المسعودي محمادي
الحوار المتمدن-العدد: 4794 - 2015 / 5 / 2 - 18:41
المحور:
الادب والفن
غوته عاشقا...
"الزواج هو البداية والنهاية لكل ألوان الحضارة. إنه يروض المتوحشين، ويمنح أكثر الناس ثقافة، خير فرصة للرقة ودماثة الخلق. وينبغي أن يكون غير قابل للفسخ لأنه يجلب من السعادة الكثير، ما يجعل متاعبه العارضة لا وزن لها " غوته
يشكل الشاعر الألماني العظيم غوته ظاهرة استثنائية، ليس في تاريخ الفكر الألماني فحسب بل العالمي أيضا، كونه يبقى من العباقرة القلائل الذين وضعوا الأسس الأولى لإبداع ألماني ينطلق من صفاء التجربة ليلامس روح الانسان و هي تبحث عن تحقق كيانها ،مكرسا بذلك ميلاد الواقعية الألمانية التي ترى أن الحياة و الابداع يعودان إلى طبيعة واحدة تسمى الظاهرة البدئية ، التي تبدأ بالتسامي طبقا لقانون التحول . و ليس من قبيل الصدفة أن يقول هيغل بأنه تعلم الكثير من غوته، بالرغم من أن لكل من الرجلين طريقته الخاصة في تناول المسائل الكبرى. أما فلوبير فقال عن صاحب الأنساب المختارة: يا له من رجل عظيم غوته هذا ! لكونه يمتلك كل الأوراق في يده، و كل الحظ كان إلى جانبه. هذا في الوقت الذي كتب نيتشه قائلا، غوته هو آخر رجل ألماني يمكن أن أحترمه.
لقد كان لهذه الشخصية الأدبية الفذة أثر واضح في إثراء الأدب الألماني من خلال الكتابات والأعمال المتميزة التي تركها في شتى المجالات ومن أشهرها العمل الأدبي المسرحي "فاوست" الذي يعد بحق من أهم الأعمال الأدبية العالمية الخالدة حيث استطاع غوته من خلاله التعبير عن الكثير من أفكاره الجمالية والفلسفية بلغة غاية في الدقة والروعة.
في رائعة فاوست يبدو غوته كمفكر منهم و مشغول بالقضايا الوجودية الكبرى ،والعازف عن حياة البشر العادية، والذي يزعم أمام نفسه أنه يشارك الآلهة في تحمل مسؤولية مصير الوجود برمته، لا يجد لديه ما يكفي من الصبر والتسامح لتحمل ومواجهة إيقاع هذا الزمن الخانق الذي يلتف كالحبل حول عنقه , وأمام الركس والتكلس والأسر في رحم الماضي، كدليل للإحباط والانكسار والخوف من مجاهل الجديد و متاهاته ، يشتعل فاوست في هذه الظلمة كسراج نوستالجيا يضيء غسق الروح الخائبة، ويخدر كابوس الظلم الأسود فتستمد النفس نسغا يسعف الكينونة على البقاء. فاوست كافح وغامر بحياته وقامر بروحه في سبيل الخلاص من آلام و قسوة الحياة الماضية الكئيبة، و كان طموحه تغيير المجتمع وقلب حياة الناس ومعتقداتهم رأسا على عقب حتى لا تشرق الشمس إلا على شعوب أحرار ، وقد أنجز كل مشاريعه الأسطورية بأيد نظيفة ،واعتمد على الفكر الخلاّق والجهد اللامتناهي ، غير أنه وبعد كل هذا وذاك يجد نفسه وقد دلف إلى عالم الجريمة والآثام وأصبح مسؤولا عن قتل الوداعة والطيبة النادرتين في الحياة الحديثة ، إنه شيء لا يحتمل!
و بقدر ما عشق اللغة و أغرم بالكلم ،عكف غوته على دراسة الأشعار و الملاحم العربية ، فكان أول من لفت أنظار الألمان إلى وجود آداب غير الآداب الأوربية ،تأثر كثير بعدد من الشعراء العرب من قبيل المتنبي و أبي تمام ، كما فتن بشعر فحول الشعراء العرب ،امرؤ القيس و طرفة و غيرهم.. و هو القائل في لغة الضاد ،" ..ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح و الكلمة و الحظ مثلما حدث في اللغة العربية ،و إنه لتناسق غريب في ظل جسد واحد.. "
كان غوته أيضا عاشقاً ومولعا بالنساء، حيث أحبهن وكتب فيهن أجمل قصائده وأعماله الأدبية، وحتى في كونه رجلا في الستين، بقي غوته ينتشي بحسن المرأة ورشاقتها. وتطلعه المزدوج إلى الحكمة والجمال هو روح غوته الضميم، لهذا فإن جرحا دامي سيصيب قلب غوته الجزوع في سن الكهولة، الجارحة لم تكن سوى اليتيمة "مينا" ذات العينين الساحرتين و الشعر الكستنائي ، لم يكن في الفتاة ما يدعو إلى الاعجاب الفكري ، غير أن غوته عشق في مينا البساطة و السذاجة و البراءة الأولى، و لم يجد الرياضي رينان تفسيرا لذلك سوى القول أنه كلما كان الرجل أثمن بفكره ، كان أكثر حلما بالقطب المضاد ، بالمرأة التي ليست امرأة ، و مينا كانت من هذا النوع ، فكان من الطبيعي أن تستثير حب غوته بالرغم من صغرها .
في شيخوخته عزى غوته نفسه باحتقار ازداد عمقا للعالم و الإنسان، حين قال تبدو الحياة كلها إذا نظرنا إليها من قمم العقل كأنها مرض خبيث، والعالم كأنه مستشفى للمجانين، و الناس لا يعيشون إلا ليكدر ويقتل بعضهم بعضا، كذلك كان، وكذلك هو اليوم، وكذلك سيظل إلى أبد الدهر، وفي ربيع 1832 أصيب بنزلة برد وهو راكب عربته في نزهة. أنت هذه يا "أيتها المرأة الصغيرة، ناوليني كفك الصغيرة" ،كانت آخر عبارة قالها لزوجته لأوتيلييه التي مات بين ذراعيها قابضا على يدها.
هكذا اختتم العصر الألماني العظيم، ابتداءا بشيلينغ ومروراً بكانط، وفيلاند، وهردر، وانتهاء بشيلر و جوته. ولم يوفق العقل الألماني منذ لوثر إلى مثل هذا النشاط والتنوع والثراء في التفكير المستقل، وعلى خلاف بلدان الثورات السياسية ،فإن ألمانيا من الناحية السياسية لم تكن قد ولدت بعد، لكنها في الأدب كانت تتحدى أروبا، وفي الفلسفة تقود هذا العالم.
المسعودي محمادي ، أستاذ و باحث
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟