عابد الأسود
الحوار المتمدن-العدد: 1345 - 2005 / 10 / 12 - 10:10
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
في ظلال العولمة الأمريكية بات عالمنا مختلفاً عما كان في أي عصر من العصور , أعني أن الولايات المتحدة بسيطرتها على العالم استطاعت بشكل ملفت و لا سابق له أن تطبع المجتمعات المعولمة (المهزومة) بطابعها المادي إلى درجة الغباء.
ربما بسبب سيطرتها بشكل أو بآخر على قطاعات الإعلام و اللذة , الأمر الذي لم يتسنى لأي من العولمات التي سبق لها أن سيطرت على العالم .
ربما بسبب الانتشار الواسع لأفلام الكرتون (توم و جيري) بدأ الطفل يتعلم منذ نعومة أظفاره كيف أن الحق دائماً مع جيري ,لا لشيء إلا لأنه أكثر ذكاءً وخبثاً من توم المسكين , ليسير الفيلم في قصة لا نهائية دون أن يشعر المشاهد للحظة بتعاطف مع الضحية , بل بإعجاب و إكبار للبطل الخبيث.
ربما بسبب أفلام الكوبوي التي تعلمك أن تتعاطف مع أفراد الكاوبوي (المستعمرين) ضد أصحاب الأرض الأصليين (المغلوبين) , لا لشيء إلا لأن أفراد الكاوبوي هم الأكثر عصرنةً وذكاءً وقوة.
بفعل كل هذه التأثيرات ينشأ أحدنا مشوشاً في عالم غريب كهذا, فالحق , الباطل , الخير و الشر ماهي إلا مصطلحات يتحكم في صياغتها الأقوى, في ظل غياب مفاهيم: الله, الوطن ,الواجب ... التي لا تتغير بتغير موازين القوى ( ولو من الناحية النظرية ).
إن عولمة كهذه تتطلب أساليب غير تقليدية لمناهضتها , تتطلب الانفتاح في وعلى حركات مناهضة العولمة التي ينبغي عليها العمل على خطين متوازيين :
الأول :
هو تجديد المنظومة القيمية العربية ( بمعنى إعادة تكوينها ) , ضمن عمل حيوي ومهم يستهدف إعادة صياغة الهوية العربية بعيداً عن التطرف والراديكالية.
هنا يجب أن يلعب العقل العربي ( لا العقل المعولم ) دوراً مهماً في تلك الصياغة , عبر حوارات جدية وجريئة تتناول كل أطياف الشعوب العربية.
من هنا يجب ألا تقتصر حركات مناهضة العولمة على اليساريين العرب, فهم (أي اليساريين) يقفون موقفاً أيديولوجياً من أمريكا , ما يفرض عليهم إيجاد البديل عن العولمة الأمريكية وفق مشاريع يسارية, الأمر الذي يقوقع يوماً بعد يوم حركات مناهضة العولمة ويجعلها لا تختلف كثيراً عن الأحزاب اليسارية , ما يجعل تلك الحركات بعيدة عن الحراك الشعبي العربي القائم , الذي بالمناسبة لا يحمل عناوين إيديولوجية ضيقة في حين عمله على أهداف شارعية حقيقية ( كفاية نموذجاً ).
ليس في هذا الحديث غبن للتيار اليساري أو محاولة لسحب البساط من تحته , وإنما رغبة في استيعاب التيارات الأخرى الفاعلة على الأرض .
على سبيل المثال .. لا أرى من مانع في أن ينخرط القوميون والاسلاميون في هذه الحركات , لا لشيء إلا لأنهم فعلاً مناهضين للعولمة الأمريكية , شرط أن يقبل هؤلاء بالآخر المناهض بدوره للعولمة أيضاً.
ولنا في حركات مناهضة العولمة في أوروبا وأمريكا نفسها أسوة , فتلك الحركات تحوي العديد من المشارب الفكرية , بل دعنا نقول بأن حركات مناهضة العولمة باتت اليوم أشبه بمدارس تتعلم بها النخب الفكرية غير التقليدية فنون السياسة إلى جانب بعضها.
في البلاد العربية يكتسب هذا الأمر أهمية أكبر بسبب سياسة غض البصر التي مازالت تقوم بهاالأنظمة إزاء هذه الحركات حتى الآن على الأقل من جهة , وكون العديد من تلك البلاد يتعرض لضغوطات أمريكية واضحة تؤثر على النظام وعلى الشعب من جهة أخرى.
الثاني :
الإقرار بأن العولمة الأمريكية باتت واقعاً يترسخ يوماً بعد يوم على الساحة الدولية , وهكذا فإن علينا أن نتوقف عن التغني بحقوقنا السليبة في المحافل الدولية , هذا الأسلوب (التغني) قد ينفع عند التأثير على مؤسسات المجتمع المدني , حقوق الإنسان , القوى الشعبية العالمية, لكن لا يمكن لأحد أن يقنعني بأنه ينفع بحال من الأحوال في مواجهة سياسات البيت الأبيض.
الأمر الذي يفسر الفشل الذريع الذي أصاب الدبلوماسية العربية التي مازالت تعتاد على شيء من التوازن الذي كنا نكتسبه بوجود قطب منافس .
في عالمنا إذا أردت أن تحصل على أي شيء ( لا فرق في كونه حقاً شرعياً لك أو كونه عكس ذلك ) فإن عليك أن تمتلك مرتكزات قوة تبدأ بإصلاح الوضع الداخلي وتنتهي بالعلاقات الخارجية مع تكتلات دولية مؤثرة (الاتحاد الاوروبي نموذجاً) .
وعلى الرغم من أهمية الجانب الأخلاقي في إقناع طبقات المجتمع المدني في أوروبا وأميركا , لكن الأمر في السياسة جد مختلف.
في السياسة عليك أن تكون قوياً إلى درجة معقولة حتى لا يتم تهديدك وابتزازك كما تفعل الولايات المتحدة معنا , فقبل أن تلوم القوات الأمريكية و الاسرائيلية على التصرفات الاجرامية التي تقوم بها بحق المدنيين في العراق و فلسطين , لم نفسك لكونك ضعيفاً إلى درجة سمحت للآخرين بأن يستهينو بك.
عليك بأن تتوجه للداخل وتحاول إصلاحه وتقويته , بدل أن تهب لنصرة العراق وفلسطين.
هذا بالضبط ما تعنيه كلمة (مناهضة) العولمة.
لا أزال أتفطر غيظاً كلما أتذكر تلك الابتسامة الماكرة التي علت وجه الرئيس الأمريكي بوش عندما أجاب على سؤال أحدهم حول أهمية معارضة الرأي العام العربي للحرب على العراق , وهو يقول بأن الرأي العام العربي مجرد أسطورة!!.
فإلى أن يتحول الرأي العام العربي إلى كونه حقيقة , علينا أن نتوقع بل ونستعد للمزيد من الاستهانة الدولية بنا, ولا يلومن أحد إلا نفسه.
#عابد_الأسود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟