أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبدالوكيل جازم - أشباح التاريخ بين تقنيتي المتن الروائي وهامشه: قراءة في رواية -جوهرة التّعْكَر- للروائي همدان دماج















المزيد.....


أشباح التاريخ بين تقنيتي المتن الروائي وهامشه: قراءة في رواية -جوهرة التّعْكَر- للروائي همدان دماج


محمد عبدالوكيل جازم

الحوار المتمدن-العدد: 4972 - 2015 / 11 / 1 - 10:35
المحور: الادب والفن
    


أشباح التاريخ بين تقنيتي المتن الروائي وهامشه:
قراءة في رواية "جوهرة التّعْكَر" للروائي همدان دماج
محمد عبدالوكيل جازم
روائي وقاص وباحث أكاديمي،
دائرة الأبحاث الأدبية، مركز الدراسات والبحوث اليمني.


حين فرغت من قراءة رواية ""جوهرة التّعْكَر" (الفائزة بجائزة الشارقة للرواية) للروائي والشاعر همدان زيد دماج لفت انتباهي قدرة الكاتب على الأخذ براية الكتابة من حيث انتهى دماج الأب، صاحب العمل الروائي الخالد: "الرهينة"، مضيفاً إلى ذلك نفَسَه الخاص، ورؤيته الخاصة، وأسلوبه الخاص، مستفيداً من تطورات العصر ومدخلاته الغزيرة وتقنياته المتشعبة. ولعل همدان دماج أراد بعمله هذا تذكيرنا بموهبة والده التي بلغت ذروة الإبداع الروائي والقصصي، وإن كان ثمة شيء ورثه همدان عن أبيه بوضوح فهو ما استطيع أن أوجزه بشيئين. أحدهما: اقتناص الأفكار الكبيرة ذات العلاقة بتاريخ الإنسان، وهمومه وتطلعاته، والآخر: القدرة الفائقة على رسم الشخصيات بدقه. تقع الرواية في 73 مقطعاً، موزعة على 6 فصول، ولكل فصل مفاتيح مشهديه مكثفة واقتباسات تعين القارئ على تلمس مجاهل النص.
* * *
الواقع الروائي في "جوهرة التّعْكَر" ليس في متناول اليد دائماً؛ فلكي تتسلل إلى عالم الرواية عليك أن تكون مسلحاً بأدوات فارقة، ذلك لأن عالم السرد ليس عالماً من ورق فقط، وإنما عالم من الاستقصاء البحثي والفني، والفلسفي، والاجتماعي والتاريخي؛ بحيث يبدو المتلقي وكأنه خبير بإحصاء مكاسب الدهشة، وهو ما توالى في رواية "جوهرة التّعْكَر" للروائي همدان دماج (صادرة عن جائزة الشارقة للإبداع العربي الدورة الثامنة عشر) الذي عمد إلى رصف الرواية وتعبيدها بمشاهد متلاحقة من الدراما السردية؛ فلا يخلو سطر من حدث شاعري يقوي علاقة المرسِل بالمستقبِل، ولعلي قد رأيت بأن أهم لعبة فنية وظفها الكاتب في عمله هي تقنية المتن والهامش، والتي سنتناول بعضها هنا. ولكي يمد السارد روايته بوضوح الرؤية؛ زودها بتقنيات ليست جديدة؛ ولكنها فاعلة؛ فبالإضافة إلى التقنية الرئيسية في الرواية (المتن والهامش)، هناك تقنية الرسائل التي تم تبادلها بين "كريم" و"الشيخ العارض"؛ أو بين أعضاء البعثة الطبية الأمريكية مثلاً، ملتفتاً في بعض أجزاء الرواية إلى تقنية التداعي والمونولوج.
* * *
إن الثيمة المحورية التي تنهض عليها رواية "جوهرة التّعْكَر" هي أن العين التي تنظر بفخر إلى الماضي هي نفس العين التي تتحرك باتجاه المستقبل، والرواية التي تتشهى الحداثة تتكئ إلى عمق جدير بأن نلتفت إليه، ومن هنا جاء التصاق الرواية بالجوهرة؛ فالجوهرة يزداد لمعانها بالتقادم، وهي من أضاء جبل "التّعْكَر" وساهم في بناء حصن شهير ازدادت شهرته في عهد الدولة الصليحية (439 هجرية) التي اتخذت من مدينة "جبلة" القديمة، والمحاذية للحصن، عاصمة لها. الجوهرة هي أول مفردة استخدمها الروائي، وكلمة "جوهرة" كما يذكر جيروم ستولنتير تأتي أيضاً بمعنى Essence والصفة المشتقة منها Essential تستخدم للدلالة على ما هو عظيم الأهمية ولا غنى عنه".(1)
* * *
تقول إحدى حكايات الرواية أن "الجوهرة" هدية من الله؛ فالحاج مُحُمّد، من أهالي قرية ذي المجمرة، ذهب للحج، وحين طاف مودعاً تضرع إلى الله أن يغفر لأهالي منطقته ذنوبهم؛ فقد كان يؤمن بأن ذنوبهم كانت سبب القحط الذي أصابهم، وعندما همّ بالعودة إلى اليمن رأى في منامه رسول الله يأمره بالمكوث حتى يأذن له بالعودة، وهو الأذن الذي لم يحصل عليه إلا بعد ثلاث سنوات. عاد وبين يديه جوهرة وجدها تحت وسادته كما أخبرته بذلك الرؤية التي جاءته في المنام. على مشارف القرية أضاع الحاج مُحُمّد جوهرته الثمينة؛ فتدفقت عين ماء في نفس المكان سُميت بـ"جوهرة التّعْكَر".
تحت عنوان تفعيل الماضي في الحاضر يقول ريكور: أول طريقة للتفكير حول ماضوية الماضي هو التغافل عن وخز ما يبحث فيه ألا وهو المسافة الزمنية الفاصلة، هكذا ستظهر العملية التاريخية بوصفها نزعاً للتنائي، وتماهياً مع، أو تطابقاً مع، ما كان موجوداً ذات مرة".(2) لأن العملية الإبداعية حين تخوض في السرد تتلاشى حركة الزمن؛ أو حركة "التاريخية" التي يقول بها هيدجر، ويمكننا هنا أن نلاحظ أن الروائي استفاد من تقنية المتن والهامش ليمزج في هذا العمل بين الماضي بحيويته، والحاضر بطزاجته، مقدماً للقارئ عملاً استثنائياً مغلفاً بسلفان الأصالة والمعاصرة.
تعد قدرة الروائي على رسم الشخصيات من السمات المائزة في العمل الروائي، وقد تجلى ذلك في شخصية بطل الرواية "العمدة". ومفردة "العمدة" ليست مفردة يمنية وإنما مفردة مصرية وفدت إلى اليمن عبر الشاشة الفضية كما أفاد السارد العليم، لكنها مع ذلك لم تقتحم عالم الرواية، بل تسللت إليه بخفة معززة بالحيثيات ومدججة بعلامات الإقناع.
حقاً لقد أجاد الروائي تقمص شخصية "العمدة" مثلما برع في رسمها وصناعتها على الأرجح؛ فالعمدة منذ بداية الرواية وحتى نهايتها حافظ على وتيرة واحدة من التنامي المنطقي، ونجد في وصفه الكاريكاتوري ما يغنينا عن أي كاميرا سينمائية حديثة، فنحن نقرأ مثلاً: "كان العمدة قصيراً جداً، ونحيلاً جداً، يمشي دائماً بخطوات سريعة ممسكاً عصى طويلة لا تتناسب مع قامته، يحملها معه تفاخراً أكثر منه احتياجاً. أسمر، عيناه صغيرتان غائرتان بفعل الزمن، يتمنطق جنبية "صيفاني"، غالية الثمن، ورثها عن أبيه، تغطي نصف صدره، ويصل رأسها إلى أسفل ذقنه، يحتفظ وراء غمدها بمستودع صغير من السكاكين" (ص17).
هذا وصف عالٍ يكاد يقول "خذوني"... إنه وصف مبتكر للشخصية الرئيسة في العمل، وهو لمن عرف المجتمع اليمني وصف دقيق جداً... ومع تنامي الدراما الروائية سيكتشف القارئ أن هذه الشخصية، التي يبدو ظاهرها متواضعاً، ليست عادية أبدأ، وإنما لديها فلسفتها الخاصة المأخوذة من المعطى الاجتماعي المحيط. والملفت أن الروائي، وهو يسوق المشاهد والأحداث، نجده على مسافة مميزة من الحياد؛ ذلك الحياد المشفوع بقدرة غير عادية على دفع التوازن. يعيش العمدة وسط مجموعة من الشخصيات التي تدور حوله في قرية "ذي المجمرة" التي تقع في منتصف جبل "التّعْكَر"؛ حيث يشمخ "دار البخور" التاريخي الشهير، وهو المكان الذي ورثه "آل العارض" من أجدادهم. يعود هذا الحصن إلى زمن ما قبل الإسلام، إلى تلك الحادثة التي أوردتها كتب التاريخ من أن سُطيح التّعْكَر كان يسكن هذا المكان، وسُطيح هو الراهب اليهودي الذي احتكم إليه والد هند بنت عتبة عندما الصق زوجها بها العار، فبرأها سُطيح وأخبرها بأنها ستلد الملوك العظام، وهو ما تحقق في ابنها معاوية الذي كان أول خلفاء الدولة الأموية. "تقول الأساطير إنه عاش طويلاً وكان قادراً على استشراف المستقبل والتكهن بالآجال، كما كان باستطاعته تحريك السحاب والرمال والتحكم بنزول الأمطار، وأن الصخور كانت تنصاع لأوامره" (ص31)
لم تتوقف أهمية هذا الحصن عند هذه الحادثة؛ فقد صار هذا الحصن، إبان الدولة الصليحية، مقراً لحكم اليمن، وذلك أثناء تولي الملكة أروى بنت أحمد الصلحي إدارة شئون الدولة؛ لأنها عمدت إلى البقاء في مدينة جبلة القريبة من الحصن طوال شهور الشتاء، واختارت "دار البخور" في جبل "التّعْكَر" لتكون مقراً في الصيف. تحدثنا الرواية كيف تركت الملكة أروى، أشهر ملوك العرب من النساء بعد الإسلام، حصن التّعْكَر على مضض لقائد جيوشها المفضل بن أبي البركات، وكيف يذهب "أبي البركات" في مهمة عسكرية لإخماد ثورة في "زبيد" ثم يعود ليُقتل في الحصن غدراً. "يتناقل أهالي المنطقة حكاية مفادها أن شبح المفضل ما يزال يظهر من حينٍ لآخر، خاصة في أيام العلاّن" (ص28)، ومن هنا بدأ ظهور أشباح التاريخ التي، عبر الأزمان المتتالية، تناسلت القتل الغامض.
تتصاعد أحداث الرواية أكثر، فنرى بأن "العمدة" لم يكن سوى الرجل الثاني في المنطقة بعد الشيخ "راجح العارض" الذي توارث الحصن عن الأجداد، وبسبب تطور الحياة في العصر الحديث انتقل الشيخ "العارض" للسكن في صنعاء العاصمة اليمنية، بينما يعمل "العمدة" على حل الخلافات التي تنشب بين أهالي المنطقة، بمعية شخصية ثالثة هي "الشرجبي". وقد كانت أكثر الحوادث مأساوية في المتن السردي هي تلك التي حصلت لـ"كريم"، الذي توارى في حادثة قتل غامضة صعب على المحيطين فك شفراتها في عقر "دار البخور" الشهيرة، في المكان نفسه الذي قُتل فيه المفضل بن أبي البركات، والمكان نفسه الذي ماتت فيه "ريحانة" عروس "كريم". أما في الهامش (وليس في المتن) فنقرأ واحدة من بين أكثر الحوادث إثارة في الرواية، ألا وهي حادثة موت "فورسكال"، أحد أعضاء البعثة الدنماركية إلى اليمن عام 1763. لقد استعرضت الرواية تاريخ هذه الشخصية الفذة في الهامش ليعرف القارئ كيف أن هذا المكان الأثري البديع كان أيضاً إحدى محطات الغموض. المكان العجيب لا يفرق بين شخصية عادية مثل "عزيز"، الطفل المصاب بمرض البله المغولي، وبين شخصية "فورسكال"، الرحالة، وعالم النبات، والمفكر الأكثر أهمية في تاريخ الحريات الأوربية؛ حيث شكل كتابه "أفكار حول الحرية المدنية" عام 1759 نقداً صريحا للنافذين في أوربا، وفيه أكد أن "أعز وأغلى ما يملكه الإنسان بعد حياته هو حريته" (ص170). إنه العالم السويدي الشهير الذي اكتشف النبتة المنبهة التي تسمى في اليمن "القات"، حيث التصق اسمها العلمي باسمه: " كاثا أيديولس فور سكالس" (ص166)
في الهامش الروائي يُورد السارد أن فورسكال أصيب بالمرض الخبيث حين دخل أجواء هذه المنطقة، والتي دوناً عن بقية أعضاء البعثة، كان الوحيد الذي استجاب لنداء الحصن؛ فذهب إليه وطاف في أرجاءه، وحين عاد أصيب في اليوم التالي بمرض خطير توفى على إثر بعد أيام في مدينة "يريم".
النقوش الغامضة التي كان الرحالة فورسكال قد رآها قبل موته كانت هي النقوش نفسها التي رآها الدكتور "جيم يونغ" (أحد أعضاء البعثة الطبية الأمريكية في مستشفى جبلة المعمداني) على شكل جروح في رقبة الطفل "علي" (ابن الشيخ "العارض") الذي توفي اثر حادث مروري مأساوي في الطريق الترابي الخارج من قرية "ذي المجمرة". تقول الرواية في صفحاتها الأخيرة: "ترى هل كان لموت "فورسكال" علاقة بهذه الأشكال؟! وهل كان لإصرار الدكتورة "مارتا"، والآخرين، على الوصول إلى ما تعنيه تلك النقوش هو سبب مقتلهم؟!" (ص280)
في رسائل الدكتور "يونغ" حديث عن حيرته من تلك النقوش التي وجدها في رقبة الطفل، ومن الواضح أن في جوهر الرواية تساؤل جدير بالالتفات وهو التساؤل المتشظي الذي يشير إلى سر تلك النقوش القاتلة، التي يبدو أثرها السلبي هنا وهناك، وهل لها علاقة بتلك الطلاسم التي كتبها الراهب "سُطيح" لهند بنت عتبة حين زارته بقصد تبرئتها من تهمة الفاحشة، والتي كانت (أي الطلاسم) هدفاً للمقامرين والطامعين واللصوص؟
جنون القتل الغامض، الذي ورثته المنطقة من الأجداد، الذين تحولت أرواحهم إلى أشباح، ازداد سعاره؛ فهذا المتشدد "عابد كامل" يقتل عام 2002م ثلاثة أطباء أجانب في مستشفى "جبلة المعمداني" عندما اتهمت الجماعة المتشددة، التي ينتمي إليها القاتل، الطاقم الطبي هناك بنشر الدين المسيحي في اليمن، وبالتزامن رصدت الرواية لنفس الخلية الإرهابية حادثة قتل أخرى نفذها "السعواني" في نفس الفترة، وهي حادثة قتل أحد أهم رجال التنوير والسياسة في اليمن الشهيد "جار الله عمر" الذي قتل أمام الكاميرات الفضائية، وهو يلقي كلمة في احتفال عام. ويجدر بنا أن نشير إلى أن حادثة السيارة التي أودت بحياة الطفل "علي" ابن الشيخ العارض في الرواية، وحياة آخرين، قد تزامنت أيضاً مع حادثة قتل رئيس الجمهورية السابق إبراهيم الحمدي.
* * *
من بين الشخصيات الدرامية الجميلة، التي تزخر بها الرواية، والتي وقفت أمامها متأملاً، شخصية "عزيز" ابن العمدة المدلل الذي "يحق له ما لا يحق لغيره"، ويضنه الجميع مصاباً بمرض البلاهة المنغولية، أو متلازمة داون، بينما هو في الحقيقة مصابٌ "بإكسير نادر للسعادة" (ص165).
بعد متابعة أبعاد هذه الشخصية الملفتة للنظر، ألا يمكننا اعتبار "عزيز" اللحظة المتجسدة للأشباح؟ أو "الصورة المكثفة للأسلاف" حسب ما جاء في نص الرواية؟ الأرواح التي تتحرك في الخفاء، ويحق لها ما لا يحق لغيرها. ما أشبه "عزيز" بسلطة تعاني من مرض خفي... مرض ليس مدرك، ويحق لها أن تفعل ما تريد!

***
لعل القارئ سيكتشف من مجمل الحديث السابق أن هناك متن في الرواية، وهناك هامش: المتن يمثل الأحداث التي يرويها السارد، وتعود أحداثها للزمن الحديث، والهامش يمثل الأحداث التي حدثت في العهد القديم، يتخلل ذلك إسناد إلى مرجعيات تتحدث عن العصور الوسطى، ويلجأ السارد إلى ذلك لتوضيح المشهد السردي برمته، وإن كانت وفق إيحاءات هامشية، أو جانبية، لا يرى فيها السارد إلا أخذ الدعم الفني. فمثلاً بعد أن وصفت الرواية مجتمع القرية شرّحت عبر تقنية "الفلاش باك" حصن "التّعْكَر"، وذكرت دوره التاريخي قبل الإسلام وبعده، ثم انتقلت إلى عصر النهضة الأوربية مشيرة إلى فورسكال والرحلة الدنماركية العلمية الاستكشافية التي رأسها العالم الشهير نيبور.
إن تقنية المتن والهامش تبدو من التقنيات النادرة في الكتابة الروائية، ويلجأ إليها الكتاب لما لها من فائدة في توصيل المعنى ولقدرة النص الروائي على استيعاب كافة الفنون والقوالب الفنية. وتتميز رواية "جوهرة التّعْكَر" بأن الهامش يصبح أحيانا متناً، والعكس، فالهامش على مستوى الشكل ليس منزوياً في ركن الورقة وإنما يتداخل في أمشاج النص، وليس هناك خطاً يفصل الهامش عن المتن؛ بل على العكس من ذلك. الأحداث المتصاعدة في الرواية ترفع الهامش في أحايين كثيرة إلى مستوى المتن، وقد عمد الكاتب إلى هذه التقنية (المتن والهامش) ليعمل على تمييز أحداث المتن عن أحداث الهامش على الرغم من الوشائج العميقة بين المسارين. وفي أزهى تجليات هذه التقنية رأينا كيف تم قولبتها في إطار شكلي بحيث وضع الهامش في قالب يشبه "القصيدة العمودية"، فيما أخذ المتن الشكل المعتاد في الكتابة.
تتحقق في الرواية تلك الأسئلة الشهيرة التي انطلق منها بول ريكور في كتابه "الزمان والسرد"، إذ يقول في جوهر تساؤلاته: "أليس الأثر بما هو أثراً، حاضراً؟ أليس من شأن متابعته جعل الأحداث التي تفض رجوعاً إليه معاصرة لآثارها؟ ألسنا نحن أنفسنا، كقراء للتاريخ، نجعل من أحداث الماضي أحداثاً معاصرة عن طريق إعادة بناءٍ مفعمة بالحياة لتظافرها؟ وبوجيز العبارة "هل يمكن فهم الماضي بطريقة ما سوى تشبثه بالحاضر؟"(3)
لاحظنا أن الرواية أعطت ظهرها كلية للمدينة التي عادة ما تشكل المتن في الأعمال الروائية؛ فالريف، بوصفه الهامش كالمعتاد، يعود في الرواية ليصبح متناً؛ يرتفع فيه صخب الفلاحين والمهمشين والكادحين. ذهبت الرواية إلى ذلك المكان الذي نعده دائماَ بعيداً عن الأحداث، وهو في الحقيقة نواة الأحداث؛ بل روحها المثخنة بالدراما؛ تجلى ذلك في شخصية "كريم" الذي يتحرك في الرواية بوصفة الشخصية الأكثر حضوراً بعد شخصية "العمدة"، وحادثة مقتله؛ أو انتحاره، تركت نهاية غامضة سُجلت في ذمة الغموض التاريخي الذي يغلف المكان، وهذه الحادثة لم تكن طارئة على مجتمع القرية البريء؛ ولكنها كانت تمثل الجانب الفطري في ذلك المكان الملتصق بالأساطير والحكايات، والوقائع الغامضة التي كانت ذات نهايات مفتوحة... هناك دائماً أشباح شريرة تلعق دم الضحية لتخفي أدوات الجاني، وبالتالي تتلاشى الأدلة المنسوبة إليه. في تلك الأمكنة المسكونة بالأساطير يجدون دائماً مبرراً لإزهاق ضحاياهم، وصناعة الجريمة.
وإذا كانت شخصيات المتن الروائي التي تصدرها "العمدة" قد شكلت مجتمع الريف، وأحدثت صراعاً ملفتاً؛ فان لهذا المكان خصوصية تاريخية إذ أثبتت الأحداث أن ثمة فكرة مغايرة احتشد فيها مجمل التاريخ للسير في ركبها؛ فشخوص الرواية الحديثة خرجت من معطف الشخوص القديمة، وهنا جاءت الفاعلية الإبداعية لتحرك الساكن في بطون الكتب والحكايات والأساطير.
هذه شخصيات حصن "التّعْكَر" الشهيرة تتحرر من زاوية الأسر الشبحية التي حُوصرت فيها طوال التاريخ، كما حوصرت في الذهن الشعبي تحديداً، لتصبح شخصيات تفاعلية. العوام تعاملوا مع هذه الشخصيات وكأنها أشباح لا عمل لها سوى إثارة الفزع والخوف والأرق، وهي صورة مهزوزة أنبنى عليها وعي مشوه طوال الزمن الممتد. ليس ذلك فحسب، وإنما أصبحت النظرة للتاريخ وشخصياته العظيمة سلبية، ولكن العمل الأدبي حررها من ذلك التصور.
تقدم الرواية الشخصيات التاريخية ليس على أنها "أشباح"، بل تقدمها على أنها وثيقة الصلة بالهوية؛ حيث أن كتب التراث احتفظت بحقها التاريخي؛ لكنها سلبتها القدرة على الحركة، والانفعال والإدهاش، ورأت "جوهرة التّعْكَر"، هذا العمل الإبداعي الروائي الفذ، تجسير هذه الفجوة وإعطاء أشباح التاريخ حرية التنفس وحرية التعبير والحركة بقصد إزالة ما نظنه تناقض بين الماضي والحاضر؛ فمثلا كانت أشباح الراهب "سُطيح"، والملك "أروى"، و"المفضل بن أبي البركات"، "وفورسكال" و"المشرف الرسولي" وآخرين، يتم تدويرها كمحفوظات في الذاكرة، لا تملك من أمرها شيء، ولم يكن انتماؤها وثيق الصلة بالذات الجمعية. وإذا كان الروائيون قد درجوا على خلق شخصيات جديدة أقوى من شخصيات أشباح التاريخ، فإن رواية "جوهرة التّعْكَر" رأت بأن توائم بين الشخصيات القديمة والشخصيات الحديثة، وتجعل من العمل الإبداعي جسراً للفن والمعرفة.
"العمدة" أهتم بتلك التهاويم الشبحية أخيراً، وأن كان لا يبوح بذلك. لكننا عرفنا من خلال هذيانه، وهو يحتضر، إنه ساهم في وضع الحلول للحد من ظهور أشباح التاريخ القاتلة، وفي تلك الزيارة التي قام بها هو والشيخ "العارض" والتقاءهما بشيخ يشبه المجانيين جوار ثالث مسجد عُرف في الإسلام (جامع "الجَنَد الذي أسسه معاذ بن جبل رسول رسول الله إلى اليمن)، وفهمنا من السياق أن الشيخ "العارض" كلّف العمدة بدفن حقيبة جلدية في مكان بعيد، وهو ما يشير إلى أن هناك كتبٌ، وأوراقٌ لها علاقة بالأحداث الغامضة التي يأتي القتل؛ أو الانتحار على رأسها.
إن رواية "جوهرة التّعْكَر" على أية حال ليست حصناً في رأس جبل "التّعْكَر"، وليست عين ماء يتقاسم دموعها أهالي القرى، وليست قرية "ذي المجمرة"، وإنما هي حالة شجن إنساني ومعرفي، حالة إبداع تناوبت على خلقها آلهة الأرض والسماء.

هوامش
1- جيروم ستولنتير –ترجمة د. فؤاد زكريا-النقد الفني "دراسة جمالية"-المؤسسة العربية للدراسات- ط2 -1981م- بيروت-ص172
2-بول ريكور- ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم- الزمان والسرد"الحبكة والسرد التاريخي" راجعه عن الفرنسية الدكتور جورج زيناتي- 214
3- المرجع السابق -ص214



#محمد_عبدالوكيل_جازم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبدالوكيل جازم - أشباح التاريخ بين تقنيتي المتن الروائي وهامشه: قراءة في رواية -جوهرة التّعْكَر- للروائي همدان دماج