أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - ميخائيل عبدالله - أنا والذكرى المئوية لمذابح -سيفو-















المزيد.....

أنا والذكرى المئوية لمذابح -سيفو-


ميخائيل عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4874 - 2015 / 7 / 22 - 16:27
المحور: حقوق الانسان
    


ميخائيل عبدالله
أنا والذكرى المئوية لمذابح "سيفو"

مائة عام مرت وشعبي يَدفن في قلبه آلاماً وكلمات، حكايات ومأساة. يحفظ في ذاكرته صور قتْل وهدْم واغتصاب، حرْق واختطاف وحملات تهجير، وَصَفها الأجداد والأمهات بكل تفاصيلها بدموع وحسرات وآهات، تسجيلها يملأ أشرطة وأكثر من كتاب. ولعل أفضل ما يعكس هذه الحالة الدراماتية هو الكنّاش الفريد في عنوانه والنادر في محتواه: "سَلَبوا مني حتى إسمي" للكاتبة القديرة المتواضعة جدا ثِيَّه هَلُّو. نعم، أمُّ هذه الكاتبة، مثل الآلاف غيرها من الناجين، سلكتْ طرقاً وعرة إلى أمكنة مجهولة لا تعرف إلى أين ستؤدي بها، حتى حطتْ عصى ترحالها في أمريكا الشمالية. هناك وُلِدتْ ثِيَّه وترعرعتْ وهي تسمع قصص رعبٍ وهمجية لا نهاية لها، صَعُبَ عليها استيعاب معاييرها اللاإنسانية. أقسمتْ ثيّه لوالدتها بتغطية تكاليف رحلتهما معاً إلى تلك الأمكنة في طور عبدين وضواحيه من أول راتب لها. وفَتْ بوعدها وأخلصتْ. فتاة حنون لأم حنون لقضية عادلة كانت مهددة بالنسيان. التقيتُ بها في مؤتمر برلين (24-29/6/2015) وبلّغتها رغبة العاملين في إحدى دور النشر في بولونيا بترجمة كتابها ونشره، مثلما فعلوا مع كتاب الملفان عبدالمسيح قره باشي في سنة 2015، بعد أن زوّد وأغني بحوالي 450 حاشية وتعليق وتوضيح، مختارين له عنوانا، هو الآخر فريد: "سيفو – الإبادة التي الحديث عنها ممنوع" بترجمة من السريانية وتحقيق كاتب هذه السطور - بطاقة وفاء وإكليل ورد في واد يحوي رماد جثث محروقة، أو على حافة بثر على شفتيه قُطعتْ رؤوس، أو "خربة" تخفي قصة حضارة دمرتها معاول الظلاميين. وفي مؤتمر برلين هذا عرَض علي أخي حبيب أفرام (كان هذا لقاؤنا الثاني بعد ثمان سنوات وأول حديث بيننا) أن أسجل ما عندي بحجم صفحتين إلى ثلاث عن "السيفو"، ثم أكّد عرْضه مذكّراً في رسالة إلكترونية بعد عودته إلى بيروت. أشكره على هذه المبادرة وعلى كتابه القيم بأفكاره العميقة وحبه العارم لكل ما هو شرقي الذي أهداني: "مسيحيو الشرق: خيار البقاء وإرادة الرجاء". ما أصعب أن تحصر في صفحتين أو ثلاث مأساة فظيعة تكاد تقتلع شعبا أصيلا وعريقا من جذوره وتقضي على مصيره.
هل تحققت أحلام والدة ثيّه، وهي واحدة من قوافل اليتامى الذين – من فضلكم، تصوروا! – تركوا خلفهم أشلاء أهل وأقارب غادروهم دون وداع، حطام أديرة وكنائس وبيوت، رماد مخطوطات وكتب. حُرِموا من كل شيء؟ هؤلاء كلهم كانوا يحلمون غرائزيا، وفي كل الأحوال (وعددهم تقلص إلى الأكثر من النصف) في تسابق مع الزمن، بغدٍ يُتاح لهم ممارسة دورهم الحضاري فيما بقيت لهم من حياة، مثل أجدادهم خلال آلاف السنين، واضعين هول ما عانوه جانباً، بغدٍ يزرعون فيه المحبة والتسامح وبذور التمدن التي، على الرغم من عاديات الزمن، أينعت واثمرت في أكثر من مكان، وأخّرت تبلور فاعلي الشر ومجسّدي أقصى درجات التوحّش لمدة أطول من نصف قرن، ومنها على سبيل المثال الجزيرة السورية، حيث تحقق تطورها وازدهارها منذ أربعينيات حتى سبعينيات القرن الماضي بفضل المدارس والنوادي والنشاطات الاجتماعية ومؤسسة أصفر ونجار الزراعية العملاقة – كنت شاهداً على إنجازاتها وأنا في مقتبل عمري. تركتْ هذه المؤسسة بصمات لها في التاريخ الحديث لسوريا الحديثة التي كنا نعرفها، ستبقى هي الأخرى حية في ذاكرة الأجيال رغم محاولات طمسها، كما هو الحال في مذابح "السيفو" التي تؤكدها عشرات الوثائق والفرمانات والكتب بمختلف اللغات، ومئات الصُّور، وما زالت تنكرها الأغلبية الساحقة من أحفاد الذين خططوا لها ونفذوها بحق شعب مسالم، سليل بناة ورواد ومكتشفين. ولعلنا نحن المشتتون، أحفاد المشتتين، خير برهان. يبدو أن المقولة الشرقية الشائعة: "قلْ الحق ولو على نفسك" لا تتوافق مع إيديولوجية الذين أنجزوا المجازر. أليس السيف ركنها وبالسيف انتشرت! لم أنسَ الدور الخلاق لعائلة أصفر ونجار التي نجت من "السيفو". ولوصف الثورة التي أحدثتها في مجال الزراعة بالوقائع والأرقام كرستُ أكثر من عشر صفحات في كتاب أكاديمي صدر باللغة البولونية سنة 2001 تحت عنوان: "تقاليد التغذية عند الآشوريين قديما وحديثا".
رهط آخر من هؤلاء الصغار المفجوعين، العراة، الحفاة، تربى في المياتم، القريبة منها والبعيدة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومنهم نبغَ رعيلٌ كفؤ خدم في حقل اللغة والأدب والتاريخ وترك لنا بعضهم ذخيرة غنية نفتخر بها، سطروها لا بالحبر، بل بدمهم ودموعهم (مقتبسة من كتابات حبيب أفرام). وقد اهتم أحد المشاركين الشبان بمؤتمر برلين بمأثرة أحد هؤلاء الأدباء العظام، وهو غطاس مقدسي ألياس، شارحا وناقدا، بينما أسماء آخرين من أقرانه كانت تتردد على لسان هذا أو ذاك. للطرُق ذاكرتُها، إلا أن الحياة بدون مكان تكاد تكون ركضا فارغا. إنها انطباعاتي وخلاصة تجاربي خلال حوالي نصف قرن من الحياة بعيدا عن ترابي. مَنْ لا مكان له، لا شيء له!
لنعدْ إلى الكاتبة ثِيَّه هَلُّو. ذكَّرني اسمها العائلي (البرنامج المكثف للمؤتمر لم يسمح أن أستفسر عن مصدره)، ذكَّرَني بالإسم العائلي لجدي، عيسى، والد والدتي. فهو الآخر كانوا يدعونه هَلُّو، علما أن اسما كهذا لم يحمله لا والده ولا أيٌّ من أجداده. عندما سألتُ كبار السن عن سرّ هذا الإسم، قيل لي: "تواجد جدي عيسى، وهو بعمر ست سنوات، بعد أن فقد كل أفراد عائلته، تواجد في إحدى القوافل المساقة للموت من طور عبدين إلى الصحراء السورية، شأنه شأن عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ من الأرمن وبينهم سريان. مرت القافلة على مقربة من قرية يسكنها العرب البدو، فعطف عليه أحدهم "واشتراه" (ربما مع غيره) من الحراس الأتراك، ثم ضمَّه إلى عائلته وعامله كما يعامل أطفاله. استمر هذا حتى بلغت مسامع هذا الرجل الطيّب أن هناك تجمعات سريانية تشكلت في المنطقة من الذين بقوا على قيد الحياة. فقرر هذا الشهم أن يأخذ الطفل معه ويسلمه لهم قائلاً «هذا الشاب منكم وعلى دينكم، أنقذته من إحدى القوافل وحميته، وها أنذا أعيده إليكم سالما معافا بعد خمس سنوات»". كان اسم هذا البدوي هَلُّو، وعِرفاناً بجميله لم يرضَ جدي عيسى (وربما أيضا جد ثِيَّه وغيره ممن أنقذهم) إلا أن يُكَنَّى بهذا الاسم حتى وفاته في الحي الغربي بمدينة القامشلي سنة 1983. وكنا آنذاك نسمي هذا الحيّ: "حارة موسى أسّو"، وفيه رأى النور بطريركنا المبجَّل مار اغناطيوس أفرام الثاني كريم. كانت القامشلي آخر محطة ترحال جدي عيسى في الجزيرة السورية. أما أولاده الأربعة، فأكبرهم ملكي توفي في السويد سنة 2014، وإيليا الذي يليه سِنّاً يسكن في القامشلي صامدا، وثالثهم لحدو يقيم في هولندا، وأصغرهم كبرييل (مواليد 1948، قرية كركِه شامو وهي مسقط رأس شاعرنا المجنح نينوس آحو) يعيش في السويد. عائلة تشتتت مثل غيرها في أكثر من بلد! أنا على يقين بأن اللغة المشتركة لأحفادهم ستكون الإنكليزية وليس السريانية الأم، التي في بداية خمسينيات القرن الماضي لم نكن نتكلم إلا بها، ولم نكن نعرف سواها. وعلى الرغم من المحاولات الحميدة في "تنقية" لغتنا المحكية (الطورويو) من الشوائب مِنْ قبل العاملين في قنواتنا التلفزيوية ومثقفينا الملتزمين، إلا أنها بعد جيل واحد ستفتقر إلى مئات المفردات، سيما المتعلقة منها بالزراعة وتربية الحيوان والألعاب الشعبية ومعها الأمثال وأهازيج الأطفال، أما حكاياتنا الشعبية فستموت موتا بطيئا، حتى إن سُجِّلت ونُشرت. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى العديد من المؤتمرات التي تُعقد، مرَّةً هنا، ومرة هناك، في هذه الجامعة وفي تلك، لمناقشة مصير لغتنا السريانية المحكية في المهجر، بمشاركة المختصين وذوي الخبرة بعلم اللسانيات من الأجانب.
والجدير بالذكر أن حوالي نصف الناجين من المذابح في طور عبدين تبددوا في كل الاتجاهات، منهم مَن تواجد في الموصل وسهل نينوى، ومنهم مَن تجاوز الخط الحديدي جنوبا إلى الجزيرة السورية، منهم من قصد المدن السورية واللبنانية والفلسطينية وصولا إلى مصر والأردن، ومنهم مَن قطع البحار إلى أوروبا، سيما فرنسا، وإلى الأمريكتين. والملاحَظ في الجزيرة السورية أن المثقفين والحرفيين والتجار اختاروا في الغالب المدن والبلدات، بينما سكان القرى فقد تجمعوا وبنوا لهم بيوتا ترابية في قرى جديدة أو كائنة، وهناك مارسوا الزراعة. وكم أتمنى أن أصل يوما إلى حل لغز انتقال أغلبية العائلات من قرية إلى أخرى، ومنها عائلة جدي هَلُّو وجدي إيشوع، والد والدي (توفي في القامشلي سنة 1964)، حيث قبل استقرارهما النسبي في مدينة القامشلي (1956، 1958) عاشا في أربع أو خمس قرى لمدة تتراوح بين السنة والعشر سنوات. ألا تحتاج ظاهرة هذا التنقل إلى دراسة؟ أليس مؤسفاً أن نجد أحفاد بناة أولى المدن في تاريخ البشرية في حوض الرافدين (الألفية الرابعة قبل الميلاد: التاريخ يبدأ في سومر لصموئيل كرامر نوح) وهم يبحثون عن ملجأ، مرة في هذه القرية ومرة في تلك، وقراهم العامرة يوماً: بيوت، أديرة، كنائس، رفاة الأجداد، الواقعة في محيط نظرهم في طور عبدين، مع حدائقها المثمرة وكرومها وحقولها، قد استولى عليها بكل بساطة غزاة غاصبون لا يرحمون! إنه "السيفو"!
في صيف 1999 و 2003 زرت طور عبدين وزميل لي صحفي مع مجموعة من الطلبة الجامعيين، متجولا في قراه وربوعه، مسجلاً لقاءات مع سكانه ومصوراً بقايا أديرة وبيوت وكنائس ووجوه، تكللتْ بنشر فصول في كتب وريبورتاجات في بعض المجلات البولونية والمشاركة في برامج في الراديو والتلفزيون وتنظيم معرض صور متجول في المراكز الثقافية مع دراسات عن إرث سريان طور عبدين في العديد من المؤتمرات. هذا غيض من فيض. وإلى تاريخ اليوم لا أستطيع وصف الشعور الغريب الذي انتابني، ولا التوتر الذي تسلط علي، عندما اقتربت مِن قرية جدي إيشوع، واسمها قانق، وكانت فارغة، كأنني ذاهب للقاء حبيبة عمري طال فراقنا. دخلت أزقتها وبيوتها علني أجد أثرا يذكّرني بجدي. كل ما استطعت القيام به كان جمع حفنات تراب وضعته في كيس وجلبته معي إلى بولونيا، كي يستخدم في آخر يوم من حياتي، ثقةً مني أنني بهذا سأحافظ على الرابط الروحي مع أرض أجدادي حتى بعد مماتي.



#ميخائيل_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- اعتقال رجل في القنصلية الإيرانية في باريس بعد بلاغ عن وجود ق ...
- ميقاتي يدعو ماكرون لتبني إعلان مناطق آمنة في سوريا لتسهيل إع ...
- شركات الشحن العالمية تحث الأمم المتحدة على حماية السفن
- اعتقال رجل هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإيرانية بباريس
- طهران تدين الفيتو الأمريکي ضد عضوية فلسطين بالأمم المتحدة
- عشية اتفاق جديد مع إيطاليا.. السلطات التونسية تفكك مخيما للم ...
- الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس في الشرق الأوسط
- سويسرا تمتنع في تصويت لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم ا ...
- اعتقال أكثر من 100 متظاهر مؤيد للفلسطينيين من حرم جامعة كولو ...
- بمنتهى الوحشية.. فيديو يوثق استخدام كلب بوليسي لاعتقال شاب ب ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - ميخائيل عبدالله - أنا والذكرى المئوية لمذابح -سيفو-