عبد اللطيف الزين
الحوار المتمدن-العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 20:11
المحور:
الادب والفن
كان اللقاء الأول بينه وبين الزمان قبل أن يخرج من عالمه المظلم برحم أمه ؛ لكنه لم يكن حينها مؤهلا للتعرف على ذلك المخلوق الزئبقي كما يجب . ولما أطل على عتبة هذه الحياة الملونة بشتى الألوان ، بدأ يسمع عنه الكثير ويختزل في ذاكرته كل ما يروج في محيطه من أخبار تتعلق بسيرة الزمان وأهله منذ سنين ؛ إلى أن سنحت لهما الفرصة بلقاء عابر بعد نصف قرن وينيف . تأمل عابر السبيل سحنة الزمان مليا ثم استفهمه قائلا : العابر : قل لي من فضلك أيها الزمن العربي ؛ لماذا أراك مهانا في عهد حقوق الإنسان ؟
الزمان : لقد أخطأت التقدير والتعبير يا أستاذ ، فأنا لست عربيا ولا كرديا ولا أمازيغيا ولا شيعيا ولا شيوعيا ؛ لكنني أنتمي إلى كل القارات التي تعرف منذ القدم . ولعلمك فأنا لست رديئا كما تدعون ؛ بل وقتكم هو الذي يسبح في الرداءة والبذاءة راكدا في مستنقع أوساخكم الأنيقة أيها الأستاذ ال.....
( هنا قاطعه الأخير وهو يداري صراحة الزمن المحرجة )
العابر : دعنا من حسبك ونسبك وقل لي ؛ ألا ترى معي أن عيوبك شاعت وذاعت عبر الآفاق ؟
الزمان: أخطأت ثانية أيها العابر العنيد ؛ فأنا نظيف وعفيف وما لي عيوب سواكم ، أنتم أصل الفتن وإفساد العباد منذ أمد بعيد . لقد عاصرت أمما وأجيالا منذ فجر التاريخ ؛ وكلما أتى جيل حاول إلباسي ما شاع في عهده من مساوئ ونواقص . فهل تنكر- أيها المثقف الأنيق - قول الشاعر فيكم :
( نعيب زماننا والعيب فينا > وما للزمان عيب سوانا ) ؟
هنا تلعثم الأستاذ العابر في ارتباك ملحوظ ليجيب الزمان بالقول : أنا لا أنكر ذلك طبعا ؛ ولهذا تبدو لي من ردودك وكأنك واثق من براءتك .
الزمان : معذرة أيها العابر الماكر لقد تماديت في غيك ، أنا لست متهما حتى أسعى لإظهار البراءة أمامك .( هنا اضطرب حال العابر فتوقف للحظة عن الكلام وهو ينظر الى الزمان نظرة من يتوجس خيفة من دهم خصم لئيم ؛ ثم حاول استدراك الموقف قائلا : )
العابر : إلزم حدودك واحترم نفسك أيها الشيخ الوقح ، فأنا لم أنعتك بالغدر لتصفني أنت بالمكر والسذاجة . ( ابتسم الزمان ابتسامة خبث ؛ وبادر العابر بوخزة كادت تعصف بذلك اللقاء الذي ما فتئ يتأرجح ما بين الشد والجذب ، ثم أردف قائلا : )
الزمان : مالك انزعجت لهذا التوصيف أيها المتعلم اللطيف ؟ أليست سذاجة منك – وأنت العارف – أن تعتبرني متهما وبريئا في لحظة خاطفة ؟ هل أعتبر ذلك حقا من حقوق الإنسان عندكم ؟ من المتهم أصلا وفصلا أيها الواهم المغفل ؟ هل يعقل أن تضع الضحية والمتهم في نفس قفص الاتهام ؟
لا.. أجاب العابر في توتر ملحوظ . غير أن الزمن تابع حشر غريمه في الزاوية وأردف قائلا :
الزمان : أنتم أيها المتمدن المتعفن بلوثات الوقت ؛ وكأنكم تنسجون متاهات دهماء في غابة ليلاء ، أو تؤلفون شركا ( بفتح الراء ) على شكل " سيرك " مزوق ببريق الأضواء وبعض اللافتات.. منكم من يؤثث المشهد بالآيات ومن يتلذذ بمضغ الشعارات ومن يتقن الرقص على أكثر من حبلين ومن يجد ويجتهد في تلميع الواجهات ؛ ومن يبيع قيم العرض والأرض تكيفا مع الاحتمالات. تأنقتم بكل العهود والمواثيق ؛ وادعيتم الانتماء الى عصر السرعة وأنتم تزحفون على إيقاع سلاحف البرك الآسنة . فهل تنفي كل ذلك لتلبسني من عيوب أهل وقتك حلة موشاة بشتى فنون القدح والتحقير ؟
انتفض العابر مندهشا من شراسة الزمان وقوة شكيمته ، في محاولة منه للدفاع عن معارفه النظرية بخصوص الزمان وأهله ؛ فباغت الزمن قائلا :
العابر : مهلا أيها المتعصب الجاحد الحاقد ؛ إني أراك من المتطرفين وأنك لا ترى الأمور إلا بطرف عين . لماذا تنسى أو تتناسى سمعة الصالحين ؟ فمنا الأوفياء والأتقياء والشهداء والأولياء ؛ بل وهناك أشرف الأنبياء. فهل تنكر فضل كل هؤلاء ؟ ثم قل لي : ألا تدري انه لولا الفلاسفة والشعراء ولولا عظماء التاريخ من الأدباء والعلماء ؛ ما كان لوجودك قيمة تذكر في هذه الحياة . إني أراك تبخس الناس حقهم وتبدي سداد الرأي وقول الصواب .
( ضحك الزمان من حماسة العابر الغاضب ثم نظر إليه مشفقا وقال : )
الزمان : أيها المخدوع بالألقاب ؛ أنا لست من الجاحدين فضل الناس سواء كانوا دعاة أو رعاة ، ولكن .. هل تعلم أن أول من استعبد الناس هم السادة والقادة بتزكية من فقهاء السلاطين ؟ ثم أليس من حقي أن أدفع عني لؤم المخادعين من بني آدم منذ سنين ؟ فأنت تعلم أني كنت موجودا ومازلت قبل أن يوجد الفلاسفة والعلماء ولا الأساقفة والفقهاء .. وتعلم أيضا أني كنت صفحة بيضاء ؛ حتى من قبل عهد آدم أب العصاة التائبين ؛ ومازلت أحيى كما كنت حتى بعدما غمر الطوفان هذه الغبراء منذ سنين . فهل تريد أن نفضح المستور ، فنكشف المسؤول عن تشويه سيرة الزمان منذ هابيل وقابيل ؟
( هنا تجمد لسان العابر المسكين وأدرك صولة الزمن الجسور ؛ لم يترك الأخير للأول فسحة لالتقاط أنفاسه ليبادره قائلا :
الزمان : لا عليك ؛ فأنت تشبه من سبقوك ، كلهم كانوا يلصقون بي التهم والأوصاف الجاهزة بلا استحياء. فمنهم القائل: إنه زمن قاتل وسافل .. ومن يقول: إنه زمن ماكر وفاجر وقاهر عاهر، ومن يراني رديئا أو بذيئا. وكلها أوصاف - كما لا يخفى عليك – لاتناسب الا بني جنسك وبني جلدتك من أشرار أهل عصرك الأنيق.. عصر الشطارة والتجارة والدعارة المقنعة .
( حينها حاول العابر استدراك الموقف لعله يحد من دهم الزمان حماه المعرفي حتى لا يعصف بكل ما لديه عن التاريخ والفلسفة والدين والعلوم ؛ بل وبكل ما لديه من رصيد العمر ، فأخذ يلطف من نبرة حديثه الى الزمان كي يمر المأزق بسلام .). ثم قال:
العابر : أيها الشيخ الوقور؛ قد لا تلائم شأنك الرفيع وقدرك المنيع كل النعوت الجائرة التي يرويها الناس عنك ، إنما جرت العادة في منتدياتنا أن يأخذ الناس بالشائعات كمسلمات. فقد سمعت عنك - في ما مضى – ومازلت أسمع عبر جلسات ما يسمى عندنا( دردشة ) في البيوتات والمؤسسات والمستشفيات والمقاهي والقطارات والحمامات والحافلات والحفلات والمآتم والأفراح ...ووو أنك جبار قاس مستبد بلا حدود أو عهود .
( استشاط الزمن في حنق وغيض ، فنهر العابر مقاطعا إياها بالقول )
الزمان : ليس بحديث المقاهي والطرقات يقيم الناس الحجة والبرهان ؛ إنكم أيها المشتبهون المتشابهون تروجون التفاهات عبر الهمس والقهقهات ، وتكذبون على أنفسكم بالترهات ثم تكونوا أول من يصدق تلك الخزعبلات . ألا تتوهمون - كمثقفين يا حسرة – أن من بينكم ( سيزيف وأدونيس وبروميتيوس ..و وما شئت من أساطير الأولين ) ؟ ألاتخجلون من أنفسكم وأنتم تصفقون لدعاة تلك الشطحات ؟ وتدعون أنكم مع حقوق الإنسان في أن يعتبر جده قردا أو ملحدا أو شاذا. وتخدعون الناس بمكياج الوقت ( يوم للعمال ويوم للنساء وآخر للبيئة ويوم للأرض وآخر للسلام وليلة لوحي السماء ...). مقابل تجاهلكم الاحتفال - على الدوام - بتدليس إبليس وزور البهتان . أصبحتم يا أستاذي العزيز تتلذذون بمضغ الكذب ؛ كمن يستمتع بمضغ علكة فقدت طعمها ونكهتها وماتزال تغري الماضغين بتلك الفرقعات بين الأشداق . فهل تنكر كل هذا الكرنفال لتلبسني من تهم أهل الأناقة واللباقة ما يرضي مكرك وغرورك ؟
( هنا انتفض العابر المرتبك عساه يجد مخرجا من تلك الورطة الخانقة ، فلم يجد أمامه غير التمويه بإبداء الرغبة في ضرب موعد للقاء آخر لعله يتمكن من العثور على سند يدعم به ما كان يعتقده من مساوئ الزمان ) .
ولما هم بتوديعه لم يجد بين يديه غير هذا السؤال : ترى .. هل من حقنا - نحن بني البشر – أن نحكم على الزمان بالوقاحة مادام يعتمد الصراحة بهذه الفداحة ؟ من فضلكم إذا كان لديكم جواب ؛ فابعثوا به لأعلنه في وجهه بكل ما أملك من فصاحة.. وشكرا
( إنصافا للمتهم بعيوبنا )
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟