أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر شقروش - من أجل بناء حزب يساري كبير.















المزيد.....


من أجل بناء حزب يساري كبير.


الطاهر شقروش

الحوار المتمدن-العدد: 4817 - 2015 / 5 / 25 - 03:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من أجل بناء حزب يساري كبير.

1-مقدمة:
لئن تخطت بلادنا مرحلة دقيقة كانت مفتوحة على كل الاحتمالات ، وأعطت لنفسها مؤسسات تمثيلية قارة ،فإن هذا الكسب على أهميته كان مصحوبا بشعور من المرارة والحسرة حيث كانت احدي علاماته البارزة توار قوى تقدمية عن المشهد السياسي وبصورة أدق من المؤسسة الأولى المكرسة للإرادة الشعبية رغم الاستثناء النسبي الذي كرسته الجبهة الشعبية.
و بهذا الانتقال تدخل بلادنا مرحلة جديدة مشحونة بالمخاطر و التحديات نظرا للرهانات التي تترقبها على الصعيد الأمني والاقتصادي-الاجتماعي...وبالنظر للتوجهات الليبرالية الطاغية للكتلة الحاكمة وخضوعها المرتقب لإملاءات المؤسسات المالية الدولية ، فأن الجماهير الشعبية المحرومة هي المتوقع أن تتحمل كلفة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة على جدول الحكومة القادمة خاصة في ظل غياب يكاد يكون كامل لممثليها داخل قبة البرلمان.
إن النتائج الكارثية للاستحقاقات الماضية لتحتم على القوى اليسارية أن تستفيق من كبوتها وتشمر على سواعدها لتدارك أوضاعها وتضطلع بمسؤولياتها خاصة وأن أمامها الانتخابات البلدية والجهوية والتي ستمكنها من فرص تغيير ميزان القوى ومن إمكانية غير مسبوقة للانغراس في البنيات الأساسية للمجتمع. وهو ما يطرح عليها مهمة التفكير العميق في الأسباب التي قادتها للفشل ويفرض عليها مراجعة تصورها للعمل السياسي في أبعاده الفكرية والعملية لكي تنهض من كبوتها وتضطلع بمسؤولياتها في هذه الأوضاع العصيبة.
مما لا شك فيه أن العامل الرئيسي المحدد في فشل القوى اليسارية في الاستحقاقات التي عرفتها بلادنا هو تشتت صفوفها وغياب التنسيق بين مكوناتها الأساسية في أدنى مستوياتها رغم أن الفرو قات بين برامجها الاقتصادية و الاجتماعية تضاءلت لدرجة أصبحت تكاد لا ترصد لذلك تطرح اليوم مسألة بحث صيغ التنسيق بين هذه القوى والعمل على تحقيق درجات متقدمة من التوحيد والوحدة.


سنحاول التطرق في هذه الورقة لقضية توحيد قوى اليسار وذلك عبر بناء حزب يساري كبير الذي أصبحت تنادي به شخصيات ومجموعات وأحزاب يسارية وذلك عبر المحاور التالية:
1- توحيد قوى اليسار كان ولا يزال هاجس أساسي لكل يساري.
2- فرص جديدة وآفاق واسعة.
3- ملامح الحرب الذي نريد.
4- تعاطي السياسة بأسلوب مغاير.
5- -بناء حزب اليسار صيرورة وليس قرار.
1-توحيد قوى اليسار كان ولا يزال هاجس أساسي لكل يساري:
وإذ نطرح قضية التوحيد والوحدة بين فصائل القوى اليسارية كمسألة جوهرية لها الأولية على ما عداها من المسائل التي تنتظر الحل ، فأننا في الوقت ذاته لا نتغافل على التأكيد أن هذه المسالة قد سبق وتناولتها القوى اليسارية في مناسبات عديدة غالبا ما كان ذلك بعد نكسة أو فشل في استحقاق انتخابي محدد لكن سرعان ما يقع إغفالها والرمي بها إلى آخر الاهتمامات، رغم أن مسألة وحدة القوى اليسارية كانت ملازمة لمشاغل "اليسار الجديد" منذ انبعاثه في بداية الستينات، وتواصلت عبر مختلف مراحل تطوره.
ويكفى التذكير أن تأسيس "مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي" " التي أصدرت مجلة "آفاق تونسيةPerspectives Tunisiennes"في ديسمبر 1963، كانت بهدف توحيد القوى اليسارية لكنها تحولت منذ تأسيسها إلى رقم جديد في خارطة القوى اليسارية، وهذا رغم النقلة النوعية التي مثلها تأسيسها في تاريخ اليسار والصيغ المستحدثة في تحالف قوى اليسار("لجنة التضامن مع الشعب الفيتنامي" و"لجنة الدفاع عن محمد بن جنات"..).
كما أن تأسيس "التجمع الاشتراكي التقدمي(R.S.P)" في 13 ديسمبر1983، الذي أصدر مجلة "الموقف" بعد ما يقارب من عشرين سنة عن التجربة الأولى، كان هو أيضا بهدف تجميع القوى اليسارية ولكنه، رغم ما قدمه من نقلة جديدة في عمل اليسار، من العمل السري إلى آفاق العمل العلني، تحول بدور إلى رقم جديد ضمن فسيفساء المجموعات اليسارية.
ولعل تأسيس "الجبهة الشعبية" في أكتوبر 2012، تعد آخر محاولة جادة، تستحق الذكر وهي رغم جمعها لعدد لا يستهان به من الأحزاب فإنها لم تفلح في تحقيق وحدة القوى اليسارية وتحولت بدورها إلى مكون جديد في المشهد التقدمي واليساري...
ولم تكن الدعوة لتوحيد اليسار مقصورة على مكوناته السياسية وحدها بل أن فكرة الحزب العمالي الكبير كانت تختمر في أذهان أجيال من المناضلين النقابيين وكانت تطفو إلى السطح بقوة كلما اشتد الصراع الاجتماعي مثلما كان الأمر قبل وبعد الإضراب العام في 26 جانفي 1978 وكذلك الشأن أثناء الهجمات الشرسة التي تعرض لها الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل السلطة سنوات 1983- 1985.
و لقد ساهمت عوامل عديدة في تواصل وضعية تشتت قوى اليسار ومن أهم هذه العوامل ما كان مرتبط بأوضاع اليسار التونسي كجزء من اليسار العالمي ومنها ما كان مرتبط بأوضاعه كتشكيلة سياسية تونسية (أوضاعه الموضوعية وتصوراته الذاتية) ولئن كان المجال لا يسمح بالتعرض لهذه العوامل بالتدقيق فإن ذلك لا يمنع من استعراض أهمها:
1- إن سياسات الاستبداد والقمع التي اعتمدها النظام القديم واستهدفت القوى اليسارية بدرجة أولى وخلال ستينات و سبعينات القرن الماضي ، قد حالت دون توفر مناخ للحوار الديمقراطي بين مكونات هذا اليسار بل إن أجواء الاستبداد الطاغية كان لها بعيد الأثر في طبع وتكييف الكثير من سلوكيات اليسار وتفكيره.
2- إن الخلافات الفكرية والسياسية العميقة التي عرفتها الحركة الشيوعية العالمية منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي1956 وأدت إلى انشقاقات صلب الحركة الشيوعية العالمية، قد امتدت آثارها إلى الساحة التونسية وساهمت في تعميق الخلافات الفكرية والسياسية الموجودة بين مكوناتها.
3- إن التصورات والمقاربات المتبعة في تحقيق عملية التوحيد غالبا ما أفضت إلى نتائج عكسيا وخيمة عمقت بدورها واقع التشتت والشعور بالإحباط..
إلا ما تجدر الإشارة إليه، أن الأقطاب الأيديولوجية والسياسية وكذلك الرهانات المجسدة لها والمشكلة للساحة اليسارية العالمية، قد أعيد صياغتها وتشكلها بحيث أن الخلافات وكذلك الرهانات التي عبرت عنها الحقبة التاريخية الماضية 1956-1991 قد طواها التاريخ وأصبحت أثر بعد عين وظهرت رهانات و أقطاب جديدة ليست أقل أهمية ولا خطورة من سابقتها لكن الغريب أن آثار المرحلة الماضية هي التي لا تزال تحكم التموقعات والفرز داخل الساحة اليسارية التونسية..
كما أن مناخات القمع المعرقلة للحوار بين فصائل اليسار، قد تلاشت بسقوط نظام الاستبداد ومع ذلك، لم ينجح اليسار التونسي في استحداث فضاءات ( منتديات، مجلة، بوابة، الكترونية ، ندوات، لقاءات...) للحوار بين مختلف مكوناته السياسية والنقابية والثقافية والجمعياتية والتداول حول وضعه وآفاق تطوره في ظل الظروف الجديدة ما بعد 14 جانفي2011 وبشكل خاص حول كيفية توحيد فصائله أثناء الاستحقاقات السابقة واللاحقة لهذا التاريخ...
وإذا كان العاملان السابقان قد تلاشيا مفعولهما، فإن للتصورات والمقاربات السائدة صلب قيادات اليسار حول مسالة توحيد فصائله، لا يزال مفعولها المدمر متواصل وهذا بعدما طفحت إلى السطح مسألة توحيد القوى اليسارية وأصبحت أحد اشتراطات جدوى العمل السياسي.
ولقد تجسمت هذه التصورات والمقاربات في اعتماد صيغتين تنظيميتين لمعالجة وضعية التشتت التي عليها اليسار التونسي:
أ-الدمج والانصهار عن طريق استيعاب "حزب كبير" لأحزاب صغيرة دون أدني إعداد أو تهيئة فكرية وسياسية لهذه العملية المعقدة ولذلك قادت هذه العملية التي كانت ميزتها الهيمنة والإخضاع إلى مطب بعد أشهر قليلة حيث انفرط العقد وعادت كل مجموعة إلى موقعها السابقة.
ب-التكتلات بين مجموعات من الأحزاب اليسارية مع محافظة كل منها عن كيانه التنظيمي والعمل في الوقت ذاته على ضم جهوده مع المتكتلين معه لتصدي لمنافسة خصومهم والتحكم في الخلافات التي قد تنشأ فيما بينهم.
وقد عجز هذه التكتل على إنشاء جهاز تعبوي وتنظيمي مشترك يتقاسم الموارد البشرية و اللوجستية على المستوى الترابي :الولاية، المعتمدية، العمادة... أو على المستوى القطاعي الاجتماعي: العمال والفلاحين والنساء والشباب...
وفي نهاية الأمر وبسبب غياب الديمقراطية الداخلية وسيادة الأسلوب البيروقراطي والفوضوي في التسيير والعمل اختزل هذا التكتل في هيئات أركان الأحزاب المكونة له....والتي تفتقد جلها إلى قواعد ومناضلين لدرجة أن لا قدرة لها إلا على تعبئة مكاتبها السياسية في أحسن الأحوال.


2-فرص جديدة وآفاق واسعة:
ورغم النكسة الكبيرة التي مني بها اليسار خلال الاستحقاقات السابقة، فإن ذلك ليس مدعاة للانكسار أو الهزيمة. إن زمن الانتكاسات قد ولى وأن فرصا جديدة متاحة أمام اليسار وإن آفاق واعدة تنتظره إذا ما أحسن التعامل معها.
إن اليسار التونسي الذي هو جزء لا يتجزأ من اليسار العالمي يتأثر بأوضاعه ويؤثر فيه، ويعيش اليسار العالمي فترة من الازدهار والانتشار فهو يحقق النجاحات تلو النجاحات يجدد في فكره وفي أساليب نضاله..ولعل خير مثال ما تعرفه بلدان أمريكا اللاتينية التي اعتلى اليسار في العديد من بلدانها إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية وببرامج إصلاحات تقدمية، الأمر الذي غير الكثير في موازين القوى على الصعيد العالمي خاصة بعد التقدم في عمليات الاندماج الاقتصادي داخل شبه قارة أمريكا الجنوبية...كما برزت وتأكدت حركات اجتماعية وسياسية جديدة في البلدان الأوروبية و الولايات المتحدة ذاتها...كما في بقية أنحاء العالم.
لقد تحققت هذه الانتصارات بعد فشل الهجوم الاستراتجي الذي شنته الامبريالية على شعوب العالم في التسعينات من القرن الماضي اثر "أزمة الديون" وتفكك "المنظومة الاشتراكية" وذلك بقيادة الدوائر المالية العالمية، واشترطت "انسحاب الدولة" من النشاط الاقتصادي وتفكيك العمليات الصناعية التي أنجزتها "الدولة الوطنية" عن طريق الخصخصة وفرضت انتصاب"السوق الحرة" كمعيار للجدوى الاقتصادية وألزمت العديد من البلدان بتطبيق برنامج "الإصلاح الهيكلي"...
والجدير بالذكر أن الوعود التي بشرت بها هذه السياسات الليبرالية الجديدة، وشرعت بها سياساتها العدوانية، قد تبخرت. فلا الرفاهة تحققت ولا التنمية أنجزت ولا الديمقراطية تكرست، وبدل ذلك تعمقت الفوارق الاجتماعية وتفاقم الظلم والفساد وتعددت الحروب وانتهاك سيادة الدول...و برزت تبعا لذلك حركات اجتماعية وسياسية بديلة في كل أرجاء العالم أعتمد ت طرق نضالية وتنظيمية جديدة وأشكال تعبئة واحتجاج غير مسبوقة وطرق عمل وتحالف مستحدثة ولقد تفاعلت كل مكونات اليسار التقليدي والمستحدث وجميع مكوناته السياسية والنقابية والجمعياتية والمجموعات المسلحة وتحاورت فيما بينها عبر تأسيس فضاءات حوار مشتركة( منتديات، لقاءات منتظمة، بوابات الكترونية، مجلات..) وعزمت على توحيد صفوفها وخوض غمار الانتخابات ونجحت وآخرها ما تحقق في اليونان. لقد جددت هذه الحركات الفكر الاشتراكي والممارسة اليسارية.
ولم تكن جماهير شعبنا الكادحة والمضطهدة بمنأى عن هذه الحركة العالمية الجديدة ويكفيها فخرا أنها من أسقطت أول دكتاتورية عربية وفرضت دستورا تقدميا يضمن الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وقدم اليسار شهداء عظام أمثال شكري بلعيد ومحمد البراهمي...
لذلك أنه رغم انتكاسة اليسار في الانتخابات الأخيرة ننظر للمستقبل بعين التفاؤل ذلك أن هذه الانتكاسة نفسها قد خلقت مناخات جديد ة ايجابية لمساعي توحيد القوى اليسارية، حيث أن جل الكوادر والمناضلين قد شرعوا قبل القيادات في عمليات تقييم ومراجعة بحثا عن أسباب الهزيمة، ومما شحذ وحفز من عزمهم في البحث عن مخرج لوضعية التشتت التحالف المريب بين طرفي الرجعية وعلى قاعدة الاختيارات الليبرالية التي تمليها الدوائر المالية الامبريالية...بحيث أصبح بناء قطب تقدمي قادر على خلق التوازن مع القطب الرجعي بالنسبة لهؤلاء المناضلين والكوادر مسألة مصيرية وملحة...ولعل ما زاد هذا الوعي حدة، ما تجلى من صراعات حول اقتسام غنيمة الحكم بين مختلف زمر الحزب الفائز في حين يتبين عجز القوى اليسارية على الاستفادة من هذه الصراعات.
ولا يفوتني هنا التأكيد أن تشكل هذا التحالف المريب بين طرفي الرجعية، قد هز قواعد حزبيهما و أصابها بالخيبة فقد صدم الكثيرون منهم وأصبحوا مرتابين وحذرين تجاه قيادتهم فمنهم من جمد نشاطه وراح يندد بهذا التحالف "العاهر" ومنهم من انسلخ وانسحب...
و كنتيجة لهذا ظهرت كتلة شعبية واسعة تبحث عمن ينظمها ويعبؤها. وهذه الكتلة المتولدة عن تباين وتباعد قواعد كل من حزب النداء والنهضة مع قيادتهما، هي بالتأكيد كتلة غير متجانسة في تركيبتها الاجتماعية والثقافية، بل هي متناقضة أحيانا حيث أنها تتكون من فئات شعبية مقصية و مهمشة تقطن الأحياء القصديرية أو المناطق الريفية المنسية والتي لا يزال يطغى على ثقافتها الطابع التقليدي الريفي المحافظ وكذلك من مجموعات اجتماعية حضرية ومقتدرة ماديا تقطن الأحياء المرفهة وثقافتها حداثية...
إن هذا المعطى الجديد وجود كتلة اجتماعية غير متجانسة تولدت عن التحالف المريب بين طرفي الرجعية تبحث عمن ينظمها هو في الوقت ذاته تحدي ورهان يستوجب على اليسار التونسي رفعه ولن يتحقق ذلك دون توحيد لصفوفه.
3-أي حزب سياسي يساري كبير نريد ؟
لقد تعالت اثر انتكاسة اليسار في الانتخابات الأخيرة أصوات عديدة لشخصيات ومجموعات وأحزاب يسارية بالدعوة إلى توحيد فصائل اليسار في حزب سياسي كبير... ولعل آخر ها بيان اللقاء الذي جمع أحزاب يسارية من بلدان حوض المتوسط وشارك فيه الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية بتونس حيث جاء فيه"على أحزاب اليسار المناضل إن تتجاوز عقلية التفتيت والتشتت والنزعات الذاتية والفوضوية وان تتسلح بإرادة الوحدة والنضال المشترك على قاعدة برامج سياسية واضحة". كما جاء في تصريح لجريدة المغرب على لسان السيد زياد لخضر أمين عام "الحزب الوطني الديمقراطي الموحد" وعضو "مجلس أمناء" الجبهة الشعبية "سنطرح مبادرة للتقدم في انجاز حزب اليسار الكبير".
وبالرغم مما تمثله هذه الدعوات من مؤشرات ايجابية، فإنها تبقى دون المأمول لأنها لم تتطرق إلى المسألة الجوهرية، ألا وهي أي حزب نريد؟ بمعنى آخر ما هي ملامحه؟ وما هي الخصائص المميزة له؟
إن الحزب المنشود هو حزب جامع متنوع ومتفتح يجمع اليسار السياسي والنقابي والجمعياتي ويعطي مكانة متقدمة للمثقفين والنساء والشباب وهو حزب متنوع يجمع كل أطياف اليسار: الشيوعي والاشتراكي الديمقراطي والقومي التقدمي...ينحاز للطبقة الكادحة ولجموع الشغالين والفقراء يرفض الرأسمالية كخيار استراتيجي لكنه يشجع المستثمر الوطني ويحميه من الرأسمال الطفيلي ومن الرأسمال الاحتكاري.
و يعمل الحزب اليساري الكبير على استكمال تحقيق أهداف الثورة ويسعى إلى بلوغ الأهداف الكبرى التالية:
1- العدالة الاجتماعية والجهوية.
2- الديمقراطية في تسيير دواليب الدولة والحياة العامة.
3- تدعيم السيادة الوطنية على مقدرات البلاد والمحافظة على استقلال قرارها.
و حتى يستطيع أن يكون حزبا جامعا ومتنوعا لا بد أن يكون منفتحا بمعني أن يكون حزبا غير عقائدي، بمعني أن قاعدة الانتماء هي المصادقة على البرنامج السياسي للحزب ولوائحه التنظيمية. لا يتبني فكرا محددا يكون مرجعه.إن هذا لا ينفي أن يكون لأعضائه و منتسيبه فكرا بعينه على مستوى الأفراد أو المجموعات المتشكلة في تيارات منظمة صلبه شريطة انضباطها لقرارات الأغلبية. ونحن أذ نؤكد على هذه الخاصية فلأمرين :
أ – أن الخلافات العميقة التي عرفتها الحركة الاشتراكية منذ أواسط القرن التاسع عشر وبصورة خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين كانت مقرونة برهانات وإشكاليات لم تعد قائمة اليوم وهي جزء من التاريخ يتكفل به أصحاب هذه المهنة.
ب- إن العقائدية في مجتمع ما زال لم يحقق نقلته بالكامل إلى مجتمع مدني séculier -أي أن عملية التمياز بين مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والتشريعية والأخلاقية والتباين فيما بينها لم تكتمل بعد.ولذلك تشكل العقائدية خطرا لا يمكن تقدير عواقب.
إن العقائدية في هذه المجتمعات التي لم تتحول بعد إلى مجتمعات مدنية هي غلبا ما تعبر عن نفسها معرفيا في صيغة الفكر الدغمائي الذي يستند إلى ثوابت راسخة وأفكار مسبقة ومتحيزة خارج السياق التاريخي. وهي تعتمد تصورات ضيقة ونهائية تفترض معرفة مطلقة وحاسمة وغير قابلة للمراجعة من خلال أحكام يقينية ومعيارية تتعارض مع الشك و النسبية.
و لقد شكل الفكر الدغمائي قاعدة لظهور السياسات الأكثر تطرفا و الأصوليات الأكثر تشددا. ويمكن اعتباره واحدة من الأسس الفكرية للتعصب والتطرف والتشيع والاستبداد..
لم يكن اليسار الجديد دغمائي ومتشدد في مرحلته الأولى 1963- 1967 حيث نشأ بباريس وترعرع في أجواء الحرية الفكرية والممارسة الديمقراطية ولكنه حين انتقل إلى تونس وبدأ يستقطب طلبة جديد أغلبهم قادم من الريف وزادهم الثقافي محدود، في نفس الوقت الذي بدأت فيه مواجهته مع السلطة التي عزمت على توخي اعتماد القمع أسلوبا حصري في " التحاور" معه وذلك بداية من الاضطرابات الجامعية في مارس 1968 والقمع والمحاكمات. عندها تحول من حركة سياسية متفتحة ومتنوعة وجامعة إلى حزب عقائدي منغلق.
ولقد تأكدت العقائدية صلب اليسار الجديد في هذه الأجواء المشحونة بالقمع وبالمحاكمات وبسيادة الحزب الواحد والفكر الواحد ولقد ترسخت وتعززت حسب وتيرة تدني الرأسمال الثقافي للمنتمين الجدد وتصاعد نسق المحاكمات السياسية والمطاردات والقمع. وتبعا لذلك تشتت اليسار مللا ونحلا إلى يومنا.
لكل هذه العوامل وغيرها ندعو إلى حزب يساري جامع ومتنوع ومتفتح.
4-تعاطي السياسة بأسلوب مغاير:
وبالرغم من أن الظروف الموضوعية الملائمة لتوحيد القوى اليسارية تجعل هذه المهمة أمرا ممكنا وأكيد، فإنه مع ذلك يبقى تحقيق هذه المهمة رهن توفر رؤية جديدة للتعاطي العمل السياسي و بأسلوب مغاير . ..
لقد أضطر اليسار تحت عوامل القهر وقصور الرؤية إلى أن يتعامل مع السياسة في أضيق معانيها بحيث تختزل رؤيته لها من كونها الحقل الخصب الواسع الذي يشمل الاهتمام بالمجتمع و بالعلاقات التي تحكم طبقاته، إلى مفهومها الضيق المقصور على الدولة أو بالأحرى السلطة وكيفيات إدارتها للنفوذ وتوزيع المنافع والمغانم ...
لقد أصبحت السياسة من زاوية هذا المفهوم تقصر على مسألة ممارسة السلطة وما يصاحبها من صراعات و مناورات.وقد ترتب على ذلك "وضع السياسية في مركز القيادية" وتحت أي ذريعة ولقد قادت هذه الرؤية إلى التسيس المفرط لمختلف مظاهر الحياة والممارسة الاجتماعية.
وتكريسا لهذه المنحى السياسوي أصبح اليسار لا يعير العمل الثقافي الأهمية التي يستحقها فيوجه مناضليه المتواجدين بالحقل الثقافي إلى حقل العمل السياسي أو النقابي لما يضفيه عليهما من قيمة استثنائية أو يسيس العمل الثقافي ذاته وبشكل مشط بحيث يفقده استقلاليته ويفرغه من دلالاته ومعانيه،وفي جميع الحالات، فإنه يهمل مدى الأهمية التي يكتسيها هذا النشاط في بلورة الوعي بمتطلبات العصر وبالذات وبالآخر، وبكونه يشكل الأرضية التي على قاعدتها تتم مقاومة الانغلاق الفكري والأصوليات.
كما تغاضى اليسار أيضا عن إعطاء العمل الاجتماعي الأهمية التي يستحقها خاصة وأن نشاطه يتنزل ضمن مجتمعا يتمتع بخصوصيات معينة بحيث أنه يتشكل في جزء هام منه من فئات اجتماعية حضرية مهمشة وغير مدمجة في العملية الإنتاجية ومن جهات ريفية واسعة مقصية ومنسية...
وبحكم إقصاء هذه الفئات من العملية الإنتاجية، فإن تنظيمها وتعبئتها لا يمكن أن يتم بواسطة النقابات المهنية، لذلك فإنه وبالنظر لهذه الأوضاع تخلى اليسار عن تنظيم هذه الفئات المقصية من عملية الإنتاج باستثناء "الشباب أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل" في هذه الحالة يتحول العمل الاجتماعي داخل الإحياء المهمشة وفي المناطق الريفية المقصية أرضية خصبة لبناء شبكات تضامن جديدة قادرة وحدها على تحقيق الذات وإخراج الأفراد والمناطق من عزلتها وبذلك تصبح إمكانية تنظيم هذه الفئات الاجتماعية ذات الطاقة الثورية الكبيرة عملية متاحة وسهلة التحقيق.
5-بناء حزب اليسار صيرورة وليس قرار.
لئن كان بناء حزب يساري كبير أمر أكيد وضروري، إلا أن هذا لا يعني أنه سينجز بقرار صادر عن اجتماع لقيادة هذا الفصيل أو ذاك أو مجموعة من الفصائل،أن بناء حزب يساري كبير عمل يستوجب جهد فكري وتنظيمي طويل النفس أي أنه صيرورة تتضمن جملة من المراحل لا بد من ضبطها وتحديد خصائصها ،إنها مراحل تتداخل فيها النقاشات الفكرية والنشاطات النضالية.
ويتطلب هذا العمل الدؤوب الكثير من الصبر ولكن أيضا توفير الأدوات الضرورية لذلك ولعل أهمها هو إيجاد فضاءات للحوار (منتديات، حلقات نقاش ، مجلة، بوابة الكترونية، ندوات، لقاءات...) تكون هذه الفضاءات متعدد الاختصاصات ومتواجدة في مختلف مراكز الولايات ( المحافظات) منها ما هو خاص بالسياسيين ومنها هو خاص بالنقابيين أوالمثقفين ومنها ما هو خاص بالنساء أو الشباب أو العاطلين عن العمل و في هذه الإطار تناقش القضايا الفكرية : القضايا السياسية والتنظيمية ،المسائل التكتيكية والإستراتيجية وكذلك الأنشطة العملية النضالية من خلال اقتراح برامج نضال وتشكيل تنسيقيات قاعدية وجهوية...ولعل الاستحقاقات القادمة البلدية منها والجهوية هي أهم محور يجب أن تنتظم حوله هذه الموضوعات والنشاطات.
6-الخاتمة.
لقد كان اليسار التونسي في طليعة القوي التقدمية المناضلة ضد الدكتاتورية و التبعية ليس فقط على الصعيد الوطني والعربي وإنما أيضا على الصعيد العالمي. ولقد حملت الثورة التونسية بصماته على مستوى شعاراتها وأشكال نضالها رغم عفويتها. ولا يمكن أن ينكر ذلك إ لا مكابر عنيد. كما أن دوره في مقاومة تسلط الأخوان وإجبارهم على مغادرة السلطة سلميا وعبر التعبئة الجماهيرية أمر لا يختلف فيه لا يختلف فيها اثنان.
غير أن انتكاسته خلال الانتخابات الأخيرة، كشفت عن مكامن ضعف عديدة، لا تليق بما قدمته أجياله المختلفة ومكوناته المتعددة من تضحيات ومعانات ولا تستجيب للانتظارات التي يتطلع إليها أنصاره والجماهير الشعبية عموما.
ولقد حان الوقت لمعالجة هذه النقائص، وهذا أمر ضروري وممكن وهو في متناولنا.

الطاهر شقروش
مناضل يساري وسجين سياسي سابق.



#الطاهر_شقروش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من أجل سياسة ثقافية جديدة: قطاع التنشيط الثقافي نموذج.
- لا مصلحة لليسار والجبهة الشعبية للاصطفاف وراء أحد فرقي الرجع ...


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر شقروش - من أجل بناء حزب يساري كبير.