أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فيكتور تولكين - على نهج غورباتشوف - أو ربع قرن من استخلاص الدروس.. والعديد لا يزالون في نفس الصف















المزيد.....



على نهج غورباتشوف - أو ربع قرن من استخلاص الدروس.. والعديد لا يزالون في نفس الصف


فيكتور تولكين

الحوار المتمدن-العدد: 4883 - 2015 / 7 / 31 - 21:12
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة مشعل يسار

من المترجم:
ما أكثر الاجتهادات حول أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كانت الطبقة العاملة والقوى الثورية والتحررية العربية وغير العربية على اختلاف مشاربها ومنابعها الفكرية في العالم تسند إليه ظهرها في نضالها ضد البرجوازية في الداخل والضغوط الإمبريالية الآتية من الخارج. ولذا ليس هذا الموضوع بالشيء الغريب على كل امرئ ثوري ومناضل. وما استخلاص الدروس من الهزائم بأقل نفعا من استخلاصها من الانتصارات. من هذا المنطلق كانت ترجمتنا مع اختصار لبعض المقاطع التفصيلية غير الأساسية من المقالة المسهبة التي يتحدث فيها عن تلك الأحداث "شاهد من أهله".

من هيئة تحرير الموقع الرسمي لحزب العمال الشيوعي الروسي:
من المستحيل أن نفهم حيثيات السياسة الحالية بشكل عام، ولا سيما في صفوف القوى اليسارية على وجه الخصوص، من دون معرفة تاريخ الصراع في داخل الحزب الشيوعي السوفياتي خلال فترة قيادة غورباتشوف للحزب والدولة. ويحتل مكانا خاصا في سلسلة تلك الأحداث المؤتمر الـ 28 للحزب الذي عقد في موسكو في الفترة من 02 إلى 13 يوليو/تموز 1990 (أي الذي مرت عليه الآن 25 سنة) والذي شارك فيه العديد من زعماء اليوم وسياسييه قبل أن يخرجوا من رحم وقوام هذا الحزب.
وفي ما يلي عرض لذكريات وتأملات الأمين الأول للجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي الروسي فيكتور تولكين الذي كان انتدِب إلى المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وإلى المؤتمر التاسيسي للحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية.

قبل أن تتم إعادة كتابة التاريخ ...

في عام 2011 شهدنا بالفعل ذكرى حزينة هي ذكرى مرور 20 عاما منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، هذا الحدث المأساوي ليس فقط في تاريخ شعوب الاتحاد السوفياتي، ولكن أيضا في تاريخ الشعوب في جميع أنحاء العالم. ولا تزال النقاشات ساخنة حول هذا الحدث الجلل بين أنصار الاشتراكية والمتحمسين لمكافحة الشيوعية. وبطبيعة الحال، يحتل مكاناً مركزياً في معرض تحليل أسباب الهزيمة الحاصلة للاشتراكية في الاتحاد السوفياتي (وأنا متأكد من أنها هزيمة مؤقتة) دراسة نشاط الحزب الشيوعي نفسه وأخطائه وصولا إلى انحطاطه. فقد حذر فلاديمير إيليتش لينين ولا عجب في حينه من أن "لا أحد يمكنه أن يهلكنا سوى أخطائنا". وهذا يعني أن علينا البحث عن السبب الرئيسي للهزيمة، قبل كل شيء، في ذواتنا، وليس في المؤامرات العالمية من وراء الكواليس ولا في عداء الامبريالية لنا، على الرغم من أنها، هي أيضا، لعبت بلا شك دورا هاما. فقد عقد المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي السوفياتي الحاكم في يوليو/تموز عام 1990. وهو كان إلى حد بعيد، إذا تكلمنا بلغة آخر أمين عام للجنة المركزية هو ميخائيل غورباتشوف، مؤتمراً مصيرياً بالنسبة للاتحاد السوفياتي، وللشعب السوفييتي وللحزب الشيوعي نفسه.

كمشارك في تلك الأحداث آخذ مرة أخرى القلم لأصف، من جهة، مجدداً المفاصل الرئيسية لتلك الأحداث حتى بعض نوادرها - كما كانت، بما أن عدد المشاركين فيها الأحياء يصبح أقل فأقل عاما بعد عام، بينما عدد محاولي تزوير التاريخ وإعادة كتابته يضحي أكثر فأكثر. ومن ناحية أخرى، سأحاول الإجابة عن سؤال "ما الذي كانه هذا؟" من مسافة خمسة وعشرين عاما. وهذا الأمر الأخير هو ذو أهمية خاصة لأن القول إن الحركة الشيوعية في روسيا وفي جمهوريات الاتحاد السوفيتي وفي العالم قد استخلصت الدروس الصحيحة مما حدث، غير ممكن من وجهة نظرنا. حتى أنني أسمح لنفسي أن استخدم عبارة أن العديد من الأحزاب الشيوعية لا يزال على مدى الخمسة والعشرين عاما يؤثر الجلوس في نفس الصف ومواصلة الإصرار على نفس الأخطاء التي هي، بشكل عام، ما أدى بالذات إلى انهيار الحزب الشيوعي السوفياتي.

الحزب المريض بغير الشيوعية

في إشارة إلى أحداث تلك السنوات، تنبغي الإشارة أولا وقبل كل شيء آخر، إلى أن المؤتمر التأسيسي لروسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، الذي جرى على مرحلتين (في يونيو وسبتمبر 1990) والمؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي (03-13 يوليو 1990) ، ينبغي أن ينظر إليهما كسلسلة واحدة مترابطة من الأحداث، ولأن أكثر من نصف تركيبة المنتدبين إلى المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي يمثلون منظمات الحزب في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية (2700 من أصل 4610)، كما أن وفود منظمات الحزب في الاتحاد الروسي تضم العناصر الأكثر نشاطا، وتمثل في الوقت نفسه التيارات الرئيسية في الحزب الشيوعي السوفياتي، سواء منها التيارات الشيوعية، أو تلك المناهضة للشيوعية على اختلافها. ففي المؤتمر التأسيسي لروسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، الذي عقد عشية المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، ووجه غورباتشوف مواجهة شديدة جدا، وفاقت حدة النقاش في بعض الأحيان بكثير تلك التي طبعت مناقشات المؤتمر الثامن والعشرين.

لفهم العملية سيكون من المفيد أن اطرح على الفور وجهة نظر الشيوعيين الراديكاليين الملتزمين في حزب العمال الشيوعي الروسي، الذين كانوا آنذاك في عداد حركة المبادرة الشيوعية في روسيا وهي تكمن في حقيقة أن الحزب الشيوعي السوفياتي وصل إلى مؤتمره الثامن والعشرين لا حزباً شيوعياً ثورياً ملتزماً، مطابقا لما عرّف به لينين ماهية الحزب من نوع جديد. فبحلول ذلك الوقت، كان الحزب على الصعيد النظري قد تخلى بفضل جهود المؤتمرين العشرين والثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عن أركان أساسية للماركسية كمثل مبدإ ديكتاتورية البروليتاريا، وفهم الدولة كمجرد أداة طبقية بحتة في يد الطبقة الحاكمة. ورفض الحزب الاعتراف باستمرار الصراع الطبقي في ظل الاشتراكية، وأجريت إصلاحات في الاقتصاد أدت إلى إضعاف طابعه بصفته إنتاجاً اجتماعياً مباشراً وتم تعزيز توجهه نحو السوق والتبادل السلعي.

وقد باتت الدولة منذ عهد خروتشوف تفسَّر باعتبارها دولة الشعب كله، كما بات يُفهم الحزب الشيوعي السوفياتي، على نحو متزايد، على أنه حزب لجميع الناس. وأعتقد أن بوسعنا أن نقول: إذا كان الحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة خروتشوف قد راح في المؤتمر الثاني والعشرين يسلم المواقع الشيوعية ويتحول إلى سكة النزعة التحريفية، مع الحفاظ على اسمه كحزب شيوعي وعلى العبارات الشيوعية المتناسبة مع هذا الاسم، فإنه في المؤتمر الثامن والعشرين بقيادة غورباتشوف أخذ يتسلح جهرا بالمواقف النظرية غير الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية وحتى المعادية للشيوعية، ولكن أيضا مع الاحتفاظ باسمه كحزب شيوعي، والتستر بالعلم الأحمر، والإقسام بالولاء للخيار الشيوعي. (سمعت أنا شخصيا من غورباتشوف يقول أنه سيبقى حتى آخر أيام حياته شيوعيا).


نحن عندنا تعددية ...

هنا أعتقد أن الفرق كان في أن غالبية مندوبي الحزب إلى المؤتمر الثاني والعشرين ربما كانوا على الأرجح، بحسب توصيف لينين، انتهازيين صادقين وتحريفيين عن غير قصد، وذلك بسبب تدني معرفتهم بالماركسية، ولكنهم كانوا، كما اعتقدوا، كتلة من أعضاء الحزب اللينينيين أكثر أو أقل تجانساً. أما في المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي فقد برزت بشكل واضح جدا تلك "المخلوطة" الأيديولوجية من عناصر مختلفة وغير متجانسة سياسيا من الماركسيين الأصوليين إلى المعادين للشيوعية الناريين المتحمسين. ولا عجب في أن يبدأ البروفسور سيرغييف كلمته الترحيبية، عندما راح يتحدث في المؤتمر الثامن والعشرين باسم حركة المبادرة الشيوعية بالقول: "أيها الرفاق الشيوعيون! أيها الرفاق الماركسيون القانونيون! وكذلك الاشتراكيون والاشتراكيون الديمقراطيون اليمينيون واليساريون وغيرهم من أعضاء حزبنا...". وقد قوبل كلامه هذا بالضحك والتصفيق في القاعة. وفي التقرير الذي تلوته أنا نيابة عن حركة المبادرة الشيوعية في المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي في روسيا الفدرالية السوفياتية بطلب من الرفاق وصّفنا الوضع آنذاك على النحو التالي: "على رأس اليسار مثلما على رأس اليمين أعضاء حزبنا. وعلى رأس "الجبهة العمالية المتحدة"، مثلما على رأس "الجبهة الشعبية" الأمر كذلك. ومن هم مع الشيوعية، ومن هم ضد الشيوعية - الكل أعضاء في حزبنا (تصفيق). ولكن الشخص الذي يراقب كل هذا من فوق يقول: "هذا جيد! إنه تعددية!" فهو المنظّر العقائدي الرئيسي للحزب (تصفيق) (يقصد به عراب البيريتسرويكا ألكسندر ياكوفليف- المترجم).
إن الوحدة لَكلمة كبيرة وعظيمة. ولكننا نحن مع وحدة الماركسيين، وليس وحدة الماركسيين ومفسدي الماركسية ومشوهيها (تصفيق).

ثم تطرق تولكين إلى محاولة الشيوعيين الملتزمين في المؤتمر التأسيسي لروسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية إثارة مسألة الحاجة إلى الافتراق وتطهير الحزب من العناصر الغريبة وتخليصه من السياسة غير الشيوعية فقال: ولقد أظهرت دقة تلك الملاحظات الأحداثُ اللاحقة، خاصة بعد أغسطس 1991. على سبيل المثال، المؤتمر الثامن والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي، خلال تشكيل قوائم الانتخابات من أجل تكوين قوام جديد للجنة المركزية، حيث جرت محاولة سحب اسم الاقتصادي المتحمس للانتقال إلى السوق الأكاديمي شاتالينShatalin على أساس أنه أطلق على نفسه تسمية الاشتراكي الديمقراطي. إلا أنه حظي للتو بحماية غورباتشوف نفسه فرفض سحبه من القائمة. وهكذا دخل هذا الاشتراكي الديمقراطي قوام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي (الذي لم يعد في ذلك الوقت شيوعياً، بطبيعة الحال).

وكذلك الأمر في محاولة سحب ترشيح عميد المدرسة الحزبية العليا للجنة المركزية شُستاكوفسكي Shostakovskiy الذي لم يكن يمثل وحسب ما يسمى المنبر الديمقراطي، ولكنه كان في ذلك الوقت يدعو أنصار خطه إلى مغادرة الحزب الشيوعي السوفياتي وإنشاء حزب ديمقراطي جديد (الشيء الرئيسي الذي منعهم من فعل ذلك كان الرغبة في حل قضية تقاسم الممتلكات الحزبية).
هذه الأمور هي مثال يورد من أجل أن يتصور القراء تصورا أفضل أيةُ كوادر كان يمكن أن تخرّجها هذه المدرسة الحزبية في السنوات الأخيرة من البيريسترويكا بعد أن كانت فيما مضى مصنعاً للثوريين المحترفين، وأيَّ جوّ كان جوُّ المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي.

في وقت لاحق للمؤتمر الثامن والعشرين أكد تحول شخصيات مثل إدوارد شيفاردنادزه، وبونيتش Bunich، وياكوفليف، ولاتسيس A. Lacis، وسوبتشاك، وبوريس يلتسين، والكسندر روتسكوي، وفلاديمير ليسِنكو، وشستاكوفسكي V. Shostakovskii، وتصيبكو A. Tsipko وبولديريف وغيرهم من المندوبين الديمقراطيين النُشاطى شدة تنوع وعدم تجانس ليس فقط أعضاء المؤتمر، ولكن أيضا، وإن كان بدرجة أقل، جميعِ أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي. حتى المواقف التحريفية السافرة لم تعد تؤمن وحدة العيش في بوتقة حزب واحد، وعدمُ وضوح الإطار الأيديولوجي بات ثوباً ضيقاً جدا على العديد من قادة الحزب الشيوعي السوفياتي، ممن ادعوا دور العقائديين والمنظّرين من مختلف الاتجاهات.


الانتهازية الصادقة

بالطبع، يجب علينا أن نعترف بأن غالبية أعضاء الحزب، لكونهم من الناحية النظرية من غير المتضلعين من الماركسية، كانوا شخصياً أناساً شرفاء صادقين ومؤمنين بالشيوعية، وبكلام الزعماء وبنفوذهم وسلطتهم عليهم. ولكن هذا أدى بهم إلى أنهم في المسائل النظرية تبعوا في البداية الانتهازيين الصادقين، ومن ثم التحريفيين الواعين. وإن أنسَ لا أنسى أبدا اللحظة التي صعد فيها إلى منصة المؤتمر يغور ليغاتشوف Ligachevالذي هو، شخصيا، بطبيعة الحال، إنسان مخلص للحزب ، ولكنه تحت ضغط الجو العام، عندما راح الكل يجتر كالببغاء شعار: السوق، السوق، السوق... ولا توجد وسيلة أخرى، أي وسيلة أخرى غير السوق، بدأ يشهد بأنه هو أيضا مع السوق، ولكن فقط مع السوق الاشتراكية. حتى أنه دبج كتيبا دعا فيه إلى اعتماد السوق.

تجلت الانتهازية الصادقة بوضوح خاص عندما كان الأمر يتعلق باحترام المقامات الحزبية أي قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي، وخاصة غورباتشوف، وقضية وحدة الحزب. لذا، وقبيل التصويت على أسماء المرشحين لمنصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي في اجتماع مندوبي منظمة الحزب في محافظة لينينغراد راح امين الشؤون الأيديولوجية في المنظمة يوري بيلوف (هو الآن المنظر العقائدي للحزب الشيوعي الروسي بقيادة غينادي زوغانوف)، والمعروف بمعارضته لدكتاتورية البروليتاريا، يحرّض على التصويت لصالح غورباتشوف متذرعاً بالحجة التالية: "غورباتشوف، بطبيعة الحال، سيئ، لكنه ... هو رئيس الدولة، وهو وحده من شأنه حماية الحزب. يجب أن نصوت لصالحه"- وتنهد بشدة. وهكذا اختاروا ذاك الحامي وما زالوا يتنهدون حتى الآن. وهو أيضا دعا من صميم القلب إلى وحدة الحزب، ودعم غورباتشوف ضد يلتسين وضد منتقدي غورباتشوف من طرف اليسار.


أإصلاح أم إعادة بناء

ثمة مثال آخر كبير الأهمية على ضعف الإعداد النظري للجزء الأكبر من أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي وهو استخدام مصطلح "إعادة البناء" للإشارة إلى مسار استراتيجي للحزب. وإنه لمعروف موقف لينين في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر التاسع لسوفييتات عموم روسيا (نهاية 1921) حين تحدث عن شتى ضروب إعادة البناء ومعيدي البناء في ذلك الوقت فقال: "تنطرح بعد الانقلاب السياسي الكبير، مع ذلك، مهمة أخرى يجب فهمها: هذا الانقلاب يحتاج إلى هضم، إلى أن يوضع موضع التطبيق، ومن دون التحجج بأن النظام السوفياتي سيئ، وأنه ينبغي إعادة بنائه. لدينا عدد ضخم من مريدي إعادة بناء كل شيء على كل هوى، وإن إعادة البناء هذه توصل إلى كارثة لم أعرف كارثة أكبر منها في حياتي. أنا أعلم حق العلم أن عندنا نواقص في جهاز تنظيم الجماهير، ولئن كان أحدكم سيقول لي إن ثمة عشرة أنواع من أوجه القصور، فإني سأدله فورا على مائة نقيصة إضافية. ولكن المسألة ليست هي تحسينه بإعادة التنظيم السريع لهذا الجهاز، بل في أن من الضروري هضم هذه التحولات السياسية للحصول على مستوى ثقافي واقتصادي مختلف. هذا هو الشيء المطلوب. لا حاجة لإعادة البناء، بل على العكس من ذلك، تجب المساعدة على تصحيح العديد من العيوب الموجودة في النظام السوفياتي وكل نظام الإدارة لمساعدة عشرات الملايين من الناس. من الضروري أن تساعدنا كل جماهير الفلاحين على هضم أعظم إنجاز سياسي قمنا به. هنا ينبغي أن يكون المرء واقعياً وأن ندرك أن هذا الإنجاز تحقق، ولكنه لم يدخل بعد في صلب الاقتصاد، في لحمه ودمه، في الحياة اليومية وفي ظروف عيش الجماهير. هنا عمل عقود بأكملها، ومن الضروري أن تنفق جهدا كبيرا لأجله. لا يمكن أن نبقي على الوتيرة والسرعة والظروف التي كنا عليها خلال عملنا العسكري".

بعد مثل هذه التصريحات للينين من الصعب القول كيف كان يمكن أن توصف السياسات الاستراتيجية للحزب في مرحلة ما من نشاطه بـ"البيريسترويكا" أي "إعادة البناء"؟ يبقى أن نفترض هنا إما أمية نظرية مطبقة لدى أغلبية القيادة الصادقة، واما، وهو ما نحن أكثر ميلا إليه، وجود سوء نية لدى مناهضين للشيوعية متطورين ذهنيا وفكريا من مثل الكسندر ياكوفليف كبير المنظرين العقائديين في عهد غورباتشوف. فـ"إعادة البناء" يمكن أن تفسر على أنها تغيير النظام برمته. وعلى الأرجح، كان كل من هذا وذاك في ظل تدني المستوى النظري الشنيع لأعضاء الحزب الذين اعتادوا على أن يثقوا كل الثقة بالقادة والزعماء والمقامات. (كان من بين أعضاء الحزب، وأنا أعلم هذا من تجربتي الشخصية، عدد غير قليل من الذين لم يقرأوا حتى برنامج الحزب الشيوعي السوفياتي). لقد دب الحماس في الناس خلال عملية إعادة البناء، ولكن من دون فكرة واضحة عما يجب القيام به.


مقاومة الغورباتشوفية

كثيرا ما كنت أسمع من الرفاق الأجانب، بل عندنا في روسيا أيضا، أن المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، بل ايضا الحزب نفسه بوجه عام، قد سلّم كل مواقعه دون قتال، وكأن الكل سار في عقب غورباتشوف وصوت صاغراً لصالح الانتقال إلى السوق، ولصالح الاشتراكية الديمقراطية ذات الوجه الإنساني، ولصالح إعادة البناء وهلم جرا. إلا أن هذا ليس صحيحا. فمقاومة غورباتشوف وسياساته في الحزب الشيوعي السوفياتي كانت وكانت مقاومة منظمة، وإن لم يكن هذا منذ الأيام الأولى لعهده، فمنذ العام 1987 بالتأكيد. أولا، تشكلت بدعم من لجنة الحزب الإقليمية في لينينغراد جمعية الشيوعية العلمية التي ضمت في الأساس علماء متخصصين في العلوم الاجتماعية ثم نوادي سياسية للعمال تحت اسم "من أجل اللينينية". ومن ثم توحدت هذه المنظمات وتوسعت رقعتها، فتشكلت منظمتا لينينغراد وموسكو، وبدعم من اتحاد نقابات عموم روسيا، تشكلت آنذاك "الجبهة العمالية المتحدة"، وأخيرا، في عام 1989، تأسست "حركة المبادرة الشيوعية" في الحزب الشيوعي السوفياتي، التي باتت مؤتمرات المبادرة هي الشكل الأكثر شهرة لعملها، وقد عقد الأول منها في أبريل 1990 في لينينغراد وتمثل فيه أكثر من مليون رفيق من شيوعيي المنظمات الروسية.

وكانت القضية الرئيسية في مقاومة بيريسترويكا غورباتشوف هي النضال ضد نقل الاقتصاد إلى علاقات السوق. ففي التقرير السياسي للجنة المركزية، حاول ميخائيل غورباتشوف تقديم هذه للمسألة المحلولة بالنسبة إليه انطلاقا من النظرية الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، لم يكن الأمين العام للحزب ليعثر على أي شيء أفضل من الاعتماد على القانون الأساسي للرأسمالية، قانون القيمة إذ قال: "أولا وقبل كل شيء، عن السوق إياها. لقد اجتازت آلاف السنين من التطور - من التبادل الطبيعي للبضائع إلى آلية على درجة عالية من التنظيم. يجب علينا التخلي عن نهج المقاربات الإرادية، وتعلم ضبط وتنظيم العمليات الاقتصادية استنادا إلى قانون القيمة، وبالتالي خلق حوافز جديدة قوية للنشاط الاقتصادي والتجاري ....... ". وبعد ذلك انتقل مدركاً ضعف وزيف موقفه، ومؤكدا للأشخاص الصادقين، ولكن من ذوي الخبرة الضعيفة جدا في مسائل الاقتصاد السياسي قوله: "ولكننا نعارض بقوة وحزم أي تكون لطبقات على أساس دخل غير مكتسب أو امتيازات غير قانونية". ثم قدم غورباتشوف درر معارفه التي لا يمكن لمعظم الناس تقديرها إلا من علياء معارفنا اليوم فقال: "إن السوق بمعناها الحديث تنفي احتكارها من قبل شكل واحد من أشكال الملكية، وتتطلب تنوع هذه الأشكال والمساواة الاقتصادية والسياسية. فالشركات التي تملكها الدولة والملكيات الجماعية كاالتعاونيات أو شركات المساهَمة وملكية المزارع أو الحرفي أو ملكية العائلة المكتسبة من عمل وكدح- كل هذا يعزز الأسس الديمقراطية للمجتمع، بما أن العمال يصبحون هم السادة الحقيقيين لوسائل الإنتاج ولنتائج العمل، وذوي مصلحة شخصية في العمل الفعال والنتائج النهائية الباهرة". وعلى الفور انتقل غورباتشوف من الحاجة إلى إصلاحات السوق الاقتصادية لتسويق ولتبرير الإصلاح السياسي الجاري ومفهوم النظام البرلماني، الذي لا يزال الرفاق في الحزب الشيوعي الروسي والحزب الشيوعي الأوكراني يبشرون به بوصفه الديمقراطية وسلطة الشعب بعينها: "نحن قلنا بصوت عال بضرورة تحقيق المفهوم اللينيني لسلطة الشعب". وفي هذا الوقت يؤكد غورباتشوف تقاربه الفكري مع خروشوف واستمرار البيريسترويكا على نهج المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي فيقول: "أولا وقبل كل شيء، يجب أن أكرر ما قلته مرات عديدة: مفهوم إعادة البناء ليس هو بمثابة بثق من نور حلّ فجأة على مجموعة من الناس. فبدءا من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي والحزب والمجتمع يبحثان وينقبان". وقد أفضت عمليات البحث والتنقيب هذه بطبيعة الحال إلى رفض غورباتشوف المعروف لطابع الحزب البروليتاري وتوصلِه إلى سلطة الشعب على طريقة خروتشوف تلك: "نحن حزب إعادة البناء، وبالتالي، يبرز الحزب الشيوعي السوفياتي اليوم كمنظمة سياسية وطنية للشعب ككل» (المؤتمر الثامن والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي، المجلد 1).

بالطبع، كل هذه التفلسفات النظرية تخفي قُطَباً مخاطة بخيط أبيض واضح المعالم. فمنذ زمن البرنامج الأول لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي (في عهد لينين) يعرف أي شيوعي متنور إلى هذا الحد أو ذاك أن الإنتاج السلعي ينتج يوميا وفي كل ساعة العلاقات الرأسمالية. ولذلك، فإن شعارات من مثل "ليكن لنا اقتصاد السوق!!" وحججاً من قبيل "لا بديل عن السوق!"، و"ما من سبيل غير هذا السبيل!" جابهت في الحزب وفي أوساط العلماء والاقتصاديين مقاومة عنيفة وجدية للغاية. فعلماء معارضون للسوق أمثال هيسين N. Hessin و إيليِنكوف Ilyenkov وكوسولابوف R. Kosolapov ويريومين A. Eremin ويلمييف V. Elmeev وكاشنكو Kashchenko ومويسيينكو N. Moiseenko والكسندر بوكريتان Pokrytan وبوبوف وفلاديمير دولغوف وسرغييف وعدد آخر دافعوا عن مواقف مختلفة جذريا عن هذا الموقف. فقد كتب واحد من خيرة الفلاسفة السوفييت هو إيلينكوف يقول: "... لقد اساء إلى نظريتنا وتطبيقنا أيما إساءة أولئك الاقتصاديون الذين أفسدوا عمدا نظرية القيمة عند ماركس ... إنهم أولئك الاقتصاديون الذين بذلوا الكثير من الجهد من أجل إثبات ما لا يمكن إثباته ألا وهو .. أن "الإنتاج الاشتراكي هو ككل إنتاج سلعي" - ثم واصل قائلاً: "نعم، تستمر الشيوعية في "المرحلة الاشتراكية" من تطورها في الإبقاء على العلاقات النقدية- السلعية (أو قل "تجرجر وراءها" هذه العلاقات). وعلاوة على ذلك تظهر هنا أشكال العلاقات بين البشر الخاصة بها والتي هي في جوهرها (أي في جوهر الشيوعية - المترجم) في قناع علاقات نقدية - سلعية وحتى تجد فيها التعبير الرسمي عنها، المشرّع قانونياً.

تلك الملامح الحقيقية لاقتصادنا، التي علينا بالذات أن نخلع القناع عنها عن طريق تحليلها تظهر على السطح في شكل قيمة، في شكلٍ غير شكلها الأصلي الملائم لجوهرها. هذا الشكل ليس فقط لا يجمعه جامع بتنظيم العمل الاجتماعي تنظيماً شيوعياً، وإنما هو المنافس له والمُتناحِر معه".

ويقول المشاركون في النقاشات الاقتصادية إن الغورباتشوفيين أنصار السوق لم يقنعوا بنظريتهم أحداً في أي مناقشة نظرية مفتوحة، في أي جدال اقتصادي جدي أمام الجمهور. ولذلك، اضطر مسوقو أفكار السوق للعمل سرا من خلف الستار، وذلك باستخدام ميزة هامة جدا تمنحهم الأفضلية على غيرهم ألا وهي، كما يقولون اليوم، الموارد الإدارية والإعلامية (أي السلطات الأربع).

وبتقريرهم المسألة خفية على أعلى مستويات الحزب والدولة، بما في ذلك الوقوع تحت تأثير ممثلي الإمبريالية الدولية (كان غورباتشوف التقى بالفعل مع تاتشر وريغان، اللذين استقبلاه بحماس وتفاؤل كبيرين)، وضع الغورباتشوفيون الحزب والشعب فعلا أمام واقع الخيار الذي قرروه هم وعرضوا الأمر كما لو أن الطريق إلى السوق محددة بوضوح وأن هذا الخيار يؤكد صحته العلم والخبرة العالمية وحتى النظرية الماركسية اللينينية. ولتأكيد النقطة الأخيرة اخترعوا وأدخلوا في سوق التداول ما يسمى بـ "منهجية السياسة الاقتصادية الجديدة - NEP" التي اعتمدها لينين بعد الثورة في عشرينيات القرن العشرين. ومن لا يفهم نهج الانتقال إلى السوق هذا أو لا يقبله كانت تلصَق به تسمية العنصر الرجعي والمتحجر والمتخلف فكرياً.

نحن نلحظ أن خطب هذه العناصر المتخلفة حسب زعمهم في المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي والمؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية لم تتناول وحسب بالنقد البناء المبدئي ارتداد غورباتشوف وفريقه، بل تنبأت إلى حد بعيد بالعواقب التي ها هي قد أوصلت البلاد والشعب إليها عملية الانتقال إلى السوق والتي عنت في الواقع استرجاع الراسمالية إلى ربوع الاتحاد السوفياتي.

فممثل حركة المبادرة الشيوعية البروفسور سرغييف مثلاً أظهر في تقريره مرارا وتكرارا بمنطق علم الاقتصاد السياسي السديد أن ما يجري هو عودة إلى الرأسمالية فقال: "بالإضافة إلى سوق السلع، هناك أيضا سوقان. هناك سوق رأس المال الخاص ممثلا بالبورصات، وهناك سوق العمل. هاتان السوقان مجتمعتين تنتجان حتما السوق الرأسمالية الكلاسيكية، حتى ولو تمت تسميتها بالسوق المضبوطة والمسيطر عليها. فهذا أمر لا مناص منه....

وبتكليف من وفود حركة المبادرة الشيوعية شدد سرغييف على ضرورة النظر في مسار شيوعي بديل للتنمية يتوافق مع اتجاه التقدم العلمي والتكنولوجي.

ولا يزال الرئيسي بين هذه القضايا وفي صيغ وإصدارات مختلفة مستمراً اليوم أيضا في المواقف النظرية وفي السياسة العملية للأحزاب التي لا تفتأ تطلق على نفسها صفة الأحزاب الشيوعية.

حزب من هذا الحزب؟

السؤال المحوري الأكثر أهمية هو: المصالح الطبقية لمن ينبغي أن يعبر عنها الحزب الشيوعي وكيف ينبغي أن يعبر عنها في الممارسة ؟ هذا السؤال قاربه بطريقة أو بأخرى كثير من أعضاء الوفود المشاركة في المؤتمر، بما في ذلك أولئك الذين لم يكونوا يفهمون كثيراً تعقيدات الطبيعة السياسية والاقتصادية للسوق.

السكرتير الاول للحزب الشيوعي في قرغيزستان رئيس المجلس الأعلى للجمهورية، الرفيق ماسالييف مثلا ذكر الحاضرين بكلمات لينين منذ ما قبل نحو 70 عاما: "يجب أن نتحلى بالشجاعة - كتب لينين – لنتفرّس في الحقيقة المرة. الحزب مريض. الحزب أَخَذَهُ رَعَشُ الحُمَّى. والسؤال هو ما إذا كان المرض قد نال فقط من "القيادة العليا المحمومة"، والتي يمكن أن تكون في موسكو فقط أو أن المرض استشرى في الجسم كله ... وماذا نفعل للوصول إلى أسرع وأضمن علاج؟ من الضروري أن يبدأ جميع أعضاء الحزب وبرباطة جأش كاملة وعناية كبيرة دراسة 1) طبيعة الاختلافات، و2) تطورات الصراع الحزبي". إن حزبنا هو كائن حي معقد. ويتطلب عناية واهتماماً مستمرين. ولقد افتُقِدا كلاهما في السنوات الأخيرة. الحزب الشيوعي يفقد مصداقيته. وفي العديد من المنظمات، بدأ ترددٌ وخروجٌ على المواقف المبدئية. بدأ الحزب يفقد الدعم بين أبناء الطبقة العاملة التي باتت تترك صفوفه. كيف العمل لوقف هذا الاتجاه السلبي؟ الطريقة واحدة وحيدة وهي تحويل اهتمامه وجهة العمال والفلاحين".

وتحدث آخر قائلا إن "الحزب لا يفترض به أن يضم تحت لوائه كل الناس إطلاقا".

ثم تحدث فيكتور تولكين عن أن سوء الفهم في شأن دور الحزب الشيوعي كان مفترضا أن يلقى توضيحاً من قبل الشيوعيين الحاليين. بيد أنهم يوضحون ذلك بطرائق مختلفة. فالرفاق اليوم في الحزب الشيوعي الروسي (حزب زوغانوف) متأكدون من أن الحزب لم يمسك في الوقت المناسب بحلقة التغيرات الهيكلية الحاصلة في المجتمع، تلك التي عكست النوعية الجديدة لوسائل الإنتاج. كمثل قولهم بظهور طبقة جديدة من المثقفين التقدميين في مجالي العلم والتكنولوجيا الذين شكلوا طبقة التكنوقراط مع تطور التقدم العلمي والتكنولوجي وتقدم هذه الطبقة إلى الواجهة. وهم يزعمون أن الحزب الشيوعي السوفياتي لم يدرك في الوقت المناسب كنه هذه التغيرات كما لم يستطع التعبير عن مصالح هذه الفئة أو الشريحة الاجتماعية المتقدمة نحو مواقع طبقة مكتملة المواصفات، بل راح يركز على الطبقة العاملة التقليدية، وهنا كان مكمن فشله.

وإضاف: لنا رأي مختلف تماما في هذه المسألة. فمن وجهة نظرنا كماركسيين ثوريين ملتزمين كنا نمثل حركة المبادرة الشيوعية في المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ونمثل اليوم حزب العمال الشيوعي الروسي، لم يعد الحزب آنذاك يمثل مصالح الطبقة العاملة، وخاصة الطبقة العاملة الكلاسيكية، التقليدية، وبالتالي، جميع فئات الكادحين الأخرى. وهذا هو السبب في أن عمال المناجم السوفيتية أقدموا على الإضراب حين بات من السهل استسلامهم للدعوات والنداءات المناهضة للسوفيات، وراحوا يطالبون بإلغاء المادة السادسة من الدستور التي تقول بأن الحزب هو الحاكم والقائد، وهذا هو السبب في أن سكرتير اللجنة المركزية رازوموفسكي قال في تقريره إلى المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي: "هناك عدد متزايد من الأعضاء يغادرون الحزب الشيوعي السوفياتي. في العام الماضي كان عدد هؤلاء 136,600 عضو، ومن المرجح أن يكون هذا العام أعلى بكثير (في الربع الأول – 82,000)، وبينهم الكثير من الأشخاص الذين لم يعودوا مرتاحين لبقائهم في الحزب، ولكن هناك أيضا من لم يستطع إدراك حيثيات الوضع". وأفاد سكرتيرو الحزب في كبرى المؤسسات يتملكهم الألم بانسحاب آلاف العمال من الحزب في المقام الأول، وهذا هو، في نهاية المطاف، السبب في أن الطبقة العاملة ككل، بعد أغسطس 1991، أي عندما حظر يلتسين نشاط الحزب الشيوعي السوفياتي، بقوا غير مبالين بهذا الحدث تقريبا. فهذا الحزب لم يعد حزبهم. وإذا كان علي أن أرد بإيجاز شديد على سؤال: "لماذا هزم الحزب الشيوعي السوفياتي وهزمت معه الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي"، أقول إن السبب الرئيسي هو أن الحزب الشيوعي السوفياتي كفّ عن أن يكون حزب الطبقة العاملة وأن يعبر عن تطلعاتها. لقد كان فيه شيوعيون ولكنهم كانوا أقلية. الباقون كانوا من شتى المشارب الأيديولوجية ذات المنحى البرجوازي الصغير.

نحو السوق يعني نحو الرأسمالية تحت الراية الحمراء

أقر المؤتمر الثامن والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي بقرار خاص نهج الانتقال إلى اقتصاد السوق. وقد صرف المؤتمر من الوقت في النظر في القرار إياه والتصويت عليه ما مجموعه 20 دقيقة، ومن دون أي نقاشات محددة في شأن الوثيقة. هذا على الرغم من أنه كان يتعلق بالقضية الرئيسية في عمل المؤتمر. وليس عبثا أن أجاب فاديم باكاتين عام 1995 في مقابلة حول ذكرى مرور عشر سنوات على بداية البيريسترويكا، وهو الذي كان في عهد غورباتشوف رئيساً للكا.جي.بي.، عن سؤال: "ما هو أكبر فشل تكبدتماه أنت وغورباتشوف؟" بالقول: "لم نتمكن من إبدال برنامج الحزب الشيوعي السوفياتي تدريجياً ببرنامج اشتراكي ديمقراطي خالص". وهذا يعني أن جزءا من الكا.جي.بي. كان يعمل في هذا الاتجاه. والنجاحات الشخصية لبعض كوادر هذه المؤسسة القابعة اليوم تحت جناح المقدّم في الكا.جي.بي. سابقا ورئيس روسيا حاليا فلاديمير بوتين تؤكد هذا الرأي.

اشتراكية السوق

اليوم، بات حلم غورباتشوف هذا أي الانتقال إلى الرأسمالية تحت الراية الحمراء مدرجاً - إلى حد بعيد - في برنامج الحزب الشيوعي الروسي وبرامج عدد من الأحزاب التي تسمي نفسها أحزاباً شيوعية في بلدان أخرى. ومما له دلالاته أن أحدا من المحيطين اليوم بزوغانوف والقيادة العليا للحزب الشيوعي الروسي واتحاد الأحزاب الشيوعية- الحزب الشيوعي السوفياتي لم يعارض في المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي بطريقة أو بأخرى غورباتشوف ونهجه نهج الانتقال إلى السوق. وكل من عارضه كالجنرال ماكاشوف وكذلك شينين وليغاتشوف وغيرهم بات خارج الحزب الشيوعي الروسي الان... ليحل محلهم في قيادته وفي أجهزة توجيه عمله ممثلو فاعليات تجارية جديدة كالبنوك والبورصات والشركات صغيرها وكبيرها. أتذكر هنا ما قاله أحد قادة الحزب آنذاك وهو ينظر إلى المعتصمين من "الجبهة الشعبية" المطالبين بإبعاد الحزب الشيوعي السوفياتي عن السلطة: "إنه لأمر محزن أن أقول: "شعبنا يريد الرأسمالية، وقد حصل عليها. غير أن الرأسماليين هم نحن".

إن قادة الحزب الشيوعي الروسي يعتنقون اليوم نظرية ما يسمى بـ"اشتراكية السوق"، وهم يشيرون إشارة خرقاء، عن غير معرفة ومن غير أصول، الى تجربة سياسة لينين الاقتصادية الجديدة NEP، ويوردون كمثال تجربة الصين الاقتصادية اليوم تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني. وهم في الشق السياسي من برنامجهم ينسون تماما أن سياسة لينين الاقتصادية الجديدة تم تنفيذها في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا، بينما شيوعيو السوق الحاليون، كقاعدة عامة، يعتبرون أن سلطة الشعب هي النظام البرلماني العادي، داعين فقط إلى انتخابات "عادلة" ومناشدين من هم في السلطة أن يستلهموا ضمائرهم، وواعدين بضبط الدولة وتنظيمها لاقتصادِ رعاية اجتماعية.

إن الغورباتشوفية كنهج مضاد للعمال اليوم تحت تسمية شيوعية تواصل عملها في روسيا وفي الحركة الشيوعية الدولية. وإذا كان الإقطاع السياسي (النومنكلاتورا) في الحزب الشيوعي السوفياتي خلال عهد غورباتشوف قد عمد إلى استغلال موضوع خدمة الطبقة العاملة كحزب حاكم ولكنه كان يقوم بشيء يدعم بطريقة أو بأخرى القول بالفعل، فإن حزب غورباتشوف الموجود اليوم في المعارضة والذي يحتل مقاعد في البرلمان يستغل استغلالاً موضوع حماية مصالح الطبقة العاملة بالنيابة عن العمال. فالسياسة التي ينهجها اليوم في النظرية والتطبيق ليست سياسة عمالية بقدر ما هي سياسة برجوازية صغيرة. وكما ميز ماركس وإنجلز تمييزا نقدياً في حينه في البيان الشيوعي بين أنواع مختلفة من الاشتراكية غيرِ علميةٍ (اشتراكية طوباوية، مسيحية، برجوازية صغيرة، برجوازية، وما إلى ذلك)، ها نحن الآن بحاجة إلى تحليل ووصف الملامح الرئيسية لاشتراكية السوق (الغورباتشوفية)، وهي الشكل الحديث لاشتراكية البرجوازية الصغيرة. هذه الملامح هي من وجهة نظرنا:

- إعلان النظام البرلماني البرجوازي مثابة سلطة الشعب أي الديمقراطية والتركيز على مهام النضال من أجل ما يسمى بالانتخابات البرلمانية "النزيهة" والفوز فيها.

- الإيمان بنموذج اشتراكية السوق متمثلاً في اقتصاد قائم على تعددية مزعومة، بينما هو يقوم، في الواقع، على الملكية الخاصة الرأسمالية وفي ظل السلطة السياسية للبرجوازية. وتشكل المثال والنموذج لغالبية الأحزاب الملتزمة بهذا المفهوم سياسة الحزب الشيوعى الصينى. غير أن سياسة بناء الاشتراكية ذات الملكية الخاصة والقطاع الخاص الرأسمالي ليست هي أبداً الاشتراكيةَ بالنسبة إلى عمال كازاخستان مثلا، وخاصة عمال النفط الذين أضربوا هناك في منطقة مانجيستاو في عام 2011، فاستخدمت الحكومة الرجعية وأصحاب الحقول الصينيون لقمعهم أجهزة الشرطة والمحاكم والسجون، وراحت تقتل العمال وأسرهم،. ولعل الأمر هو ذاته بالنسبة إلى أبناء البروليتاريا الصينيين الذين يعملون في روسيا في المشاريع الرأسمالية الروسية (والصينية أيضا التي غالبا ما تكون سرية) في ظروف قاسية ولقاء أجور زهيدة. ونحن نحذر كرفاق الشيوعيين الصينيين من تكرار مسار غورباتشوف بالانتقال إلى اشتراكية ذات خصائص صينية هي الرأسمالية عينها تحت الراية الحمراء.

هكذا يمكننا القول إن الغورباتشوفية لا تزال حية ترزق اليوم أيضا في الحركة الشيوعية، وسوف يكون من المستحيل من دون تجاوزها التحدث عن عودة إلى المسار الاشتراكي، وعن انتصار العمال، سواء في روسيا أو في غيرها من البلدان.


الخاتمة

وفي الختام لا بد من طرح السؤال الآتي:
لماذا حدث ما حدث؟ لماذا كانت غالبية مندوبي المؤتمر مع الرأسمالية أو كانوا أعداء سافرين للاشتراكية؟ وكيف حصل أن سلّم الشيوعيون المواقع والرايات من دون قتال؟
لقد كان هناك، بطبيعة الحال، حسب رأي الأمين الأول لحزب العمال الشيوعي الروسي، مناهضون للشيوعية صريحون مثل جماعة "المنبر الديمقراطي" وألكسندر ياكوفليف، وشستاكوفسكي وسوبتشاك، ويلتسين ولاتسيس وبونيتش وغيرهم، وغيرهم، ولكنهم لم يكونوا كلهم بالتأكيد ضد الشيوعية والشيوعيين. لقد كانوا انتهازيين صادقين، أي أناساً غير مستعدين لأن يخونوا الحزب، ولكن لم يكن لديهم المهتديات الأيديولوجية والنظرية الصلبة. تعودوا الوثوق بكلام الإدارة والقيادة والتكيف مع وجهة نظرها ودعم وجهة النظر السائدة.
أما ما الذي على الشيوعيين اليوم أن يفعلوه فيبدأ من مؤلف لينين "ما العمل؟"، أي من استعادة الحزب الشيوعي مضمونه كحزب للطبقة العاملة، من تنظيم الحركة العمالية والصراع الطبقي. ولقد قال لي الرفاق الألمان ذات مرة إن الناس في ألمانيا كتبت على أحد النصب الأثرية لماركس وإنجلز: "لا تقلقا، ففي المرة القادمة ستأتي الأمور أفضل"!
والحق يقال، ليس هناك أمام الإنسانية سبيل آخر. ولذلك، فإننا سنواصل كفاحنا.

http://rkrp-rpk.ru/content/view/13115/1/
http://rkrp-rpk.ru/content/view/13128/82/



#فيكتور_تولكين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأي في بوتين


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فيكتور تولكين - على نهج غورباتشوف - أو ربع قرن من استخلاص الدروس.. والعديد لا يزالون في نفس الصف