحون ناسين ذلك الرجل الغريب ، ولكن عندما اقتربنا من ملجأنا سكت الجميع وكأن طيرا حطّ فوق رؤوسهم .وصلنا إلى مكان الملجأ..يا للهول لا يوجد ملجأ..؟ لقد أنهار فوق ذلك الرجل الغريب..وتحوّل إلى كتلة هائلة من التراب ،أصبحت قبرا ضخما لذلك الرجل التعيس ومعه كلّ حاجياتنا..!فلم نكلّف أنفسنا حتى مشقّة البحث عنه أو إخراجه لأن تلك المهمة أصبحت مستحيلة....



#نواف_خلف_السنجاري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نواف خلف السنجاري - الرجل الغريب