أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعد محمد رحيم - الدولة والهوية والعنف















المزيد.....

الدولة والهوية والعنف


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 5027 - 2015 / 12 / 28 - 08:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في كتابه المثير للجدل ( الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها ) يقترح بندكت أندرسن بروح أنثربولوجية، كما يقول، تعريفاً للأمة بأنها: "جماعة سياسية متخيّلة، حيث يشمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلاً". والتخيل عنده ليس بمعنى الزيف والتلفيق، بل بمعنى الاختراع والخلق. ويلاحظ أن فجر عصر القومية كان في أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر والذي "كان أيضاً غسق الطرائق الدينية في التفكير. وقرن التنوير والعلمانية العقلانية. وهذا جلب معه ظلامه الحديث الخاص". وهو لا يربط القومية بالإيديولوجيات السياسية المتبناة بوعي، بل "بالمنظومات الثقافية الكبرى التي سبقتها، والتي ظهرت إلى الوجود انطلاقاً منها وضدّها في آن معاً". مركزاُ على اثنتين من تلك المنظومات وهي؛ الجماعات الدينية والمَلكيّات السلالية. حيث "الجماعات الكلاسيكية الكبرى جميعها كانت تتصوّر أنها في مركز الكون، عبر وسيط لغة مقدّسة مرتبطة بنظام قوة فوقأرضي". ومع انتشار اللغات المحلية، بدلاً من اللاتينية، في كتابات الأنتلجنسيا التنويرية الصاعدة حدثت تلك السيرورة التي معها راحت "الجماعات المقدّسة التي قام تماسكها على لغات مقدّسة قديمة تتشظى وتتعدد، وتتمايز مكانياً على نحو متدرّج". أما الملكيات السلالية فراحت تفقد شرعيتها شيئاً فشيئاً مع التطور العقلاني، فحاول الملوك السلاليين "الحصول على ختم قومي بعد ذلك الذبول الصامت الذي اعترى مبدأ الشرعية القديم". ويضيف أندرسن عاملين مساعدين آخرين هما اثنان من أشكال التخيل ازدهرا في أوروبا ما بعد القرن الثامن عشر بفضل الطباعة، وهما الرواية والصحيفة "حيث وفر هذان الشكلان الوسائل التقنية اللازمة لـ ( إعادة تقديم ) ذلك النوع من الجماعة المتخَيلة الذي هو الأمة".
وحينئذٍ كان فكر التنوير ينتشر، وكانت الدول/ الأمم تتشكل في أوروبا، ويدشن الغرب العهد الكولونيالي، وتتبدل الخريطة الجيو سياسية للعالم.
الدولة/ الأمة الحديثة نتاج عصر التنوير، والثورة الصناعية، وقد سبق الاثنين ما شاع في أدبيات تاريخ الفكر باسمي عصر النهضة، والإصلاح الديني.. وتخلل ذلك انهيار النظام الإقطاعي. من هنا انتزعت الدولة نفسها من سلطة الكنيسة المتحالفة مع الأنظمة الملكية الإقطاعية، فأصبحت علمانية. والعلمانية من أقانيم عصر التنوير، حيث تدير السلطة الحاكمة المجتمع وموارده بقوانين وضعية، مكرِّسة أسساً راسخة لحرية المعتقد والضمير.
والدولة الحديثة تنظيم عقلاني، بمؤسسات ناظمة للمجتمع، تحتكر وسائل العنف، وتقوم بحماية مواطنيها، وتفترض فيها تحقيق مبدأ العدالة في التعامل مع الأفراد والجماعات.. والدولة بحسب هيجل "هي الشكل التاريخي الخاص الذي تكتسب فيه الحرية وجوداً موضوعياً". والدولة هي "توحيد عدد كبير من الناس بإخضاعهم للقوانين" برأي كانط. وفي مثل هذه الدولة التي يقترحها فكر التنوير، يقول جان جاك روسو "الشعب الحر يمتثل ولا يخدم أحداً، له قادة وليس له أسياد، يمتثل للقوانين، ولا يمتثل إلا للقوانين، ولا يمتثل للقادة إلا بقوة القوانين". والتأكيد على مبدأ المواطنة، وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بعضها عن بعض. وتداول السلطة من طريق الاقتراع الشعبي الحر كلها من عقابيل فكر التنوير. فالدولة لن تكون قوية إلا بوجود مواطنين أحرار.. يقول جون ستيوارت مل: "إن دولة تقزِّم رعاياها لتجعلهم مجرد أدوات خنوعة لخدمة مشاريعها، حتى وإن كانت هذه المشاريع مفيدة، ستعجز في النهاية عن القيام بمنجزات كبرى اعتماداً على أقزام".
غير أن تناقضات الرأسمالية، وصراعات الدول الأوروبية على اقتسام المستعمرات، والحروب التي اندلعت بينها، هيأت لتغوِّل الدولة، لاسيما الفاشية منها، فأصبح "كل شيء داخل الدولة، لا شيء ضد الدولة، لا شيء خارج الدولة"، على حد تعبير موسوليني، وبذا تكرست العقائد المتعصِّبة، وحل الاستبداد في جهة، وأصبحت العقلانية أداتية نفعية موجهة لمصلحة طبقة معينة وغاب مبدأ العدالة في الجهة الأخرى.. وبدأ فكر التنوير يتقهقر.
استعملت الدولة/ الأمة الحديثة الهوية وسيلة سيطرة وتحكم.. صارت الهوية بديلة عن الذاتية الحرة.. فيما ترك الارتداد إلى الهويات الجماعاتية الضيقة نوعاً من فصامية أخلاقية داخل المجتمعات الممثلة بالدول/ الأمم التي هي الآن بالغة الرخاوة والعجز في شرقنا الأوسط ـ إن قبلنا بالتقسيم الجيوسياسي الإقليمي الغربي ـ وغير قادرة على صيانة الهويات الوطنية التي تبجحت بالدفاع عنها.. "إذ ما دامت الدولة الحديثة قد صنعت جهاز الهوية ( مثل أوراق الهوية وصورة الهوية وبصمة الهوية، ولكن أيضاً اللغة والدين والقبيلة.. ) وحولته إلى جدار أخلاقي وامتحان أمني مسلّط على رقاب ( سكانها )، فإن ( السكان ) لن يكونوا ( مواطنين ) إلا بثمن ( هووي ) يقع تثبيته في الأثناء بعناية قانونية فائقة تستفيد باستمرار على نحو كلبي من كل تطور تقني. وإن هذا هو مرض الدولة/ الأمة العضال: هي لا ترى على إقليمها غير كائنات ( هووية ) بلا أي مخزون ( ذاتي ) فردي أو خاص".
في الدول الريعية ( ومنها دولتنا العراقية ) التي اقتصادياتها ذات بعد واحد ستبدو الإشكالية أعمق. فالهوية في ظل مثل هذه الدول تكون نتاج عقلانية أداتية براغماتية متعسفة ومبرمجة بمعادلة بسيطة، غير أنها كارثية.. فهي صناعة سياسية سالبة للذات والحرية والروح. فحين تكون الدولة ريعية ستُقال أولاً كلمة ( الدولة ) بتحفظ شديد.. وثانياً نكون إزاء عملية مأسسة من النمط القَبَلي.. يكون المرء رقماً هلامياً غفلاً في مجموع إحصائي مجرد لحين قيامه بسلوك تمردي وحينئذٍ يُصفّى وكأنه لم يكن، أو يُطرد خارج إطاره الهووي، خارج قبيلته ذات البزّة الحداثوية..
مطلوب منك الطاعة والاستكانة وإثبات براءتك وولائك في كل يوم وفي كل ساعة.. ليس الأمر معقداً جداً.. أنت تعيش، في هذه الزاوية من العالم، بقوة الهوية الممنوحة لك من قبل السلطة التي تريدك شاكراً لفضلها، فأنت ما زلت تعيش وتجد ما تأكل وتشرب حتى وإن كنت محشوراً مع العائشين تحت خط الفقر، ولك ربما هامش من فرصة عمل بفضل الدولة، هكذا إلى أن تكفر بنعمة الدولة عليك.. وهذا يفسر، لماذا حصل ما سمي بثورات الربيع العربي.
يصف فتحي المسكيني حالة حرق البو عزيزي أو أي أحد يحرق جسمه احتجاجاً بأنه "يشعل النار في ذلك الجسم الذي علمته الدولة الحديثة أنه لا يستحق الحياة".
كان خطأ السلطات الحاكمة تكمن في مسخها للذوات الإنسانية لتكون أرقاماً إحصائية محضة في سجلاتها الرسمية، ومنها المخابراتية، متوهمة أن تحكماً بهذه الطريقة المهدِّدة والزارعة للخوف سيخلق كراديس قتال خانعة تدافع عنها وعن مصالحها في ساعة الشدة، فأثبتت الوقائع العكس تماماً، كما حصل في حرب الـ 2003 في العراق، في سبيل المثال لا الحصر.
وإذن كيف يمكن أن نستعيد ذواتنا من السجن الهووي الذي حوطتنا به السلطة/ السلطات على وفق حساباتها وأهدافها.. كيف لنا أن ننتقل من حالة هوية تقترحنا فنكون غير ذواتنا، إلى هوية نقترحها في أفق من الحرية تحقق ذواتنا، وتمنحنا موقعاً وجودياً جديداً أمام أنفسنا وأمام العالم؟.
ذلك هو السؤال.
وإذن لا يمكن أن ينعم العالم بالسلام النسبي في الأقل، ولا يمكن القضاء على ظاهرة الحروب الأهلية، وتجفيف منابع الإرهاب بالعمل العسكري الاستخباراتي وحده.. فما لم تطرح برامج مركبة، على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، ذات أبعاد سياسية، اقتصادية، ثقافية، تحقق الحدود الدنيا للعدالة الاجتماعية، وتُخرج الجماعات المهمشة المعزولة من أوضاعها المتردية، وتقضي على الجهل والأمية، وتمنح الإنسان، بغض النظر عن انتمائه ولونه المكانة والقيمة التي تليق به فإن دائرة العنف المفرغة لا يمكن كسرها أبداً.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خضير ميري الذي يَتّهم
- الهوية والثقافة والعنف
- التنوير؛ الأنا والآخر
- مفهوم الهوية ومعضلتها: الذات والآخر
- في كتاب -الأجنبية-: البحث عن الذات
- سياسات الهوية ومفهوم الهجنة
- عالمنا الذي يتهرأ: السلطة، الثقافة، الهوية، والعنف
- حول مفهومي النهضة والتنوير
- تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية
- ذلك الجندي الذي يقرأ: شهادة قارئ روايات
- عصرنا، والوظيفة العضوية للمثقف
- الاحتجاجات المدنية والوظيفة العضوية للمثقفين
- أن نتعلم ألفباء السياسة بالممارسة: ساحات الاحتجاج مثالاً
- جيل جديد.. مثقف جديد
- تأملات عبر اللحظة العراقية الآنية
- المثقف محتجّاً مدنيّاً
- هذا الحراك المدني
- الروائي الساذج والحساس
- التعصّب صَنْعَة فاشيّة
- ولادة ثانية 2 2


المزيد.....




- مطاردة بسرعات عالية ورضيع بالسيارة.. شاهد مصير المشتبه به وك ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة اختارت الحرب ووضع ...
- الشرطة الأسترالية تعتقل 7 مراهقين متطرفين على صلة بطعن أسقف ...
- انتقادات لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريحات -مع ...
- انهيار سقف مدرسة جزائرية يخلف 6 ضحايا وتساؤلات حول الأسباب
- محملا بـ 60 كغ من الشاورما.. الرئيس الألماني يزور تركيا
- هل أججت نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا مظاهرات الجامعات في أ ...
- مصدر في حماس: السنوار ليس معزولًا في الأنفاق ويمارس عمله كقا ...
- الكشف عن تطوير سلاح جديد.. تعاون ألماني بريطاني في مجالي الأ ...
- ماذا وراء الاحتجاجات الطلابية ضد حرب غزة في جامعات أمريكية؟ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعد محمد رحيم - الدولة والهوية والعنف