سالم الخياط الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 4829 - 2015 / 6 / 6 - 10:08
المحور:
الادب والفن
( قطـرات قاتلـة )
قصة قصيرة
سالم الخياط ألساعدي
غيوم رمادية تتجمع وتملأ السماء . البرق والرعد والعواصف وبعدها مطرً غزير . وأنا أتخذ من زاوية الغرفة التي يقطنها أبي وأخواتي لي مكانً . تدثرت في الفراش ونمت نوما عميقا ثم نهضت مفزوعا من حلم كما لو كان كلباً يعضني من جهة قلبي ، كنت انظر إليه وهو يغرس أنيابه في قلبي . حين صحوت من النوم حكيت الحلم لأمي: ما هذا الحلم المخيف يا أمي..!
سألتها فيما راحت تبسمل وتردد بضع آيات من القرآن وتقرأ الأدعية وتمسد على رأسي وارتكن في زاويا الغرفة ؟
كنت الولد البكر لأمي، صبيا لم أتعدى الخامسة عشرة من عمري .. كنا أسرة فقيرة تعيش حياة متواضعة في ظروف صعّبة ونسكن بيت يتكون من غرفتين صغيرتين بسقوفها المتداعية وأثاثها المتواضع ..
قطرات المطر الناعمة ما زالت تتساقط وقد لامست جبين شقيقتي الصغيرة وبيديها الصغيرتين كانت تزيلها ببراءة ..
في الغروب ازداد المطر هطولا وأنا لا أزال في ركن المنزل احتمي من قطرات المطر المتسربة عنوة إلى داخل الغرفة من سقفها المتهالك ..
أمي تهيئ العجين وترسم راحة يدها أقراص الخبز في الغرفة الثانية ، وأختي الصغيرة ذات الضفيرة القصيرة تلعب بالعجين وتترنم بأنشودة المطر..(مطر مطر شاشا عبر بنات الباشا..).
والدتي تنادي علي بعدما توقف المطر ..
- هيا يا ولدي اصعد إلى سطح المنزل وضع التراب حتى لا تقع القطرات على خد أختك ..
- حسنا أمي غدا إن شاء الله بعد أن يجف السقف ..
- هيا بسرعة يا ولدي !
لم امتثل لطلبها .. الساعة تشير إلى السابعة مساءً جاءتني والدتي مرة ثانية وهي غاضبةً .
- هيا اصعد وأرحني من هذا الهم .
ثم التفتت إلى الوراء برأسها ونظرت إلي بغضب ورفعت عينيها إلى سقف الغرفة وسمعت آهاتها تملا الغرفة وهي خائفة من المجهول .
- انهض يا ولدي ..
لينادي أبي علي قائلاً:
- قم يا بني وأنفض عنك غبار الكسل .
رغم أني لم أزل بفجر عمري الصغير .. عندها امتثلت ووافقت على مضض .. بدأت بالعمل بوضع التراب على سطح الغرفة المشبعة بالرطوبة وحينما بدأت كانت المفاجأة .. اخذ السقف يتهاوى تدريجيا بالسقوط على أمي وأختي الصغيرة ........ يا للفاجعة !.
بدأت اصرخ واستغيث بأعلى صوتي فلم يسمعني احد لأن التراب قد ملأ فمي وهرعت مسرعا إلى أبي .. واستنجدنا الجيران لكن دون جدوى حينها بدأنا بإزالة الأنقاض وأنا ابحث عن بصيص أمل مرتعش . علني أجد أمي وأختي أحياءً تحت هذا الركام ..
وعندما رفعنا الأنقاض أدهشني الموقف، رأيت أمي في غمرة الموت وهي منحنية على أختي الصغيرة تحتضنها بخوف، وعمود الغرفة قد ضرب رأسها والدماء تنزف مختلطة بتراب السطح. صدمت لذلك الموقف لم اقدر على لفظ الكلام .. فقط كنت انظر بعين الذهول إلى رأس أمي المخضب بالدماء، وضفائر أختي التي امتزجت بالتراب، سقطت على الأرض وفقدت الوعي، بعد ساعة حينما أفقت من غيبوبتي أبقيت عيني مغمضة وأنا اسمع البكاء والصراخ في الدار، وآخذت أحاول إن أتظاهر بفقدان الوعي خوفاً من الكارثة , ألان وقد استعدت وعيي بالكامل بدأ الخوف ينتابني من سماع ما حدث. رأيت نفسي مصاباً بجرح طفيف في ساقي ..
وأبي يبكي بحرقة الرجولة وينظر بمأساة في زمن الهوس المرئي بالمذابح والأحداث المميتة. لقد أطبق الصمت على فمه ثم نظرت لعينيه الشاحبتين والدموع تنهمر بغزاره وألم ، وبكى الطفل الرضيع الذي لم تكتحل عيناه بضوء الشمس من شدة الجوع، وعينه تحوم وتبحث عن قطرات حليب من ثدي أمه التي تقبع تحت التراب .. "آه أيه القدر اللعين لماذا لم تتركه يكبر" لم استوعب الحدث ,, الشخص الوحيد الذي يربط قلبي بالأرض قد رحل !
آه سأصرخ وأوقظ النائمين ولكن لن يسمع صوت صراخي احد وأخذت اصرخ حتى الهزيع الأخير لليل ...
وحدي أعيش مأساتي في وحدة الليل وانظر أثاثي الفقير وما تبقى من الليل والصراخ والعويل يئن في راسي والضمير يناديني لرثاء أمي وأختي وكيف انتزعت منهم الحياة بفعل القدر ؟
أما أنا فأصبحت على حافة الموت ولا اعرف حتى اسمي, سمني ما شئت هل أنا القاتل أم المقتول !
وأنا اخذ حصتي من الحياة بعمري الصغير هذا، يا الهي أعني أصبحت لا أفرق بين نهاري وليلي , ألان غدوت يتيما فماذا فعلت بأسرتي ؟ وآخذات عدة أيام لم أكف عن البكاء واعتكفت عن الظهور أمام الناس وبقيت أأنب ضميري . لم يبق لي في هذا العالم سوى غصات أليمة في قلبي المجروح . وأوجاعه تتكلم عن تلك القطرات القاتلة المفزعة التي كنا ننتظرها خيرا أصبحت علينا شراً..
جاء والدي ليهمس لي ببعض الكلمات المتواضعة بإيمان وحزن شديد.. وكلانا يرمق الأخر بنظرة حزينة.
- كُن هادئاً يا ولدي هذه مشية الله ولنتحمل الآلام معا بشجاعة .
وضع راسي على كتفه وقلبي يخفق بحزن عميق .
- تحلى بالصبر ليس ذنبك أنه القدر .
وجفت الدموع في عينيه وقال:
- يا ولدي الموت يمضي ونحن نتبعه..
آه آه سأصرخ بوجه الدولة وكبارها الذين يسرقون الأموال ويتركون الضعفاء المحرومين لينظروا لأنفسهم اكتفوا ببناء قصورهم وجمع كنوزهم وتركوا الفقراء .. أعزي أبي أو أعزي موت روحي بداخلي .. يا أمي لمن اشكي همومي من بعدك ! وأي حضن يدفئني ! ما زلت أجس دفء حضنك وأنت تغطيني بعباءتك وحنانك، وكيف أبحر بعمق الحياة وأمواجها العاتية .. وأنتي كنتي ميناء روحي الذي أرسو به بأمان .. ولم أنس أختي ورقصها يعانق عنان السماء وزغاريدها بين البنات الصغيرات ستبقى صورتهم في مخيلتي كلما مضى الزمن بالذاكرة .. الأليمة التي مازالت تبرق كلما تلبدت السماء بالغيوم وهطلت الأمطار بالليل الشتاء الأخير .. واني لأذوق هذا المشهد المليء حزنا وآلما.. وتركت الكلام و نمت مهموما حزيناً .حلمت بأمي تضع يدها على قلبي الصغير وتخاطبني: يا ولدي لا تحزن فاترك فسحة أمل لديك وأعطي لعمرك فرصة أخرى للحياة ..
____________________________________
هذه المأساة واقعية حدثت في البصرة أثناء المطر الغزير ..
-;---;--
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟