أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فالح عبد الجبار - المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات الاجتماعي لحنا بطاطوفي العراق المجتمع - التاريخ - الطبقة















المزيد.....



المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات الاجتماعي لحنا بطاطوفي العراق المجتمع - التاريخ - الطبقة


فالح عبد الجبار

الحوار المتمدن-العدد: 1318 - 2005 / 9 / 15 - 11:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المجتمع - التاريخ - الطبقة
في العراق
المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات ا لا جتماعي لحنا بطاطو

ترك لنا حنا بطاطو إرثا كبيرا كرس له جل حياته الواعية اكاديميا مدققا، يسعى الى معاينة مركّبة للمادة قيد البحث، هيابا من أي تعميم لا يقوم على الوقائع التجريبية، ومتوجسا من معنى التاريخ المتفجر الذي يعاينه ويعيشه، في آن.
يلوح حنا بطاطو، للوهلة الاولى، في نظرة كثير من قرائه ومحبيه، جامع معلومات لا يبارى، شغوفا بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل. وهذه بلا ريب خصلة من خصاله الكثيرة. غير ان هذه النظرة تنطوي على تبسيط مفرط. فمنهج جمع مادة البحث، وتحليلها، وتركيبها، ثم عرضها على النحو الذي فعله حنا بطاطو، عملية معقدة، عميقة الغور. فمادة البحث، أي بحث، أشبه بسديم له بداية وليست له نهاية. وهي اقرب الى العماء chaos الارسطي، الذي يتحدى العقل البشري Logus، كقوة ناظمة او طاقة للتنظيم، للفرز، والتمييز، والفصل والربط.
لقد ووجه بطاطو وهو يغرف التفاصيل عن المجتمع العراقي تحديات عديدة.
اولها فرز وتصنيف هذه المادة. وثانيها اجلاء غموض العلائق فيما بين مكوناتها، وثالثها قراءة المعني في هذه العلائق.
يعترف بطاطو بأن المادة التي جمعها كانت مشابكة الى درجة محبطة. وان غموض علائقها بقي نقطة محفزة على الاستجلاء. اما المعنى فقد دفعه الى البحث في لغز التاريخ، الذي قال عنه، مكررا كلمات المؤرخ بيتر جيل: "ما التاريخ إلا سجال بلا نهاية" “History… is an argument without end”.(1)
لم يكن بطاطو جامع فراشات الوقائع، عقلا منهجيا مبدعا ايضا، رغم تمنعه الواعي عن الكتابة النظرية، التي يسرف غيره فيها اسرافا. ونراه يكرر في اكثر من موضع ان هذا الحكم النظري او ذاك (مثلا وجود او عدم وجود طبقات في المجتمعات العربية) بحاجة الى "ثروة من التفاصيل" حسب تعبيره(2) . فأي منهج، او قل أية مناهج تقف وراء سفر بطاطو "الطبقات الاجتماعية القديمة"، ووراء غير ذلك من كتابات قليلة العدد، كبيرة الأهمية؟
افترض من خلال قراءتي لجلّ اعماله، ان الرؤية المنهجية التي اعتمدها بطاطو مركبة استمدها من مصادر عدة واعتمدها بصورة نقدية، أي باضافة ابداعه الخاص للمناهج التي درسها. اقول هذا رغم ادراكي ان حنا بطاطو لم يكن مختصا في فلسفة المعرفة او علم المنهج، بل كان مؤرخا اجتماعيا، أي يجمع في عمله مناهج علم التاريخ ومناهج علم الاجتماع. ولتعيين رؤيته المنهجية، واسلوب تطبيقه لها، سأتناول اربعة جوانب نظرية في عمل بطاطو:
الجانب الاول: مفهوم وطبيعة المجتمع في المشرق.
الجانب الثاني: مفهوم التاريخ.
الجانب الثالث: مفهوم الطبقة.
الجانب الرابع: النزعة التجريبية.
بوسع الباحثين المهتمين بهذا الموضوع ان يجدوا ويختاروا جوانب اخرى، بلا ريب، فالتقسيم الذي اقترحه مجرد اختيار شخصي أملته اشارات بطاطو نفسه في مقدمات اعماله، مثلما أملته خياراته لبعض المواضيع السجالية: معنى التاريخ، طبيعة المجتمع العربي وطابعه الانتقالي، وجود او غياب الطبقات في هكذا مجتمع، واسلوب التثبت من هذا المفهوم او ذاك الحكم النظري.




I


لا ريب في ان طبيعة المجتمع او المجتمعات، وجوهر التطور الاجتماعي، والعوامل الكامنة وراء التطور (او لتغير)، تندرج في صلب اهتممات علم الاجتماع والمشتغلين به، مثلما تندرج في صلب تأملات الفلسفة الاجتماعية والسياسية والاخلاقية.
ويلاحظ ان المشتغلين العرب في هذا الحقل ينقسمون عموما، شأن كثرة من المعنيين بالفلسفة الاجتماعية او من قادة الحركات الاجتماعية، بصدد مفهومهم لطبيعة المجتمع العربي (او الاسلامي). ثمة تيار عريض يرى الى ان هذا المجتمع يتميز بخصوصية، تفرده عن مجتمعات الغرب، وتضعه بالتالي خارج فعل مقولات أي علم اجتماعي غربي، كما تضعه بمنأى عن أية منظومات نظرية تدعي تفسير نشوء المجتمعات، وديناميكية تطورها. وهناك بالمقابل تيار آخر، عريض ايضا، يتبنى مفهوما معاكسا، يرى الى وحدة تطور المجتمعات، وبالتالي يضع المجتمع العربي، شأن المجتمعات الاخرى، في دائرة نظريات ومقولات العلوم الاجتماعية الغربية بعامة.
يقدم تيار الخصوصية (الذي يتوزع في الحياة الفكرية على اتجاهات ايديولوجية عديدة) على فكرة وجود جواهر حضارية، او ثقافية، متعددة، متباينة، ثابتة، تقرر طبيعة كل دائرة او وحدة حضارية، وتسبغ عليها تميزها وفرادتها.
الواقع ان اتجاه الخصوصية هذا هو نسخة مكررة، وان تكن مقلوبة، للمدرسة الجوهرية الالمانية essentialist، التي تفصل حضارة الغرب عن حضارات الشرق، وتقيم بينهما برزخا من الانقسام يقوم على جملة من المتضادات. في هذا الاطار يقف الغرب الديناميكي، العقلاني، في هذا الطرف من البرزخ، ويقف الشرق الراكد، اللاعقلاني في الطرف الآخر من البرزخ. ابرز منظري هذا الاتجاه هو عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر(3) .
أما الاتجاه الآخر، القائل بالعمومية، فيرى، اعتمادا على مقولات مدرسة الحداثة او المدرسة الماركسية التاريخية، ان مسار المجتمعات، يمضي من مراحل دنيا الى مراحل عليا في تطور خطي صاعد، أي من التقليد الى الحداثة، (او من المجتمعات الزراعية الى الصناعية) او من الاقطاع الى الرأسمالية.
تنفي المدرسة الاولى (مدرسة الخصوصية) او تهمل وجود أية أوجه تشابه جوهرية في حراك المجتمعات، بينما تنفي المدرسة الثانية او تهمل وجود التمايزات والاختلافات.
لقد تعرض هذان الاتجاهان الى نقد مستديم، لانطلاقهما من القول بثبات الاختلاف، او انعدامه، ومن تمسكهما بكليات مثل "الشرق" او "الغرب" ليست في الواقع متجانسة كما لو كانت كتلة صوانية.
يعلن علي الوردي مثلا انتماءه لمدرسة الخصوصية، داعيا الى قيام علم اجتماع عربي خاص يعتمد نظرية ابن خلدون(4) .
وهناك حشد من علماء الاجتماع العرب يتمسكون، دون كثير سجال نظري، بالاتجاه المعاكس. واعتقادي ان حنا بطاطو قام بنوع من تركيب Synthesis بين الاثنين.
هناك قولة شهيرة للانتروبولوجي الفرنسي لويس دمونت(5) ، يحاجج فيها ضد مبدئي الخصوصية والعمومية المجردين، في معرض تطبيقهما على دراسة المجتمعات الشرقية او الغربية. ويلاحظ، مثلا، ان المراتبية في نظام الطوائف المغلقة الهندية، مع نظام المراتب، يتميز بعناصر اختلاف وعناصر تشابه مع نظام المراتب، في آن.
من هذا المنطلق نفسه انتج بطاطو توليفة جديدة، هي بمعنى من المعاني ضد المدرسة الجوهرية الخالصة، وضد مدرسة الحداثة الخالصة، سواء بشكلها العربي او بشكلها الاوروبي. وهذه التوليفة هي أحد منابع ثرائه.
ولعله ادرك السخف المنطقي لمذهب الخصوصية الذي يستدعي، بداهة، انتاج منهج بحث وتحليل خاص بكل مجتمع، مثلما ادرك السخف المنطقي لاتجاه العمومية المطلق، الذي يفترض بداهة وضمنا الاكتفاء بدراسة نموذج او حالة واحدة، تكفي للتعميم.
أطل بطاطو على المجتمع العراقي دون ان يقبل مسبقا بنفي وجود الطبقات (موقف المدرسة الجوهرية) ودون ان يقبل مسبقا باثبات وجودها (موقف مدرسة الحداثة الخطة)، وترك الحكم مُرجأ حتى الفراغ من استقصاء مادة البحث في الواقع. بهذه النظرة المركبة درس بطاطو المجتمع العراقي، وبالطبع فان مدى نجاحه في تطبيقها، او مدى تماسكه المنطقي في اعتمادها، مسألة اخرى تماما. لكن ما قدمه لنا من مادة غزيرة انما يكشف عن مجتمع في مرحلة انتقالية، بالمعنى التاريخي لهذا المفهوم.
ولكن ما معنى التاريخ وما معنى الانتقال؟ تلك هي القضية المنهجية التالية التي انشغل بها.



II

يشي بطاطو في واحد من اعترافاته الوجيزة بحيرته الكبيرة ازاء معنى التاريخ، وازاء التحليل التاريخي للانتقالات العنيفة كالحرب الاهلية الانجليزية (اربعينيات القرن السابع عشر – 1640) والثورة الفرنسية (اواخر القرن الثامن عشر) والثورة الروسية (1917) ويلاحظ ان عمالقة المؤرخين (تويني Tuwney، تريفور – روبر Trevor – Ruper، وهيكستر Hexter) اختلفوا اختلافا شديدا حول الاصول الاجتماعية للحرب الاهلية الانجليزية وبالذات دور النبلاء. ويقول بطاطو في نغمة تبدو يائسة "لم تُحل القضية ابدا"! .(6)
ويعرج بطاطو على دراسات الثورة الفرنسية، فيلاحظ ان تفسير ظاهرة بروز نابليون يختلف من جيل الى آخر، ومن حقبة الى اخرى فيستشهد بالمؤرخ الهولندي، بيتر جيل Pieter Geyl، بعبارة اوردناها في المقدمة: "ما التاريخ إلا سجال بلا نهاية".
يفترض بطاطو، وهو افتراض قابل للنقاش ان شئتم، ان التاريخ ليس موضوعية خالصة "فهناك تاريخ، ولكن هناك ايضا شيء من ذات المرء" أي ذات المؤرخ حسب قوله. ويضيف "لا مناص من ذلك"(7) . يثير بطاطو بهذه العبارة اشكالية قديمة في الفلسفة الحديثة، المتأرجحة بين الموضوعية الحديدية للتاريخ، كما تمثلها الهيجلية، (والماركسية المفسرة تفسيرا جامدا بالتبعية)، والذاتية الجامحة، كما تمثلها النيتشوية (وتيارات ما بعد الحداثة بالتبعية). هنا التاريخ صيرورة تجري وفق قانون حديدي، وهناك التاريخ نص واعادة انتاج النص باعتباره نتاجا خالصا للذاتية، ان جاز التعير. هل نلمح في ذلك محاولة توليف نابعة من رؤية منهجية واعية؟ جائز.
لقد كان فهم التاريخ على انه مسار مقدس لا ترتبط احداثه بعلائق السببية بل يرتبط كل حدث، منفردا، بقوة متعالية تحكم السيرورة البشرية والطبيعية، يسود الثقافات والحضارات ما قبل الكوبرنيكية، او بتعبير اوغست كونت، يسود الفكر الميتافيزيقي (الديني). وكان اول تحرر لفهم التاريخ من السببية المقدسة، قد اتخذ شكل فهم عشوائي، لتطور التاريخ فهمّ يقوم على وصف اعمال العظماء، ملوكا وزعماء وقادة، ثم اتخذ، بفعل النظرة التأملية، طابع مسار موضوعي، مجلل بالغائية، أي وجود معنى باطني محرك للتاريخ، إما بوصفه تجليا للروح (العقل)، او حركة صاعدة باتجاه مملكة الحرية. يفتح الفهم الموضوعي العميق للتاريخ الباب امام تحليل التغيرات البنيوية، التي تجري بهدوء تحت السطح، حاملة مدماك التغيير. مقابل هذه المقاربة البنيوية، ثمة المقاربة الظاهرية المكتفية بتحليل ورؤية "الاحداث" المحتدمة على السطح.
يشكل التحليل الباطني، او البنيوي، امتدادا لفكرة "اليد الخفية" (حسب آدم سميث)، فكرة وجود بنى، وقوانين تتحكم بالحركة الخفية للتغيير، التي تتراكم لتصل نقطة التحول. يتبنى بطاطو المنهج البنيوي لتحليل التاريخ دون ان يتقبل النظرة الفلسفية لوجود حركة غائبة فيه. ويحلل على هذا الاساس التحولات "الهادئة" الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تراكمت لتؤدي الى 14 تموز 1958.
ويلومه النقاد على الاغراق في "التحليل البنيوي"، وإهمال "التحليل السياسي"(8) يشرح بطاطو موقفه على النحو التالي:
"يبحث وليم روجر لويس، بعمق، آراء آخر سفيرين للملكة المتحدة في العراق الملكي وهما السير جون تروتبك والسير مايكل رايت.
ويلاحظ روجر لويس، بصدد اسباب [ثورة تموز 1958] وجورد تضارب بيني، من جهة، وبين السير مايكل رايت ومايكل ايونيدس، الخبير الاقتصاد البريطاني، من جهة اخرى. ويقارن بين "التفسير السياسي الصارم" الذي يقدمه رايت وآيونيدس، وبين "تشديدي المفرط" على التغيرات والانخلاعات البنيوية".
ما علة هذاالتباين؟
يجيب بطاطو:
"برأيي ان التاريخ ينطوي على عمليات خفية واحداث برانية، وهي مترابطة. العمليات الخفية تمضي بلا ضجيج، بل دون ان تُلحظ. اما الاحداث البرانية، بالمقابل، فقد تكون رتيبة احيانا، ومدوية وعاصفة احيانا، لكنها بيّنة في كل الاحوال. وان المبعوث الدبلوماسي او الخبير الاجنبي يميل الى تحسس الاحداث الظاهرة لا العمليات الخفية، بحكم المهنة، وذلك ما لم يكن مطلعا اطلاعا عميقا على تاريخ البلد الذي يخدم فيه".
ويذكّر بطاطو قراءة ان السفير مايكل رايت أكدّ في يوم 22 نيسان 1958 – أي قبل 3 اشهر من الثورة – ان العراق يخلو من "أي وضع ثوري"، مرددا بذلك صدى قولة نوري السعيد الشهيرة، نهاية عام 1956 ان "دار السيد مأمونة"(9) .
رغم ان بطاطو يلمح، من طرف خفي، الى انه لم يقبل بعضا من افكار ماركس، (فكرة الحتمية والغائية في التاريخ)، فانه يقر بأنه مدين بفهمه البنيوي لتحليل التاريخ الى ماركس وحده(10) ، وبخاصة قضايا الانتقال. فهو يشير في اكثر من موضع الى ان التحولات التي شهدها العراق في القرن العشرين ناجمة عن ارتباطه، بل زجه في حركة السوق الرأسمالي العالمي، وهو يحلل هذا "الزج" كحركة واقعية باعتماد المعطيات الملموسة، دون ان يعتبر التحول محدّدا سلفا كحتمية، او غائية واعية، بل نتاج تفاعل واحتكاك دائرتين حضاريتين، وخضوع الواحدة للأخرى.
ولنلاحظ عرضا، ان قضايا الانتقال التاريخي الى المجتمع الحديث، تنطوي، في كلاسيكيات ماركس على نزع ملكية صغار الفلاحين وصغار المنتجين، ونشوء وتركز وتمركز رأس المال الحديث. وهي عملية درسها ماركس اعتمادا على معطيات ملموسة في انجلترا، وبلدان اخرى. اما في العراق، فان الدولة كمالك أرأس للأرض، وكناظم اقتصادي، تلعب دورا اساسيا في خلق الطبقات الحديثة من كبار ملاك الارض، وكبار الرأسماليين، بينما كانت نطف هذه الطبقات قد نشأت في حاضنة الادارة الكولونيالية.
ومهما تكن طبيعة وسمات الانتقال هذه، أي مهما اضفنا اليها او اضاف اليها باحثون آخرون من سمات بنيوية، فان زبدة المرام هنا، الاشارة الى ان وحدة جوهر الرأسمالية، أي نشوء الرأسمال كعلاقة اجتماعية تقوم على تحويل قوة العمل الى سلعة، وتجرد المنتجين الصغار من وسائل الانتاج، لا تنفي اطلاقا تنوع اشكال نشوئها، وضرورة معاينة هذا التنوع على الارض الخصبة، لا في سماء التجريد الجدباء.

III

الجانب الثالث في المعمار المنهجي الذي استخدمه حنا بطاطو هو مفهومان: مفهوم الطبقة class، ومفهوم المكانة، أي الوجاهة الاجتماعية (المعروف بالانجليزية status، وبالالمانية stand).
اعتمد بطاطو هنا، كما يذكر في عدة اماكن(11) ، بالاساس، على ثلاثة منابع نظرية: ماركس، ماكس فيبر، وجيمس ماديسون. غير انه استخدم مفاهيم هؤلاء المفكرين الثلاثة كأدوات منهجية، وليس كمعطى نهائي، يطبق عشوائيا على كل الظروف، واضاف لهذه المفاهيم، ما تيسر له من خزين الملاحظات التجريبية.
معروف ان مفاهيم ماركس وماكس فيبر ارتكزت الى مادة تجريبية مستقاة من المجتمع الغربي، وبالتحديد بريطانيا وفرنسا (ماركس)، والمانيا واميركا (ماكس فيبر). كما اعتمد المفكران على معطيات تاريخية من غابر المجتمعات الاوروبية الاقطاعية (ماركس وفيبر)، مثلما اعتمد فيبر على مصادر انتروبولوجية عن بعض المجتمعات الشرقية.
يرى بطاطو بحق، ان ماركس وفيبر يلتقيان في مفهوم الطبقة المعاصرة، وان فيبر مدين لماركس بالكثير (اكثر مما يعترف به في العادة) في هذه المسألة، وما عدا ذلك فبينهما عوالم من التباعد والاختلاف(12) وسنرى لاحقا اين يلتقيان واين يفترقان، اما الآن فنتناول فهم ماركس للطبقات الاجتماعية.
ابتداء يرى ماركس (شأن فيبر من بعده) ان الطبقة تكوين اقتصادي اساسه الملكية اوانعدامها.
وفي التجريد النظري الذي اورده ماركس، كخطوة اولى في التحليل، أي في "رأس المال" اعتمد نموذجا مبسطا ثنائيا، تقف فيه او تتواجه بالاحرى، فيه، الطبقة الرأسمالية، المالكة لوسائل الانتاج والطبقة العاملة، البروليتاريا، المعدومة الا من ملكية قوة العمل. ونلاحظ ان هذا التجريد ينطوي على حذف لكل الفئات الوسيطة بين قطبي التملك وانعدامه في المدينة الصناعية. كما ينطوي ايضا على حذف للريف بما فيه من طبقات ومراتب اجتماعية.
بل ان الصورة كلها تخلو من بقايا المراتب الاجتماعية ما قبل الصناعية.
غير ان هذه الحذوفات مؤقتة، يتطلبها منهج العرض Presentation، لا منهج البحث Research.
لنتذكر ان "رأس المال" يصور منطق الرأسمالية، منطق الانتاج، وإعادة الانتاج الموسع، الذي يسير، من خلال آليات التركز والتمركز، الى نزع ملكية المزيد من المالكين الصغار، أي تجريدهم من ملكيتهم وتكديس او مراكمة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج في هذا القطب، وحرمان القطب الآخر منها. تظل هذه العملية في اتساع سائرة على اساس الافقار النسبي والمطلق، الى ايصال المجتمع متعدد الطبقات، الى ما يقارب التجريد الثنائي.
هذا هو التجريد النظري الذي انطلق منها المجلد الاول من رأس المال. ولا تظهر الطبقات الاخرى، وبخاصة ملاك الاراضي، (والملاك العقاريين عموما) إلا بعد دراسة الريع.
تتناول دراسات كثيرة لماركس الفئات الوسطى الصغيرة، التي يطلق عليها بالالمانية Kleiner Mittle Klasse الى جانب العمال. وللأسف فان الترجمات العربية لهذا المفهوم، الأوضح، والأكثر دقة، اعتمدت النص الفرنسي وهو البرجوازية الصغيرة Petite bourgeoisie دون النحت الالماني. فهذا الاخير يحدد الموقع بدقة: صغار الطبقة الوسطى. وتناول ماركس ايضا الفلاحين، في ثلاثيته الشهيرة عن فرنسا، وبخاصة "الثامن عشر من برومير".
بموازاة ذلك، استفاض ماركس في تحليل كل طبقة، وبخاصة الرأسمالية. فمفهوم "الطبقة الرأسمالية" يبدو بمثابة تعبير عن كتلة شاملة، صوانية ان جاز التعبير. عمد ماركس الى تقسيم هذه الكتلة الشاملة في الظاهر، الى اجزاء فرعية، رأسمالية صناعية، رأسمالية مصرفية، رأسمالية عقارية.
حصر ماركس جل تناوله للطبقات في اطار حقبة محددة اطلق عليها اسم التشكيلة الرأسمالية، او الحقبة الصناعية (Industrialism)، كما يسميها بعض السوسيولوجيين.
واقام مفهوم الطبقة على اساس اقتصادي حصرا (الملكية وانعدامها)، واعتبر الطبقة محددا للفعل السياسي والاجتماعي الجمعي (الوعي، السلوك، الموقف السياسي)، وان كان هذا الفعل دفاقا، ومتطورا، ينتقل من العفوية (الطبقة في ذاتها) الى القصدية الواعية (الطبقة لذاتها)، مرجعا هذا التحول الى نمط المؤسسات الرأسمالية ذاتها (المصانع) التي تنطوي على انضباط عمل، وتقسيم عمل صارم، اشبه بالتجييش ان صح التعبير، وتحشيد جمعي في ثكنات العمل، وعيش مشترك في احياء الفقر.
ويرى ماركس ان لا معنى لمفهوم الطبقات المعاصر إلا في اطار التضاد بين رأس المال والعمل، كما يرى ان هذا التضاد لا بد ان يفضي الى الغاء الطبقات، معتبرا ذلك غائية تاريخية مستمدة من التطور الموضوعي للتاريخ نفسه.
انطلق فيبر في تحديد فكرة او مفهوم الطبقة من الأساس الاقتصادي الماركسي نفسه (الملكية وانعدامها)، وان يكن حصر الطبقة في اطار "الوضع في السوق"ـ أي القدرة التنافسية على تحديد الموقع في السوق. ورغم ان الطبقة تشكل اساسا للفعل الجمعي، برأي فيبر ايضا، الا ان هذا الفعل عارض، نسبي، ومحدود.
وخلافا لماركس، فتح فيبر مفهوم الطبقة على مدى التاريخ كله، وليس على الحقبة الصناعية. فالرأسمالية في عرفه اقدم من العصر الصناعي، وانها اذ كانت تقوم على الحروب (النهب) وغير ذلك من اشكال النشاط غير العقلاني، لكنها تحولت الى الحساب الاقتصادي العقلاني (في الحقبة الصناعية). وبصرف النظر عن مدى دقة هذا المفهوم التاريخي الفيبري للرأسمالية، فقد اخذ فيبر ما اسماه "طريقة توزيع سلطة التصرف بالملكية المادية" اساسا لتحديد الطبقة الحديثة. لكنه لاحظ ان الثروة ليست المحدد الوحيد للموقع الطبقي في اطار مجتمع محدد، فأضاف لها ابعادا ثقافية – سوسيولوجية اخرى، مثل المعرفة والتعليم، او فكرة الشرف كقيمة ثقافية (نبالة المنحدر او وضاعته) او المنحدر الاثني للأفراد.
ويميز فيبر بين الطبقة class، والمكانة او الوجاهة status، ويمكن ترجمة هذا المفهوم الاخير بأصحاب الحسب والنسب، او الوجهاء، او الأعيان، (تقابلها بالالمانية Stand).
هذه النظرة تضفي على مفهوم الطبقة ابعادا أوسع، وتتسم بالتمييز بين العوامل الاقتصادية والثقافية في تحديد الموقع الاجتماعي، كما تسمح بتركيب هذه العوامل في تضافرها وتداخلها، أي القول بوجود طبقات من جهة، والقول بوجود جماعات مكانة أي وجهاء موزعين على طبقات شتى، او وجود فئات طبقية شتى ضمن جماعة مكانة واحدة. يتناول فيبر هذه الاشكالات في مجلديه الكبيرين: "الاقتصاد والمجتمع" ضمن مبحث وجيز بعنوان:
Political Communities: The Distribution of Power within the Political community: Class. status, Party.
الجماعات السياسية: توزيع السلطة ضمن الجماعة السياسية: الطبقة، المكانة، الحزب(13) .
اعتقادي ان هذا المبحث قدم لبطاطو الأدوات المفهومية لتحليل البنية الاجتماعية ذات الطابع الانتقالي في العراق، علاوة على اعتماده مفاهيم ماركس، والى حد ما مفاهيم جيمس ماديسون الامريكي.
يقسم فيبر الطبقات الى ثلاثة عناقيد:
العنقود الاول: الطبقة ذات الملكية.
العنقود الثاني: الطبقة المنتجة.
العنقود الثالث: الطبقة الاجتماعية.
ان تمييز الطبقات على اساس ان بعضها "مالك" وبعضها "منتج" وبعضها "اجتماعي" قد يكون ملتبسا.
غير ان الطبقة المالكة عند فيبر، تعتمد على امتلاك رصيد معين (منجم، ارض، مواش، عبيد) دون ان تتولى تشغيل هذا الرصيد. فهي تؤجر هذه الارصدة، مستدرة الريوع. أي انها مالك لوسائل انتاج.
اما الطبقة الثانية، المنتجة، فهي منظمة للعمل او مساهمة فيه (الانتاج)، دون ان تكون بالضرورة مالكة لأدوات الانتاج المستخدمة، أي انها منظمة انتاج مادي (سلعي) مستدرة الربح الرأسمالي الاصلي.

واما الطبقة الثالثة، الاجتماعية حسب تعبير فيبر، فهي خلافا للأولى، لا تملك وسائل مادية لتأجيرها، ولا تتولى استئجار هذه الوسائل لانتاج سلع مادية، وانما تبيع الخدمات، اعتمادا على التعليم (المعرفة المنظمة). أي انها خدمية، بياعة معلومات.
يحوي كل عنقود تفرعات. فالطبقة المالكة الريعية (العنقود الاول) يقابلهان ضمن حقلها، قطب محروم من أي وسيلة للحصول على الريع وتقع بين هذين القطبين فئة وسطى ريعية.
ونجد النمط نفسه من التقسيم في تحليل فيبر للطبقة المنتجة (العنقود الثاني) الى منتجين كبار، يقابلهم منتجون بلا ملكية على الطرف الأقصى، وتقوم بين هذين القطبين فئة وسطى منتجة.

ويتكرر نمط التحليل ذاته مع العنقود الثالث (الطبقة الاجتماعية)، فهناك اناس يقدمون خدمات بمستوى رفيع، يفترض انه يدر ايرادات اكبر، يقابلهم طرف معدوم التعليم او المهارات في القطب الأقصى، وثمة بين القطبين فئة وسطى خدمية.
من هذا التقسيم الثلاثي لكل عنقود من العناقيد (وهي ثلاثة ايضا) يتضح ان هناك فئة عليا وفئة دنيا وفئة وسطى. والحصيلة وجود ثلاثة انماط مفهومية للطبقات الوسطى: ريعية، منتجة، وخدمية. (انظر الجدول)




جدول – الطبقات الوسطى عند ماكس فيبر



الطبقة الما لكة
(تعيش على الريع)
عليا

الطبقة المنتجة (تعيش على الربح)
(الرأسماليون المنتجون)
عليا
الطبقة الاجتماعية
(الراتب)
عليا



وسطى
وسطى
وسطى

طبقة
دنيا محرومة
طبقة
دنيا محرومة
طبقة
دنيا محرومة






IV

استخدم بطاطو هذا التقسيم اساسا لدراسة الطبقات الوسطى في العراق. ولعل التعديل الوحيد الذي اضافه، اعتمادا على المعطيات الملموسة للواقع العراقي، انه خلص الى وسم البنيان السياسي والاجتماعي للدولة العراقية بعد تموز 1958، بأنه حقبة الطبقة الوسطى.
ولو عدنا الى جدول بطاطو الشهير عن نمو الطبقات الوسطى (1958 – 1968) لوجدناه يقصره على الطبقات الوسطى الخدمية (اصحاب المهن)، والمنتجة المالكة (مؤسسات الانتاج المتوسطة والصغيرة).(14)
تقوم نشاطات الفئة الاولى على بيع الخدمات (اساسا للدولة، دون استبعاد القطاع الخاص)، للحصول على مداخيلها بهيئة رواتب (من محامين، ومعلمين، ومدرسين وضباط، وموظيفين) اما الفئات الاخرى فتعتمد على تنظيم الانتاج (اصحاب ورش انتاجية وخدمية).
لا يعني هذا التقسيم عدم وجود فئات مزدوجة (تعتمد على الملكية والراتب). كما لا يعني ان الفئات البائعة للخدمات، لا تستطيع تحويل خدمتها الى ملكيات ريعية، او دخول حقل الانتاج، مما يولد ثلاثة أنماط قريبة الشبه بالتقسيم الفيبري. الواقع ان بطاطو يفرد حقلا خاصا لمتوسطي وصغار المالكين الريعيين للأرض، في اطارعلاقات الملكية الزراعية. مرد هذا الاستبعاد معيار منهجي يقوم على اعتبار الفئات الوسطى نتاجا حديثا، مقصورا، في الفترة المبحوثة، على الحواضر دون الارياف.
يستبق بطاطو دراسته للفئات او الطبقات الوسطى، التي تحتل موقعا مركزيا في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق، بدراسة الطبقات او بتعبير أدق المراتب الاجتماعية القديمة، وهي الملاكين، الشيوخ، الأغوات، السادة، الارستقراطية القديمة (أي الموظفين الاتراك) والتجار الجلبية، والصرافين والتجار اليهود، والضباط الشريفيين.
ويرصد تداخل هذه الطبقات القديمة مع تقسيمات اخرى، ثقافية، مقررة للمكانة الاجتماعية (للوجاهة)، وان هذين المعيارين (الموقع الطبقي class من جهة، والمكانة status)، يضفيان تعقيدات شديدة على انحلال وإعادة تشكل الطبقات الاجتماعية الحديثة، من الطبقات المالكة العليا (من صناعيين، ورأسماليين تجار، ومقاولين، وكبار ملاك ارض)، والطبقات الوسطى، والطبقات معدومة الملكية (العمال، الفلاحون، المعدمون... الخ).
ان فكرة او مفهوم المكانة او الوجاهة (stand. Status)، حسب النظرة الفيبرية، تتعايش جنبا الى جنب، لا في تراتب افقي، بل في تراتب عمودي. بمعنى ان المكانة متدرجة هرميا، تضع بعض الفئات في موقع اكثر سموا وشرفا، وفئات اخرى، في مواقع اقل، فأقل، وصولا الى أدنى الهرم.
تقوم هذه المراتبية على المعايير الثقافية (الدين، التعليم)، او المعايير القيمية (نبالة الأصل او وضاعته المفترضة) او المادية (قوة التنظيم العسكري لقبائل أهل الابل).
قلت ان بطاطو التفت الى رؤية فيبر لمفهوم المكانة status، والطبقات، ولكنه، والحق يقال، أفاد من تجربة حياته الوجيزة في مدينة القدس قبل هجرته الى الولايات المتحدة. فالقدس، مثل كثرة من مدن المنطقة، مدينة تقوم على نظام الملل العثماني، الناظم لمراتبية المجموعات الدينية، من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، مثلما ان كل "ملة" تنقسم بدورها الى جماعات فرعية، مثل وجود الأسر الشريفة، والأسر الدينية، او الأسر التجارية العريقة، (او قادة الطرق الصوفية في مدن معينة).
كما تنقسم المدينة القديمة الى احياء مغلقة، لا تتصل ببعضها.
وتندرج المجموعات المتمايزة ثقافيا (الدين) الى هرم اجتماعي يقف على رأسه المسلمون، فالمسيحيون، فاليهود. وغني عن البيان ان منظومة مقاربة لهذه قامت في العراق العثماني.
ولو تذكرنا القسم الاول من كتاب بطاطو "الطبقات الاجتماعية، الخ" لوجدنا انه يقدم وصفا عاما للمجتمع العراقي يقف المسلمون في القمة منه، ليليهم المسيحيون فاليهود. ويتدرج المسلمون مذهبيا، حيث يقف السنة في قمة النظام المراتبي (المللي) العثماني، ليليهم الشيعة.
والجديد عند بطاطو انه ينتقل بمراتبية المكانة الفيبرية الى حيز جديد: الارياف والبوادي.

خلافا للخرافة الشائعة عن "المساواتية البدائية" في عالم القبائل، نجد ان هناك مراتبية صارمة، يقف فيها اهل الابل في القمة (بفضل تنظيمهم العسكري الأرفع)، ليليهم الحراثة (المستقرون في الزراعة)، فالمعدان. هذا التمايز يشي بوجود مراتبية بين العشائر، هي علاقات ناشئة (في اصولها البعيدة) عن عوامل مادية (التنظيم العسكري) وثقافية: قيم نبالة او نقاء المنحدر، أي ايديولوجيا النسب. ثم تحولت هذه الفروق، في اطار علاقات الملكية الزراعية الجديدة (بعد الاستقرار) الى فروق في الثروة (امتلاك الارض من عدمه).
هذه النظرة المركبة للبنية الاجتماعية العراقية، المعتمدة على مفهوم الطبقة ومفهوم المكانة، ومزيجهما، بل تداخلهما المعقد، سمح لحنا بطاطو ان يتجاوز التبسيطات المفرطة، الجدباء بالاحرى، لتصوير المجتمع العراقي مجتمع طوائف فحسب، او مجتمع طبقات فحسب.
وبالطبع فان انجاز بطاطو الكبير، مهما اوغلنا في ما يستحقه من ثناء، لا يخلو من مواطن ضعف تحفز على النقد.
ولعل الملاحظة الأبرز، برأيي، تتصل بالطبقات الوسطى. يوحي بطاطو (لربما عن غير قصد) بوجود تطور خطي صاعد للنمو المطرد لهذه الطبقات، علما ان التجربة الاخيرة لبعض البلدان العربية (وغيرها) يشير الى ان الطبيعة المهزوزة، المتقلبة للاقتصاد الريعي – الدولتي، لا تسمح باطراد نمو هذه الطبقات، بل يؤدي، عند نقاط معينة، الى انهيار مراتب واسعة منها (مثال العراق، او السودان)، وانحدار الفئات المعتمدة على الراتب منها انحدارا شديدا الى مرتبة بروليتارية متعلمة، تحمل تطلعات الطبقات الوسطى الحديثة (بفضل التعليم) وتعجز عن تلبية هذه التطلعات في سوق العمل، المتخم. الواقع ان هذه الفئات تشكل الفضاء الاجتماعي لنمو الحركات الاسلامية الاحتجاجية.
الملاحظة الاخرى، ان بنية الفئات الوسطى اكثر تعقيدا مما يلوح للوهلة الاولى، سواء من حيث المداخيل، ونوعية التعليم والمنحدر الاثني، ناهيك عن المحددات الثقافية القديمة للمكانة كالمعرفة الدينية – السادة ورجال الدين ومشايخ الطرق (وهذه الفئة الاخيرة تبرز اكثر في كردستان العراق)، او النسب النبيل (السادة – بالنسبة للشيعة، والاشراف – بالنسبة للسنة) او ايديولوجيا القرابة (بيوتات مشايخ العشائر، او الانتساب القبلي).
هذه العوامل ما قبل الحديثة، ما تزال ماكنة، تفعل فعلها تحت السطح عموما، او سافرة فوق السطح، احيانا. وهي منبع تشطير للفئات الوسطى، تشطير يخفت في فترات التطور العاصف، وبخاصة المقرون بتحولات في مجال الثقافة السياسية كصعود ايديولوجيات جامعة – اممية او قومية مثلا – تتجاوز التشظيات او التفرعات الجزئية، لكن هذا التشطير يشتد في فترة تدهور اثر هذه الايديولوجيتين أيا كان سبب التدهور.
الملاحظة الثالثة تتعلق ايضا باعتقاد بطاطو بوجود مسار تطور خطي لانحلال القبائل. فمرونة التنظيم القبلي، تسمح له بالعيش في صيغ شتى، حتى بعد انفصاله عن اقتصاد الرعي، او الاقتصاد الزراعي. وما استمرار انماط معينة من التنظيم القبلي في الحواضر إلا دليل على ذلك. وهو استمرار يجد تفسيره (بين عوامل اخرى) في بقاء ما نسميه مجازا بـ"القبلية الثقافية" Cultural Tribalism)، أي استمرار القيم الجماعية القبلية (الالتزامات المالية المتبادلة – دفع الديات مثلا، والتعاضد الاجتماعي) في بيئة الحواضر، المفعمة بالضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والثقافية (القيم، طراز العيش... الخ).
وما إعادة بناء العشائر في العراق، ومناطق اخرى، إلا أحد الامثلة على ذلك.
وما ينطبق على العشائر ينطبق على فئات اخرى من جماعات المكانة ، كالسادة والفقهاء، او السادة – الفقهاء. يرجع ذلك، في اطار العراق، الى صعود دور الاسلام السياسي الايراني، والدور البارز الذي لعبته المؤسسة الدينية، بقيادة السادة – الفقهاء هناك، وانعكاس هذا الصعود على الوضع الاجتماعي – السياسي العراقي.
وتعد طبقة الفقهاء – السادة في العراق، حاليا، واحدة من انشط الفئات الاجتماعية في المجالين السياسي والاجتماعي، اذا قسنا درجة نشاط أي فئة بعدد الافراد المنخرطين في التحرك السياسي والفكري والاجتماعي. وهذاالوضع يلغي استنتاج بطاطو بـ"تدهور" مكانة السادة، او، ان توخينا الدقة، يعدل هذا الاستنتاج.
_____________

- The Iraqi Revolution of 1958, The Old Social Classes Revisited.
R. Fernea R Wm. Louis (editors) I. B. Tauris. London, 1991, P. 212.
2 The Arab Society, Arab Social Science Perspectives, 3rd print 1992 (1977), Edit. By S. Ibrahim Nicholas S. Hppkins, Cairo, The American University Press, P. 379.
3 حول نظوة المدرسة الجوهرية والتباينات فيها، انظر على سبيل المثال:
S. Zubaida, Is There A Muslim Society? Emest Gellner’s Sociology of Islam, in/ Economy and Society, Volume 24, No. 2, May 1995, Pp. 152 – 153.
4-علي الوردي: "منطق ابن خلدون"، طبعة قم، 1997، ص 298 – 299.
5-وهو من افضل الدراسات عن الطوائف في الهند. Louis Dumont, Homo Hierarchicus, London, Paladin, 1970
6-المرجع نفسه، ص 211.The Iraq Revolution of 1958
7-المرجع نفسه، ص 212.
8-المرجع نفسه، ص 214.
9-المرجع السابق، ص 214.
10-المرجع السابق، ص 212.
11-يذكر ذلك في مقدمة كتابه "الطبقات الاجتماعية القديمة" وفي حواشي دراسته الموسومة: "الطبقات والمجتمع العراقي"، كما يأتي على ذلك في مساهمته لكتاب “The Iraqi Revolution of 1958” الذي سبق ذكره.
12-المرجع السابق، ص 212.
13-:Max Weber, Economy and Society, Volume 2, ch. Ix, Edited by G. Ruth C. Wittich, California University of California Press, (1968) 1978, pp. 026 – 39.4
- 14 H. Batatu, Old Social Classes, P. 1126



#فالح_عبد_الجبار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق: صراع العروبة والأسلمة في الدستور وحوله
- الدستور العراقي:المعركة الاخيرة ؟
- سوسيولوجيا البداوة والمجتمع العراقي 2-2
- المجتمع العراق و سوسيولوجيا البداوة 1-2
- اطلالة على مفهوم العولمة
- الفقهاء في النجف 3-3
- الفقهاء في النجف
- الفقهاء في النجف :الجواهري و التمرد الأول :
- نحن والدستور
- الدين والدولة في الصراع على دستور العراق
- في استشراء العنف الأصولي
- المؤسسات الاجتماعية والمجتمع المدني في العراق
- علي الوردي وعلم الاجتماع
- برلماناتنا وبرلماناتهم
- تجاوز الخوف من الماضي
- العراق: دولة دينية، دولة مدنية...؟
- الأضحية والضحية - أقانيم في ثقافة التعارض
- المشروطة أم المستبدة؟
- الأفندية والملائية بين قرنين
- كرنفال الديموقراطية: حقيقة الأشياء أم مظاهرها


المزيد.....




- قيادي بحماس لـCNN: وفد الحركة يتوجه إلى القاهرة الاثنين لهذا ...
- مصر.. النائب العام يأمر بالتحقيق العاجل في بلاغ ضد إحدى شركا ...
- زيارة متوقعة لبلينكن إلى غلاف غزة
- شاهد: -منازل سويت بالأرض-.. أعاصير تضرب الغرب الأوسط الأمريك ...
- الدوري الألماني ـ كين يتطلع لتحطيم الرقم القياسي لليفاندوفسك ...
- غرفة صلاة للمسلمين بمشفى ألماني ـ مكان للسَّكينة فما خصوصيته ...
- محور أفدييفكا.. تحرير المزيد من البلدات
- خبير ألماني: بوتين كان على حق
- فولودين: واشنطن تضحّي بالآخرين للحفاظ على القطب والواحد
- فرنسا تتهم زوجة -داعشي- سابقة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فالح عبد الجبار - المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات الاجتماعي لحنا بطاطوفي العراق المجتمع - التاريخ - الطبقة