أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أيمن نبيل - الفاشية الرثة: سياق الفاشية في النظام المصري، بنيتها ومستقبلها















المزيد.....



الفاشية الرثة: سياق الفاشية في النظام المصري، بنيتها ومستقبلها


أيمن نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 4902 - 2015 / 8 / 20 - 23:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفاشية الرثة
سياق الفاشية في النظام المصري، بنيتها ومستقبلها

1-مقدمات فاشية النظام وسياقها:
من أسطرة الجيش الى عبادته

في التاريخ الحديث لكثير من بلدان العالم الثالث، يتداخل الجيش ببنية الدولة بفعل الكفاح المسلح ضد الاستعمار والانقلابات العسكرية في دولة الاستقلال، والحالة المصرية "نموذجية" في هذا السياق، حيث أن مؤسسات الدولة المصرية الحديثة هي من انتاج نظام يوليو 52، ويمكننا ان نحدد اكثر ونقول بأن عبدالناصر هو من قام بتحديث جهاز الدولة في مصر، والمؤسسة العسكرية كانت هي منجم كبار المسؤولين في نظام عبدالناصر, وهذا يفتح الباب لعمليات أسطرة الجيش، كما هو حال كثير من البلدان التي لعب فيها الجيش دورا تأسيسيا في بناء جهاز الدولة.
بالإضافة الى هذا العامل الأولي، فإن عمليات أسطرة الجيش المصري تتغذى على سياسات وتوجهات فعلية اضافية بغض النظر الآن عن مدى فاعليتها والموقف النقدي منها، مثل التحديث والتصنيع واجلاء الاستعمار والإصلاح الزراعي والغاء التمييزات الطبقية في عهد الملكية، أي ان الصدق الأيديولوجي لنظام ثورة يوليو كان عامل تجذير لعمليات أسطرة الجيش، ولا نغفل هنا ان الجيش المصري كان موجودا هيكليا قبل ثورة يوليو ولم ينشأ عن تجمع لمليشيات كفاح مسلح ضد الاستعمار كما بعض الحالات في العالم العربي، وإن مر بعمليات اعادة هيكلة، وهذا يفسر جزئيا بعض الاستقرار في هذه المؤسسة بالمقابلة بمثيلاتها عربيا.
قامت السينما والدراما التلفزيونية طوال نصف قرن -والى يومنا هذا- بتكريس أسطورة الجيش، ونعني بأسطرة الجيش هنا تكريس صورة له باعتباره كيانا وطنيا "مفارقا" للسلطة الملوثة، وهذه عملية تقوم بها ثقافات مختلفة بالمناسبة، كما تفعل السينما الهوليودية على سبيل المثال، ولكن الفارق هنا هو ان عمليات الأسطرة تتم في نظام مؤسساتي يعرف الديمقراطية، وبالتالي فإنها لا تقوم بتغطية كاملة لعمليات الفساد الممنهج داخل المؤسسة العسكرية او تغولها في المجال العام.
ومع ظهور هامش حرياتي في قطاع السينما في الثمانينات، بدأت السينما في تركيز نقدها على مؤسسات الأمن القمعية (الشرطة وأمن الدولة) (1) بحكم احتدام الاحتكاك بين المواطن وأجهزة الأمن، ولهذا فإن الاهتزاز في اسطورة الجيش كان يحدث حين يصطدم مباشرة بالمجتمع فيستحيل الى جهاز أمني ولكن بقدرات مهولة، وقد حصلت الهزة الأولى في انتفاضة 77، ولكنها لم تكن عميقة، لأن قيادة الجيش حاولت النأي بنفسها عن مواجهة المجتمع قدر الإمكان، وحين تدخلت، توازى تدخلها مع تراجع الحكومة عن قراراتها التي اشعلت الانتفاضة (2).
الهزة البنيوية لصورة الجيش عند المواطن كانت في احتكاك المتظاهرين بقوات من الجيش في نهاية عام 2011 (3) وما تلاها من مواجهات في 2012، حيث تصرفت قوات الجيش كجهاز شرطة، بالاضافة الى طريقة ادارة المجلس العسكري للبلاد بعد ان حدث تراكم جديد لأسطورة الجيش بازاحته لمبارك في 11 فبراير عام 2011، وتكريسه لنفسه في وعي كثيرين ك"مخلص".

بعد وصول مرسي للسلطة، ونتيجة لعوامل متشابكة -ساهمت طريقة ادارة محمد مرسي للبلاد في الوصول اليها- استعادت الطبقة الملتحمة بنظام مبارك عافيتها وبدأت في الهجوم، واستطاعت تشكيل حلف مع قوى سياسية كانت معارضة لنظام مبارك باستثمارها لرغبتها المحمومة في "الإجهاز" على السلطة الجديدة وليس فقط ازاحتها -وهنا يظهر البعد التطهيري في النخبة السياسية المصرية ولا ديمقراطيتها- وكان واضحا للجميع أن المدخل لعمليتي الإزاحة والإجهاز هو الجيش، وهنا تزايد تركيز عملية الأسطرة المركبة الكلاسيكية لحفظ ثبات بنية العلاقات السلطوية العليا في مصر المعاصرة في خطاب اعلام رأس المال، وهي عملية أسطرة الجهاز القضائي، متواشجة مع عمليات أسطرة الجيش، بحيث تبدو هذه العملية المركبة للباحث ك"دين" مكرس عند السينما والدراما المصرية، وأيديولوجيا ضمنية لخطابات الحيز العمومي منذ نصف قرن على الأقل، وهذه ظاهرة لها تفسير مركب ولا يختزل فقط في عامل معايير السلطة السياسية.
قامت الماكينة الإعلامية بزيادة تركيز عمليات الأسطرة المذكورة أعلاه واستبطانها كاستراتيجية، وضاعف من تأثيرها ان الإخوان المسلمين، كقوة سياسية اولا، وكقوة ذات تاريخ يتأرجح بين الصدام والهدنة مع النظام ثانيا، قادمة من خارج جهاز الدولة -وهذا يكسر القاعدة المكرسة منذ 23 يوليو 52- كما أن طريقة تعاملها ممثلة بالرئيس مرسي مع جهاز الدولة كان مرتبكا وفاشلا، فصدامه مع جهاز القضاء كان يحتاج الى ظهير سياسي واسع يحميه ويسانده ليواجه عمليات اسطرة محفوره في الوعي الجمعي على مدى عقود، ومدائحه في الجيش كانت بلا جدوى، لأنها لم تكن مسنودة بقطاعات اجتماعية مختلفة تجعل من مدائحه دليل رغبة في التقدم وزحزحة التناقضات.

وهكذا، استمرت هذه العملية الى عشية انقلاب 3 يوليو، وكانت عمليات الأسطرة غير كافية للمرحلة المقبلة، فحدث تطور نوعي متوقع وهو ما اسماه بعض الباحثين "عبادة الجيش" (4)، واذا كانت اسطرة الجيش هي تكريسه كمفارق لفساد المجال العام، فإن الدعوة الى عبادته تعني تقديس نزول هذا التشكيل المفارق لإصلاح المجال العام وحلوله في الدنيوي/السلطة.
في رأينا، لم تكن ذروة نجاح هذه العمليات المركبة هو عزل محمد مرسي، فبالنهاية اختلط الأمر على كثيرين وكانت الشوارع تمتلئ بالمتظاهرين، وقد دخلت هذه اللحظة سريعا في عمليات مبالغة صادرة عن وعي بعض المثقفين اللا تاريخي بسبب موقفهم الأيديولوجي من المنقلب عليهم بدون اعمال اي ادوات تحليلية لتفسير تلك المظاهرات الحاشدة(5) مثل تسهيلات جهاز الدولة وإعلام رأس المال، والثورة المضادة والأداء المرتبك لحركة الاخوان المسلمين في السلطة وغيرها من العوامل.
الذروة الفعلية لكل تلك العمليات كان التعامل مع اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، فقبل فض الاعتصامات، ازداد الخطاب الاعلامي شعبوية، والنزعة التطهيرية فيه استفحالا، وعبادة الجيش وقائده وصلت الى مرحلة متقدمة، وكان ذلك التأييد والرضى -والذهول- من عمليات فض الاعتصامات بذلك العنف المقصود قبليا بحيث وصفت بأنها واحدة من اشنع مذابح قتل المتظاهرين في العصر الحديث (6) دليلا على نجاح تحالف الثورة المضادة في بعث، واللعب على، اشد النزعات الجمعية انحطاطا وقدرة تحالف السلطة المضادة على حل الأخلاق الجمعية، وهكذا، ولمركب نزعة التطهير وعبادة الجيش والخطاب الشعبوي، اصبح النظام السياسي مستعدا لأن تحل فيه الفاشية.

2- فاشية خارج السياق:
مشاكل الفاشية في مصر ومستقبلها

بعيد وصول السيسي الى السلطة، بدأ النظام الفاشي في التعضي أكثر، وبدأت عمليات أسطرة الجهاز القضائي في الانتاج بوتيرة عالية، وذلك لأن الجهاز القضائي الذي "تسلمه" عبدالفتاح السيسي كان قد تم "تعقيمه" بصورة كبيرة في عهد مبارك من المنشقين، بعد وقوف بعض القضاة ضد تزوير الإنتخابات عام 2005 (7)، بالإضافة الى أن المؤسسة القضائية كانت ضمن جهاز الدولة الذي اصطدم به محمد مرسي، فحدث فيه فرز أخير جعله متماسكا وواضحا ومترابطا عضويا، وبالامكان رصد عمليات الانتاج للجهاز القضائي الذائب في النظام الفاشي الوليد من خلال أحكام الإعدام، فقد ذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية، ان احكام الإعدام الصادرة في مصر في عام 2014 شكلت لوحدها 65% من مجمل احكام الإعدام في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا!(8).

الجهاز القضائي هو الأداة الرئيسية لمأسسة فاشية النظام السياسي، ، والمركب الأولي لأي نظام فاشي هو استيعاب وتذويب الجهاز القضائي داخله تماما، وهذا احد الفوارق المهمة بين النظام الفاشي والعصابات المتمردة التي قد تحكم ولكنها لا تذوب في جهاز الدولة وتعتمد على مؤسسات/تشكيلات ضبط من خارجه، وكذلك هذا أحد الفوارق بين الأنظمة القمعية والأنظمة الفاشية، فالنظام القمعي يعتمد على أجهزة الأمن في تنفيذ سياساته لضبط المجتمع بغير الاعتماد على القضاء او بالبحث عن متنفسات أخرى له مثل المحاكم العسكرية، ولا يهتم كثيرا بالمؤسسة القضائية الا في مسائل محددة.


النظام المصري أنجز نقلة متسقة مع المقدمات المشار اليها آنفا نحو الفاشية، ابتداء باعتماده الشعبوية كخطاب عام، ونزعات التطهير كمركب في عقيدته، مرورا بعدم تمايز الجهاز القضائي عن النظام، وانتهاء بكل من عبادة المجموع للفرد ومحاولة خلق أيديولوجية شوفينية رسمية، ولكن انجاز هذه النقلة لا يقضي بأن هناك مستقبل للنظام الفاشي في مصر.
المعايير ومحكات النظر تقول لنا بأن النظام المصري بصورته الحالية غير قابل للإستمرار في الزمن، فالنظام الفاشي يحتاج الى قيادة كاريزمية تمتد سطوتها على المؤسسة العسكرية بصورة مباشرة، وهذا أمر لا يتوافر في النظام الحالي ذاتيا وموضوعيا، فشخصية عبدالفتاح السيسي غير قابلة للإستثمار فيها بحيث تنتج كاريزما مقنعة، وهذا هو مادة الملهاة التي تظهر في المحاولات المستميتة لتخليق شخصية قيادية وجذابة، والملهاة هنا ليست بسبب ابتذال محاولات التخليق فحسب، بل في الفكرة ذاتها لاستحالتها.
من ناحية أخرى، منذ ثورة يوليو وحتى اليوم، فإن الرئيس المصري الوحيد الذي امتلك نفوذا مباشرا ومتجاوزا للبيروقراطية في الجيش كان جمال عبدالناصر -لمركب من الأسباب- وإلا فإن مؤسسة الجيش المصرية تستطيع في مخيالها ان تمايز نفسها عن النظام، رأينا هذا -جزئيا- في انتفاضة 77، وفي ثورة 25 يناير عام 2011، وتجب الإشارة هنا الى أن هذا التمايز لا يعني تسيير الجيش للنظام السياسي، بل وجود لحظات معينة ،خطيرة بالضرورة وتوفر ظهيرا اجتماعيا وينسجم فيها ايقاع الحراك الإجتماعي مع حسابات المؤسسة العسكرية، يتم فيها وضع الحدود وفرض التمايز بين الرئيس والجيش، مع عدم اغفال نقطة محورية وهي النشاط الإقتصادي للجيش المصري، والذي كان تغوله الاقتصادي في البداية ضمن الرؤية التنموية لعبدالناصر في سياق رأسمالية الدولة، ومع سياسات الانفتاح الكارثية للسادات وكذلك المعونة الأمريكية بعد اتفاق كامب ديفيد، وبعدها تغول رأس المال في عهد مبارك، حاول الجيش التكيف مع هذه المتغيرات والدخول الى "السوق" (9) فأصبحت لديه حسابات متداخلة بإمكانه على اساسها فرض تمايز معقد الشروط عن النظام.
لا يكفي النظام الفاشي ان يكون ذا خطاب شعبوي يبعث أحط النزعات الإجتماعية، بل يحتاج الى أيديولوجيا/نزعة شوفينية قبلية يسير في نسقها الخطاب الشعبوي، ومن الصعب مصريا في اللحظة التاريخية الراهنة انتاج ايديولوجيا رسمية، حيث أن الأيديولوجيات الرسمية عربيا قد تحللت ليصبح النظام ورموزه هم الأيديولوجيا، واستحضار الحالة السورية مفيد في هذا السياق.
ولهذا، يستعيض النظام الحالي بالشوفينية وخطاب التطهير عن الأيديولوجيا، ولكن هناك إشكال كبير يواجه اي نزعة شوفينية في اي قطر عربي، وهو انه لا يمكن قومنة هوية محلية قطرية ما دامت محاطة بالعرب.
الشوفينية تنجح مرحليا حين تتمايز عن المحيط "المختلف" ثقافيا فتتمكن بعد ذلك من اقامة المفاضلات وممارسة مقتضياتها لتأمين مصالح الدولة والنظام، ولكن اذا أصبحت الهوية المحلية المصرية "قومية" وتم انتاج خطاب شوفيني، فإن الحقل الخارجي -المتمايز ثقافيا- لممارسة الشوفينية معدوم، لأن هذا "الحقل الخارجي" ليس الا العالم العربي، وهو المجال الذي لا تستطيع مصر التحرك فيه الا حين يكون خطابها معترفا بالمشترك الثقافي معه (الهوية العربية)، فمصر ليست دولة رفاه يمكنها فائض الثروة من التأثير على المحيط، بل هي ذات تأثير ثقافي في الأساس،ولهذا، فإن مصر حين اعتنقت ايديولوجيا رسمية، لم تنجح في الاستقطاب والتأثير الا عبر أدلجة القومية العربية -وهذا ليس مكان تقييم تلك المرحلة- وعليه فإن الشوفينية وقومنة الهوية المحلية،بالاضافة الى لا واقعيتها وانحطاطها والمخاطر التي تنطوي عليها، ما هي الا عملية تكسيح لمصر -ولأي قطر عربي يفكر نظامه السياسي في تكريس هكذا افكار- فتغدو غير قادرة على الحراك.
الشوفينية الفاقعة التي ينتجها كل من الخطاب الإعلامي المصري الرسمي والتابع لرأس المال قابل للممارسة في الداخل حصرا، وهذا وجه من وجوه فاشية النظام، ولكنها لا تستطيع ضمان التماسك المطلوب للنظام حين توظف في الداخل فقط، علاوة على نفور المجتمعات العربية من هذا الخطاب الشوفيني ، وهذه احدى تشوهات الفاشية -والفاشية بذاتها مشوهة ومنحطة أخلاقيا حتى في حالاتها العاتية والمنتجة، اذا تحدثنا عن أحكام معيارية- في النظام المصري الحالي، بالإضافة الى ان تكريس الشوفينية في المجال العام المصري والعربي المشحون بالنزعات الماقبل وطنية من كل لون، يهدد النسيج الإجتماعي المصري وجوديا.

على مستوى القواعد الإجتماعية، هناك إشكالات متراكمة.
تاريخيا، تسوق القوى الفاشية المتمكنة لنفسها كمخلص من وضع حضيضي في ظل تكلس القوى السياسية التقليدية وبالأخص اليسار، وحين تصل الى السلطة، تحكم سيطرتها على عمليات الإنتاج الإقتصادي، وتستخدم في سبيل هذه السيطرة وسائلا عدة، مثل استمالة رأس المال، السيطرة التامة على النقابات وتجريم كل ما من شأنه اعاقة عمليات الإنتاج مثل الاضرابات، وتقدم نجاحات كبيرة وفي زمن قياسي بسبب عدم تقيد ممارساتها بأية ضوابط قانونية قبلية ولاعادتها صياغة الضوابط والقوانين، ومن المهم هنا ان نذكر بأن النازية الالمانية استطاعت في عام واحد من حكمها تخفيض البطالة الى النصف! (10)، وهكذا تتعامل الأنظمة الفاشية العاتية مع تحديات مثل البطالة والتصنيع والاستقلال الإقتصادي بدرجة عالية من الجدية والحسم، وتكتسب الفاشية قواعدا اجتماعية جديدة لها مواصفات مختلفة عن قواعدها الاجتماعية التقليدية، ويتم نسج هذه السياسات الإقتصادية وانجازاتها وضفرها مع الشوفينية وسياسات اعادة التركيب الاجتماعية، ونتيجة توسع قواعد النظام الإجتماعية تضطرد قوة سيطرته على الدولة والمجتمع.

النظام المصري الحالي ليس معنيا بسياسات اقتصادية تؤسس له قواعدا اجتماعية، بل على العكس، فهو مكتف حاليا بتحالفاته التقليدية التي اعادت انتاجه بعد اهتزازه في ثورة 25 يناير، والتي ترتكز على رأس المال المتداخل بالدولة، البيروقراطية، المؤسسة العسكرية، والمؤسسة الدينية كعامل مساعد.
مأسسة الفساد مستمرة كما هو واضح، وتكفي هنا الإشارة الى باب المصروفات الأخرى -وهذا الباب احد اهم مداخل الفساد- في الموازنة العامة، حيث ارتفعت المصروفات الاخرى من 38،8 مليار جنيه في موازنة عام 2013/2014، الى 49 مليار جنيه في موازنة العام المالي 2014/2015 (11) ، واستمرار الفساد المالي في جهاز الدولة امر طبيعي، لأن تحالف السلطة لا يمكن له الا انتاج هذه العملية، وهذا مترابط مع غياب اي نزعة لاحداث تقدم في موضوع الاستقلال الاقتصادي، ومعدل الارتباط بالبنك الدولي-وهو يقع تحت بند الإقراض- معيار مهم لقياس توجهات النظام في هذا الجانب، حيث بلغ الارتباط بالبنك الدولي في السنة المالية 2014 بالأعداد المطلقة (408 مليون دولار)، في حين تضاعف الرقم عدة مرات في عام 2015 ليبلغ 1،404 مليون دولار! (12)، واقتفاءا للسلوك الكلاسيكي للأنظمة القمعية والفاشية الرثة الفاشلة اقتصاديا، يقوم النظام المصري بممارسات التخدير الإجتماعي والوعد ب"الباراديس" والاحتفاء بفكرة "مكان" الوعد على حساب الوعد ذاته -من ناحية سايكولوجية، تبدو الرغبة العارمة في مسرحة كل حدث ارضاء لميغالومينيا حادة، كما ان المسرحة سلوك مؤسس عند جميع القادة الفاشيين سواء كانوا كبارا ام متواضعي القدرات- فعوضا عن حل ازمة المرور والمواصلات الخانقة في العاصمة، تم اطلاق مشروع العاصمة الادارية، والتي بلغت تكلفة المؤتمر الذي عقد واعلن عن المشروع عبره 12 مليون دولار (13).
الفاشية -في احدى تجلياتها- هي شد اعصاب المجتمع وتوتير دائم له واستثمار هذا التوتر ، ويبدو أن الفاشية المصرية الوليدة لا تفهم جيدا مقتضيات هذه الفكرة وتتعامل بسطحية شديدة معها، فالتوتر الإجتماعي لا يمكن الابقاء عليه بدون سياسات اقتصادية مقنعة ومواقف خارجية ترسخ البنية الشوفينية للخطاب العام، بينما يختزل النظام المصري رهانه للحفاظ على هذا التوتر على حزمة افكار رئيسية، أهمها فكرة التطهير والاستمرار في تخليق العدو الداخلي، ومن ثم "مواجهته" واعادة انتاجه من الفراغ ومن ثم مواجهته بخطاب دائري تطهيري سطحي ومبتذل، بالإضافة الى احاديث "المؤامرة الخارجية" متمثلة في "المخابرات الأجنبية" التي لها ضلوع في كل اشكال داخلي بصورة غامضة، ويعتقد النظام ان هذه الممارسات تشكل رصيدا كافيا يسمح للفاشية بالاستمرار في الزمن، مضافا اليها ممارسات الوعي الريفي الذي يتميز به كثير من الحكام العرب، ومنها مخاطبة المجتمع كعائلة والرئيس كرب ورع ،تقي وحازم لها -وقد بدأ الترويج لطهر وتدين السيسي في عهد محمد مرسي وبمشاركة وسائل الإعلام التابعة لحركة الإخوان المسلمين- مع استبعاد الأبناء العاقين والجاحدين، ولكن هذا الاستبعاد لا يصدر عن وعي ريفي عند الفاشية، بل يكون "تعقيم" المجتمع منهم بأجهزة العنف الدولوي الأكثر حداثة وفتكا.
يبدو جليا الآن مدى سطحية هذا الرهان من خلال مراقبة الخيبة العامة في وسط القواعد الإجتماعية للنظام بل وعند بعض الإعلاميين في قنوات القطاع الخاص الذين صاغوا خطاب التطهير والتجييش وانتجوا طوال عامين الشعبوية وساندوا الفاشية الجديدة.
بالإضافة الى ما سبق، نذكر هنا ثلاثة امور مهمة في سياق تحليل فاشية النظام المصري ومستقبلها:
الأمر الأول، هو أن النظام المصري لن يستطيع تحقيق الضبط الإجتماعي كما باقي الأنظمة الفاشية العاتية، فلا المجتمع المصري قابل للعسكرة -لاعتبارات جغرافية وديموغرافية- ولا النظام الفاشي في مصر قادر على عسكرة المجتمع ولا يمتلك الامكانات الأساسية لذلك حتى لو أراد، كما أنه قد عجز عن انتاج تحالفات اجتماعية وسياسية جديدة، تتجاوز التحالفات السابقة، تقدم نسخة منتجة من الفاشية، فهناك دول اقليمية دعمت الجيش وماكينة الثورة المضادة، ورأس المال يعرف جيدا انه "شارك" في ايصال عبدالفتاح السيسي لسدة الحكم، وارث النظام الساداتي ونظام مبارك فيما يخص علاقة النظام وجهاز الدولة برأس المال مكرس عند النظام الفاشي ولا يبدو انه سيثور عليه بل سيمتن هذه العلاقة لتحقيق الاستفادة القصوى في ظل توتير المجتمع.

الأمر الثاني هو أن النظام الفاشي في مصر يتحرك الآن في بلد قامت فيه ثورة عارمة قبل اربع سنوات، استبطنت قيما مفصلية مثل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومهما كانت الحوادث في هذه اللحظات، فإن عمليات الرفض تتراكم في الوعي الجمعي الذي لن يحتاج زمنا طويلا لكي يبدأ بانتاج قوى احتجاج منظمة، فانقلاب 3 يوليو وما قبله وما تلاه يختمر الان في الوعي الجمعي كتجربة، ستنتج ممارسات في المستقبل، وبالتالي فالعسكرتارية ونمط الفاشية الرثة الذي ينتجهما النظام المصري غير قابل للحياة على المدى المتوسط.

الأمر الثالث هو العمليات الإرهابية التي زادت وتيرتها وتطورت نوعيا في مصر في الآونة الأخيرة، وهذا منتج طبيعي لفاشية النظام المصري -وليس لكل الفاشيات بالمناسبة- لإعتبارات تخص بعدي المكان والزمن، فالعالم العربي الآن مشحون بالعنف والطائفية، والفاشية في مواجهة مجتمعات تعيش في مجال عام مشحون كهذا توفر دافعا نوعيا لممارسة العنف المضاد، وهذا يرفد الخزان البشري للحركات الأصولية الإرهابية ولا شك، كما أن القوة التي استهدفت وضربت في 3 يوليو كانت قوة ذات ايديولوجية دينية، ومن السهل تحت الشعور بالضيم واهدار الآدمية ان ينتقل جزء من عناصرها الى تشكيلات العنف المنظم.
وعليه، فليس من المرجح ان تهدأ وتيرة نشاط الجماعات الاصولية الارهابية في مصر، وبعد فترة من فشل التحشيد واستثمار النظام الفاشي لهذه الحوادث في تبرير سياساته اولا، وفي القضاء على نشاط هذه الجماعات ثانيا، قد تصل المؤسسة العسكرية الى قناعة بضرورة اجراء اصلاحات عاجلة تنهي فاشية النظام، حفاظا على مصالح المؤسسة العسكرية اولا، فهي -كما اشرنا من قبل- لاعب اقتصادي كبير، وسيكون من مصلحتها -وهذا من مصلحتها الآن ايضا- انجاز مصالحة وطنية واجراء اصلاحات سياسية، واجراء اي اصلاح سياسي حقيقي يعني نزع مركب الفاشية عن النظام.

3-خاتمة: الفشل المرجح

من خلال تحليلنا لمقدمات الفاشية المصرية الوليدة وسياقها التاريخي ومشاكلها الحالية، نجد انها فاشية رثة، فهي أولا تفتقر لكثير من مكرسات وتقاليد فاشيات النصف الأول من القرن العشرين، بالإضافة الى مشاكل خاصة بسياقها العربي، فهي تتحرك في المحيط الثقافي الخطأ وفي الزمن الخطأ، مضافا الى ذلك فشلها الاقتصادي المدوي وعجزها عن انتاج تحولات اجتماعية بامكانها التغذي منها للبقاء والاستمرار، ولا تستطيع الا ممارسة القمع الوحشي وانتاج الخطاب الشعبوي، كما أنها تحكم بلدا مترامي الأطراف ومعقد التركيب وذا مشاكل مزمنة، وافرزت بسياساتها الرثة كوارثا اجتماعية كبرى تطل بعض جوانبها الآن، وأهمها تطور كم ونوع الأعمال الإرهابية وعجز النظام عن تحقيق تقدم في حل هذا الإشكال الخطير.
يبدو جليا الا مستقبل لهذه الفاشية الرثة، والمهمة الصعبة والمفصلية الآن هي اعادة بناء مفاهيم وافكار كثيرة تخص المجال العام، مثل العمل السياسي، التوافق الوطني، الشروط الرئيسية لإحداث تحول ديمقراطي حقيقي، وكيفية التعامل مع جهاز الدولة وغيرها من الافكار، لمقارعة الفاشية والتعجيل بسقوطها، واستعدادا لما بعدها، حتى لا يقع المجتمع المصري في مأزق تاريخي آخر كالذي يعيشه الآن، ويتمكن من بناء دولة مواطنين ديمقراطية.

أيمن نبيل

الهوامش:

1-لا نأخذ بعين الإعتبار الأعمال السينمائية التي انتجت في السبعينات، لأن نقدها كان منصبا على فترة حكم سابقة بتوجيه من السلطة، ولهذا فهي تدخل ضمن خطاب النظام.

2- هيكل، محمد حسنين، خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات، (الطبعة المصرية الكاملة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1988) ص 188.

3- تقرير المجلس القومي لحقوق الانسان عن احداث ماسبيرو (تاريخ الزيارة: 15/07/2015) على الرابط:
http://www.nchregypt.org/index.php/ar/activities/2010-02-07-16-18-44/2010-03-09-13-06-01/500-2011-11-02-19-51-28.html

4- وحدة تحليل السياسات، هل تعيد الإحتجاجات المناوئة للإنقلاب النظر في الخريطة الإنتقالية في مصر؟، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 23 سبتمبر 2013 على الرابط:
http://www.dohainstitute.org/release/315ca619-068e-49ac-9f01-1c3b6b3c5110

5- على سبيل المثال، وصل الوعي المبالغاتي بأدونيس الى ان يقول بأن 30 يونيو هو انهاء للممارسة السياسية منذ نهاية الخلافة العثمانية!
أدونيس، لحظة القاهرة 30 يونيو، الحوار المتمدن (تاريخ الزيارة 18/7/2015)
على الرابط:
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=368092&r=0&cid=0&u=&i=2435&q=

6- تقرير هيومن رايتس ووتش، حسب الخطة: مذبحة رابعة وعمليات القتل الجماعي للمتظاهرين في مصر، آب/اغسطس 2014 (تاريخ الزيارة 18/7/2015)
على الرابط:
http://www.hrw.org/ar/news/2014/08/12

7- بشارة، عزمي (الثورة ضد الثورة، والشارع ضد الشعب، والثورة المضادة)، سلسلة دراسات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، اغسطس 2013، ص 10
على الرابط:
http://www.dohainstitute.org/release/2c3b5c81-bb62-4e49-b648-2e6aee06268e

8- منظمة العفو الدولية، (أحكام الإعدام وعمليات الإعدام 2014)، وثيقة، ص 49
على الرابط:
https://www.amnesty.org/ar/documents/act50/0001/2015/ar/

9- للإستزادة حول موضوع اقتصاد الجيش المصري، انظر: مارشال، شانا، القوات المسلحة المصرية وتجديد الإمبراطورية الإقتصادية، دراسة، 15 ابريل 2015، مركز كارنيغي للشرق الأوسط
على الرابط:
http://carnegie-mec.org/publications/?fa=59727

10- Kühnl , Reinhard , Der deutsche Faschismus in Quellen und Dokumenten, (Kö-;---;--ln, fünfte Auflage, Pahl-Rugenstein Verlag، 1980) p 257.
تجدر الإشارة الى ان هذا الكتاب التوثيقي يتخذ من الإحصائيات الرسمية لأجهزة السلطة النازية مصدرا للبيانات والاحصائيات، وبالتالي فمن الجيد ان يأخذها المرء بحذر، لأن احتمال تزوير او مبالغة السلطة في عرض البيانات لاغراض دعائية، امر وارد، خاصة مع هذه البيانات عن انخفاض عدد العاطلين عن العمل.

11- الموازنة العامة (تاريخ الزيارة 18/072015) على الرابط:
http://www.budget.gov.eg/Budget20142015/Budget/2ca0bea2-0bc8-453f-adb7-cb1de74ce781

12- البنك الدولي (تاريخ الزيارة 18/072015) ،على الرابط:
http://www.albankaldawli.org/ar/country/egypt

13- الدكتور حسن فهمي رئيس هيئة الإستثمار لليوم السابع، (تاريخ الزيارة: 18/07/2015)، على الرابط: http://m.youm7.com/story/2015/3/10/%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%83%d8%aa%d9%88%d8%b1-%d8%ad%d8%b3%d9%86-%d9%81%d9%87%d9%85%d9%89-%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d9%87%d9%8a%d8%a6%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%ab%d9%85%d8%a7%d8%b1-%d9%84%d9%80%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%b9--17-%d8%b1%d8%a7%d8%b9%d9%8a/2099761#.vasizz_enqd



#أيمن_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن ادلجة الفكرة الديمقراطية


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أيمن نبيل - الفاشية الرثة: سياق الفاشية في النظام المصري، بنيتها ومستقبلها