محمد عبد الوهاب
الحوار المتمدن-العدد: 4969 - 2015 / 10 / 28 - 20:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منْ ضِمْن ما قيل فى تعليل أسباب عبادة العرب للأصنام قبل الإسلام ، إن الناس كانوا يقصدون الكعبة لأداء صلواتهم ، على مذهب سيّدنا إبراهيم عليه السلام ، وحدث أنّ رجلا من البادية كان يرعى الإبل فى واد بعيد عن الكعبة ، فرأى يوما ما ، أن يؤدّى صلاته فى مكان رعيه ، مكتفيا بإحضار حجر من أحجار الكعبة كرمز لها، والتوجه فى صلاته إليه ، وتعاقبت الأيام والرجل يضع الحجر أمامه أثناء تأديته للصلاة ، فصارت تلك عادة أولاده وأحفاده من بعده ، حتى وصل الأمر إلى أنهم اتخذوا الحجر إله لهم من دون الله ، ظنا منهم أن الحجر هو المقصود بالعبادة ، أو أنه واسطة بينهم وبين الله وتبعهم الناس تدريجيا حتى عمت عبادة الأوثان الجزيرة العربية كلها . .
لو أنَّ واحدا من أبناء الرجل سأل أباه ولو مرة واحدة ، لماذا يصلّى باتجاه الحجر ؟ لما تفشَّت عبادة الأصنام ، ولما استقرت الجاهلية فى جزيرة العرب قرونا عدة ، إلى أنْ بعث الله سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، بمنهج إلهى يصحح أوضاع حياتهم ويضع فى رءوسهم فكرا قويما ، بعد أن برهن لهم بالأدلة العقلية ، فساد ما كانوا يعتقدونه من قبل من عبادتهم للأوثان أو النجوم أو الملائكة أو النيران إلى غير ذلك ، وكذلك قتلهم مواليدهم الإناث وعدوانهم على بعضهم البعض ، فكان الناس يُتخطفون ويباعون عبيدا وسبايا ، ظلما وقهرا ، ولم يكن الأمر سهلا ولا هيّنا ، بل كان عسيرا وشاقا على الرسول الكريم محمد ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان مؤيَّدا بالحق والنور الذى هدى به أمة العرب ، وغيرها من الأمم التى نهجت نهجها ، فصارت بالإسلام أرحم وأَهدى الأمم ليس بالسيف ، أو بالقهر والعدوان وإنما بالمحبة والأخلاق الكريمة ، وبالفكر المستنير والهدى المبين للدين الإسلامى السمح ، لذا وجب على كل منا أن يستفسر – من أهل العلم بالدين الإسلامى الصحيح - عمّا يغمض عليه من أمور ولا يركن إلى عدم المبالاة ، يجب أن نتحول من السلبية ، التى تتساوى مع الموات ، إلى الإيجابية الخلاَّقة ، التى لا تتأتَّى إلاّ ببناء سليم للعقل ، كى نتمكن من استعمال الهبة الإلهية العظمى ، ألا وهى الفكر المبدع البنّاء ، الذى هو فى حقيقته جوهر الحياة , استعمالا فعالا يسهم فى نهضة ورخاء المجتمع والعالم أجمع . .
إن التقدم المذهل الذى وصلت إليه البشرية ، لم يكن بسبب اكتشاف مصادر الثروة الطبيعية ، أو بسبب التطور الذى طرأ على أساليب التجارة وحدها ، بقدر ما يرجع إلى التغيير الكبير الذى حدث فى عادات التفكير البنّاء فى النظم الاقتصادية والسياسية ، وإنه من الضرورى على الإنسان أن يتبع طريقة التروى قبل إصدار حكم أو رأى ، وأن يفتح ذهنه على حقائق الطبيعة ، وعلى الأفكار المختلفة ، وبخاصة تلك الأفكار التى تنافى وتناقض الثوابت الفكرية التى تربى عليها ، وعليه أن يقوم بعملية المقارنة المتأنية ،ومن ثم التغيير ، إذا تأكد له أن ذلك التغيير فى الكفة الراجحة من ميزان حياته ، وفى صالح تقدمه ورفاهيته ، فمن المعلوم أن لكل إنسان فلسفته الخاصة ، عن الحياة والموت والحب والفضيلة والجمال والواجب ، وفلسفته تلك تشكلت عبر تجاربه الذاتية وحدها ، وغلى عواطفه التى قد لا تعتمد على المنطق السليم ، ومن هنا نرى أن المشكلة تكمن فى ضيق أفق ذلك الإنسان ، الذى لم يتعود على تبادل اثقافات والأفكار مع الغير بسماحة وحسن استقبال ، والذى يحتفظ فى رأسه بثوابت ترسخت وتصلبت ، وبات من العسير ، أو قل من المحال، تغيير ، أو حتى مجرد قلقلة تلك الثوابت من رأسه ، هذا هو الإنسان ضيّق الأفق ، الذى أعتبره المثل السىء ، الذى من المتوقع أن يأتى الضرر منه على المجتمع .
إن هذا الكائن ضيّق الأفق أو لنقل : ( المُتزمِّت ) إذا ما ناقشته فى شأن من شئون حياته ومعتقداته ، تراه يقدم أدلته السقيمة وبراهينه الواهية ، حتى أذا واجهته بمنطقك السليم ، ستراه يعمد إلى عبارات غامضة ، لا تمت للحقيقة بأية صلة ، وغالبا ما يلجأ للغلظة وبالتعصب الفج لأرائه المغلوطة ، ثم بالعداء الصريح ، وهذا الكائن – فى الغالب الأعم – من أنصاف المثقفين ، ولا يخدعنك أن يكون قد حصل على الشهادات الجامعية كالدكتوراة مثلا ، ذلك أن واعيته قد انحصرت فى جزء من علم واحد ، واافتقدت التعددية المعرفية ، التى تعطى الإنسان المقدرة على معرفة الآراء والأفكار والمعتقدات المختلفة والمتعددة ، والتى تضع كل تلك الحصيلة المعرفية ، فى إطار أخلاقى واحد هو التسامح ، بصرف النظر عما يعتقده شخصيا أو يدين به ، إن من يمتلك تلك الحاوية الفكرية ، هو الذى يمتلك القدرة على إبداء رأيا ناضجا لا تزمت فيه ، وتراه يتقبل الرأى المخالف لرأيه بسعة صدر وحِلم صريح ، وتراه هو الأقدر على إجراء حوار حضارى ثرى متميز وبنّاء ، يهدف أول ما يهدف إلى إظهار الحقائق البعيدة عن الهوى ، وإلى ما يخدم مجتمعه والإنسانية . .
إنه لمن المؤسف حقا أن المتزمت حين يعتقد بعقيدة ما ، تراه يبالغ فى تأييدها للدرجة التى تجعله يتنكر لسائر المعتقدات الأخرى ، وما يزيد الطين بلة ، هو موقفه التعصبى المعادى للأفكار وللعقائد المخالفة لما تحويه رأسه ، وإنه لمن المؤسف كذلك أن مثل ذلك المتزمت هو من يتسبب قى تأجيج الفتن وإشعال الحروب فى العالم ، لذلك فإنه على أصحاب الفكر الحر البنّاء ، مسئولية عظمى حيال تثقيف وتنوير تلك الفئة الضالة فى المجتمعات الأقل حظًّا فى تحصيل العلوم والفنون المختلفة ، وبخاصة تلك التى توسع الأذهان وتنمى المواهب الفكرية الخلاقة ، والتى ستكون يقينا داعمة فى تطوير مجتمعاتها ورفاهيتها وإنسانيتها
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟