هاجر الفاتحي
الحوار المتمدن-العدد: 4788 - 2015 / 4 / 26 - 13:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أصبح حديث الساعة اليوم يدور حول تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام وصارت مصطلحات "داعش" و "الدولة الإسلامية" و إصداراتها المرئية تحتل الصدارة على مواقع التواصل الاجتماعي و محركات البحث على شبكة الإنترنيت, فتحولت داعش من تنظيم متطرف إلى مشروع دولة لها جهازها الأمني و القضائي و الجبائي و التعليمي و الصحي و الإعلامي.
من وجهة نظر نفسية , داعش ظاهرة سيكولوجية واضحة المعالم تعبر عن نفسية شريحة كبيرة من الشباب العربي , شباب كان غذائه الأمل ذات ربيع ديمقراطي و لكن سرعان ما كسر الفقر و الذل و رياح الثورة المضادة ظهره و أصبح يبحث عن مخلص من مطرقة الاستبداد السياسي لأنظمته و سنديان الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العربي نظرا لطبيعته التبعية , فداعش لم تأت من فراغ بل جاءت لتشكل بديلا لمن لا بديل له و مفرا لمن لا مفر له و في غياب القدرة على بلورة بدائل اجتماعية و سياسية تعبر عن إرادة الشعوب و توقها للعدالة الاجتماعية و العيش الكريم و التحرر من نيران التبعية و الاستبداد , أصبحت داعش في مخيلة الفئة العريضة من الشباب المهمش تشكل قطبا مناهضا للرأسمالية من جهة و الأنظمة العربية الاستبدادية من جهة أخرى , رغم عدم وضوح أسباب هذه المناهضة و اختلافنا مع أساليبها.
JPEG
عند بداية ما عرف ب"الربيع الديمقراطي " الذي اجتاحت رياحه شوارع شمال إفريقيا و الشرق الأوسط تصدر الشباب العربي الصورة و قاد المسيرات الاحتجاجية التي ما فتئت أن انتشرت وعمت كافة البلدان العربية متحديا بذلك أنظمته البالية رافعا مطالب تعبر عن سخطه عن وضعيته الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية المتدهورة , غير أن هذه الأنظمة و عوض أن تستجيب لهذه المطالب , اختارت أن تواجه هذا الحراك بالقمع و الاعتقال و الاغتيال , و عوض أن يؤمن بها و يدعمها شيوخ النضال و عمداؤه , أولئك الذين أفنوا عمرهم و بحت حناجرهم في ساحات النضال , شككوا فيها - بعضهم و ليس كلهم - و اعتبروها مؤامرات حيكت داخل "دهاليز الامبرالية العالمية" لتطبيق مشروع الشرق الأوسط المزعوم و تقسيم العالم العربي. وبعد تضحيات جسام , نجحت بعض الشعوب في إزاحة رموز أنظمتها المستبدة و تنظيم انتخابات رئاسية نتج عنها اكتساحا غير مسبوق لصناديق الاقتراع من طرف التيارات الإسلامية , الشيء الذي أوصلها إلى فوهة الحكم , و لكن إسلاموفوبية بعض التيارات المحسوبة على الصف التقدمي و غياب البوصلة و التجربة السياسية لدى التيارات الإسلامية الحاكمة آنذاك مكن جنود الثورة المضادة المدعومة من طرف أنظمة قروسطية, من لملمة شتات الأنظمة السابقة وتقوية صفها و إرجاعها للحكم عن طريق انقلابات دموية و غير شرعية , كما هو الحال في ليبيا و مصر و اليمن.
و بينما تعيش الشعوب الليبية و المصرية و اليمنية على وقع موجة ثورية ثانية, لا يزال الشعب السوري يعاني الأمرين تحت حكم نظام دموي مبني على أسس طائفية و شعارات زائفة حول قومية عربية بائدة و علمانية مشوهة ومدعوم من طرف امبرياليات عالمية في طور النمو. ذلك الشعب البطل الذي عكس ما يسوق له النظام السوري و "شبيحته" , ظل متشبثا بسلمية ثورته حتى لم تعد للسلمية معنى فلجأ بعد ذلك إلى حمل السلاح و مواجهة من قتل و لا زال مئات الالاف من الشباب و الشيوخ و الأطفال السوريين , ولأن رياح التغيير بطبيعتها كاسحة و لأنها كانت ستعصف باليابس و البالي في البلدان العربية التي لا زالت تعيش شعوبها تحت وطأة الاستبداد السياسي و الديني , هرعت أنظمة هذه البلدان إلى زرع "خلايا سرطانية " داخل سوريا و تسليح تيارات متطرفة تقوم بما يقوم به النظام البعثي من وئد للثورة و أكل لأبنائها. و في غياب بديل ديمقراطي شعبي قوي في سوريا و بعدما ساندت معظم التيارات التقدمية هناك الأسد الذي كان يذيق مناضليها أشد العذاب داخل سجونه فيما مضى , اتجه مجموعة من الشباب السوري الثائر الى أكثر التيارات تطرفا ضمن التيارات المشاركة في الثورة و من بينها تنظيم الدولة و ارتمى في أحضانها و بدأت أفكارها تنتشر في صفوف الشباب كالنار في الهشيم لتطال شباب باقي الدول العربية الذي أحاط به اليأس من كل صوب و جعله يفقد الأمل في أي تغيير سلمي ديمقراطي محتمل و كذلك الشباب الأوربي ذي الأصول العربية الضحية الأولى للعنصرية و السياسات الاقتصادية و الاجتماعية الإقصائية الأوربية.
أما من وجهة نظر شرعية , فمرجعية داعش الفكرية لم تأت من فراغ كذلك بل تغذت من تراث إسلامي مركب يضم في صلبه الصالح و الطالح , ما هو ديني و ما هو نابع عن عادات و تقاليد و تأويلات كان للواقع السياسي و الاجتماعي انذاك مقالا و تأثيرا فيها , فأغلب الأفعال اللاإنسانية المرتكبة من طرف تنظيم الدولة ليست إلا تطبيق عملي لتأويلات و فتاوى شيوخ و أئمة لهم ما لهم و عليهم ما عليهم ساهموا في تطوير الفكر الإسلامي عبر التاريخ بشكل أو بآخر , فلا طالما شكلت مسألة تأويل النص الديني موضع خلاف بين الفرق والمذاهب , بين من يطبق النص الديني انطلاقا من الفهم اللغوي و السطحي له و بين من يخضعه للواقع المتغير بتغير العوامل الاجتماعية والسياسية و الثقافية وبين من يريد إخضاع الواقع للنص الديني و جعله مطابقا لزمن و واقع نزوله..
تنظيم الدولة لم يأت من المريخ بل ولد من رحم معاناة الشعوب العربية , و لم يكن ليرى النور , لو لم تكن هذه الشعوب تعيش تحت وطأة الاستبداد السياسي و الفقر و الاضطهاد و التجهيل القسري ولو لم تخنها نخبها المثقفة و تصطف إلى جانب الأنظمة المستبدة عوض أن تلتحق بصفوفها و تؤطر مقاومتها المشروعة . كذلك , لم يكن ليكون هناك ما يسمى اليوم بالإرهاب أو التطرف الديني لو لم تلعب الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي دورا فاعلا فيه و خاصة في أفغانستان و الشيشان و العراق و تتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية , هذا التدخل الذي لم يكن ليكون ممكنا لولا عمالة الأنظمة العربية و خيانتها لطموحات الشعوب.
إن القضاء على داعش, لن يتم عن طريق القصف الجوي لثكناتها ومخازنها , هذا القصف الذي يسقط جراءه العديد من المدنيين كل يوم , فداعش فكرة قبل أن تكون تنظيما منظما و الفكرة بطبيعتها مضادة لقنابل الطائرات و رصاصات الجيوش. القضاء على داعش يمر عبر تمكن الشعوب العربية من تقرير مصيرها الاقتصادي و السياسي , و عبر فتح باب الاجتهاد الديني و تمحيص التراث الإسلامي و إزالة كافة الروايات و الفتاوى التي تتناقض مع جوهر الإسلام والقيم الإنسانية حتى لا تجد داعش ومثيلاتها مبررات لأفعالها الشنيعة و تفقد شرعيتها الدينية المزعومة في أعين الشباب المسلم. وفي غياب إرادة سياسية و جرأة دينية حقيقية ستظل داعش باقية وتتمدد.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟