أحمد مهدي النجار
الحوار المتمدن-العدد: 4785 - 2015 / 4 / 23 - 21:32
المحور:
الادب والفن
جحيم الموانىء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ارتعدت فرائصها ؛ إنه يقف قي الزاوية المعتمة . ترى كيف اقتحم عليها المكان وهـؤلاء النسوة يتحلقن حولها ، فتحت عينيها على وسعهما ، وتأملته مستنكرة ، اختلج بدنها ، ثم كأنه فقد ما به من حرارة ، أطرقت لثوان، وشفتها السفلى ، الصغيرة ترتجف
، ثم تحاملت على نفسها ، ورفعت رأسها ؛ اكتشفت أحد فساتينها فـــــي الزاوية المعتمة يتحرك مع اندفاع الهواء الندي الذي رجّته المروحة السقفية ، وكان اجتماع الظلال انعقد
مع بعضه فتشكلت هيئة غامضة له ، عندئذ شعرت أنها دمية ، دمية جميلة ، تسر النظر.
ـ ماما ما بك ؟ .
سألت نفسها:
ـ يبدو شحب وجهي ! .
والتفتت إلى المرأة :
ـ لا شيء يا خالتي .
وغمغمت مع نفسها :
ـ يا للمرأة الشيطان ، كيف قرأت ذلك في وجهي ؟.
تلفتت حولها . لم ترَ سوى النسوة يثرن لغطا تتخلله ضحكات لاهية ، وعادت إلى نفسها ، وهي تشعر أن إحساسا غامضا شرع يناكدها، ورأتها أشبه ببندول يتحرك يمينا، وشمالا
قلقا ، موزع الشـعور بين السرور ، والحزن ، أو النـــدم ، رأت ، وكأن الأيام ليست سـوى لعبة لاهية ، ساذجــة ، والانغماس في غمارها نوع من الضياع ، والجهــل ، وابتعـــاد عن الحقيقة المؤلمة ، وهي خاضت غمار تجارب صعبة ، حملها هذا الخوض على التنازل عن الكثيـر من أحلامها، ولم تنس أنها اعترفت لنفسها أنها خسرت ما خسرته بســبب تطرفهـا ، وقلة تسامحها مع ذاتها في أكثر الأحوال ، وأصعبها ، وشجبها للـ ( بد) ، الذي يفــرض
نفسه في داخل وعيها على هيئة حقيقة مرّة ، مؤلمة ، وقدحذفتها من مفردات نصها الذي تعاملت به مع أكثر الأمور بجفاء .
وهاهي تخضع لإرهاص الواقع ، فهو لم يكن موجودا بجسده ، إلا أنه بخيالـــه يستثمر
حضورا طاغيا ، إنه يلاحقها ، وهي تهرب بلا جدوى ، وكانت مسخت صورته ، بل قاربت
محوها من ذاكرتها ، حتى وجدتها تشوهت في خلل السنوات السبع التي قعدتها إلى جــوار أمها . وفي البدء كانت تطردها من رأسها كما تطرد القطط السائبة التي تتسلل إلى البيــت
مساء . ولكنها ، في خلل تلك الأيام تراءت أشبه بنقطة صغيرة فـــوق خط الأفــق ، وكانت
تقترب ، ولما تراءت ، أشاحت بوجهها إلى جهة أخرى ، إلا أنها وجدتــه ، وكأنــه لا زال يحملها إلى القعود إلى جواره ، ويبحر في قارب مثقوب ، هكذا رسخت تلك الصورة فـــي
بالها ، حتى رأتها تعذبها .
وتركته ، وفرّت إلى الشاطىء البعيد ، واعتمل ، في جميع كيانها المرتعش ارتعاشـة
مصباح يدوي في ديجور الظلام ، بل اختلط الشـك باليقين حتى كان صدرها يضيـــق به وسمعتها تهتف خلفه : اغرب أيها المعتوه .
أمّتْ المكان امرأة أخرى ، سبقتها بسملتها بصـوت جهوري ، وأمها إلى جوارهـا لم
تكف تمطرها بالدعوات ، والأمنيات بقلب يرســـل وجيبه محبــــة ، وحنانا ، فقد عانــت
من أجلها الأشجان أكثر مما عانته هي حينما خاضت زواجا فاشلا ، وقد لقيت ما تقولــه أمها من أنها ينبغي أن ترى الأشياء من حولها على حقيقتها ، وقد خاضت تلك التجربة
المّرة ، مثلما شعرت بها .
حين تَركنَ النسوة المكان ، انحنت أمها ، وقبلتها فوق رأسها ، وأردفتها فوق جبينها
، ولما رفعت قامتها التقطت أذن سيناء صوت أنـــّة ، أو آهــة ، عندئذ رفعت بصرهــا ،
ورأت أمها تموه دمعتين بنهاية وشاحها ؛ فتنهدت هي الأخرى ، ولكنها لم تعثر على دموع في مآقيها لكي تطرحها عزاء على ما وجدت أمها عليه ، من أجلها .
اعتقدت سيناء أن أمها ترجو لها حياة مستقرة تحقق سعادتها من خلالها ، فأبكتها ذكرى الزواج الفاشل الذي عزت أسبابه إلى الحظ لا غير ، ولكنها تستطيع ترميــم ذلك
الصدع الكبير في جدار حياتها ، وربما تتهيأ لها الفرصة لتمويهه مثلما موهت أمـــها دمعتيها الساخنتين ، أو تستطيع ترميم تمثالها وحدها ، وإضفاء لمسات جميلـــة عليه
؛ لأنه لم يتحطم تمامــا .
أطرقت ، وقد وجدت نفسها وحيدة فـــي المكان ، وبغتة داهمها عطره ، ورائحـة
بدنه ، ارتجفت ، وقالت فــــي صوت امتلكـــه إحساس بالفزع : يا للشيطان ، إنــه عطره
الذي لا يمكنني نسيانـــه ، لقد مكث متواريــا بين خزين الذاكـــــرة ؛ شعرت بالجزع ، وقد
راح ببالها أن زيدان ، زوجها الأول لازال يواصـــل بعـــث أطيافــــه باتجاههـــا ، إنــه لا
زال يحبها ، ولا ( .. يمكن أن تكون يوما لسواه ...) .
كتمت شهقتها ، وشــعرت به يتخذ مكانه إلى جوارهـــــا ، مّسّ وركــه فخذهــا ،
وشعرت بذراع عظيمة تطوقها ، وتضمها إليه ، وصوت يوشوش فـي أذنها :
ـ كيف الحال ؟.
رفعت وجههــا إليه ثم أطرقت ، وبلا إرادة ، اتسعت شفتاها ، راسمة ابتسامـــة صغيرة
، حذرة فوق وجهها ، بينما أناملها تتصارع فــــي حجرها ، فــي الحين نفسه كان ذهنها
يغشــــى مرافيء لا تجـــد مبررا لزيارتها مرة أخــرى؛ إنها لا تجد رغبــة فــــي استذكار
الماضي ، وربما ما قبل اقترانها به ، حيث الأماني الصبيانية ، والآمــــــال الشذية فـــي
سني شبابها الأولى ، فقد أمست مجرد خواطر ، وأمان تبددت تبدد حلم .
فغم أنفها شذاه الشبيه بنسيم أول الربيع ، ارتجفت ، وقاومت ، بوهن شديد مشاعر
النـــدم على كل ما حصل ، إلا قرارها الأخير الذي استنكرته أسرتها ، وصديقاتها فــــي
الدائرة ، وانحت باللائمة على هشاشتها ، وقد تراجعت عن قرار الإعـراض عن الزواج
، وإيثار القعود في البيت إلى نهاية المطاف ، إلا أن أمها أثارت في فؤادها مخاوفـا لــم
تضع لها ، في حسابها منزلا ، بل هي لم تخطر في بالها .
رأتها لا زالت وحدها في الحجرة , لم ترَ أحدا إلى جوارها ، لا زيدان ، الذي غيرت أمها
اسمه ،وكأنها تختصره ، إلى زيــّـان ، ولا راجـــــح ، إلا أنها تشعر بشيء يدفعها باتجاهه
، شيء لم تتعرف إلى ماهيته ، أو كنهه ، ولكنه ، حسب إدراكها ، عللته أنه يشبـه آثار ما
ما تتركه العواطف المؤجلة ، أو التي أصابها ما يشبه العطب ، أو الفساد ، ثم كأنها تشــعر
بأنفاسه تلفح خدها ، وتؤجج الحرارة في وجنتها، تسمع كأنه يقول شيئا له يملك جرس ما
يشبه العتاب . والشعور بالأسف . وكانت وكدت مرارا ، وتكرارا أن اقترانها بزيدان يشبـه
إلى حد ما سوءة بدت أشبه بعاهة ظاهرة للعيان ، تبدو أشبه بخال أسود التصق بالوجنة .
أنصتت ، كأنها تسمع صوته يعود هامسا في أذنها ، إلا أنها لم تميز بين صوت زيدان،أو
صوت راجح في وقت فقد فيه بحتة المحببة في لفظ البعض من الحروف القمرية ، كذلك لم
تتعرف إلى الذراع المشعرة التي تدفعها إليه ، وتربت بدلال .. لا تدري ، وكان ذلك النـزاع
يبعث الألم في روحها .
لا زالت تصر على غض البصر ، وقبيل ذلك ، تطرف أجفانها ، وكأنها أجنحة فراشــات
تحتضر ، وتراها عجزت عن القبض على الحلم ، ولكن أي حلم كان هو ، وقد فسدت جميع
الأحلام في ذهنها ، وغزا العفن آخرها ، ولم ترَ فيها ما يصون ذكرى طيبة ، بل كانت ، في واقع حالها تخشى رؤية الحقائق ، أو تواجهها من جديد بخوف ، وتردد مؤثرة رغبتها في
التغاضي، والاستسلام لواقع جديد ، بدا يلح أمام عينيها ، ولكنه لا زال مكتمنا خلف أمواج
ضباب ، أو رمال الزوبعة التي أهاجها زيدان ، إنها لا زالت تشم الريح المندفعة باتجاههــا ، ريح زيدان المتفشية تفشي داء لم يـُعثر على وجار يشطب مجمل أيامه معها بكل علله ،
وسوءاته .
تتأوه , وتسأل : كيف عاد زيدان بكل حمقه إلى فضاء أفكارها السرية ، كيف عـّرش في نسيج الأيام الخلق ، كيف تمحو اسمه ، وملامـــح وجهه التي ظنت أنها توارت فـــي ديجور السنوات السبعة التي لم تره فيها قط . وهاهي الساعة ، كأنها تتعذب، مرة أخرى
إلى جواره ، وتكتوي بلهب النيران القديمة ، وتعاني ، وجلا ، وخجـلا ، وهل سيكون كل
ذلك الشعور جزئيا ، وعابرا ؟.
حبست آهة في صدرها . وقد غيبها الذراع الأعبل ، المشعر ، وهو يكتنفها إليه بكل قوة
عصفه ، وريحه فرأتها أشبه بدمية بحجم ما ، لا دماء تجري في داخلها ، ولا تسـعى فيها روح . وكان ثمة لغط غريب جعلها تستوحش كل مألـــوف ، تستنكر وجودها فـــي المرفأ الئاني قبل أن يطأ قدماها بلاجــه بتوجس . وشعرت بهواء بارد ، منعش غشى المكان ،ثم
تغلغل في تضاعيف العتمة .
ـ هل أقبل الليــل ؟ .
كانت شفتها السفلى منفرجة ، وكأنه هوى عليها لثما ، وتقبيلا ، فعادت تطبق أجفانها ، لتشعر أنها توارت في الظلام ، إلا أنها ، في الظلام الغريب الحلكة ، رأت المكان يجمعها بزيدان ، وذراعه تأخذها إليه ، وكان وجهه محتقنا ، وعيناه تقدحان شررا، كادت تصرخ:
ـ بل هو الشيطان .إلا أنها انتزعت آهة من شعرت بجميع الحويصلات الهوائية
تضج برفقتها كرها :
ـ أبعدْ ..أنت أيها الوحش الأحمق .
وترددت ، فــي الجو المعتم قهقه دافئـة، مطمأنة . فتحت عينيها ، وكأنها صحت من دوار ، أو نجت من دوامة مخيفة . فرأتها إلى جوار راجح ، واستطاعت استعادت سؤالـه
، ولم تنظر حتى يكرر سؤاله ، وكان رآها شبه ذاهلة :
ـ تسألين عن الليل ؟.
لم تدرِ كيف ألقت رايتها ! رايـــة الدمية الجميلة ، وكيف تهتكت الأواصر اللامرئية بينها
وبين ذلك الفراغ الحزين ، وكيف ابتسمت الدمية الجميلة بعد أن فتحت عينها ، وتأملت ما
حولها ، ثم رأتها تصغي إلى همس أنيس، وهنا بهرها النور ، وقبيل أن تغمض عينيها من
جديد، لمحت القطار يمضي بها عبر بساتين، وجداول جارية ، فاطمأن فــي داخلها شيء ،
ما ، ولما استقصت الأمر عرفت أن قلب الدمية شرع يدق دقاته الرتيبة ، وأن القطار الذي أصبح أزرق زرقة معتمة ، لاح أمام عينيها أخضر بلون سنابل ماكسيباك لم تمتلا بعد .
احمد مهدي النجار ـــــــــــــ الناصرية
5
أرجو التنبه إلى أن اسمي هو أحمد مهدي النجار وليس لي علاقة بالأخ أحمد النجار الموجود اسمه ومواضيعه في موقعكم ، أرحو فرز قصتي السابق ( أمجاد زائفة ) عن مواضيعه مع فائق التقدير .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟