أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبد السلام أديب - لا خيار يعلو على صوت المقاومة















المزيد.....



لا خيار يعلو على صوت المقاومة


عبد السلام أديب

الحوار المتمدن-العدد: 4980 - 2015 / 11 / 9 - 08:29
المحور: القضية الفلسطينية
    


منذ أزيد من قرن حسم الشعب الفلسطيني اختياراته السياسية لصالح استراتيجية التحرير التي تقوم على المقاومة ورد العدوان، سواء تجاه صهاينة فلسطين، أو المتصهينين من القوى الامبريالية والقوى الرجعية، وحيث تتطلب هذه الاستراتيجية الاستعداد الدائم وتطوير القدرات الذاتية في علاقة مع قوى التحرر العربية والعالمية.

تزامنت المقاومة الفلسطينية مع بدايات الهجرة اليهودية أواسط القرن التاسع عشر الى فلسطين والاعلان عن مشروع هيرتزل الصهيوني وانعقاد المؤتمر الصهيوني ببال سنة 1897. وتصاعدت المقاومة مع تزايد الهجرة، ثم تحولت إلى عمل سياسي وعسكري وثورات ومظاهرات مع فرض الانتداب البريطاني، وتواصلت المقاومة الشاملة بعد قيام الكيان الصهيوني ولم تكسرها الحلول الاستسلامية منذ (اتفاقية كامب ديفيد) الأولى عام 1979م، وحتى مفاوضات الإذعان (أوسلو) و(مدريد)، وأخيرًا تلك التفاهمات التي تمت في جنيف 2003م، ولم توهن من مضائها متغيرات النظام الدولي من انهيار نظام القطبية الثنائية، وتلاشي حلف (وارسو)، وقيام ما سمي بـ"النظام الدولي الجديد" عقب حرب البترول الأولى "حرب الخليج الثانية 1991م"، كما لم تُثنِهَا حرب البترول الثانية في أفغانستان عقب تفجيرات 11 من سبتمبر، ولم تتوقف إستراتيجية المقاومة والتحرير حتى بعد سقوط النظام في (بغداد) واضعاف الشعوب العربية والمغاربية في العراق وتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، فهدف تحرير الشعب الفلسطيني نفسه بنفسه ما ان تتظافر عوامل اقباره، حتى يفاجئ الشباب الفلسطيني البطل العالم بثوراته، فها نحن اليوم في الانتفاظة الثالثة للشعب الفلسطيني من خلال استعمال السكاكين والسيارات والحجارة.

لقد اثبتت تجربة المقاومة الفلسطينية ان لا سبيل للتحرر الشعبي الفلسطيني سوى المقاومة بجميع الاشكال، وان كل اوفاق الاستسلام تعيد الشعب الفلسطيني نحو نقطة الصفر.

تحاول هذه الورقة اعتمادا على عدد من الدراسات المنشورة اعادة التذكير بسيرورة انغراس الكيان الصهيوني الامبريالي بفلسطين قلب الأمتين العربية والمغاربية، ثم تتطرق لمسلسل المرور من المقاومة المسلحة الى التسويات السلمية، ثم اخيرا الى تتناول انتكاسة اتفاقية اسلوا والعجز العربي والمغاربي المطلق تحت نير النيوليبرالية الاقتصادية وهيمنة ايديولوجية الاسلام السياسي الظلامية. لذلك نتساءل ما العمل؟

- ما العمل للخروج من ورطة التبعية الاقتصادية والانتكاسة السياسية التي تعرفها شعوب المنطقة؟
- ما العمل لتقوية الذات المقاومة في كل قطر عربي ومغاربي والذات المقاومة لشعبنا الفلسطيني الذي لا زال يبهرنا من خلال انتفاضاته المستمرة في الزمن منذ الاعلان عن المشروع الصهيوني الامبريالي في مؤتمر بال سنة 1897؟

أولا: سيرورة انغراس الكيان الصهيوني الامبريالي بفلسطين

1 – الاستعمارين العثماني والبريطاني وتغلغل الكيان الصهيوني في فلسطين

إلى حدود الحرب العالمية الأولى كانت فلسطين تشكل جزءا من سوريا تحت هيمنة الامبراطورية العثمانية. وإبان هذه الحرب أصبحت فلسطين محل نزاع بين الامبرياليتين الرأسماليتين الصاعدتين فرنسا وبريطانيا من جهة والامبراطورية العثمانية العجوز مدعومة بالإمبريالية الالمانية من جهة أخرى. وقد تمكنت بريطانيا من خلال مؤتمر سايس بيكو سنة 1916 وتفاهمات عصبة الامم بعد ذلك من اخضاع فلسطين سنة 1921 تحت الانتداب البريطاني.

شكلت فلسطين مع مصر وقناة السويس بالنسبة لبريطانيا موقعا استراتيجيا امبرياليا آنذاك وصلة وصل تجارية نحو آسيا خصوصا مستعمراتها في الهند والصين والعراق وايران. ونظرا للتنافس الامبريالي من اجل الهيمنة على هذا الموقع الاستراتيجي الذي يتيح تنفيذ المخططات الامبريالية، ويحبط المطالب التحررية لشعوب المنطقة وتطلع البرجوازية العربية آنذاك بقيادة الملك فيصل تأسيس امبراطورية عربية عاصمتها دمشق تخلف الحكم العثماني المنهار، تحالفت كل من فرنسا وبريطانيا لدحر مطالب القيادات البرجوازية العربية ولجأت بريطانيا الى الاستعانة بالعصابات الصهيونية المهاجرة نحو فلسطين، حيث أدمجتها ضمن جيوشها، لمحاربة العثمانيين من جهة ولرد أطماع الامبريالية الفرنسية من جهة ثانية، ولردع مطالب الفلسطينيين بالاستقلال من جهة ثالثة، وهذا ما مكن العصابات الصهيونية من الخبرة العسكرية والتمويل والعتاد لتنفيذ مخططاتهم الاستعمارية بفلسطين. وقد جاء وعد بلفور في 02 نونبر 1917 (وهو عبارة عن رسالة من وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى المصرفي اليهودي، اللورد روتشيلد) لمكافأة العصابات الصهيونية المدعمة لجهودها الحربية خلال الحرب العالمية الأولى، من خلال الاعتراف لها بتأسيس "وطن قومي" وقد جاء في هذه الرسالة:

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح".

2 – تطور أعداد اليهود المهاجرين نحو فلسطين

ظهرت الصهيونية السياسية مع سيرورة تطور الهجرة اليهودية نحو الشرق الاوسط وخاصة نحو فلسطين.

ففي سنة 1850، كان هناك 12,000 يهودي في فلسطين وقد وصلت الموجة الأولى من المعمرين اليهود الى فلسطين قادمة اليها من روسيا عقب تعرضها لاضطهاد النظام القيصري الروسي سنة 1882؛ وقد بلغ عدد اليهود الاجمالي في فلسطين 35,000 نسمة ثم تبع ذلك موجة ثانية من اللاجئين اليهود من قادمة من مختلف دول أوروبا الشرقية عقب هزيمة ثورة 1905 في روسيا. حيث وصل عدد اليهود في فلسطين سنة 1914: 90,000 نسمة.

وستستغل بريطانيا هذا التواجد الصهيوني في اعتمادهم كحلفاء موثوق فيهم لتنفيذ مخططاتها الامبريالية ضد منافسيها الآخرين في المنطقة وعلى الخصوص الامبرياليات الأوروبية والبرجوازيات العربية. وكانت بريطانيا تناور من خلال توزيع الوعود سواء للصهاينة أو للبرجوازية العربية الناشئة، مطبقة بذكاء استراتيجية "فرق تسد". وقد نجحت هذه السياسة لاحكام سيطرتها على المنطقة الى غاية الحرب العالمية الثانية.

وعندما حصلت بريطانيا من عصبة الأمم سنة 1921 على حق الانتداب في فلسطين، كان هناك من بين 650.000 ساكن في فلسطين 560.000 من الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، و85.000 من اليهود. وسيحاول الصهاينة منذ ذلك الحين العمل على الزيادة بسرعة في عدد المستوطنات اليهودية. كما سيتم انشاء "مكتب للاستعمار" لنهب الاراضي الفلسطينية من طرف اليهود.

لكن الصهاينة لم يشكلوا فقط أداة لخدمة المصالح البريطانية في الشرق الأوسط، بل تابعوا أيضا مشروع توسعهم الرأسمالي، وتأسيس دولتهم الصهيونية الخاصة. وهو المشروع الذي لا يمكن فرضه والمحافظة عليه سوى على حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين الأصليين والشعوب المجاورة، وعن طريق اللجوء المتواصل الى القوة والحرب والتدمير.

ظهور مشروع الصهيونية الحديثة يشكل تعبيرا صارخا عن افلاس نمط الانتاج الرأسمالي لكونه يتغدى فقط من اجل استمراره على صناعة الاسلحة واستنزاف كافة جهود التنمية في الحروب المستمرة والاستعداد لها وسقوط الآلاف من القتلى. وحيث لا يمكن للايديولوجية الصهيونية أن تتبلور سوى عبر اعتماد متواصل على الاساليب العسكرية؛ وبعبارة أخرى، فإنه بدون ممارسة الحرب وبدون العسكرة المتواصلة للصهاينة وتسليح كامل متواصل ومتطور وبدون اقصاء الشعوب الاهلية وبدون سياسات احتواء ارادة الشعوب المجاورة واضعافها فان الصهيونية تصبح مستحيلة.
فعن طريق دعم المشروع الصهيوني بإنشاء وطن يهودي، أعطى الانجليز الضوء الأخضر "للتطهير العرقي" والترحيل القسري للسكان الفلسطينيين.

المشروع الصهيوني الاستيطاني الاحلالي يعمل على انشاء كيان ترابي يقوم بالضرورة على العزل العنصري وعلى التقسيم والقمع والتهجير القسري كل ذلك من خلال ممارسة الرعب العسكري والابادة الجماعية، كل هذا مارسته العصابات الصهيونية قبل أن تتأسس دولة اسرائيل سنة 1948، كما واصلته هذه الاخيرة الى اليوم.

3 – المقاومة الفلسطينية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية

انحصرت المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني في البداية على مجرد محاولة إغلاق أبواب الهجرة اليهودية انطلاقاّ من رفض قبول أي حق سياسي أو أخلاقي لليهود في فلسطين وقد تمثلت هذه المقاومة فيما يلي :

1 – توجيه المذكرات والعرائض والبرقيات : وكانت المذكرة التي تقدم بها وجهاء القدس بتاريخ 1891 أول عمل عربي منظم احتجاجاً على الهجرة وبيع الأراضي؛


2 – تصدي عدد من المثقفين والمفكرين لخطورة ما يحدث، وتعتبر الدراسة التي أعدها روحي الخالدي عضو مجلس المبعوثان " في أخطار الصهيونية "، في العقد الأول من القرن التاسع عشر من أهم ما كتب في هذا الشأن. كذلك أبحاث هنري لامنس اليسوعي في مجلة المشرق 1899 وما تنبأ به نجيب عازوري عام 1905 بحتمية وقوع صراع محتمل بين القومية العربية والصهيونية، هي دراسات تستهدف ايقاض الوعي العربي الفلسطيني .

3 – صدور عدد من المقالات في الصحفية في فلسطين والقاهرة وبيروت ودمشق ويمكن الرجوع إليها بتفصيل واسع في البحث المعمق الذي أعدته الدكتورة خيرية قاسمية بعنوان " النشأة الصهيونية في الشرق العربي وصداه ما بين 1908 – 1918 ".

4 - سلسلة من الاشتباكات المحلية يمكن تلخيصها فيما يلي :

- اشتباكات في عام 1910 في مناطق الجليل وطبريا ويافا .

- الهجوم على مستعمرة مرحافيا ( الفولة ) سنة 1911

- اشتباكات في حيفا لإنشاء "المدرسة التقنية " سنة 1911

- اشتباكات في طبريا والجليل ويافا سنة 1913 .

-اشتباكات بين عرب قرية غابة الجركس ومستوطني الخضيرة سنة 1914 .

5 - الانتفاضة الأولى أواخر 1917 : حيث فوجئت الجماهير العربية، بالوطن العربي يقسم إلى مناطق تحكمها إدارات عسكرية انجليزية، فبادرت الجماهير إلى التعبير عن رفضها بإعلان الانتفاضة. فسارعت القوى الاستعمارية إلى تطويق الانتفاضة عبر الاتصال بالملك حسين والأمير فيصل كما ساهم خطاب الرئيس ولسن في إعادة ثقة العرب بمؤتمر الصلح.

6 – اندلاع انتفاضة ثانية سنة 1919 : عقب صدور قرارات مؤتمر فرساي لعصبة الأمم ووضع دول الوطن العربي تحت الانتداب واعتراف بريطانيا بالوكالة اليهودية داخل حكومة الانتداب على فلسطين، واشتراكها معها في الإدارة التشريعية والمعارف والبدء بتهجير اليهود من كل أنحاء العالم ودفعهم للاستيطان في فلسطين، وقد اندلعت الانتفاضة بكافة المدن والقرى، إثر ذلك سارعت السلطات البريطانية إلى إجهاضها واعتقال القائمين عليها. مع التظاهر بالبحث عن أمس الحلول والإصرار ضمناً على تنفيذ مخططات التهويد. وبالرغم من الإحباطات التي أصابت الجماهير نتيجة إخفاق انتفاضتها فإنها بقيت وفية لقضيتها، وكانت تعبر عن لحظات توهج كلما أتيح لها ذلك. ولما جاء بلفور عام 1924 لحضور افتتاح الجامعة العبرية طلب من المندوب السامي هربرت صموئيل أن يرتب له زيارة للحرم الشريف في القدس. آنذاك أقفلت الجماهير أبواب الحرم، ووقفت أمام المتاريس، فعاد بلفور بخفي حنين. وفي طريق عودته عرج على دمشق، ونزل في فندق خوام. فهاجت الجماهير في دمشق، لما علمت بالأمر، فأحرقت الفندق وهي غاضبة منادية بسقوطه، فخاف عليه الفرنسيون فأخرجوه من الباب الخلفي وأركبوه سيارة مخفورة إلى بيروت.
برزت خلال هذه المرحلة ، زعامات محلية عائلية، وإقطاعية ورأسمالية سيطرت على لجان المدن وهيئاتها، فلجان المدن كانت إطار العمل السياسي في هذه المرحلة و كانت الأساس في الاحتجاج على وعد بلفور والتنديد بالهجرة اليهودية دون أن تتعرض للاحتلال البريطاني أو لبنية المشروع الصهيوني ذاته. ومما يثير فعلا أن الوفود التي تشكلت لعرض القضية الفلسطينية، لم تتعد هذا السقف، و بقيت الآمال معلقة على العدالة البريطانية .

وفي البيان الذي أصدره السيد جمال الحسيني، سكرتير اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني الرابع، في تشرين الثاني 1921 يشير إلى هذا الأمر ، بقوله :

إن الآمال مقصورة على الأمة البريطانية النبيلة، وإن إنكلترا هي إنكلترا وإنها لا تزال آهلة بذلك الشعب العادل .

لقد كان موقف الحكومة البريطانية واضحا منذ البداية فالمشروع الصهيوني هو مشروعها، ألم تلتزم بتسليم فلسطين إلى الدولة اليهودية خالية من السكان العرب؟

لذلك أجاب وزير المستعمرات تشرتل في مطلع أبريل 1921 على مذكرة رئيس مؤتمر حيفا موسى كاظم باشا، بأنه لا يستطيع إلغاء تصريح بلفور ولا يستطيع إيقاف الهجرة اليهودية. ومما يثير الدهشة، أنه رغم التهميش الذي لحق بالشريف حسين وخروجه صفر اليدين إلا أن الآمال بقيت معلقة عليه، فقد ابرق السيد محمد مراد – مفتي حيفا – باسم الحركة الوطنية في حيفا والجمعية الإسلامية فيها شاكيا للشريف حسين، نكوث بريطانيا بعهودها !...

كان لتدفق الهجرة اليهودية الواسعة التي تضمنت اكثر من أربعمائة ألف يهودي، عشية الحرب العالمية الثانية وأكثر من ستمائة وخمسين ألفا عند إعلان الدولة الإسرائيلية، أثر كبير على المجتمع العربي في فلسطين، حيث أحدثت تحولا نوعيا هائلا في بنية المجتمع العربي الفلسطيني، فتضخمت المدن الكبرى حيفا، يافا، القدس، وتحولت إلى مراكز تجارية وصناعية وتزخر بتناقضات مجتمعية كبيرة وتحول في سلطات التوجيه والقرار فيها - المجتمعي والسياسي والثقافي -، وبدأ الشعور بالغربة في الوطن ولاسيما في المدينة.
وأوجد بالمقابل اتجاها مصلحيا للتعامل مع واقع الحال الجديد، فاتجهت بعض قوى سكان المدن إلى تبني رؤية جديدة مفادها التصالح مع الوضع الجديد بحجة واقعيته وراهنيته. بينما حافظت المدن الجبلية والريفية الداخلية : صفد ، نابلس ،الخليل، وغيرها على بنيتها الوطنية الصلبة برفض مشروع الاستيطان الصهيوني من حيث المبدأ، ورفض انعكاسات الاستيطان جملة وتفصيلا وعلى الساحة النضالية والسياسية عاكسة هذه التحولات نفسها في نشاطات سياسية وانتفاضية مختلفة وفي تنامي المفردات السياسية الحديثة وكان ابرز هذه التحولات : "انتفاضة البراق " عام 1929 .

إثر الاعتداءات اليهودية على المقدسات في القدس، اندلعت انتفاضة شملت المدن والقرى كافة ولا سيما صفد و الخليل .وأعلنت بريطانيا حالة الطوارئ في البلاد واعتقلت المئات، وحكمت على تسعة من المناضلين بالإعدام، نفذ الحكم في ثلاثة منهم في 17 حزيران 1930 والشهداء هم : فؤاد حجازي، عطا أحمد الزير، محمد جمجوم .

تركت أحكام الإعدام أثرها الكبير في الجماهير ولفترة طويلة. لقد خيمت روعة الشهادة وسادت رهبة الموقف، فارتفعت حدة التظاهرات والاحتجاجات في أنحاء الوطن العربي كافة. وفي ظل هذا الجو المهيب غنت الجماهير نشيد :

يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلاما
ليـس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى

و ظلت الجماهير الفلسطينية تغني الأهازيج المعبرة عن ذلك الحدث الوطني، في فنها الشعبي الوطني إلى اليوم .

انتفاضة الشيخ عز الدين القسام

غادر الشيخ عز الدين القسام بلدة جبلة، بعد أن أصدرت السلطات الفرنسية بحقه حكما بالإعدام لاشتراكه في ثورة الحفة في شمال سوريا، تلك الثورة المجيدة التي كانت بقيادة الثائر عمر البيطار عام 1920. فلجأ القسام إلى بلده الثاني، حيفا في 5 فبراير 1922 حيث تابع جهوده الثورية حيث ظل يحضر تلاميذه للثورة والمقاومة ويدربهم على استعمال السلاح أكثر من ثلاثة عشر عاما.

و بتاريخ 12 نونبر 1935 توجه إلى تلال يعبد القريبة من حيفا وهناك اعترضتهم قوة بريطانية فنشبت معركة ضارية استبسل فيها القسام ورفاقه حتى استشهدوا .

الدروس المستقاة من ثورة عز الدين القسام كبيرة أبرزها :

أولا :أتت انتفاضة حيفا استكمالا لتجربة نضالية سابقة في الحفة السورية. بمعنى أن حيفا الفلسطينية هي عمق الحفة السورية وأن الحفة السورية هي عمق حيفا الفلسطينية، فالعمق والامتداد النضالي واحد .

ثانيا :كان يؤمن بأهمية الإعداد والتهيئة للمعركة، فقد ظل ثلاثة عشر عاما وهو يحضر الكوادر المسلحة للعمل الثوري .

ثالثا :ارتكز في جهاد القسام على الريف الفلسطيني، أي أنه اعتمد تعبئة الفلاحين، كما خص العمال باهتمام خاص في تنظيمهم في وحدات لدورهم المميز في مقاومة الاحتلال .

رابعا :حتمية التوجه إلى المعركة و اتخاذ قاعدة انطلاق على الأرض الجبلية .

خامسا : قاتل ومجموعته رغم عدم التكافؤ، ليقدم درسا لمن يتحدثون عن الخلل في موازين القوى .

بقيت الاشارة الى أن تأثيرات ثورة القسام كانت كبيرة، وحتى اليوم لا زالت تعتبر منهجا يدرس في الفكر الثوري والنضالي وقد تابع مناضلوه الطريق الذي خطه وكانت ثورة 1936 استكمالا لذلك .

ثورة وانتفاضة 1936

كان لمواقف بريطانيا من الاستيطان الصهيوني، واستمرارها في سياسة تهويد فلسطين، عبر عمليات المناورة والمراوغة في تشكيل اللجان وإصدار القرارات، لغرض استمهال العرب وكسب الوقت بغية تأمين أغلبية يهودية في فلسطين تتحكم في اقتصادها وزراعتها ومجتمعها، فقامت اثر ذلك ثورة ضد الاستعمار البريطاني مباشرة، شملت كل فلسطين وانخرط فيها معظم أفراد الشعب الفلسطيني وساهم فيها أبناء البلاد العربية من خارج فلسطين .

كان الشيخ عز الدين القسام حاضرا في الثورة، فقد كان رفيقه الشيخ فرحان السعدي يقود الثوار من قاعدته في جبال صفد في الهجوم على المستوطنات الصهيونية وقطع الطرقات وإطلاق النار على الآليات الصهيونية والبريطانية لقد كانت "ثورة ومقاومة" أما القيادة السياسية المتمثلة باللجنة العربية العليا فقد كانت مسيرتها باتجاه آخر.

لقد اكتفت القيادة السياسية، بإعلان الإضراب العام، وطلب من الناس البقاء في بيوتهم، وقد استمر الإضراب ستة شهور كاملة. وكان من المفروض الإعداد لشروط نجاح الإضراب العام مع متابعة الثورة المسلحة، وذلك بتشكيل مؤسسة وطنية ذات قدرة تمثيلية، وتهيئة الاقتصاد الفلسطيني بالقدر الممكن لمتطلبات العصيان المدني والثورة المسلحة ورفع القدرة العسكرية والتصرف كحكومة فعلية لمجتمع يخوض معركة استقلال. لكن تم الاكتفاء بدلا من ذلك برفع قائمة من المطالب إلى السلطات البريطانية تدعو إلى: وقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الأراضي لليهود ومنح الاستقلال السياسي للشعب الفلسطيني، متجاهلة مشروع الاستيطان الصهيوني الذي أضحى يسيطر على نسبة هامة من الأراضي الفلسطينية. ولذلك كانت استجابة اللجنة العربية العليا سريعة لطلب الملوك والأمراء العرب بوقف الإضراب العام .
لم تقبل الجماهير بذلك فأعلنت الثورة المسلحة. حققت الثورة في المرحلة الأولى إنجازات عسكرية هامة إلا أن الانقسامات القيادية الفلسطينية وغياب القيادة الموحدة للثورة أجهضت كل شيء .

وبمتابعة الأحداث التالية وانتهاءً بحرب 1947 – 1948 تابع المشروع الصهيوني امتلاك العدة والعتاد والتنظيم والإدارة السياسية والرؤية المجتمعية والعلاقات الدولية مشكلاّ اتحاداّ بنيوياّ للمشروع الرأسمالي الإمبريالي، بينما لم يمتلك المشروع الفلسطيني هذه المقومات رغم امتلاكه الأرض والمجتمع .

لقد هزم المشروع الفلسطيني في عام 1948، ليس لغياب مقاومة المشروع الاستيطاني الصهيوني، بل لأن تلك المقاومة كانت قاصرة، ومن ثمّ تحكم الآخرون بالمعركة وكانت النتائج المعلومة والمعروفة.


ثانيا: من المقاومة المسلحة الى التسويات السلمية

تتسم المرحلة اللاحقة لهزيمة 1948 بالكثير من التطورات في ميدان الصراع العربي- الصهيوني، وكان من أبرز هذه التطورات:

1 - احتدام الحروب العربية - الصهيونية (1967، 1973، 1982)، وقد حوَّلت هذه الحروب الصراع إلى صراع عربي - صهيوني سواءً من حيث الجيوش المشاركة، أم من حيث ميادين القتال، وكان من نتيجة هذه الحروب الثلاثة أن تم احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية سنة 1967، وجنوب لبنان سنة 1982، وتحول الثقل الأساسي للمفاوضات إلى بحث العلاقات الصهيونية - العربية، وقاد ذلك إلى اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979م، ومفاوضات مدريد سنة 1991، واتفاق واشنطن واتفاقية السلام الأردنية - الصهيونية سنة 1994.

2 - قيام "م.ت.ف" والمقاومة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وخارجها، والمعارك التي خاضها الشعب الفلسطيني على كل الصعد السياسية والعسكرية والثقافية، وكان من أهم ما أنتجته هذه المرحلة على الصعيد العربي عامة - والفلسطيني خاصة - اتجاه التسوية السلمية مع العدو الصهيوني.

3 - حدوث تطورات دولية كبيرة؛ من انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، إلى حرب الخليج الأولى والثانية، ومن تفرد حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة الدولية، إلى انفجار الصراعات الإثنية والطائفية والاجتماعية في بلدان العالم الثالث، إضافة الى التحولات السياسية الداخلية لعدد من البلدان العربية التي اصيبت بالهشاشة، وهي الدول التي كانت تعتبر من بين دول الصمود المواجهة وفك الارتباط مع الامبريالية، مثل العراق وليبيا وسوريا اضافة الى سقوط قيادات كانت معروفة بموالاتها للمعسكر الامبريالي الصهيوني كالدكتاتور بنعلي في تونس والدكتاتور مبارك في مصر. كما نشطت الامبريالية في فرض الاسلام السياسي على شريط الدول من المغرب الى اندنوسيا، لما تحققه ايديولوجيتها من انحطاط وتخلف وخنوع مطلق لإملاءات الامبريالية، وكرد فعل على تنامي الفكر الثوري التقدمي الاشتراكي وسط الشعوب المغاربية والعربية.

لكن هذه المرحلة ظلت تعتبر من أغنى المراحل في مقاومة العدو الصهيوني، سواء كان ذلك عبر انخراط الشعوب وتنظيماتها التقدمية في الصراع العربي - الصهيوني، أم عبر المقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها.

وتبدأ هذه المرحلة بحدثين بارزين:

أولهما: إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964،

وثانيهما: إعلان حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" الشروع في المقاومة المسلحة مع مطلع عام 1965.

وقد تم انشاء المنظمة بقرار رسمي عربي في الجامعة العربية سنة 1963، إلا أن هذا الحدث جاء نتيجة تزايد الشعور العربي بضرورة إبراز عمل فلسطيني سياسي، وتزايد شعور الفلسطينيين بأن عليهم أن يلعبوا دورًا أكبر، إن لم يكن الدور الأول في الدفاع عن قضيتهم.
ورغم الحذر الفلسطيني من الأنظمة العربية الرجعية، فإن قرار إنشاء المنظمة تم تلَقِّيه بترحاب شعبي واسع رغم معارضة فئات صغيرة، وربما كان دور جمال عبد الناصر في عملية الإنشاء سببًا من أسباب القبول بها شعبيًّا. أما على صعيد القيادات التقليدية وشبه التقليدية الفلسطينية، فكان يهمها أن تكون جزءاً من العملية السياسية العربية؛ لأنها لم تكن تطمح – وما زالت لا تطمح - بدور مستقل.

أما إعلان "فتح" عن بيانها الأول، فقد لقي صدى أعمق في أوساط المثقفين عامة والمسيسين خاصة، وفي أوساط الشعب العادي؛ لأن الشعب يؤمن أن طريق المقاومة المسلحة هو طريق فلسطين، وزاد من هذه القناعة أن الأنظمة الرجعية سقطت في مصر وسوريا والعراق، وهي الأقطار العربية الأساسية، ورغم ذلك فإن المواطنين لم يروا جديدًا على صعيد فلسطين، فلا الوحدة تحققت لتكون طريق التحرير، ووحدة مصر وسوريا سنة 1958 انقسمت سنة 1961، والخلافات في الحركة القومية وبين القوميين والشيوعيين محتدمة، ثم إن الجزائر تحررت بالحرب الشعبية.. وكان هذا كله يدفع باتجاه تحرير فلسطين إلى المقاومة المسلحة.

وقاد قرار "فتح" إلى أمرين؛ الأول تحفيز الجماهير في فلسطين والأقطار العربية للقتال، والثاني اتجاه القوى المختلفة إلى إنشاء فصائل فلسطينية مسلحة.

وقد جاءت حرب يونيو وهزيمة العرب فيها؛ لتؤكد ضرورة المقاومة المسلحة، ولتجعل هذه المقاومة الشغل الشاغل للجميع في فلسطين وسائر الوطن العربي.

كان التحرير الكامل هو الهدف المعلن، والمقاومة المسلحة هي الأسلوب الوحيد، وطرحت المقاومة المسلحة بديلاً للحرب النظامية، ونقيضًا للحل السياسي وترافق مع ظهور المقاومة المسلحة، وخاصة بعد 1967؛ نشاط سياسي وشعبي واسع، وأخذت تنبثق فعاليات سياسية وشعبية في كل الميادين.

وكانت اللجنة التنفيذية للمنظمة قد بدأت منذ 1946 بإنشاء جيشها ومكاتب إعلامها وثقافتها وعلاقاتها السياسية ومنظماتها الشعبية ومراكزها للتخطيط والصندوق القومي والتعليم، وما لبثت الفصائل أن اتبعتها في ذلك.
وظهر منذ سنة 1965 وحتى سنة 1970 ، أن المقاومة المسلحة هي محور كل النشاطات، ولكن الأمور بدت تتكشف بعد 1970 على أن هناك برنامج اتصالات سياسية يستهدف الحل السياسي، وأن هذا الخط تم الاتفاق عليه قبل أن يُبْعَد أحمد الشقيري من رئاسة المنظمة ليعهد بها إلى ياسر عرفات.

وحين انتقلت قيادة المنظمة إلى ياسر عرفات سنة 1968؛ اندمجت "فتح" والفصائل بالمنظمة، وصارت المنظمة هي الإطار الأوسع لكل الفصائل.

إشكاليات فصائل المقاومة المسلحة

انتشرت قواعد المقاتلين بين 1967 و1970، حول الكيان الصهيوني في الأردن وسوريا ولبنان، وكانت في هذا الوقت تنمو داخل الأرض المحتلة كلها، وخاصة في الضفة الغربية وغزة؛ حتى تحققت سيطرة شبه تامة على غزة خلال 1970 والنصف الأول من 1971. وكانت هذه القوات المنتسبة لكل الفصائل تتبع منظمة التحرير الفلسطينية اسميًّا، إلا أن ذلك واجه ثلاث إشكاليات:

الأولى- عجز القيادة العليا، سواء اللجنة التنفيذية أم المجلس العسكري الأعلى، عن تحقيق توحيد حقيقي في القيادة والتخطيط والبرامج؛ لعوامل ذاتية تتعلق بالقيادة، ولعوامل موضوعية تتعلق بساحات العمليات والتداخل مع الأنظمة…. إلخ، ولكن العامل الرئيسي كان عجز القيادة وقصور تشكيلاتها ومراتبها.

الثانية - ميل الفصائل إلى الاستفادة من إمكانيات المنظمة وحمايتها السياسية، والتفرد بالقرار والعمل لاختلاف السياسات ولذاتية القيادات ولقصور الوعي، وعدم الالتزام بأسس العمل العسكري النظامي أو الشعبي.

الثالثة - اختلاف هذا الفصيل أو ذاك مع قيادة المنظمة؛ لأن قيادة المنظمة كانت تتبع سياسة محاور؛ ولأن مصالح قيادات الفصائل أو علاقاتها أو خلافاتها السياسية، كانت تدفعها إلى الخروج عن أطر المنظمة.

ولذلك كله عجزت المقاومة المسلحة عن أن تتحد أو تطور قدراتها وتستفيد من الإمكانيات البشرية والمادية الكبيرة التي أُتيحت لها، وظلت أبعد ما تكون عن النظامية سواء من منظور العسكرية التقليدية أم الشعبية، كما ظلت منذ نشأت وحتى الآن، وكأنها نشأت لتوها؛ ولذلك لم تتجاوز العملية البطولية الفردية وعمليات الكمائن المحدودة داخل الأرض المحتلة، أما خارج الأرض المحتلة فإنها لم تتسم بالقدرة على عمليات ميدانية واسعة، وكانت عمليات الدفاع أو الهجوم مجرد حشد قوي دون أية ضوابط للقيادة، ولا تخطيط عسكري، ولا أوامر عمليات، ولا انضباط في حدوده الدنيا، ما عدا الانضباط التطوعي.

وقد حرم هذا كله المقاومة من أن تستثمر قواها استثمارًا أوسع وأقوى وأكثر فعالية ضد العدو، والتحكم بظروف وجودها في الأرض العربية المحيطة بفلسطين، وكان هذا الخلل الذي عرفته المقاومة في بنيتها العسكرية متغلغلاً في كل أجهزتها السياسية والمدنية والشعبية، وفي كل مراتبها من أعلى الهرم القيادي إلى أسفل؛ ولذلك كانت فعاليتها السياسية والنقابية والشعبية محدودة قياسًا بما كانت تستطيع فعله لو كان بنيانها أنقى وأسلم وأكثر تنظيمًا وأكثر ارتباطًا بالقضية.

وأدى ترهل وحشو جسم المنظمة بقوى غير نضالية إلى الاتجاه إلى التسوية السياسية الذي كان كامنًا فيها منذ البدء، والذي أخذ ينمو منذ 1968؛ ليعلن عن نفسه بعد شتنبر 1970، وليصبح اتجاهًا رئيسيًّا بعد حرب أكتوبر 1973، وليقود المنظمة بعد ذلك.
ورغم ذلك، فإن اتجاه المقاومة المسلحة وإعلان برنامج التحرير؛ استطاع أن يطلق طاقات الشعب داخل فلسطين وخارجها، وقد دفع جماهير الشعب الفلسطيني من الشباب إلى العمل السياسي والشعبي والعسكري، وولد الروح النضالية التي عرفناها في كل المعارك والمواجهات منذ 1965 وحتى الآن، وقد ظل هذا التيار متدفقًا رغم اتجاه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى إنجاز اتفاق أوسلو وتسليمها بمطالب العدو.

الأولويات بين السياسة والعمل المسلح

ظهرت خلال هذه المرحلة تطورات واضحة من حيث الأولويات السياسية والعسكرية، فما بين 1965-1970 كان التشديد على المقاومة المسلحة هو الأساس، وكان العمل يستهدف بناء فصائل مقاتلة، ودمج المنظمة بالفصائل، وخلق هياكل سياسية وعسكرية ونقابية تضمن ارتباط الشعب الفلسطيني بقيادته.

ومنذ نهاية 1970 وحتى أوائل 1973؛ بدأت أطروحات التسوية السياسية – التي كانت محرمة سابقًا – تطفو على السطح وتتغلغل في أجهزة المنظمة والفصائل، وما لبثت أحاديث التسوية أن انطلقت في مشروع الحل المرحلي الذي طرحته الجبهة الديمقراطية بحماية قيادة عرفات.
وشهدت هذه المرحلة بداية ما سمي بـ"التجييش" وبناء الأجهزة الأمنية وضرب الحركة الشعبية التي وجهت لها ضربة قوية في شتنبر 1970م.

ومنذ اجتماع المجلس الوطني الثاني عشر في صيف 1974م؛ صار حديث التسوية رسميًّا، وبدأ التغلغل الواسع لأطروحات التسوية ورجالها في بنية المنظمة وبعض الفصائل. وما لبث اتجاه التسوية أن أصبح الاتجاه الرئيسي في القيادة سنة 1977-1978، وعبر معارك خاضها رئيس المنظمة استخدم في بعضها السلاح، وجاء الخروج من لبنان سنة 1982؛ ليكرس دور قيادة المنظمة في عملية التسوية التي أدت إلى أوسلو سنة 1993.

وكانت المقاومة المسلحة تتضاءل ما بين 1982-1987، بينما كان العمل الدبلوماسي يتحول إلى العمل الرئيسي، وأهملت كل أشكال العمل السياسي والشعبي والنقابي.

ثالثا: انتكاسة اتفاقية اسلو:

جاء إتفاق اوسلو الموقع في 13 شتنبر 1993 في البيت الأبيض لخدمة مصلحة إسرائيل وتوجيه ضربة في الصميم لانتفاضة اطفال الحجارة التي حملت الأطراف الى التفاوض.

وبموجب هذا الاتفاق تم إنشاء السلطة الفلسطينية في اطار ما يسمى بسلطة الحكم الذاتي المحدود في الضفة والقطاع .لكن بعد مرور أزيد من عشرين سنة كان حصاد الهشيم وعودة الى نقطة الصفر. والمزيد من العدوان والانتهاكات والاستيطان.
كانت الافصائل الفلسطينية منقسمة على مضمون مفاوضات أوسلوا بين الرفض والقبول والتردد بين هذا وذاك.

كانت قيادة فتح ومعها جزء من اللجنة التنفيذية مع التأييد بل هم الذين وقعوا في أوسلو وكانت حركة فتح هي أداة الموافقة والتنفيذ والتبشير بحكم الولاء القبلي للقيادة التي وافقت على الطرح الإسرائيلي ووقعت عليه وبحكم الولاء للحركة ولاء قبليا أعمى مدعوم بأشياء كثيرة .
وبينما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل كدولة، اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير كحزب فقط يستطيع ان يوقع اتفاقات مع حكومة إسرائيل .

بعد مرور السنين ووضوح ما أصبح يعرف باتفاق أوسلو الذي تكامل في عدة محطات واتفاقات ، ظهر أن إتفاق أوسلو يعني أن تبقى فلسطين بيد الصهيونية وتستمر في الاستيلاء على الأراضي وشق الطرق وبناء المستوطنات في كل أنحاء فلسطين على أن تمنح منظمة التحرير سلطات محدودة للحكم الذاتي في المدن الفلسطينية في الضفة والقطاع وتكون هذه السلطات محكومة بالإرادة الإسرائيلية توسيعا وتحديدا حسبما تراه مناسبا. وقد عادت اسرائيل وقلصت من الجغرافيا عام 2002 إثر اجتياحاتها الهمجية. كما تبقى لإسرائيل كل الصلاحيات المتعلقة بالأمن . بينما تنشئ المنظمة أجهزة امنية تابعة بحيث نصل في التحليل النهائي إلى أن تصبح منظمة التحرير الفلسطينية بمثابة حزب من الأحزاب منحتها حكومة إسرائيل سلطات محدودة في إدارة بضعة مواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة بحيث تشكل الأجهزة الأمنية حالة من حالات قوى الأمن الإسرائيلي .
لقد أبقت إسرائيل على جهاز حكومة الاحتلال بالاتفاق مع السلطة ويتكون من الإدارة المدنية التي كانت قائمة ذاتها مع نقل مقراتها إلى اماكن قريبة وبقاء السلطات العسكرية والحاكم العسكري لكل منطقة والحاكم العسكري العام في بيت إيل كما كان سابقا ولا زال هذا موجودا إلى اليوم.
الخطير في الامر ان اتفاق أوسلو لا يمنح أية آفاق واعدة للشعب الفلسطيني، فإذا راجعنا كل المواثيق المنشورة فإننا نجد معايير مرحلة كان يفترض شكليا ان يتم البحث فيها بعد خمس سنوات أي في عام 1999 وهي نهاية ما عرف بالمرحلة الانتقالية في الخطاب الرسمي الفلسطيني. لكن لا شيء تم من هذا القبيل الى اليوم. يبقى السؤال الملح هو هل تقرر أن تتحقق إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع أم انه سيتم التفاوض على ذلك بعد نهاية المرحلة الانتقالية ؟ لا شيء من هذا ورد في وتائق الاتفاقية.

سيتم التفاوض على عناوين مرحلة محددة سلفا بل سبق وشكلت لها اللجان متابعتها جاءت كما يلي:

"المادة ( 5 ) الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم

تبدأ فترة السنوات الخمس الانتقالية فور الانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا.

سوف تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في اقرب وقت ممكن، ولكن بما لا يتعدى ذلك بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية بما فيها : القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين ومسائل أخرى ذات الاهتمام المشترك"
إنها في أحسن الأحوال وعود بتوسيع صلاحيات الحكم الذاتي مع بقائه تحت سقف السلطات الإسرائيلية وحتى هذا لم يحصل .

لكن ما هي السلطات التي تم منحها كما تنص عليها الاتفاقية.

"مباشرة بعد دخول إعلان المبادئ هذا حيز التنفيذ والانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا، وبقصد النهوض بالتنمية الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، سيتم نقل السلطة للفلسطينيين في المجالات التالية : التعليم والثقافة، الصحة، الشؤون الاجتماعية، الضرائب المباشرة والسياحة. سيشرع الجانب الفلسطيني ببناء قوة الشرطة الفلسطينية كما هو متفق. وإلى أن يتم تنصيب المجلس يمكن للطرفين أن يتفاوضا على نقل صلاحيات ومسؤوليات إضافية حسبما يتفق عليه"

وكان التوقيع باسم منظمة التحرير الفلسطينية :

عن حكومة إسرائيل شمعون بيرس، وعن منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس.

الشاهدان: الولايات المتحدة الأمريكية - الفدرالية الروسية

وبمراجعة اتفاق القاهرة وملحقاته لا توجد أية نصوص تتعلق بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة والقطاع ولا توجد أي نصوص لوقف الاستيطان ناهيك عن سحب الاستيطان .

اتفاق اوسلو هو عبارة عن محطة في سياق الاستمرار في تنفيذ المشروع الصهيوني بتهويد فلسطين وقد ظل التهويد مستمرا حتى اللحظة.

أن المضمون الفعلي لكل ما سمي باتفاقات أوسلو هو ما بينته السنوات العشرون ونيف من الحكم الذاتي وقد جرى تضييقه منذ عام 2002 حيث تم الغاء تقسيمات ألف وبا وجيم .

وما معنى دولة ثنائية القومية: معناها أن يظل كل شيء على حاله كما هو اليوم مع استمرار اسرائيل في التهويد على ان تعطي الحكومة الإسرائيلية صلاحيات موسعة لإدارة عربية للعرب الذين تحكمهم إسرائيل .

وماذا يعني دولة واحدة للشعبين : كذلك يعني بقاء الحال على حاله مع بقاء الحرية الكاملة للحكومة الصهيونية بالاستمرار في تهويد فلسطين وتطبيق المشروع الصهيوني بإمضاءات فلسطينية تبيعهم الوطن بالمناصب والسلطات الكاذبة والصلاحيات المحدودة والبطاقة الزرقاء للجميع.

رابعا: الاختيار بين المفاوضة والمقاومة

في مواجهة المشروع الصهيوني الامبريالي الذي لا يؤمن سوى بالقوة والقمع ونهب الاراضي وتهويد كامل التراب الفلسطيني والذي يتابع مشروعه سواء بالحرب أو بمفاوضات السلام او باتفاقات مفروضة بالقوة، في مواجهة ذلك ليس هناك بديل عن اختيار المقاومة التفاوض في ظل متابعة عمليات المقاومة بكافة اشكالها من احتجاجات وانتفاضات وعمليات فدائية مسلحة ...

القول بالسلام وخوض معترك الشرعية الدولية أو تدويل القضية جزء من أي عمل سياسي، لكن ذلك لا يعني التخلي عن عناصر القوة عند الشعب، القول باللجوء الى الشرعية الدولية لا يعني أن السلام سيتحقق غدا، والقبول بمبدأ التدويل لا يعني أن المنتظم الدولي سيُقدم للفلسطينيين حقوقهم على طبق من ذهب. إن كان لا بد من خوض معركة الشرعية فيجب الاستعداد لها استعداد من يذهب لمعركة ومن يذهب لمعركة يحشد كل ممكنات القوة إن لم يكن من أجل تحقيق مكتسبات فعلى الأقل من أجل تقليل الخسائر.

ان العدوان الامبريالي الصهيوني اليوم لم يعد يقتصر على الشعب الفلسطيني بل امتد شمالا وجنوبا فاضعف كافة البلدان المغاربية والعربية، عبر فرض النيوليبرالية التي دفعت هذه البلدان نحو انتكاسات متعددة على مستوى الانهيارات الاقتصادية في القطاع الفلاحي والصناعي والخدمات وهو ما يقود حتما نحو المديونية المتفاقمة والعجوزات المالية بمختلف اشكالها وبالتالي تراجع مهول في المداخيل وعلى مستوى الانتكاسات السياسية وهيمنة المافيات الكومبرادورية والاسلام السياسي التي فتحت المجال لنهب مزدوج لشعوبها تحت جو من التسلط والاستبداد واعدام الحريات وحقوق الانسان وعلى مستوى الانتكاسات الاجتماعية حيث سيادة البطالة والفقر والامية. ان وضعا عربيا ومغاربيا كهذا هو ما حرك الانتفاضات الجماهيرية من جهة وحرك الثورة المضادة للامبريالية وخدامها الرجعيين والظلاميين.

إن مقاومة العدوان الصهيوني الامبريالي هي قضية كافة شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. لذلك تتحمل القيادات السياسية مهام اعادة الزخم لخطاب المقاومة والثورة محليا وعالميا في افق التحرر والحرية والديموقراطية.



#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتصرفات والمتصرفون يضيعون موعدا مع التاريخ خلال مؤتمرهم ال ...
- لا تحرر للمرأة من دون انعتاق المجتمعات من نمط الانتاج الرأسم ...
- كارل ماركس
- التنديد بمسؤولية المملكة العربية السعودية عن عدد من الانتهاك ...
- في ذكرى تأسيس الرابطة الدولية للعمال 28 شتنبر 1864
- 2016 سنة الاحتقان أم سنة تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي
- رسالة بنكيران التقشفية لميزانية 2016
- الميلودي موخاريق الامين العام للاتحاد المغربي للشغل يسيئ لمب ...
- الشباب والاشتراكية
- ازمة الامبريالية وتفكك الدولة الوطنية
- الحصيلة الحكومية
- المسألة النقابية في المغرب والنضال العمالي
- اشكالية مطلب الزيادة في أجور العمال
- انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان ...
- الارهاب كمؤشر على انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي
- ذكرى مرور مائة سنة على جريمة ابادة العنصر البشري في حق الشعب ...
- ماذا بعد اضراب 29 اكتوبر؟
- دلالات التناقض السياسي في المغرب في مواجهة منظومة حقوق الانس ...
- معضلة البطالة و السياسة التشغيلية للحكومة
- البطالة افراز مباشر للسياسات الحكومية البرجوازية


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبد السلام أديب - لا خيار يعلو على صوت المقاومة