أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى الجويلي - من الحوار الوطني الى قانون المصالحة: الرأسمال الطفيلي الفاسد و مسار التحكم في المشهد السياسي التونسي















المزيد.....



من الحوار الوطني الى قانون المصالحة: الرأسمال الطفيلي الفاسد و مسار التحكم في المشهد السياسي التونسي


مصطفى الجويلي

الحوار المتمدن-العدد: 4948 - 2015 / 10 / 7 - 18:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في الأيام الأولى من شهر سبتمبر عرفت تونس سلسلة من الاحتجاجات المناهضة لمشروع "قانون المصالحة الاقتصادية و المالية" و الداعية إلى إسقاطه. هذه الاحتجاجات ووجهت في أغلبها بالقمع المباشر وهو ما يؤشر لإمكانية العودة إلى الديكتاتورية والاستبداد و يكشف بوضوح عن طبيعة التحالف اليميني الحاكم كتعبيرة سياسية عن أكثر الدوائر فسادا و تعفنا في الرأسمال الكمبرادوري الطفيلي.
كما ورد في فصله الأول "يندرج هذا القانون في إطار تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة ". العنصر الرئيسي إذن في الدعاية الرسمية لهذا المشروع هو تدهور الأوضاع الاقتصادية والحاجة الملحة إلى الأموال و الاستثمار. هذا التبرير الاقتصادوي لم يفلح في إخفاء الجوهر السياسي لهذا القانون الذي يتجلى بشكل واضح في عبارة"غلق الملفات نهائيا وطيّ صفحة الماضي" الواردة في نفس الفصل. ذلك أن "طي صفحة الماضي" دون مساءلة و محاسبة لا يعني إلا مصالحة مع منظومة كاملة بخياراتها و نتائجها المادية.
مما لا شك فيه إن حكومة الترويكا و النهضة أساسا التي عرقلت مسار العدالة الانتقالية و حولته إلى مجرد فرصة للابتزاز و جني المنافع تتحمل المسؤولية الأولى، إلا أن "قانون المصالحة" هو في نفس الوقت نتيجة لمسار كامل بدأت ملامحه تتشكل بوضوح مع الحوار الوطني. هذا المسار الذي سعى من خلاله الرأسمال الطفيلي الفاسد، مدعوما بدوائر عالمية، إلى التحكم في المشهد السياسي و فرض شروطه ليجعل من نفسه المستفيد الوحيد من ثورة قامت في الأصل ضده.
لم يكن من باب الصدفة أن يطرح مشروع قانون المصالحة مباشرة بعد المبادرة التي أطلقتها منظمة الأعراف في الأسبوع الأّول من شهر جويليّة تحت عنوان" سنة لإنقاذ تونس". هذه المبادرة التي تضمنت جملة من الشروط، أولها "مصالحة بأقصى سرعة"، ليست إلا نتاجا لسياق كامل تميز بتغلغل الرأسمال الفاسد، عبر منظمته، في الشأن السياسي بدءا من حكومة التكنوقراط وصولا إلى التحكم في المسار الانتخابي و ما أنتجه من حضور ملفت للرأسمال الفاسد داخل المؤسسة التشريعية. ولئن تمكن من تحقيق بعض المكاسب، أساسا رسملة البنوك كجزء من المصالحة، فان الرأسمال الطفيلي الفاسد يبدو مصمما على فرض "مصالحة شاملة" وفق شروطه، أي مصالحة تسقط عنه كل جرائمه دون مسائلة أو محاسبة. ولئن كانت أحزاب التحاف اليميني الحاكم موضوعيا داعمة لهذا المشروع فإن تمريره سيقترن ضرورة ببعض التسويات السياسية. جملة هذه النقاط سنحاول تناولها بالتحليل في هذا النص.
 -;-
1- منظمة الأعراف عراب السياسات الدولية.
خلال فترة حكم الترويكا تعرض الاتحاد العام التونسي للشغل إلى حملة سياسية و إعلامية بلغت أوجها مع الاعتداء الذي تعرض له المقر المركزي للاتحاد في ديسمبر 2012. هذه الحملة، المتواصلة إلى حد اليوم، ارتكزت على ما اعتبر انحرافا للمنظمة عن دورها النقابي الاجتماعي و تدخلها في الشأن السياسي. هذه المؤاخذات المتعلقة بالتداخل بين النقابي و السياسي لم تقع إثارتها حيال منظمة الأعراف التي اتسع شيئا فشيئا دورها السياسي و عرف مقرها المركزي بحي الخضراء اجتماعات متكاثرة مع دبلوماسيين تونسيين و أجانب
في 22 أوت 2014 استقبلت رئيسة منظمة الأعراف مجموعة من السفراء رؤساء البعثات الدبلوماسية التونسية في الخارج . وحسب البلاغ الصادر عن المنظمة، خصص هذا الاجتماع « لمناقشة العلاقات الاقتصادية التونسّية مع الدول الأجنبيّة" و آليات "التشجيع على الاستثمار الأجنبي و دعم الصادرات التونسية". مثل هذه الخطوة تعتبر تجاوزا للدور التقليدي للمنظمة و قفزا على المسالك المعهودة التي تنظم العلاقة بين الدولة و القطاع الخاصّ و تحول رؤساء البعثات الدبلوماسية إلى مجرد وكلاء للمنظمة بالخارج. لكن الأهم و الأخطر أن اللقاءات تجاوزت هذا الحد لتشمل وفودا و شخصيات دبلوماسية أجنبية.
منذ ماي 2011 و الى حدود جانفي 2015 عرف مقر المنظمة بحي الخضراء أكثر من ثلاثين اجتماعا مع وفود و شخصيات دبلوماسية أجنبية. افتتحت هذه السلسلة باجتماع مع السفير الأمريكي يوم 18 ماي 2011 ثم مع سفير فرنسا يوم 5 جويلية 2011 و وزير الخارجية الألماني في 15 أوت من نفس السنة. وقد اتسعت دائرة اللقاءات لتشمل سفراء العديد من البلدان وعدد من الوزراء(وزير المالية الماليزي، وزير الخارجية الايطالي، وزير التنمية الاقتصادية الايطالي) إلى جانب رئيسة لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الفرنسي و رؤساء البعثات الدبلوماسية الأوروبية و وفد من البرلمان الأوروبي.
لم تقتصر هذه اللقاءات على الوفود الدبلوماسية بل اتسعت لتشمل المؤسسات المالية العالمية و أهمها خمس لقاءات أجريت مع ممثلين عن صندوق النقد الدولي كان أخرها في 7 افريل 2015. كما كان لمنظمة الأعراف اجتماعات مع ممثلين عن البنك العالمي و البنك الإفريقي للتنمية و البنك الأوروبي لإعادة الإعمار و التنمية و مركز التجارة العالمية و المنظمة العالمية للتجارة إلى جانب الوكالة الفرنسية للتنمية و الوكالة اليابانية للتعاون الدولي.
حسب ما ورد في البيانات المتعددة لمنظمة الأعراف فان هذه الاجتماعات تمحورت أساسا حول "الوضع الاقتصادي" في تونس و "الإصلاحات الاقتصادية الكبرى" و "الدور الرئيسي للقطاع الخاص" و مشاريع القوانين كقانون الشراكة بين القطاع العام و القطاع الخاص و رسملة البنوك العمومية و مجلة الاستثمار و قانون المنافسة و الأسعار....الخ. نتج عن هذه المشاورات جملة من الوثائق، بسطت فيها منظمة الأعراف تصوراتها و مقترحاتها في علاقة بالوضع الاقتصادي و الإصلاحات المطروحة، أولها كانت وثيقة صادرة في ديسمبر 2012 تحت عنوان " رؤية لتونس 2020 " .
ليس من الصعب عند تصفح هذه الوثيقة أن نكتشف أنها ليست إلا ترجمة وفية لكل أملاءات دوائر الرأسمال العالمي وخاصة ما جاء في تقارير صندوق النقد الدولي من إجراءات يسعى إلى فرضها تحت عنوان "إعادة الإصلاح الهيكلي" . حسب ما ورد في هذه الوثيقة، يشترط تجاوز الأزمة الاقتصادية رئيسيا دفع الاستثمار و توسيع دائرة نشاط المؤسسات الخاصة (على حساب القطاع العام طبعا) وهو ما يتطلب سياسة جبائية داعمة للنمو عبر التخفيض في الضغط الجبائي على المؤسسات و توسيع دائرة التشجيعات الجبائية (الغاء دور الجباية كآلية للعدالة الاجتماعية) وسياسة مالية ملائمة لحاجيات المؤسسات الخاصة (تخفيض نسب الفائدة في اتجاه تحريرها، تسهيل القروض عبر الحد من الضمانات المطلوبة، إخضاع السياسة المالية لمعايير الربح و تقليص دور البنك المركزي....) و إخضاع التصرف في الخدمات العمومية لمعايير الجدوى الاقتصادية ( أي إخضاعها لمنطق الربح كخطوة أولى نحو خوصصتها). كل هذه الإصلاحات تتطلب، حسب نفس الوثيقة، مناخا اجتماعيا ملائما يقوم على علاقات شغلية جديدة تدعم القدرة التنافسية للمؤسسة (؟؟؟؟) ومنظومة ضمان اجتماعي تضمن توازن الصناديق دون المس بتنافسية المؤسسات (؟؟؟؟؟؟) إلى جانب سياسة تأجير ترتكز على الإنتاجية و منظومة تشغيل مرنة (إمكانية تسريح العمال في أي وقت). كما وقع التطرق في وثيقة أخرى إلى ضرورة تحسين المقدرة الشرائية لكن دون الاعتماد على سياسة التحكم في الأسعار (إلغاء الدعم و تحرير مسالك التوزيع و التجارة).
هذا التطابق في التصورات والحلول المطروحة بين منظمة الأعراف و مؤسسات الرأسمال العالمي ليس طبعا من قبيل الصدفة بل يبين بشكل قاطع إن الرأسمال الكمبرادوري الطفيلي أصبح، أكثر من أي وقت مضى، يلعب بشكل واضح دور الوكيل المباشر للرأسمال العالمي و العراب للسياسات الدولية. مما لا شك فيه إن الارتباط العضوي للرأسمال الطفيلي بالرأسمال الاحتكاري العالمي ليس وليد السنوات الأخيرة بل أن وجود الأول يشترط موضوعيا ارتباطه العضوي بالثاني. إلا أن هذا الارتباط اتخذ شكلا جديدا وذلك أساسا للأسباب التالية:
بالنسبة للرأسمال الطفيلي الفاسد الذي "حررته الثورة" من سطوة المخلوغ و حاشيته لم يعد من الممكن قبول وضعية "الابتزاز" و الاكتفاء بالأدوار الثانوية بل أصبح يسعى إلى الدفاع مباشرة عن مصالحه عبر التحكم في السياسات العامة للدولة و تحويل الحكومة و الأحزاب المكونة لها إلى مجرد أدوات تنفيذية.
أما الرأسمال الاحتكاري العالمي، في ظل العولمة و هيمنة الخيارات الليبرالية المتوحشة، فانه يسعى إلى التخلص من دور الوسيط الذي تلعبه الدولة (التي يعمل في الواقع على إضعافها و تقزيم دورها) وتكاليف البيروقراطية المرتبطة بها و وضع اليد مباشرة على خيرات و مقدرات الشعوب المضطهدة. أما في الواقع الخصوصي لتونس فان فرض أملاءاته يصطدم بتردد الحكومات في تنفيذ "الإجراءات الموجعة" نتيجة لحساباتها السياسية و تخوفها من اتساع دائرة الاحتجاجات الاجتماعية، هذه الحكومات التي "تنقصها الجرأة" حسب احد ممثلي صندوق النقد الدولي.
من هذا المنطلق غير الرأسمال العالمي إستراتيجيته في اتجاه تهميش مؤسسات الدولة و التعاطي مباشرة مع وكلائه المؤهلين أكثر من ذي قبل لتأمين هذا الدور . إلا إن لعب دور الوكيل المباشر، حسبما يقتضيه الشكل الجديد لارتباطه بالرأسمال العالمي، يستوجب من الرأسمال الطفيلي عبر منظمته حضورا مباشرا و مؤثرا في المشهد السياسي. هذا الحضور كان مدخله الأول الحوار الوطني.
2- الحوار الوطني : المدخل الناجح للرأسمال الطفيلي
خلال فترة حكم الترويكا عرفت تونس أزمة سياسية وحالة من الاحتقان الاجتماعي بلغت ذروتها مع اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 6 فيفري 2013 لتتعمق أكثر مع أغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 جويلية 2013. أدى هذا الحراك إلى تنظيم اعتصام الرحيل الذي طالبت فيه القوى السياسية المعارضة للترويكا بإسقاط الحكومة و حل المجلس التأسيسي.
في الواقع لم تكن خيارات حكومة الترويكا في جوهرها معادية لمصالح الرأسمال العالمي و وكيله المحلي الرأسمال الطفيلي الفاسد. إلا إن العلاقة بين هذا الأخير و مكونات الترويكا و خاصة حركة النهضة كانت متوترة أو على الأقل ليست بالجيدة. ويعود هذا أساسا الى منطق الابتزاز الذي تعاملت به حركة النهضة (ملف رجال الإعمال الممنوعين من السفر) و سعيها الى وضع اليد على المنظمات المهنية و النقابية (و قد نجحت في ذلك مع اتحاد الفلاحين). وهو ما كان يتعارض مع رغبة الرأسمال الطفيلي في الخروج من موقع "التابع" للحزب الحاكم (كما كان الوضع مع التجمع المنحل) إلى موقع اللاعب الرئيسي القادر على فرض شروطه.
لهذه الأسباب ساند العديد من رجال الأعمال اعتصام الرحيل و لعبت منظمة الأعراف ، بوصفها احد مكونات "الرباعي الراعي للحوار"، دورا بارزا في "الحوار الوطني" الذي أفرز جملة من "التوافقات" و كانت من أهم مخرجاته ما اصطلح على تسميته "حكومة التكنوقراط".
"التكنوقراط"، كما وقع التسويق لهذا المفهوم، لا تحكمه توجهات سياسية بل هو "خبير" في تخصصه الدقيق وعلى هذا الأساس فهو قادر على وضع و تنفيذ السياسات الاقتصادية والمالية "الصحيحة" التي من شأنها إنعاش الاقتصاد و حل المشاكل المعيشية للمواطن. ويرتكز هذا المفهوم على مقولة وجود "سياسات اقتصادية صحيحة " في المطلق و بالتالي خبراء (تكنوقراط) درسوا هذه السياسات بدقة و تخصصوا فها و أصبحوا قادرين على تنفيذها.
في الواقع، لا وجود لسياسات اقتصادية "صحيحة" و أخرى "خاطئة" في المطلق وهو ما يبينه تعدد و تنوع السياسات الاقتصادية حتى في ظل الرأسمالية نفسها. و بشكل عام فالاقتصاد (السياسي)، كعلم له قوانينه الأساسية ، ليس محكوما بقوانين طبيعية (مطلقة) بل بتطور المجتمعات البشرية. والسياسات الاقتصادية ليست نتاجا "للتجربة العلمية" بل هي وليدة ظرف اقتصادي ولحظة سياسية في نفس الوقت وهي ليست إلا انعكاسا لمصالح شرائح و طبقات اجتماعية بعينها.
برز مفهوم "الاقتصاد الصحيح" بعد انتهاء الحرب الباردة و هيمنة نظام القطب الواحد بمؤسساته الدولية مثل صندوق النقد و البنك العالمي. ومع هيمنة الخيارات النيوليبرالية ظهر مصطلح "التكنوقراط" و ارتبط بجامعة شيكاغو التي شكلت بامتياز ورشة لهذه الخيارات. فما يسمى "اقتصادا صحيحا" ليس في واقع الأمر إلا النموذج النيوليبرالي بما يحتويه من سياسات الخوصصة و تحرير السوق و تقليص دور الدولة. فالتكنوقراط إذن، و إن كانوا غير مسيسين بمعنى الانتماء الحزبي، ليسوا متجردين من الانحياز السياسي وليسوا فوق الطبقات و المصالح الطبقية المتناقضة. بل هم ذوي انحياز واضح وليسوا إلا "تقنيي العولمة الليبرالية" المهيئين لتنفيذ خياراتها.
من هذا المنطلق مثلت "حكومة التكنوقراط" خيارا ملائما لمصالح الرأسمال العالمي و الرأسمال الطفيلي المرتهن به و بقيت المسألة منحصرة في اختيار الاسم المناسب لقيادة هذه الحكومة. و أمام استحالة التوافق حول أحد الأسماء المرشحة أصبح المجال مفتوحا إمام مرشح الأمتار الأخيرة المتمثل في المهدي جمعة الذي اقترحته منظمة الأعراف بدعم من دوائر أجنبية.
مثل "التوافق" حول مهدي جمعة نجاحا لمنظمة الأعراف فوزير الصناعة في حكومة علي لعريض منحدر من دائرة المال و الأعمال حيث شغل خطة مدير عام قسم الطيران و الدفاع بشركة ايروسباس احد فروع المجموعة الفرنسية طوطال. كما شكل مهدي جمعة حكومته من "خبراء" منحدرين في أغلبهم من مؤسسات مالية عالمية (البنك العالمي، البنك الإفريقي للتنمية..) و منظمات دولية (المنظمة العالمية للصحة، المنظمة العالمية للتجارة ، المعهد الإفريقي للتنمية) و شركات متعددة الجنسيات (طوطال، شلمبرجير، بي أم دبليو..) و مكاتب دراسات مقربة جدا من المؤسسات المالية العالمية (ماكنزي) إي "خبراء" متخصصين في "السياسات الصحيحة" و قادرين على تنفيذها. كما أن مهدي جمعة، و هذا مهم أيضا، ليس بعيدا عن دائرة الفساد المالي و الاقتصادي إذ تعلقت به العديد من الشبهات عندما كان يشغل خطة و زير للصناعة وخاصة دفعه نحو التعاقد مع شركة "ألستوم" الفرنسية المتخصصة في مجال الطاقة و توليد الكهرباء هذه الشركة التي صدرت ضدها أحكام قضائية متعلقة بالفساد و الرشوة في العديد من البلدان.
منذ تسلمها لمهامها سعت "حكومة التكنوقراط" إلى إعطاء دور أكبر لمنظمة الأعراف حيث رافق رجال أعمال و ممثلون عن المنظمة رئيس الحكومة خلال جولاته في الخليج و أوروبا و أمريكا كما تم إدراج المقترحات التي تقدمت بها منظمة الأعراف في قانون المالية التكميلي لسنة 2014 وهو ما أشادت به المنظمة في بيان لها بتاريخ 16 جويلية 2014 . و من ناحية أخرى كانت كل تصريحات مهدي جمعة و مقاربته حول وضعية و مستقبل القطاع العمومي منسجمة مع تصورات منظمة الأعراف. إلا إن المهمة الرئيسية الموكولة لحكومة "التكنوقراط" لم تكن سوى تمرير كل املاءات المؤسسات المالية العالمية وهو ما يقتضي حالة من "التوافق" سعت هذه الحكومة إلى خلقها عبر "الحوار الوطني الاقتصاد" الذي سبقته حملة ممنهجة من الترهيب و التخويف.
في 03 مارس 2014 و في إطار ما سمي "لقاء المصارحة" قدم مهدي جمعة أرقاما مفزعة حول الواقع الاقتصادي في تونس. هذه الأرقام تعلقت بالموازنات المالية و الحجم المرتفع للديون بالإضافة للارتفاع الغير مدروس للأجور و نفقات الدعم التي أصبحت تثقل كاهل الميزانية. كما أشار إلى الخسائر الفادحة للمؤّسسات العمومّية (الخطوط التونسّية ، فسفاط قفصة ، مجّمع قابس الكيميائي) إلى جانب البنوك العمومية التي أصبحت عاجزة عن دعم بقيّة المؤّسسات و تمويل المشاريع التنموّية.
هذا اللقاء لم يكن في حقيقة الآمر لقاء "مصارحة " بل بداية لسياسة الهرسلة و الترهيب و بداية لحملة التخويف الممنهجة لتسهيل القبول بالحلول القديمة المتجددة. وهو ما يبرز بشكل واضح في القفز على تبيان الأسباب و المرور مباشرة إلى طرح الحلول و التصورات و التي لم تكن إلا تصورات الرأسمال الطفيلي و المؤسسات المالية العالمية.
ذلك أن رئيس حكومة التكنوقراط اعتبر أن محاربة الإرهاب والحّد من الاحتجاجات المطلبيّة والحراك الاجتماعي (الهدنة الاجتماعية) تشكل أساسا لوضع خطّة إنقاذ واضحة. هذه الخطة تعتمد على اللجوء إلى "الأصدقاء و الأشقاء" لإنقاذ ميزانية الدولة (مزيد من المديونية) بالإضافة إلى إيقاف الانتدابات في القطاع العمومي و عدم بعث مشاريع تنموّية عاجلة. كما أكد على ضرورة التفكير في إعادة هيكلة الاقتصاد ومراجعة منظومة الدعم وبدأ عمليّة التدقيق في البنوك العمومّية و منح دور أكبر لمنظّمة الأعراف ومراجعة قوانين الاستثمار حتى تصبح أكثر مرونة تجاه المستثمرين الأجانب.
هذا الخطاب الترهيبي دعمته الآلة الإعلامية معتمدة على "خبراء اقتصاديين" لم يكن ظهورهم اللافت في مختلف وسائل الإعلام و في تلك الفترة بالذات من قبيل الصدفة. هؤلاء الخبراء تجاوزوا مهمة الشرح و التوضيح لينخرطوا في حملة تخويف تضع المواطنين أمام شبح الإفلاس و الجوع وحتمية قبول "الإجراءات الموجعة" بغرض تسويق وتمرير رؤية حكومة التكنوقراط. ولئن اختلفت التحاليل بعض الشيء فان الاستنتاجات كانت متجانسة ومتمثلة أساسا في ضرورة قبول "الخيار الوحيد" الذي يقضي بانسحاب الدولة والتفويت في المؤسسات العمومية و تحرير الاقتصاد أي التسليم بإملاءات صندوق النقد الدولي و البنك العالمي.
لم يكن هذا الخطاب الترهيبي و ما رافقه من حملات التخويف سوى مقدمة و تحضيرا للحوار الاقتصادي الذي سعى من خلاله الرأسمال الطفيلي و مؤسسات الرأسمال العالمي إلى فرض املاءاتهم تحت شعار "التوافق الوطني" و بدعم من حكومة التكنوقراط و الأحزاب اليمينية. هذا الحوار الاقتصادي الذي انطلقت أشغاله التحضيرية يوم 28 أفريل 2014 جاء استجابة لطلب سابق من منظمة الأعراف أعربت عنه في بيان صادر بتاريخ 12 فيفري 2013 وقد تم تحديد محاوره وآليات عمله (و مخرجاته طبعا) في لقاء جمع منظمة الأعراف بوفد من خبراء صندوق النقد الدولي بتاريخ 13 مارس 2014. وهو ما يفسر طبيعة المحاور المطروحة التي انحرفت عن الأهداف الأساسية المتعلقة بإيجاد حلول للمشاكل العاجلة لتناقش إجراءات ذات طابع هيكلي واستراتيجي هي ليست من مشمولات حكومة مؤقتة.
إلا أن الأشغال التحضيرية للحوار الاقتصادي لم تحقق الأهداف المرجوة ولم تخلق "وفاقا" حول الاملاءات المراد تمريرها. ذلك أن الاتحاد العام التونسي للشغل أعلن رفضه للمشاركة لاحترازه على طبيعة النقاشات ثم عاد ليعلن استئناف نشاطه صلب اللجان التحضيرية بعد أن وافقت الحكومة على بعض مقترحاته إلا أن ممثليه لم يواكبوا أشغال هذه اللجان. أما الجبهة الشعبية فقد كان موقفها أكثر وضوحا وحدة، فبعد تقديم جملة من الاحترازات بخصوص اللجان التحضيرية، اعترضت الجبهة على سياسة سرية النقاشات و اللوائح الجاهزة لتعلن مقاطعتها للحوار يوم 20 ماي 2014. أخيرا، ولئن دافعت الأحزاب اليمينية بشراسة عن كل الإجراءات المقترحة ( إلغاء الدعم، التفويت في المؤسسات العمومية.....) فإنها طالبت، بانتهازية مكشوفة، بتأجيل تطبيق هذه الإجراءات إلى ما بعد الانتخابات.
حالة عدم التوافق هذه دفعت الحكومة إلى تأجيل موعد انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الاقتصادي إلى ما بعد 14 جوان (بعد أن كان مقررا ليوم 28 ماي 2014) قبل أن تتخلى عن الفكرة نهائيا. وقد مثل فشل الحوار الاقتصادي بالنسبة للمؤسسات المالية العالمية ووكيلها المباشر منظمة الأعراف إعلانا عن عجز حكومة التكنوقراط على تمرير الاملاءات و عدم قدرتها على مزيد تأمين المصالح المباشرة للرأسمال الكمبرادوري الطفيلي. من هذا المنطلق أصبح التفكير و الاستعداد لما بعد حكومة التكنوقراط أمرا ضروريا.


3- من حكومة التكنوقراط إلى ضرورة التحكم في العملية الانتخابية
في نفس البلاغ الذي أشادت فيه بالإجراءات المتخذة في قانون المالية التكميلي 2014 لم يفت منظمة الأعراف أن تؤكد تواصل وجود العديد من النواقص في مجال دفع الاستثمار وأن تنبه إلى مخاطر تزايد الضغط الجبائي على المؤسسات وأثره السلبي على الاقتصاد. كما أعربت عن تخوفها من أن بعض الأحكام قد تؤدي إلى تغول سلطة الإدارة بما يعيق العمل التنموي وجهود دفع الاستثمار.
من ناحية أخرى ابدي البلاغ المذكور احترازه على بعض الفصول و تضمن جملة من المقترحات أهمها توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة بعنوان التجهيزات الموردة أو المصنوعة محليا وذلك دون تحديد لزمن تطبيق هذه الأحكام و تمتيع المؤسسات المصدرة بمدّة إعفاء بخمس سنوات أو إعفاء الأرباح المتأتية من التصدير من الضريبة على الدخل. هذه المقترحات التي قدمت تحت عنوان الحد من كلفة الاستثمار وتشجيع التشغيل في ظل "الظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد و التي لا يمكن تجاوزها إلا بدفع الاستثمار و التصدير" لم تكن في واقع الأمر إلا تعبيرا عن النهم المتصاعد للرأسمال الطفيلي و سعيه المحموم لمراكمة الإرباح السهلة و السريعة.
لم تكن حكومة التكنوقراط موضوعيا قادرة على تلبية كل هذه المطالب بالإضافة إلى أنها محدودة في الزمن و من المفترض أن تترك مكانها إلى "حكومة سياسية" تفرزها الانتخابات التشريعية. من هذا المنطلق لم يعد لعب "الأدوار الخفية" كافيا بالنسبة للرأسمال الطفيلي بل أصبح يطمح إلى التأثير المباشر في الحياة السياسية وهو ما يتطلب التموقع في السلطة التشريعية عبر إيجاد ممثلين له داخلها للدفاع عن مصالحه المباشرة والتحّكم في التشريعات والسياسات العاّمة للدولة. عمليا تترجم هذا الطموح في التغير الملحوظ لسلوك منظّمة الأعراف التي إلى جانب مساعيها في السيطرة على النسيج الاقتصادي ، تجلتّ رغبتها في لعب دور حاسم في اللعبة السياسّية وقد مّثلت الانتخابات التشريعية (و الرئاسية أيضا) مدخلا أساسيا لتجسيد هذه الرغبة.
خلال شهر أوت 2014 (شهر الإعداد للقائمات الانتخابية) تحول مقر منظمة الأعراف بحي الخضراء إلى مزار لأبرز القيادات السياسية الحزبية الذين جمعتهم لقاءات منفردة مع رئيسة المنظمة تحت غطاء "التباحث حول الاستحقاق الانتخابي". و قد شملت هذه الاجتماعات كل الأحزاب الممثلة في المجلس التأسيسي بما في ذلك الأحزاب ذات الوزن الانتخابي الضعيف والأحزاب التي تتعارض برامجها و تصورتها مع مصالح الرأسمال الطفيلي (الجبهة الشعبية تحديدا). ولم يكن المقصود من توسيع دائرة المشاورات سوى إبراز منظمة الأعراف في موقع "الراعي للمصلحة الوطنية" و الحريص على "نجاح المسار الديمقراطي" و الحفاظ على صورتها كمنظمة "مستقلة" تقف على نفس المسافة من كل الأحزاب السياسية.
إلا أن الوقائع بينت فيما بعد إن الأحزاب المعنية مباشرة بالمشاورات و ما ترتب عنها من صفقات لم تكن سوى الأحزاب اليمينية و أساسا النداء و النهضة وهو ما أثبتته تركيبة القائمات الانتخابية لهذين الحزبين. إذ ترأس تسعة رجال أعمال قائمات حركة النهضة و ترأس سبعة رجال أعمال قائمات النداء هذا بالإضافة إلى العدد الكبير من رجال الأعمال المتواجدين في مراتب أخرى أو في قوائم حزبية أخرى. هذا التواجد الملحوظ لرجال الأعمال في القوائم الانتخابية للأحزاب الكبرى ليس إلا نتاجا لصفقة مفادها أن تمكن هذه الأحزاب رجال أعمال من ترأس قائمتها و في المقابل يتكفل المال الفاسد بتمويل حملاتها الانتخابية خاصة وأن القانون الانتخابي بما يحتويه من ثغرات يمكن رجال الأعمال من دعم هذه القوائم حتى من خارجها.
يبدو أن هذا التكتيك المتبع من طرف منظمة الأعراف قد حقق النتائج المرجوة ذلك إن انتخابات 26 أكتوبر 2014 لم تفرز فقط تغيرا نسبيا في موازين القوى السياسية بل تميزت بحضور لافت لرجال الأعمال في مجلس النواب حيث بلغ عددهم خمسة وعشرون نائبا (11 % من العدد الجملي للنواب). وهو ما يعتبر مكسبا هاما، فهؤلاء النواب سيلعبون دور المراقبة و الضغط على كتلهم النيابية و سيكونون خير مدافع عن المصالح الطبقية المباشرة للرأسمال الطفيلي الفاسد بقطع النظر عن "انتماءاتهم الحزبية".
في يوم 13 نوفمبر 2014، أقامت منظمة الأعراف حفل استقبال على شرف "ممثلي المنظمة و صوت المؤسسة في البرلمان" كما جاء على لسان رئيستها التي حملت في الكلمة التي ألقتها بالمناسبة رجال الأعمال النواب مسؤوليّة الدفاع عن رؤوس الأموال المحليّة وضرورة العمل على سّن التشريعات التي تتماشى ومصالح القطاع الخاصّ . كما دعت رئيسة المنظمة "نوّابها " إلى الإمساك بزمام الأمور في اللجان ذات الطابع الاقتصاديّ و الطاقّي وعدم تكرار تجربة المجلس الوطني التأسيسي التي هّددت مصالحهم في أكثر من مناسبة. كما أكدت على ضرورة تسريع عمليّة المصادقة على مشاريع القوانين المتعلقّة بالشراكة بين القطاعين العام والخاصّ وقانون الصفقات العمومّية ٬-;- داعية أن يلعب نوابها دورهم في دفع التصويت نحو الاتجاه الذّي يحمي مصالحهم ويخدم أعمالهم.
4- مبادرة للإنقاذ أم إملاء للشروط
في 23 ديسمبر 2014 أصدرت منظمة الأعراف بيانا هنأت فيه الشعب التونسي و كافة القوى السياسية ومكونات المجتمع المدني بنجاح "المسار الديمقراطي". كما ذكر البلاغ بالدور الهام الذي لعبته المنظمة، منذ تأسيسها سنة 1947 ، في "النضال ضد الاستعمار و بناء الاقتصاد الوطني" ومشاركتها الفعالة في "بناء توافق مكن من إنجاح الفترة الانتقالية". وليس هذا التذكير إلا محاولة لاكتساب مشروعية تضاهي تلك التي اكتسبها الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال تاريخ نضاله الوطني و الاجتماعي.
إلا إن أهم ما ورد في هذا البلاغ هو ما جاء في فقرته الأخيرة التي أكدت أن "الوقت قد حان لننكب على الإصلاحات الاقتصادية الكبرى" و إن" تونس تزخر بالمهارات و الكفاءات" و أن ميزة الديمقراطية تكمن في "تحريرها للطاقات و المبادرات" . كما ورد في نفس الفقرة أن الفترة القادمة تمنحنا الفرصة « لنعطي الأولوية لقيمة العمل و لنجعل من الإنتاجية و روح المبادرة مفاتيح للنجاح". ومن الواضح إذن أن ما جاء في هذه الفقرة ليس إلا تذكيرا لأحزاب التحالف الحاكم بما قطعته من تعهدات و التزامات تجاه الرأسمال الطفيلي الفاسد الذي مول حملاتها الانتخابية.
في الأسبوع الأول من شهر جويلية 2015 أعلنت منظمة الأعراف عن مبادرة تحت عنوان "سنة لإنقاذ تونس". و قد تضمنت هذه المبادرة جملة من النقاط أو بالأحرى شروطا اعتبرتها المنظمة ضرورية للخروج من أزمة خانقة ازدادت خطورة بسبب تنامي ظاهرة الإرهاب وتفشي التهريب و"شيطنة المؤسسة الخاصة والمستثمرين وأصحاب المؤسسات".
هذه المبادرة تجسدت من خلال "خارطة طريق" يتطلب نجاها توفر ثلاث شروط من أهمها "تحقيق مصالحة وطنية بأقصى سرعة " قصد توحيد القوى ضد الإرهاب وضد" تعطيل المصلحة العامة وتخريب الاقتصاد" و اتخاذ إجراءات ملموسة في مجال مقاومة الإرهاب والتهريب و"كل أشكال تعطيل النشاط الاقتصادي". و أول ما يبرز في هذه المبادرة هو الربط الغريب و الغير مفهوم بين "المصالحة" و مقاومة الإرهاب وهو ما يبين إن مقاومة الإرهاب، كما هو الشأن بالنسبة للحكومة و أحزاب التحالف الحاكم، ليست في أغلب الأحيان إلا ذريعة لفرض الشروط وتمرير"الإجراءات الموجعة" . أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالربط بين الإرهاب و"تعطيل النشاط الاقتصادي" و جعلهما على نفس الدرجة من الخطورة حسب تصور منظمة الأعراف. و ليس المقصود بأشكال "تعطيل النشاط الاقتصادي" سوى الاحتجاجات الاجتماعية و النقابية وهو ما يعني أن منظمة الأعراف قد مرت من المطالبة بهدنة اجتماعية في السنوات الماضية إلى المطالبة بالتجريم الصريح و المباشر للحراك الاجتماعي بدعوى المصلحة الاقتصادية.
تبدو هذه الملاحظات أكثر وضوحا إذا ما تمعنا في أهم النقاط الواردة في المبادرة و المكونة لما سمي "خارطة طريق". حيث أكدت النقطة الثانية على" وضع المؤسسة الاقتصادية في صدارة خطة التصدي للإرهاب" نظرا لقدرتها على" التأقلم والمبادرة" وذلك أساسا من خلال "استكشاف مجالات جديدة للنمو" وهو ما يعني ضمنيا توسع المؤسسة الخاصة على حساب القطاع العام و "الإسراع بالإصلاحات الاقتصادية الأساسية" مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص و مراجعة مجلة الاستثمار و مجلة الصرف و إصلاح النظام البنكي. أما في النقطة الخامسة و تحت عنوان "إرجاع الأمل إلى الجهات الداخلية" فقد اشترطت المبادرة تمكين الاستثمارات الخاصة في الجهات الداخلية آليا من امتيازات و تمويل دون فوائض و اعتماد الفصل 80 من الدستور لفتح المبادرة للقطاع الخاص لإقامة مشاريع شراكة استباقا لإصدار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
من ناحية أخرى أكدت المبادرة في نقطتها السادسة على ضرورة "الإسراع بتنفيذ خطة إنقاذ الموسم السياحي بالنسبة للمؤسسات الفندقية والمهن المرتبطة بالنشاط السياحي". أما في نقطتها السابعة " فتح الباب أمام الإدماج الاقتصادي" فقد دعت المبادرة إلى" تقليص الأداء عند التوريد لقطع الطريق أمام التهريب" و "مساعدة المؤسسات المتضررة من التجارة الموازية" وهو ما يعني أن منظمة الأعراف تسعى إلى الاستفادة من تواجد "الاقتصاد الموازي" أكثر مما تسعى إلى محاربته. أخيرا وفي نفس النقطة دعت المبادرة إلى "استثمار إطار المصالحة الوطنية لإدماج ناشطي الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية المنظمة" وهو ما يبين بكل وضوح أن الحدود الفاصلة بين "الاقتصاد المنظم" و"الاقتصاد الموازي" غير واضحة وان التداخل بينهما كبير و أن منظمة الأعراف عبر "المصالحة" لا تسعى إلى تبييض و رسكلة "الفساد المنظم" فقط بل "الفساد الموازي" أيضا.
عموما ما تضمنته هذه المبادرة ليست إلا مطالب قديمة متجددة طرحت منذ اليوم الأّول للحوار الوطني الاقتصادي وتتوافق تماما مع املاءات الهيئات المالية العالمية (صندوق النقد تحديدا) لإعادة هيكلة الاقتصاد حسب ما تقتضيه مصالح الرأسمالي الاحتكاري العالمي و وكيله المباشر المتمثل في الرأسمال الطفيلي الفاسد. إلا أن تمرير هذه الاملاءات يتطلب "مناخا اجتماعيا ملائما" حددت ملامحه النقطة الثالثة و الأكثر خطورة في مبادرة منظمة الأعراف.
ذلك أن النقطة الثالثة أكدت على "إرجاع البلاد إلى العمل" عبر "إقرار نظام استثنائي للحوكمة الاجتماعية لمدة سنة" يرتكز على "اعتماد الفصلين 36 و 49 من الدستور لإقرار تعليق الإضرابات والصد عن العمل لمدة سنة " و " تجريم كل تعطيل للعمل" وهو ما يعني بكل وضوح تجريما صريحا و مباشرا للحراك الاجتماعي وتقنينا للقمع والتضييق على الحريات كخطوة نحو إعادة إنتاج منظومة الاستبداد. كما دعت نفس النقطة إلى "بعث هيكل وطني وفاقي لفض النزاعات الشغلية" مقابل "ضمان التحسين في أعقاب هذه السنة في القدرة الشرائية للمواطنين اعتمادا على نسبة النمو المسجلة" وهو ما يهدف إلى التحييد التام للاتحاد العام التونسي للشغل عن أيّ مفاوضات اجتماعّية. أما في خصوص تحسين القدرة الشرائية، فالاعتماد على نسب النمو فقط يعني عدم اعتبار التضخم أي ارتفاع الأسعار وهو عامل محدد أيضا في تطور المقدرة الشرائية. بالإضافة إلى أن كل التقديرات تشير إلى أن نسب النمو ستكون منخفضة في السنوات القادمة أي إن الأجور ستبقى على حالها وسيتحمل الإجراء لوحدهم نتائج الخيارات الفاشلة. وما اقترحته المبادرة ليس إلا تجميدا غير مباشر للأجور وهو مطلب قديم سبق لمنظمة الأعراف إن طالبت به في تناغم مع أملاءات صندوق النقد الدولي.
اعتمادا على ما سبق يمكن إن نلخص مبادرة منظمة الأعراف في ثلاث نقاط رئيسية: مصالحة لتبييض الفساد و إعادة رسكلته، تجريم للحراك الاجتماعي وتقنين للاستبداد و إجراءات اقتصادية المستفيد الوحيد منها الرأسمال العالمي و وكيله المباشر الرأسمال الطفيلي الفاسد. هذه هي تحديدا "خارطة الطريق" المطالب بتنفيذها التحالف اليميني الحاكم ردا للجميل و وفاءا بالتعهدات.
5- إعلان حالة الطوارئ ومحاولة فرض الهدنة الاجتماعية
كما أشرنا سابقا، مرت منظمة الأعراف من المطالبة بهدنة اجتماعية في السنوات الماضية إلى المطالبة بالتجريم الصريح و المباشر للحراك الاجتماعي. ويبرز هذا في النقطة الثالثة من المبادرة المذكورة و الداعية إلى " تجريم كل تعطيل للعمل" و"اعتماد الفصلين 36 و 49 من الدستور لإقرار تعليق الإضرابات والصد عن العمل لمدة سنة ".
سياسيا، لم يكن من الممكن الإعلان بصفة مباشرة عن تعليق الإضرابات فمثل هذا الإعلان سيؤدي حتما إلى احتجاجات اجتماعية عارمة خاصة و أن الاتحاد العام التونسي للشغل رفض بشدة مبادرة منظمة الأعراف و أساسا نقطتها الثالثة المتعلقة بتجريم الحراك الاجتماعي. لنفس الأسباب أيضا، لم يكن من الممكن الاعتماد على الأغلبية البرلمانية اليمينية بالإضافة إلى أن الدستور لا يحتوي أية آلية تمكن من تعليق العمل بأحد فصوله (المقصود هنا هو الفصل 36 الضامن لحق الإضراب).
كان لا بد إذن من إيجاد حل أخر يمكن من فرض "هدنة اجتماعية" دون اللجوء إلى تعليق الإضرابات بشكل مباشر. هذا الحل تمثل في الاعتماد على الفصل 80 من الدستور الذي يخول لرئيس الجمهورية "في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية....." . وقد مثلت عملية سوسة الإرهابية (26 جوان 2015) "حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن" و مبررا لإعلان حالة الطوارئ يوم 04 جويلية 2015.
إلا أن الإعلان عن حالة الطوارئ بعد حوالي أسبوع من وقوع عملية سوسة الإرهابية يجعل الربط بينهما غير مبرر. وهو ما بينه بشكل واضح بيان المرصد التونسي لاستقلال القضاء الذي اعتبر أّن تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لم تبلغ المستويات القصوى التي تبرر توّقع انهيار الدولة وتقويض نظامها ومؤسساتها. كما أن التداعيات المترتبة عن العملية الإرهابية – رغم فداحتها – لا تكّون حالة الظروف الاستثنائية التي يستوجبها إعلان حالة الطوارئ. أي أن الشروط المستوجبة لإعلان الحالة الاستثنائية لم تتحقق طبق ما ورد بالفصل 80 من الدستور.
من الواضح إذن أن عملية سوسة و مقاومة الإرهاب لم تكن إلا مجرد تعلات لإعلان حالة الطوارئ. وهو ما أكده الخطاب الرئاسي الذي تحدث كثيرا عن الوضع الاقتصادي الصعب و "الإجراءات الموجعة" و كثرة الاحتجاجات الاجتماعية و تعطيل العمل وبالغ في تشبيه الاحتجاجات الاجتماعية بعصيان مدني يجب مواجهته. وهو ما أكده أيضا التعامل الأمني منذ الأيام الأولى لإعلان حالة الطوارئ مع الاحتجاجات الاجتماعية مثل اعتصام أهالي قابس و اعتصامات المعلمين بسيدي بوزيد و صفاقس وصولا إلى احتجاجات الفلاحين و الاحتجاجات المناهضة لقانون المصالحة.
إن إعلان حالة الطوارئ ليس إذن إلا رضوخا لشروط الرأسمال الطفيلي الفاسد و سعيه لفرض هدنة اجتماعية و تجريم الاحتجاجات و التضييق على الحريات حتى يتمكن من تمرير كل املاءات المؤسسات المالية العالمية. ولم يكن الاعتماد على الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 إلا رسالة موجهة للقوى الوطنية و للاتحاد العام التونسي للشغل الذي رفض بشدة مبادرة منظمة الأعراف.
6- رسملة البنوك العمومية: مصالحة جزئية و خطوة أولى نحو الخوصصة.
صادق مجلس نوّاب الشعب يوم 6 أوت 2015 على مشروع رسملة البنوك العمومية الذي رصد مبلغ 757مليون دينار لفائدة الشركة التونسية للبنك و 110 مليون دينار لفائدة بنك الإسكان ٬-;- في انتظار استكمال العملية بالنسبة للبنك الوطني ألفلاحي .و الرسملة عمليّة تهدف إلى الترفيع في رأس مال البنوك المعنية اعتمادا على التمويل الحكومي المباشر أومن خلال اكتتاب عمومّي يقلصّ شيئا فشيئا من حضور الدولة في البنك العمومّي.
عموما تطرح مسألة رسملة البنوك العمومية في حالتين. الحالة الأولى هي التي تكون فيها هذه البنوك، رغم سلامة وضعيتها المالية، غير قادرة على مجاراة نسق النمو الاقتصادي فيقع التوسيع في رأس مالها حتى تكون أكثر فعالية و أكثر حضورا. أما الحالة الثانية فتتعلق بعجز في الموازنات المالية لهذه البنوك وهى التي تنطبق على البنوك العمومية التونسية التي بلغ عجزها 2,5 مليار دينار حسب الإحصائيات الرسمية.
في الواقع، ليست إعادة رسملة البنوك العمومية إلا تنفيذا لأحد شروط صندوق النقد الدولي المصاحبة للقرض الائتماني الذي منحه لحكومة الترويكا في جوان 2013 على أن تتم هذه الرسملة على سنتين (2014 و 2015). كما أن صندوق النقد أشترط إجراء عملية تدقيق شاملة حول وضعية البنوك العمومية الثلاث (في المقابل رفض بشكل قاطع أي تدقيق في الديون الخارجية) راقبها عن قرب حيث اجتمع ممثلون عن الصندوق في أكثر من مناسبة مع المكاتب المكلفة بإجراء التدقيق. هذا بالإضافة إلى أن صندوق النقد ألزم الحكومة بعدم نشر نتائج التدقيق للعموم.
هذا التدخل المباشر لصندوق النقد في عملية التدقيق وسرية النتائج المنبثقة عنه تطرح العديد من التساؤلات. ذلك أن نتائج التدقيق هي التي ستمكننا من الوقوف بشكل واضح على الإشكاليات الحقيقية التي تعاني منها البنوك العمومية و أسباب عجزها وتصور الحلول الكفيلة بإنقاذها. فسرية النتائج ليست إذن إلا تكتما عن الأسباب الحقيقية لعجز البنوك العمومية و دفعا لعملية التدقيق نحو خيار واحد وهو التفويت في هذه البنوك و خوصصتها.
تشكل البنوك العمومية الثلاث (بنك الإسكان و البنك الوطني ألفلاحي والشركة التونسية للبنك) ٬-;- عصب القطاع المصرفّي في تونس إذ تمثل 40 % من حجم تداولات الاقتصاد التونسي وتشارك بنسبة 23 % في التمويل الإجمالي للاقتصاد كما تشغل حاليا ما يقارب 9000 موظفا وتساهم بنسبة 3 % من الناتج الداخلي الخام. إلا أن هذه البنوك، على أهميتها، تشكوا عجزا متفاقما في موازناتها المالية.
ولئن ارتبط هذا العجز بخيارات اقتصادية أجبرت هذه البنوك على تمويل نشاطات طفيلية غير مجدية فإن الصعوبات التي تعرفها البنوك العمومية اليوم ليست إلا نتاجا مباشرا لمنظومة الفساد التي خربت هذه البنوك و أهدرت مدخراتها. في هذا الإطار خصص تقرير "اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد" فصلا كاملا (32 صفحة) للقطاع المالي و البنكي الذي مثل حسب نفس التقرير مجالا خصبا للفساد. وقد قدم التقرير عدة عينات تمثلت أساسا في تحويل وجهة قروض بنكية لمآرب خاصة، إسداء قروض بدون ضمانات والتخلي عن الديون أو طرح أجزاء منها.
يمكن القول إذن أن الفساد المستشري و خاصة عدم استخلاص القروض هو العامل الأساسي الذي تسبب في تدهور وضعية البنوك العمومية. على سبيل المثال تساهم الشركة التونسية للبنك في تمويل القطاع السياحي بنسبة 60 % من مجمل حاجياته. في سنة 2014 بلغ حجم الديون المتراكمة لهذا القطاع لدى الشركة التونسية للبنك 1700 مليون دينار من بينها 300 مليون دينار فقط (17,6%) مصنفة كقروض نظيفة أي كقروض يجري تسديدها بشكل عادي حسب الأقساط و الآجال المحددة. أما البقية أي 1400 مليون دينار فهي مصنفة كقروض معلقة (أو مفحمة) أي كقروض غير مستخلصة بعد استكمال كل الإجراءات الممكنة. مع العلم أن عجز الشركة التونسية للبنك بلغ في نفس السنة 115 مليون دينار.
عموما و حسب معطيات البنك المركزي، فإن حجم الديون المصّنفة أو المشكوك في خلاصها لدى البنوك العمومّية بلغ حوالي 12,5 مليار دينار أي ما يقارب ستة مرات حجم عجز هذه البنوك. و بعملية بسيطة، إذا اعتبرنا إن معدل مدة الخلاص هو سبع سنوات (أي ما يقابل تسديد 1,78 مليار دينار سنويا) فان القروض الغير مسددة تمثل أكثر من 70 % من عجز البنوك العمومية.
بناءا عليه فان عملية رسملة البنوك العمومية ليست في واقع الأمر إلا تسديدا لديون رجال أعمال فاسدين و تبييض للفساد وهو ما يفسر الضغط المتواصل الذي مارسته منظمة الأعراف لفرض هذه الرسملة تحت غطاء "إصلاح المنظومة البنكية". بالإضافة إلى إن هذه الديون المصنفة أو الغير مستخلصة تخص القطاع السياحي بنسبة 23 % و قطاع الصناعة بنسبة 30 %. هذان القطاعان اللذان شكلا احد المجالات الخصبة للفساد، هما في نفس الوقت الأكثر تمثيلا داخل منظمة الأعراف و الأكثر حضورا في هياكلها.
أما من ناحية صندوق النقد الدولي، فالغاية من سرية نتائج التدقيق ليست إلا حجب الأسباب الحقيقية التي تقف وراء عجز البنوك العمومية و تدهور وضعيتها ألا وهي الفساد و القروض الغير مستخلصة. بالتالي تصبح هذه البنوك العمومية عاجزة فقط لأنها عمومية و يصبح الحل الأمثل لإنقاذها هو الخوصصة. إلا أن صندوق النقد يريد تقديمها لرأس المال (العالمي خاصة) وهى في صحة جيدة أي بعد تغطية عجزها عن طريق الرسملة. فالعملية إذن ليست إلا تسمينا للخرفان قبل بيعها.
يبدو أن حكومة التحالف اليميني قد بدأت تقطع الخطوات الأولى نحو الخوصصة . هذا حسب ما ورد في قانون المالية لسنة 2015 وتحديدا في الفصل 11 الذي نص على “فتح دفاتر أمين المال العام للبلاد التونسية حساب خاص في الخزينة يخصّص لتمويل عمليات إعادة هيكلة القطاع البنكي يسمّى"صندوق إعادة هيكلة وتعصير القطاع البنكي". و قد حدد الفصل 12 من نفس القانون موارد الصندوق المتأتية من " مردود بيع أسهم الدولة في المؤسسات البنكية ٬-;- والقروض والهبات وأيضا من كل الموارد الأخرى التي يمكن توظيفها لهذا الصندوق بمقتضى التشريع الجاري به العمل"وهو ما يحيلنا إلى إمكانية تفويت الدولة في أجزاء من نصيبها في البنوك العمومية . كما كشف محافظ البنك المركزي عن إمكانية خلق شركة قابضة تتصرف في أصول البنوك العمومية مجتمعة عبر التفويت فيها لمستثمرين أجانب. أخيرا، خلال مشاركته في الاجتماع السنوي المشترك للهيئات المالية العربية في الكويت، أكد وزير المالية إن الحكومة بصدد البحث عن "شريك استراتيجي أجنبي " للتفويت في جزء من حصتها في البنوك العمومية تتراوح بين 10 و 15 %.
ختاما، يبدو جليا أن رسملة البنوك العمومية ليست إلا جزءا من مسار يهدف إلى "المصالحة مع الفساد" حيث مكنت هذه العملية من تسديد ديون رجال أعمال فاسدين و بالتالي إسقاطها عوض تتبعهم و إلزامهم بتسديدها. ومن ناحية أخرى يقع تسديد هذه الديون من المال العام لتقدم هذه البنوك بعد تعافيها هدية للقطاع الخاص وهو ما يمثل مشركة للخسائر و خوصصة للأرباح.
7- مشروع قانون المصالحة: تبييض للفساد تحت غطاء "المصلحة الاقتصادية"
كما أشرنا سابقا، اعتبرت منظمة الأعراف في مبادرتها إن "إنقاذ تونس من الأزمة الاقتصادية" يشترط "تحقيق مصالحة وطنية بأقصى سرعة" وهو ما أكدت عليه أيضا تقارير صندوق النقد الدولي تحت غطاء تنقية "مناخ الاستثمار". لم يتأخر رد رئاسة الجمهورية (بعد حوالي أسبوع) و اقترحت مشروع "قانون المصالحة الاقتصادية و المالية" الذي يهدف حسب فصله الأول إلى "تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة". بهذا الشكل، ليس قانون المصالحة إلا ترجمة سياسية "لشروط المنتصر" تحت غطاء "تشجيع الاستثمار" و "النهوض بالاقتصاد" وغيرها من مكونات "الإيديولوجية التبريرية" (على حد قول نعوم شومسكي) التي ترتكز عليها الدعاية الرسمية لهذا المشروع.
لن نتطرق إلى الجوانب القانونية فقد بينت العديد من التحاليل، بما لا يدع مجالا للشك، عدم دستورّية هذا المشروع وتجاوزه للقضاء والسلطة التشريعّية و غيرها من الإخلالات المتعددة. لذا سنكتفي في هذا المجال بتقديم بعض الملاحظات.
في فصله الثاني أكد مشروع القانون على "توقف التتبعات أو المحاكمات أو تنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين وأشباههم من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام باستثناء تلك المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية". يمثل هذا الفصل نسفا للمسائلة و المحاسبة كشروط أساسية للعدالة الانتقالية وهو دعوة صريحة إلى الإفلات من العقاب مما من شأنه أن يؤدي إلى محو الصفة الإجرامية عن أفعال خطيرة ويساهم بذلك في تأبيد واقع الفساد بالمؤسسات العمومية.
الإفلات من العقاب كرسه أيضا الفصل السابع من المشروع الذي أقر العفو العام على مرتكبي الجرائم المتعلقة بالصرف وتهريب الأموال والتهرب الضريبي. حيث أسقط كل العقوبات الجزائية و المالية مقابل "دفع مبلغ مالي يقدر ب 5 % من قيمة المكاسب في تاريخ التملك". بل أكثر من هذا و حسب الفصل 8 ، "يحرّر هذا المبلغ المنتفعين بالعفو من دفع الضريبة على الدخل أو الضريبة على الشركات وخطايا التأخير المتعلقة بها والمستوجبة على المداخيل أو الأرباح والمكاسب موضوع العفو". أي أن مهربي الأموال و المتهربين من الضرائب يكافئون بعفو جبائي في حين يتحمل الموظفون و الأجراء الجزء الأكبر من الأعباء الجبائية.
إلا أن ما يثير الاستغراب في الفصل الثاني هو استثناء الأعمال "المتعلقة بالرشوة و بالاستيلاء على الأموال العمومية" وهى في الحقيقة ليست أكثر خطورة من "الفساد المالي والاعتداء على المال العام". فما الفرق مثلا بين "الاعتداء على المال العام" و "الاستيلاء على المال العام"، أليس الاستيلاء شكلا من أشكال الاعتداء. فالمعنيون بهذا الفصل موظفون حكوميون خضعوا للتعليمات و تجاوزوا القانون وسهلوا كل أشكال التلاعب بالمال العام فهم بالتالي ركيزة أساسية لمنظومة الفساد. أما أن يكونوا قد تحصلوا على رشاوى مقابل ذلك أو استولوا على جزء من المال العام لصالحهم فهذا مجرد تفصيل أو ظرف تشديد بلغة القانون. فهذا الاستثناء لا مبرر له إذن سوى رغبة ما في مكافأة من خدموا منظومة الفساد بدون مقابل.
هذا الغموض يزداد في الفصل الثالث الذي أقر انه "يمكن لكل شخص حصلت له منفعة من أفعال تتعلق بالفساد المالي أو بالاعتداء على المال العام تقديم مطلب صلح". ضمنيا المقصود من "كل شخص" هم رجال الأعمال أساسا إلا أن هذه العبارة تنسحب أيضا على كل موظف حكومي "حصلت له منفعة" وليست الرشوة إلا شكلا من أشكال المنفعة. بهذا المعنى، فان ما جاء في الفصل الثالث يلغي الاستثناء الوارد في الفصل الثاني، إلا إذا كان المقصود بالرشوة المقابل المالي فقط. هذا يحيلنا إلى إشكالية أخرى تتعلق بالحدود بين المنفعة و الرشوة. على سبيل المثال، ذكر تقرير "لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد" أمثلة عن موظفين حكوميين تحصلوا (لقاء خدماتهم) على قطع أرض بأسعار أقل بكثير من أسعارها الحقيقية. فهل تعتبر هذه منفعة أم رشوة ؟ . هذه الضبابية ستفتح الباب أما المحسوبية و الابتزاز خاصة بالنظر إلى تركيبة "لجنة المصالحة" و آليات عملها كما حددها مشروع القانون و التي تجعل من الإدارة خصما و حكما في نفس الوقت.
كما ورد في الفصل الثالث من هذا المشروع، تخضع "لجنة المصالحة" رئاسيا وهيكليا لرئاسة الحكومة كما أّن الحكومة هي من تعّين أربعة من أعضائها الستة. فبالإضافة إلى كونه تجاوزا و تحييدا للقضاء و السلطة التشريعية، يعطي هذا المشروع صلاحيات كبيرة للحكومة دون ضوابط أو رقابة ٬-;- إذ تنفرد هذه الأخيرة بالنظر في جميع القضايا المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام. وهو ما يطرح احتمالات كبيرة للسمسرة بهذه الملفّات والرشوة والابتزاز والمحسوبيّة وغيرها من الانتهاكات والممارسات التي تنخر دوائر ومؤّسسات الدولة.
حسب الفصل الرابع، يتضمن مطلب الصلح " بيان الوقائع التي أدت إلى تحقيق المنفعة وقيمتها " أي أن طالب الصلح (موظف حكومي أو رجل أعمال) هو من يحدد بنفسه ما يمكن التصريح به من أعمال متعلقة بالفساد و ما ترتب عنها من منافع. و على ضوء ما وقع التصريح به "تقدر اللجنة قيمة الأموال المستولى عليها أو المنفعة المتحصل عليها" (الفصل 5). صحيح أن نفس الفصل استدرك ليشير أن اللجنة "يمكنها للغرض المطالبة بالوثائق الضرورية والقيام بكل إجراء تراه مناسبا" وعبارة "يمكنها" الواردة في الفصل المذكور تجعل من هذه المصالحة "مصالحة تفاوضية" أي أن ما سيقع التصالح بشأنه سيكون في نهاية الأمر نتاجا للتفاوض بين الإدارة (أي الحكومة) و طالب الصلح وهو ما سيفتح الباب أمام التسويات الثنائية و الابتزاز و الرشوة و التوظيف السياسي أي لإعادة إنتاج منظومة الفساد خاصة مع ما يفترضه الفصل التاسع من سرية و إخفاء للوقائع.
للقفز على هذه الإخلالات وطمس الجوهر السياسي لمشروع قانون المصالحة وإخفاء طابعه كمشروع لتبييض الفساد، تحركت الآلة الإعلامية معتمدة على "خبراء محايدين" تجندوا للدعاية لهذا المشروع تحت عنوان "المصلحة الوطنية". هذه الدعاية لا تخلو بدورها من العديد من المغالطات.
ترتكز الدعاية الرسمية لمشروع "قانون المصالحة" على "المصلحة الاقتصادية" و تحتكم إلى المنطق التالي: تعيش تونس أزمة اقتصادية خانقة كما تبينه نسب النمو الضعيفة. للخروج من الأزمة لا خيار إذن سوى دعم الاستثمار. إلا أن هذا الاستثمار هو أساسا مهمة المستثمرين الخواص أي "رجال الأعمال" و لذا لا بد من "تشجيعهم" و خلق "المناخ الملائم" لنشاطهم و"تعزيز ثقتهم في مؤسسات الدولة". من ناحية أخرى ستمكن المصالحة خزينة الدولة من موارد مالية هامة تودع في صندوق خاص و يقع توظيفها في "مشاريع البنية التحتية أو التنمية الجهوية............. أو أي مشاريع أخرى ذات صبغة اقتصادية بمناطق التشجيع على التنمية الجهوية" (الفصل 6). أخيرا، في جانبها المالي أي المتعلق بجرائم الصرف، ستمكن المصالحة من أعادة توطين جزء هام من الأموال المهربة إلى الخارج وهو ما سيساهم في تحسين وضعية ميزان الدفوعات.
من الواضح إذن أن هذه الدعاية ترتكز على عنصرين أساسيين. العنصر الأول هو المقايضة، فإما القبول بكل شروط "رجال الأعمال" بما في ذلك التغاضي عن كل فسادهم و جرائمهم وإما أزمة خانقة قد تؤدي إلى الانهيار التام. أما العنصر الثاني، الترغيب، فيعتمد على تبيان المكاسب (استثمار، تنمية، تشغيل، موارد إضافية للدولة....) الممكن تحقيقها من "المصالحة". ويكتسي هذا الشكل من الدعاية خطورة بالغة ذلك انه يحول النقاش حول الجوهر السياسي لمشروع "قانون المصالحة" بما هو مصالحة مع منظومة الفساد إلى نقاش اقتصادوي حول "المكاسب المنتظرة " التي قد تصبح المعيار الوحيد للرفض أو للقبول. هذه الدعاية قد تلقى صدى إيجابي لدى عموم التونسيين خاصة مع تصاعد خطاب الترهيب الذي يهددهم بالجوع و الإفلاس ويدفعهم، من أجل "المكاسب المنتظرة" إلى تقديم كل التنازلات الممكنة بما في ذلك المصالحة مع من كانوا سببا مباشرا في تفقيرهم و تهميشهم. لذا، يصبح من الضروري الوقوف عند بعض تفاصيل هذه الدعاية و كشف مغالطاتها حتى نكون أكثر قدرة على مواجهتها.
كما أشرنا سابقا، تنطلق هذه الدعاية من المعادلة التالية: التنمية = استثمار. وهي معادلة خاطئة أو على الأقل ليست صحيحة في المطلق. وهو ما تؤكده الأرقام، إذ عرفت تونس لسنوات عديدة نسب استثمار مقبولة رافقتها نسب نمو مقبولة لكن في نفس الوقت ارتفعت البطالة و تعمق الفقر و التهميش وعموما تدهورت الأوضاع المعيشية لأغلب الشرائح الاجتماعية المتوسطة و الضعيفة.
النقطة الثانية التي ترتكز عليها الدعاية الرسمية هي المفعول الايجابي "للمصالحة" على الاستثمار وبالتالي على التنمية و التشغيل. ذلك أن "تهيئة المناخ الملائم" و "تعزيز الثقة في مؤسسات الدولة" يشجع على الاستثمار. حتى و إن سلمنا بهذه المقاربة، فإن مشروع القانون المقترح لا يتضمن أية آلية تجبر المنتفعين بالمصالحة على الاستثمار. و للتوضيح سنستعين بالمثال (النظري) التالي:
لنفترض مثلا إن الدولة، في ظرف اقتصادي معين، قررت عفوا جبائيا لصالح المؤسسات الاقتصادية. لكن هذا الإعفاء محدود في الزمن (لسنة واحدة مثلا) ومشروط بالاستثمار. أي أن المؤسسات المنتفعة تستثمر وجوبا ما كانت ستدفعه في شكل ضرائب على أن تسدد هذه الضرائب في وقت لاحق حسب إجراءات محددة مسبقا ( على إقساط مثلا). في هذه الحالة يكون لهذا الإجراء مفعول مباشر و ايجابي على الاستثمار. ذلك انه في مثل هذه الوضعية، وهذا مهم جدا، يصبح الإعفاء الجبائي آلية للتمويل و ليس لتبييض التهرب الضريبي كما أن مثل هذا الإجراء بتوجه إلى المستثمرين و ليس إلى المتهربين من الضرائب وهو ما يحيلنا إلى نقطة أخرى لا تقل أهمية.
تعتمد الدعاية لهذا المشروع على مفهوم غامض و فضفاض، "رجال الأعمال" بوصفهم معنيين كلهم بالمصالحة. إلا أن "رجال الأعمال" لا يشكلون في الواقع كلا متجانسا. دون الخوض في التفاصيل النظرية يمكن تقسيم "رجال الأعمال إلى شريحتين: مستثمرين أي أن الاستثمار يشكل مجالهم الرئيسي للنشاط و تحقيق الربح و "رجال أعمال فاسدين" أي أن الفساد يشكل مجالهم الرئيسي للنشاط و تحقيق الربح. من المغالطة أذن القول بأن "قانون المصالحة " يتوجه إلى كل "رجال الأعمال" بل انه يعني فقط شريحة "الفاسدين" أي الغير معنيين في الواقع بالاستثمار. بل أكثر من هذا، ا لمشروع المطروح يكافئ "الفاسدين " و يعاقب بشكل غير مباشر "المستثمرين" و قد تكون له بالتالي نتائج عكسية على الاستثمار.
الجانب الأخر في الدعاية يعتمد على إبراز "المكاسب" المنتظرة من "المصالحة" و خاصة ما يمكن أن تجنيه خزينة الدولة من موارد ستستخدم في مشاريع تنموية وهو ما لا يخلو أيضا من مغالطات سنحاول كشفها.
في دفاعه المستميت عن "قانون المصالحة" لم يتوانى أحد الخبراء المزعومين عن التأكيد أن المردود المالي المنتظر لا يمكن إن يقل عن 500 مليون دينار ستنعش خزينة الدولة. لا يخلو هذا من مغالطات كبرى ذلك أن تقديم مثل هذا الرقم أو أي رقم أخر لتقدير المردود المنتظر أمر صعب أن لم يكن مستحيلا. فتقدير هذا المردود يقتضي شرطين أساسيين.
الشرط الأول يتمثل في المعرفة الدقيقة لحجم الفساد بما في ذلك التهرب الضريبي و الاستيلاء على المال العام و المكاسب المادية و العينية و ما يمكن إن يترتب عن هذه الأعمال من إرباح منذ تاريخ وقوعها. هذه العملية تتطلب عملا استقصائيا مختصا و جردا دقيقا لكل الملفات و الوثائق المتوفرة لدى الإدارة و المؤسسات العمومية و المالية. ولئن قطعت "اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد" شوطا هاما في هذا الاتجاه فان ما قدمته يبقى غير مكتمل و يتطلب عملا إضافيا للوصول إلى تقدير شبه دقيق لحجم الفساد.
الشرط الثاني، يستوجب معرفة مسبقة بعدد "المنتفعين" من المصالحة و حجم الفساد المرتبط بهم. هذا الشرط لا يمكن تحقيقه إلا إذا كانت "المصالحة" مسبوقة بتحقيقات قضائية واستقصائية تحدد بدقة الأشخاص و المؤسسات المعنية بالفساد مع إلزامهم بعد ذلك بالتقدم إلى لجنة أو هيئة أو أي جهة أخرى لتسوية وضعياتهم إن كانت المصالحة هي القرار المتفق عليه ( وهو قرار سياسي).
إلا أن "مشروع قانون المصالحة" لا يستند إلى تحقيقات مسبقة و لا يحتوي أي صبغة إلزامية بل إن التقدم إلى "لجنة المصالحة" مسألة اختيارية و طوعية كما جاء في فصله الثالث "يمكن لكل شخص حصلت له منفعة من أفعال تتعلق بالفساد المالي أو بالاعتداء على المال العام تقديم مطلب صلح إلى لجنة مصالحة". هذا إلى جانب أن تحديد حجم الفساد من منافع و استيلاء على المال العام يعتمد فقط على التصريحات الإرادية لطالبي الصلح وهو ما يبينه الفصل الرابع من مشروع القانون الذي ورد فيه: "يتضمن المطلب وجوبا بيان الوقائع التي أدت إلى تحقيق المنفعة وقيمتها ويكون مرفوقا بالمؤيدات المثبتة لذلك." أي بشكل مبسط، نطلب من الفاسدين التقدم طوعا إلى لجنة المصالحة و إن يحددوا بأنفسهم حجم فسادهم و أن يختاروا أدلة إدانتهم.
عموما لا يمكن تحديد المردود المالي لمثل هذه العملية إلا بعد انتهائها. وما قدم من أرقام ليست إلا مغالطات تدخل في باب الدعاية الاقتصادوية لمشروع تبييض الفساد وإعادة رسكلته.
تعتمد الدعاية أيضا على الاستدلال ببعض التجارب العالمية "الناجحة"، التي سنعود عليها لاحقا، إلا أنها تتغاضى (عن قصد) عن ذكر التجربة التونسية في هذا المجال. فما لا يعلمه الكثيرون أن تونس عرفت أربع تجارب سابقة (1997 ، 2002 ، 2004 ، 2006) تحت عنوان "المصالحة المالية و الجبائية" لا تختلف القوانين المؤطرة لها في جوهرها عن مشروع القانون الحالي (فقط إن نظام المخلوع لم يكن ليقر صراحة بوجود الفساد) و تشترك معه في مسألة هامة وهى عدم التعامل مع الفساد كمنظومة وجب تفكيكها بل كحالات فردية يقع التعاطي مع كل حالة منها على حده. وليس من باب الصدفة أن يكون مشروع القانون الحالي نسخة شبه أصلية للقانون عدد 25 لسنة 2006 المؤرخ في 15 ماي 2006 المتعلق بالمصالحة الجبائية من حيث مدته الزمنية (60 يوما) والمعنيين به (رجال أعمال و مؤسسات خاصة) و طبيعته (إيقاف التتبعات و العقوبات ). المتغير الوحيد هو أن الرأسمال الطفيلي الفاسد الذي كان يتعرض للابتزاز من طرف المخلوع و حاشيته هو اليوم من يمارس الابتزاز تحت غطاء "المصلحة الاقتصادية"
في سنة 2006 لم تتلقى اللجنة المعنية سوى 80 مطلب صلح و لم يتجاوز المردود المالي لهذه العملية 21 مليون دينار(أي ما يعادل 0,3 % من المداخيل الجبائية لنفس السنة) وهو مبلغ ضئيل جدا بالمقارنة مع حجم التهرب الضريبي و الفساد عموما. هذه النتائج الهزيلة تؤكدها كل التجارب العالمية التي يحرص الخبراء المزعومين على تقديمها كتجارب ناجحة.
مثال المغرب هو الأكثر تداولا، حيث أقرت السلطات المغربية في قانون المالية لسنة 2014 إجراء مصالحة مع المتهمين بتهريب الأموال إلى الخارج مقابل "مساهمة إبرائية" تتراوح بين 2 و10 % من قيمة الأصول المملوكة بالخارج (حسابات بنكية، سندات مالية، أسهم، عقارات، منقولات....). ويهدف هذا الإجراء إلى ضخ موارد جديدة في خزينة الدولة (المساهمة الابرائية) و إعادة إدخال رؤؤس الأموال المهربة إلى الخارج إلى النسيج المصرفي المغربي لتساهم في تمويل النشاط الاقتصادي. إلا انه و خلافا لما يقع تسويقه، لم يتوصل هذا الاجراء إلى نتائج مرضية.
حسب المعطيات الرسمية، انتفع من هذا الإجراء 618 مؤسسة و أكثر من 19000 شخص إلا أن حجم رؤوس الأموال المعادة إلى المغرب لم يتجاوز 1,2 مليار درهم أي 3 % من حجم الأموال المهربة المصرح به (40 مليار درهم). إما بالنسبة لميزانية الدولة فان "المساهمات الابرائية" لم تبلغ قي جملتها سوى 210 مليون أورو أي 42 % من الحجم المنتظر (500 مليون أورو) و 5,6 % فقط من حجم التهرب الضريبي البالغ 4 % من الناتج المحلي الخام حسب تقديرات البنك العالمي.
لم يختلف الحال بالنسبة لبلدان وتجارب أخرى مثل بلجيكيا (2010) و إسبانيا (2012) و إيطاليا (2014) وغيرها حيث أكدت التقارير المتعددة لمنظمة التعاون و التنمية الاقتصادية إن نسبة المردود الجبائي لم تتجاوز 5 % وان نسبة إعادة توطين الأموال المهربة تراوحت بين 1% و 2 % . حتى البنك العالمي أقر بالنتائج الهزيلة لتجارب المصالحة في ما يسمى بالبلدان النامية.
من ناحية أخرى، أكدت العديد من الدراسات الأكاديمية إن مثل هذه المصالحات خاصة عندما تتواتر و تأخذ طابعا دوريا وتقترن بإسقاط آلي للتتبعات و العقوبات، إضافة إلى مردودها الهزيل، لا تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الفساد. ذلك أن المنتفعين بالمصالحة يستغلون الفرصة "لتسوية وضعياتهم" و شراء صكوك براءتهم مقابل دفع رسوم لا تمثل إلا جزءا ضئيلا مما راكموه من إرباح متأتية من الفساد ليعودوا إلى سالف نشاطهم (الفساد) في انتظار مصالحة أخرى.
لماذا إذن هذا الإصرار على تمرير"قانون المصالحة" ؟ ليس هناك من مبرر سوى الضغط الذي يمارسه الرأسمال الطفيلي الفاسد الذي يرى في المصالحة شرطا أساسيا فهي بالنسبة له فرصة تسقط كل جرائمه و تمنحه الحصانة و تمكنه من العودة إلى الفساد بأقل التكاليف.
8- حول الاستتباعات الممكنة لتمرير مشروع المصالحة.
في بيان صادر بتاريخ 09 سبتمبر2015، عبرت منظمة الأعراف عن تمسكها بقانون المصالحة الاقتصادية و المالية كشرط أساسي لضمان "الوئام الوطني" أو "التماسك الاجتماعي" على حد تعبير كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي في كلمتها التي ألقتها في نفس اليوم بالبنك المركزي . من الواضح إذن أن الرأسمال الطفيلي الفاسد، و من ورائه المؤسسات المالية العالمية، مصمم على تمرير هذا القانون و "طي صفحة الماضي" في علاقة بكل جرائم الفساد و الاستيلاء على المال العام.
إلا أن إمكانية تمرير هذا القانون من عدمه تبقى مرتبطة بقدرة القوى الوطنية المعارضة على تعبئة الرأي العام ضده في اتجاه إسقاطه من جهة، ومن جهة أخرى بمدى قدرة التحالف اليميني الحاكم، خاصة النداء و النهضة، على تجاوز بعض "الخلافات" الظاهرية. حتى و إن كانت المواقف متجانسة في جوهرها فان بعض التسويات السياسية تبقى ضرورية لتمرير المشروع بأغلبية برلمانية مريحة.
يبدو موقف نداء تونس، وهو صاحب المبادرة، واضحا و متمسكا بتمرير القانون رغم الاحتجاجات الداعية إلى إسقاطه وهو منطقي جدا بالنسبة لحزب استوعب في صفوفه جزءا كبيرا من التجمع المنحل و رجال الأعمال الفاسدين المرتبطين به. وقد أكدت العديد من قيادات النداء في مناسبات متعددة إن التراجع عن هذا القانون أو سحبه مسألة غير مطروحة. في تصريح لموزاييك بتاريخ 12 سبتمبر 2015، وصف
رضا بالحاج معارضي هذا المشروع بالفئة الضئيلة و أكد أن النقاش حوله لن يتم إلا داخل المؤسسات التشريعية أي داخل منطق الأغلبية البرلمانية اليمينية. من جهته، وفي حوار مع جريدة المغرب بتاريخ 17 سبتمبر 2015، لم يكتفي الأمين العام محسن مرزوق بتجديد التمسك بالمشروع بل اقترح " إدراج من لهم أموال سائلة" أي المهربين و أباطرة الاقتصاد الموازي في تناغم تام مع مبادرة منظمة الأعراف التي دعت إلى "استثمار إطار المصالحة الوطنية لإدماج ناشطي الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية المنظمة" . و لئن أظهر نداء تونس في الأيام الأخيرة استعداده للحوار و التشاور فإن المعنيين بالتشاور ليسو إلا شركاءه في الحكم و في هذا الإطار عقد اجتماع تنسيقية الأحزاب الحاكمة يوم 15 سبتمبر 2015 لمناقشة المقترحات التي هي في الواقع ليست إلا تسويات سياسية ضرورية لتمرير المشروع.
أما بالنسبة لحركة النهضة، فبعد القبول التام لراشد الغنوشي وفتوى على لعريض بوجود آيات قرآنية تتحدث عن المصالحة، صرح عبد الطيف المكي أن الحركة عهدت إلى لجنة من الخبراء بدراسة المشروع ليعود راشد الغنوشي مرة أخرى و يصرح أن " مشروع قانون المصالحة يحتاج إلى تعديلات ". هذا يعني قبولا مبدئيا لمشروع قانون المصالحة و ليست التعديلات في الحقيقة إلا تسويات أو هامشا من المناورة تسعى من خلاله حركة النهضة الى تحقيق مكاسب سياسية مقابل دعمها للمشروع.
بالإضافة إلى تسوية بعض ملفات الفساد المرتبطة بفترة حكم الترويكا وخصوصا المتعلقة بالمؤسسات المُصادرة و كذلك القروض و الهبات الخارجية التي بقيت أوجه صرفها مجهولة، فإن حركة النهضة تسعى، مقابل دعمها لمشروع المصالحة، إلى تعزيز موقعها في الحكومة والحصول على تمثيلية تعكس حجمها الحقيقي على تعبير قياداتها.
ختاما، و اعتمادا على ما سبق، إن تمرير مشروع قانون المصالحة بما يعنيه من نسف للعدالة الانتقالية و إعادة انتاج لمنظومة الفساد يشكل بالنسبة للرأسمال الطفيلي الفاسد انتصارا باهرا سيجعله أكثر قوة و أكثر قدرة على فرض شروطه و تمرير كل املاءات المؤسسات المالية العالمية. سياسيا، لن يمر هذا المشروع دون تسويات ستؤدي الى تعزيز موقع حركة النهضة في الحكم أو ربما تقاسمه كليا مع النداء. في هذه الحالة ستعزز النهضة تموقعها داخل مفاصل الدولة و الإدارة و سيكون التحالف الحكم – على هجانته الظاهرة- أكثر تماسكا و بالتالي أكثر شراسة.



#مصطفى_الجويلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى الجويلي - من الحوار الوطني الى قانون المصالحة: الرأسمال الطفيلي الفاسد و مسار التحكم في المشهد السياسي التونسي