أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم حسين - قرية - دارِى - رهين الظلمين















المزيد.....

قرية - دارِى - رهين الظلمين


هيثم حسين

الحوار المتمدن-العدد: 1329 - 2005 / 9 / 26 - 08:35
المحور: الادب والفن
    


(( صاحِ هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهدِ عاد ِ ))
كثيرٌ من الكتب التي نقرؤها تلازمنا بأفكارها , تؤثّر فينا بطريقةٍ أو بأخرى , ويكون هذا التأثير مختلفاً حسب نوعيّة الكتاب وحسب قوّة كاتبها , تجبرنا على الانفعال و التفاعل معها , أو التعاطف مع أبطالها إن كان المقروء رواية أو قصّة, أو لربّما قد يصل بنا التطرّف أحياناً بأن نحقد على بعض أبطالها , هذا إن كانت أفكارهم أو أفعالهم أو تصرّفاتهم التي أرادها لهم الكاتب وأفعلهم إيّاها لا تتناسب مع ما نهواه أو نودّه , فنكون أسرى أفكار مسبقة تفرض بدورها أحكاماً مسبقة قد تصدق وقد لا تصدق .
ولا يستطيع القارئ , أيّ قارئ كان , أن يكون بعد قراءته لكتابٍ ما كما كان قبل قراءته له , لا بدّ أن تُحدث تلك القراءة فيه شيئاً من الحركة أو التغيّر , حتّى وإن كان غير ملحوظٍ , وليس بالضرورة أن يكون مع ما ورد فيه أو ضدّه, طبعاً لن يقف على الحياد , لأنّ الحياد مصطلح المتهرِّبين من استحقاقات الـ " مع " أو الـ " ضدّ ".
والبعض من ذاك الكثير من الكتب التي نقرؤها ,أو لأحدّد يقرؤها أحدنا في أيّام مقاطعة الكتاب وهجرته , نتفاعل معه أكثر من غيره .
وههنا سأذكر رواية قرأتها قبل بضعة أشهر وراقتني ووددت حينها أن أكتب عنها لكنّني أجّلت الكتابة عنها لوقتٍ آخر.
والرواية هي رواية ( الخيميائيّ ) للروائي البرازيلي باولو كويلهو , هذه الرواية عزّزت لديّ ذاك الطموح في البحث عن ( الأسطورة الشخصيّة ) وخلقت صراعاً لتأكيد البحث عن تلك الأسطورة كما يسعى بطله سانتياغو , ذاك الشابّ الأندلسيّ الذي لا يساير رغبة أهله في أن يكون كاهناً ليتباهى به والداه أمام الأقارب والغير وليضمنوا – كما يظنّون – الآخرة ضمناً بولدٍ صالحٍ , كما ليضمنوا الدنيا التي تستسهل وتنبسط لرجل الدين الذي يُسارَع إلى تحقيق رغباته , وتؤمَّن متطلّباته على وجه السرعة لأنّ غضبه يعني غضب الربّ باعتباره خليفته وممثّله في الأرض .
يتمرّد على هواهم ويسير على هواه في أن يكون راعياً جوّالاً يتوسّد عصاه أو الأحجار ويفترش العشب ويلتحف السماء متجوّلاً مع قطيعه متعلِّماً المسؤوليّة وتحمّلها , دون أن يتخلّى حلمه عن مراودته في البحث عن أسطورته الشخصيّة وعن الكنـز الدفين بالقرب من الأهرامات في مصر عبر الصحراء الأفريقية .
ولأنّني لست بصدد كتابة دراسةٍ عن الرواية أو قراءةٍ لها فلن أسهب في معرفة الكاتب بالصحراء وطبيعتها وطبيعة أناسها .
ما يهمّ بعض الأحداث وتسلسلها الذي أبدع الكاتب في سرده لها , فيقف البطل مضطرّاً في الشمال الأفريقيّ لسنة أو أكثر بعد أن يُخدَع من قبل أحدهم , إذ احتيل عليه , ليبدأ من جديد مطارداً حلمه / كابوسه لتحقيق أسطورته.
وهكذا بعد توارد الأحداث وتعرّفه إلى الصحراء وبعض الأشخاص فيها وطبيعة أهليها في رحلته إلى الأهرامات لتحصيل كنـزه والرجوع به , تدور رحى حروب قبائليّة عشائريّة صحراوية لتعزيز السلطة والنفوذ وإكمال السيطرة , يستقرّ المقام بالقافلة في واحة صحراوية ليتعرّف سانتياغو إلى ( فاطمة ) الفتاة العربيّة التي تمنحه حبّاً منتَظَراً إلى حين حصوله على كنـزه الدفين وتحقيقه أسطورته كيلا يعيش حياة روتينٍ مملّة فيندم بعدها , فيكون ندمه خطيئته التالية التي يعالج بها الخطيئة الأولى غير القابلة للاغتفار – إن هو قعد عن البحث والسعي إليها- أو إن أقعده الحبّ أو أيّ شيء آخر عن ذلك .
وأخيراً وبعد لأيٍ يصل إلى الموضع المفترَض لتظهر له عصابة قطّاع طرق و سطو وليشبعه أفرادها ضرباً وإيذاءً , فيضطرّ إلى الاعتراف بما ساقه إلى هذا المكان , وليسخر منه زعيمها بأنّه رأى لأكثر من مرّة حلماً يقول له إنّ كنـزه مخبوء في كنيسة في الأندلس , ولكنّه ولأنّه ليس مجنوناً – كما يقول – كي يتبع الأحلام الأوهام قاطعاً كل ّ ذلك الطريق راكضاً خلف حلمٍ , يبقى حلماً .
سقت هذه المقدَّمة و الأحداث باختصارٍ شديدٍ وظلمٍ للرواية لأسوح في قلبها مع بطلها الذي يكون كنـزه في داره , وفي نقطة انطلاقه , ومكان نومه وحلمه ,ولكنّه ما كان ليستطيع إيجاده والعثور عليه أو معرفة مكانه دون البحث عنه وعن تحقيق أسطورته الشخصيّة التي لا تتلخّص في الغنى .
وأنا سأروي دون تشبُّهٍ بأبطال الروايات أو محاكاةٍ لهم كيلا أعيش في الوهم الحلم أو أعيّش نفسي فيه بعيداً عن الواقع, بكلِّ ما فيه مرارة وحلاوة , وإن كان المرّ يطبع الأيّام بطابعه أكثر , يبقى الحلو فيه (( بأنّنا محكومون بالأمل )) في أن يجتاح هذا الحلو أيّامنا , رغماً عن أنوف فارضي المرّ المستمتعين بدوام الوهم واستمرار الكابوس .
كنـزي في " دارا - دارِى " أو هو " دارا - دارِى " عينها , هذي التي لا تبعد عن عامودا التي منها انطلقت, أكثر من بضعة كيلومترات .
" دارِى " هي كنـزي الذي عثرت عليه يوم ظننت أنّ اكتشاف الجوار المعلوم نظريّاً , المجهول عمليّاً , على الأقلّ بالنسبة لي , قد انتهى .
" دارِى " هي كنـزي الذي عثرت عليه في بداية رحلة البحث عن الأسطورة الشخصيّة وانتهاء مدّة الزيارة المسموح بها وكانت شهراً .
بدأت بإنطاكية ومروراً ببعض المدن لأستقرّ في إسطنبول أيّاماً ومن ثمّ العودة منها إلى أنطاليا المدينة الساحليّة السياحيّة الأشهر في تركيا المعتمدة على السياحة بشكلٍ كبير كإحدى أهمّ مصادر الإيراد والدخل .
حيث يلاحظ المرء في المدن التركيّة الاهتمام كلّه وأكثر ممّا تحتاجه , النظافة , الترتيب , التزويق , واحترام السائح الزائر بغية إفراغ جيوبه لملء خزينة العسكر بالدولار المُعاد آجلاً أو عاجلاً إلى مصدره بوسائل شتّى .
لا تكاد تعثر في بحثك وسياحتك على ( بلاطٍ ) مقتلعٍ من مكانه أو زاوية حديديّة منـزوعة , أو كيس قمامة بجانب الحاوية ..الخ ما قد ينقص من جمال المنظر جمالاً .
وهذا يعني أنّ الاهتمام قائمٌ على قدمٍ وساقٍ ..
أمّا الأماكن المصنَّفة أثريّة والتي تعود إلى ما قبل الأربعمائة أو الخمسمائة عامٍ فإنّها تحوَّل إلى متاحف متجاورة يتفاخَر بها أمام السائح الزائر بغية تعظيم الترك وحضارتهم وترسيخ شعارهم الأتاتوركي ّ العنصريّ ( طوبى لمن يقول أنا تركيّ ) , وأيضاً للتفاخر أمامه هذا الذي يساق إلى الإعجاب بعمران بني عثمان , والتعجُّب بعدها من تطوّر الرجل المريض المتنكِّص إلى المراهق التائه بين انتماءٍ والهروب من انتماءٍ آخر , هذا المراهق الذي يحاول جاهداً الاغتسال من جلده بماء البحر المالح الذي تحرق الشمس بعده الأكتاف ومواضع أخرى.
وبعد تجوالٍ في بعض الأماكن السياحيّة أرجع إلى المناطق الكرديّة لأنتقل مسافراً سالكاً طريقاً لا مثيل لها في المناطق التركية , وبالتأكيد لن يخطئ القارئ أو يظنّ بأن لا مثيل لها من حيث الجودة , فأنا أقصد هنا من حيث الرداءة , بباصٍ منسَّق في المدن التركيّة إلى مناطق لا يراها ولا يُراد أن يراها السائح الغربيّ ..
يستقرّ بي المطاف بعد أكثر من خمسة وعشرين يوماً في سري كانيه المترَّكة ( جيلان بينار ceylan pinar) ومنها عبر طريق حجريّة أيضاً دون نظير لها إلى قزل تبه ومنها إلى قرية قراشيك الواقعة إلى الشمال الغربي لـ ( كرِي عامودِى ) المترَّك إلى كماليه لأرتاح هناك مغتسلاً بالغبار الذي يملأ الأجواء وبخاصّة بين ( سري كانيه و قزي qezê ) .
كنت ساخطاً أشدّ السخط على هذا الإهمال المتعمَّد وهذا التجاهُل غير المبرَّر إلا بالخوف من تاريخٍ غير مؤرَّخٍ ويخشَى من تدوينه وتأريخه , و هذا التناسي الحقود الأعمى لجغرافيّةٍ لا تملك إلا التجذُّر والثبات , والخيارات الأخرى ملغاة في عرفها , وليس بوسعها إلا أن تكون طوداً يضاف إلى سلاسل الجبال التي تطبع أبناءها بالعناد والصلابة والشمم , وقد يتسرّب إلى أنفس البعض من بعضٍ من ضعاف النفوس و رخيصيها بعض الضعف النفسيّ حيناً .
لكنّ الطبيعة تبقى هي هي التي تضفي على ساكنيها طباعهم أو طباعها .
ومن قراشيك إلى حيث الحلم , إلى حيث استنطاق الحجر , إلى حيث مساءلة النهر المجفَّف الذي يروي مجراه من الأساطير و الحكايا ما يروي ,إلى حيث الحصى تشكو جور الدائس عليها إلى هاجرها أو المهجَّر منها أو عنها , إلى حيث الكهوف المخرَسة , هذي التي تستخدَم كحظائر للدواب والأبقار أو كمتابن أو معالف .
إلى " دارِى " ذات التاريخ المُراد له أن ينسى و المسعيّ إلى إلغائه لأنّه لا يحيي للترك أمجاداً , بل على العكس من ذلك, وهيهات إلغاؤه وإفناؤه هيهات ..
إلى " دارِى " بقلعتها وسورها ومحارسها وطاحونتها...
إلى " دارِى " بقناطرها وكهوفها و بَرْطويلها...( بَرْ طويلي دارِى ) .
إلى " دارِى " بواديها و جسورها ...
إلى " دارِى " بحبسها ...
إلى " دارِى " بحاراتها الأربع المعروفة بتسمياتها الكرمانجيّة المشهورة وهي :
( tara fila و tara haciya و tara axê و tara kelehê ) ...
إلى " دارِى " بتينها وزيتونها وجبلها الأمين على تاريخها المتجاهَل ...
إلى " دارِى " المعروفة أوّلاً وآخراً بطيبة أهلها ...
إلى " دارِى " رهين الظلمين , الظلم الواقع عليها من قبل النظام , والظلم الذي يُوقعه أبناؤها بآثارها / آثارهم وكأنّه لا يهمّهم أن تبقى أو تزول , و السكوت الذي يمارَس على هذه التصرُّفات التي لا تخدم إلا أعداء الحضارة والذين يهمّهم اندثارها لتصبح نسياً منسيّاً و ليُظَنّ ويظهَر وكأنّه لم يمرّ من هنا أحد أو بنى حضارة عمرانيّة قلّ نظيرها ..
في " دارِى " رغماً عنّي تبادرت إلى ذهني صور من أنطاليا و إسطنبول وغيرها من المناطق السياحيّة التي زرتها , وتوارد الصور هذا يفرض عليك عقد مقارنة , مقاربة لا تقارَب , لتكون مقارنتك مفارقة بين هنا وهناك , حيث هناك كلّ ما يلزم وما سيلزم وما لن يلزم . أمّا هنا فلا شيء ممّا يلزم ولاشيء ممّا سيلزم وكلّ شيء ممّا لا يلزم ..
كلّ ذلك بغية خلق تاريخٍ لدعم أسطورةٍ لإثبات الإغراق في القِدَم , ولدفن تاريخٍ سيساهم في جلاء الحقيقة المعروفة المكشوفة المسكوت عليها للمصلحة القائمة في أن لا تُكشف أو تظهر ..
هنا وهناك والكاف هذه تضيف بعداً آخر على البعد اللغويّ المخصَّصة له ,وكذلك اغتراباً ضمن الوطن , وحتّى ضمن البيت , ليعيش الكرديّ ( غريباً بين أهله ) و ( منفيّاً في ذاته ) .. معانياً أينما حلّ وارتحل من ( تهجير مقنَّع ٍ) كما يقول البروفسور إسماعيل بيشكجي , أو تهجير قسريٍّ , أو ترحيلٍ , أو تفتيت أسريّ ...

وممّا يُؤسَف له أشدّ الأسف ...
وممّا يُبكَى له أمرَّ البكاء ...
هو أنّ البعض من أهالي " دارِى " يساهمون عن حسن نيّةٍ , وعن غير قصدٍ , أو بدافعٍ من مصلحةٍ مؤقَّتة , أو عن عوَزٍ مادّيٍّ , أو عن تكاسُلٍ أو قد يكون نتيجة (( لا مبالاة , أو عدم اكتراث , أو عدم إدراك خطورة ما يفعلونه , أو عدم إدراك عظَمة ما يخرّبونه , أو عن جهلٍ مستفحلٍ بين بعض المجهَّلين )) , ويشاركون في الألعوبة المخطَّط لها و يستدرَجون إلى الفخِّ الأتاتوركيِّ .
إذ نجد بأنّ البعض من البيوت , بيوت القرويّين , قد بنيت بأحجار القناطر التي تشبه ( القرميد ) أو أحجار السور التي تستخدم كأساسٍ وذلك لصلابتها وكبر حجمها وقوّتها , أو أحجار المحارس التي يُعتمَد عليها في إكمال بقيّة البناء .
في سجن " دارِى " الأثريّ الأكثر من عظيمٍ في هندسته المعماريّة الفائقة , والمهمَل إهمالاً غريباً, حيث الاعتماد في الإنارة على بعض اللمبات التي أجزم أنّ أهل القرية قد تبرّعوا بها .
صوّرت بأسىً وأسفٍ الجدران المتآكلة والمتداعية والمخبَّأة تحت الأنقاض , فأجد حائطاً منهاراً , وهو الحائط الغربيّ تحت الدرج , يملأ ترابه جانباً من الحائط المختفي بالتراب وبعض الأوساخ التي ترمَى هناك , وذاك التراب بدوره يضغط على الأعمدة المجاورة ليضاعف عليها الوزن والحمل والضغط .
وكذلك أتفاجَأ برؤية عمودٍ في القلب , قلب السجنِ , قد حُتَّ وحُفر لأكثر من ثلاثين سنتيمتر من إحدى زواياه , عندما استفسرت عن سبب ذلك , أجابني صديقي ببالغ الأسف بأنّه إمّا لعب ( عيال ) أو أنّ أحدهم قد رأى حلماً بأنّ هذا العمود يخفي كنـزاً وذهباً في هذه الزاوية , فيحفر فيه باحثاً عن الكنـز المخبوء ويستمرّ في التنقيب والبحث اللَذين لا يؤدّيان إلاّ إلى هدم السجن فوق رأس الحالم الظالم / المظلوم ,وليدفنه حلمه أو ليُدفَن مع حلمه الذي سيدفِن معه هذا الأثر التاريخيّ العظيم الذي يُراد له الفناء والاندثار .
وكان صديقي الداريّ يقول لي : اكتب يا صديقي قبل أن يفوت الأوان .
كان يقولها بحرقةٍ وتشظٍّ على ما سيؤول إليه هذا الأثر العظيم الذي لا يشهد أي عمل من أعمال الترميم ولا حتّى مشروع عملٍ أو فكرة مشروعٍ بل على العكس يتعرَّض لحملات تقزيم.
ومن هنا أرفع صوتي عالياً عالياً عالياً محذِّراً :
إلى كلّ من يهمّه الأمر بأنّ آثار " darê " " دارِى " إن استمرّت على حالها هذا ؛ حالِ الإهمال والتجاهُل والتغافُل والتناسي , فلن يطول بها الزمن لتصبح أثراً بعد عينٍ , لتصبح أثراً وطللاً مشكوكاً في مصداقيّة ما كانته , وليقول البعض بأنّه كان يا ما كان في قديم الزمان آثاراً تسمَّى "darê "" دارِى " , أو ليكون المرجع الوحيد إليها حكايا العابرين بها والمارّين منها و التي ستؤسطر بدورها ومن ثمّ تُنسَى . إذ ما فائدة الفرع إن تلاشى الجذر الأصل .
اختتمت رحلتي قائلاً :
نعم .. لقد وجدت الكنـز , كنـزي .. وجدته ..

ولقد رأيت من الواجب أو من الأفضل إدراج مقدَّمة رائعةِ جكر خوين ( رشو داري ) والتي يتحدَّث فيها عن ( مدينة دارا ) , إذ يقول :
(( مدينة دارا هي إحدى المدن الكبيرة التي اتّخذها / دارا / الملك الفارسيّ مقرّاً لقيادة جحافله الزاحفة ويقرن اسم هذه المدينة ببرجها وحصنها الشهيرين وزنزانة سجنها الرهيب .
في هذه المدينة تنساب المياه الآتية من السدّ المشيّد فوق الحصن خلال دورها وبستانها وحدائقها. هذه المدينة الأثريّة القديمة التي لم يبق منها كرّ الغداة ومرّ العشي سوى أطلال ترسو دعائمها على هضبتين يخترقها نهر /قرديس/ ويحفّ بها سور شامخ محكم البنيان يطلّ على الدور والمساكن والثكنات المتهدّمة وعلى حافّة نهر /قرديس/ وفي مشارف السور تنتصب صخرة / بردويل / العاتية كأهرامات الفراعنة وبالقرب من نصب / بردويل / الشامخ الراسخ تختبئ الزنزانة / بردويل/ في أعماق الأرض وهي سحيقة الغور مظلمة موحشة تنـزّ رعباً وهولاً يتعذّر الهبوط إليها في وضح النهار بغير مصابيح تبدّد ما يكتنفها من ظلام كثيف ولدى مدخل الزنزانة هوّة يظلّلها سقف تقلّه أعمدة هزيلة عجفاء , قيّض لي أن أنزل إلى أغوارها فبدت لي وكأنّها قد نحتت في الصخر ولم تبنَ بناءً.. ويتّضخ لكلِّ ذي بصرٍ إنّ سجناً ممائلاً كان يعلو سطح هذا السجن غير أنّه اندثر.
الأنقاض المبعثرة هنا وهناك تروي قصّة حضارة عظيمة متوغّلة في التاريخ فقدت كلّ معالمها الحيّة ولا تزال تصون روعتها وجمالها واسمها .. كلّ ذلك محفور في ناصية الدهر .. الأطلال التي ورثناها عن مدينة دارا تحدّثنا حديثاً صامتاً سهباً عن غابر الحضارات بكلّ ما كان فيها من عظمة وجلال وجبروت .. وبالرغم من هذا وذاك يمرّ العابرون بتلك الآثار دون أن يجشّموا أنفسهم مشقّة الالتفاتة إليها أو التساؤل – لما كان ذاك المجد الهارب الذي لم يدع لنا سوى فلول مواكبه وبقايا من شعاع شمسه الآفلة وإلامَ آل أمر أصحابها ولا يدور بإخلادهم أنّ قتل الأعداء وغدرهم وغاراتهم الجائرة بدّلت أمصارهم وقراهم خرائب وأطلالاً و سلبتهم كلّ كنوزهم وإنّ المعارك الهامشيّة بين الأخ وأخيه والضغائن المقيتة التي تملأ صدورهم هي التي حادت بنا عن ركب الحضارة ونكبت بمواكبنا عن البناء والازدهار وحجبت عنّا نور الحرّيّة وتركتنا نتعثّر بأذيال العبوديّة والاستغلال ونرسف في أغلال الجهل . إنّه لأشدّ مرارة وإيلاماً للنفس وأمرّ علينا من حزّ المدى وضرب الرقاب أن نظلّ سجناء في بلادنا الرحبة , غرباء في وطننا الأمّ , لا نستطيع التحليق لأنّ أجنحتنا مهيضة .... )) ص 7 – 8 من كتاب ( رشو داري ) لـ جكر خوين , ترجمة توفيق الحسيني .



#هيثم_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وأيضاً نزار ...
- (( التركيد المُمَنْهج ))


المزيد.....




- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم
- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم حسين - قرية - دارِى - رهين الظلمين