أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - فالح عبد الجبار - الفقهاء في النجف















المزيد.....

الفقهاء في النجف


فالح عبد الجبار

الحوار المتمدن-العدد: 1287 - 2005 / 8 / 15 - 13:32
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


2-3
الفقهاءفي النجف
:القسم الثاني
العمامة وصولجان الشعر

بعد الاطلالة على "المذكرات" اعود الى تلمس الموضوع الاساس في هذا المبحث، علاقة الجواهري بطبقة الفقهاء، أعني انفصامه الاول. يمكن القول ان هذه العلاقة شائكة، محتدمة، ومتناقضة. وانها رسمت منذ وقت جد مبكر، معالم اضطراب الجواهري، في علائقه مع القوى الاجتماعية التي احاطت به، وتحوّلت الى ما يشبه انموذج انفعالي ثابت البنية يختزن ميولا متضاربة ويذكيها في آن: الانتماء والانسلاخ، الاعجاب والازدراء، القبول والرفض، الامتثال والتمرد، المساندة والاعتراض. وان هذا النمط من العلاقة المحتدمة وسم صلته، فيما بعد، بالطبقة السياسية العراقية الصاعدة التي أسست الدولة الحديثة، والتي اشتبك معها الجواهري، بالنمط المحتدم المتناقض إياه، في علائق تساوق وتجابه، يضمر فيها التناغم تعارضا، مثلما يضمر التعارض فيها ميلا للتناغم، حتى في اقصى اللحظات على طرفي القطبين.
قلت في مطلع هذا المبحث ان الجواهري كان مرشحا، مثل غيره من الشعراء الذين سبقوه، الى الدخول في عالم الفقه الاصولي (كناية عن المدرسة الاصولية خلافا للمدرسة الاخبارية)، وكان يُعدّ لهذا المصير إعدادا صارما على يد ابيه سليل الاسرة الجواهرية. ولم يكن في هذه التهيئة أي غرابة، او خروج على مألوف التقاليد الفكرية – الاجتماعية في النجف مطلع القرن العشرين، بل الغرابة كل الغرابة ان يفلت الجواهري نفسه من هذا المألوف "الطبيعي" عصر ذاك. لتفسير ذلك ينبغي ان نعاين شروط هذا الانفلات.
كانت النجف تقوم على عدة عناصر من التنظيم الاجتماعي، يمكن تقسيمها الى مجموعتين، المجموعة الاولى تنتمي الى التنظيم الأكبر (macro) الذي يشمل الدولة والمدينة، والمجموعة الثانية تنتمي الى التنظيم الأصغر (micro) والذي يضم القوى الاجتماعية الداخلية، كزعماء الاحياء والمرجعية الدينية واصناف التجار و الحرفيين.
لنأخذ التنظيم الأكبر. كانت النجف، على امتداد جل الحقبة العثمانية، اشبه بدولة – مدينة، شأنها شأن كربلاء ومدن اخرى، لها استقلاليتها، ولها رابطتها البرانية مع الدولة المركزية، القائمة على اساس دفع الضرائب، والولاء السلبي (أي الامتناع عن التمرد على المركز).
قبل النزوع التدخلي – المركزي للدولة الحديثة، بقيت النجف، ومدن اخرى، تعيش في استقلالية نسبية تقربها من وضعية دول المدينة، وان كانت النجف، بخلاف دولة – المدينة النموذجية، تفتقر الى النظام السياسي، أي وجود سلطة ممركزة تقوم على اساس قواعد محددة للحكم.
لنأخذ التنظيم الأصغر (micro) داخل مدينة النجف.
تميزت المدينة بوجود ثلاث قوى اجتماعية اساسية.
القوة الاجتماعية الاولى هي طبقة الفقهاء، او المرجعية الدينية، التي تقوم على سلطة المقدس، والتي درج السوسيولوجي العراقي علي الوردي على تسميتها بالملائية، وهي تسمية غير دقيقة ومشوشة.
اما القوة الاجتماعية الثانية فهي طبقة المحاربين، المؤلفة من عناصر فتوة الاحياء، وعلى رأسها زعيم محارب، وتقوم على احتكار وتنظيم وسائل العنف.
اما القوة الاجتماعية الثالثة فتتمثل في طبقة التجار والحرفيين، وتقوم على سلطة الثروة. وهناك بالطبع علائق تبادل بين هذه القوى. فالطبقة الممثلة للمقدس تقدم خدماتها الدينية، وتتلقى المدفوعات الدينية (الخمس، النذور، الكفارات... الخ)، وتفرض علاقتها على العوام على اساس مذهب التقليد، الذي يلزم كل شخص غير مجتهد بالتماس واتباع رأي المجتهد. اما طبقة "المحاربين" فتقدم خدماتها العسكرية (درء غزوات البدو، حماية الزوار – الحجيج – وحفظ الأمن الداخلي) وتتلقى مقابل ذلك مدفوعات (مثلما تنتزع اتاوات)، وكانت هذه الطبقة تأخذ من رجال الدين ومن التجار، والاغراب، مثلما كانت تدفع لهؤلاء.
وبالطبع، فان طبقة رجال الدين منظمة على اساس الأسر، ومنقسمة ايضا على اساس اثني (فارسي، عربي، تركي، او حتى هندي). اما طبقة المحاربين فانها منظمة على اساس الاحياء (اربعة احياء اساسية في النجف: العمارة، الحويش، البراق، المشراق)، لكنها منقسمة عموديا الى فئتين: الزقرت (او الزقاريط) والشمرت. وكانت في احتراب دائم حتى 1916 يوم توحدت لتؤسس سلطة النجف المستقلة.
ولتقدير مكانة طبقة الفقهاء ينبغي ان نؤكد عدة امور: اولا ان هذه الطبقة هي حاملة الثقافة الاولى في دنيا الاسلام؛ او الشكل الاساسي للثقافة، الطاغي على كل ما عداه. والثاني ان هذه الطبقة بلغت، بفضل تنظيمها وقواعد المذهب الاصولي شأوا كبيرا. يكفي ان نذكر ان النجف ضمت اواخر القرن التاسع عشر ما يقارب من ستة آلاف فقيه في مرتبة الاجتهاد او ما يقاربها. وان طلاب العلوم الدينية قدروا، مطلع القرن، بنحو 15 – 20 ألف طالب من مختلف اصقاع الارض، من اقاصي الهند، وايران، وتركيا، واذربيجان، والخليج، وجبل عامل.
وقدرت مداخيل النجف من الخمس والنذور والاوقاف بنحو مليون جنيه استرليني. وباختصار كانت هذه الطبقة، سنة ولد الجواهري، في أوج قوتها منذ ان عمل جد الجواهري، محمد حسن النجفي، او تلميذه الشيخ مرتضى الانصاري، على مركزة المرجعية، أي حصر السلطة الدينية بيد المجتهد الأعلم لتجاوز حالة التشظي، المميزة للشكل التظيمي السابق.
ارتدى الجواهري العمامة في وقت مبكر. وراح الأب يصطحب الطفل منذ يفاعته، الى مجالس الفقه والادب، كي يتدرّب على قواعد ونواظم عالم الكبار. ويذكر الجواهري، حانقا وملتاعا انه حرم مبكرا من طفولته، فاحتفظ لهذا، بقدر من العناد الطفلي لازمه حتى حين ناهز المائة عام.
ويصف هذا الحرمان بالتياع: "قبل ان يعتاد الطاقية البسوه عقالا عربيا، وقبل ان يعتاد العقال رفعوه ليعتمر بدلا منه عمامة وجبّة" (ذكرياتي ص 53).
كان عالم الفقهاء، كما اسلفنا، ينتظم في اسر وبيوتات، ويعتمد الصعود فيه على عناصر عدة، من العلم والتفقه، والتقوى، الى كسب الاتباع والممولين، في تنافس صامت بين مراكز قوى شتى. وكانت اسرة الجواهري قد فقدت مكانتها بالتدريج، بوجه عام، اما فرع عائلة الشاعر، فكان الأوهن والأضعف في هذه الاسرة، اذ فقدت هذه العائلة الرياسة، رياسة الاسرة الى فرع آخر.
في هذا المناخ عاش الجواهري طفولته وهو يشهد تدهور العائلة، وإقصاءها. فخارج سلطة المقدس، وخارج سلطة العنف، وخارج سلطة الثروة، لا مكان للأسر الضعيفة إلا في الفراغات والحواشي والهوامش، إما في مهن وضيعة، او في انتظار المحسنين.
يذكر الجواهري، بمرارة، حتى وهو في شيخوخته كيف انسل متاع البيت الشحيح الى المزاد، ليباع: السجاد، الثريا , الأسرجة، كل ذلك لسدّ الرمق (ذكرياتي ص 48).
فتح هذا الحال في روح الجواهري اليافع اول الجروح وأعمقها، فهو بين ضغوط الأب عليه لاعداده من اجل دخول الطبقة المقدسة، واستعادة مجد اسرة آفل، وضغوط واقع معاكس يقصي العائلة عن احتلال موقع مرتجى، الى الحواف الهامشية للعيش والوجود.
خلال حياة الأب، كان الجواهري يذود عن نفسه من عنت الفقه بأسلوبين: الشرود عن اللحظة الحاضرة في المجالس نهارا، ورعب الكوابيس ليلا. وكان هذا الشرود وتلك الكوابيس بمثابة آليات دفاعية، لصد المؤثرات ثقيلة الوطء على وعي طفل. وهذه الدفاعات النفسية تتيح الفرار من اللحظة، غلق النفس عن العالم الخارجي، او قنوات لتفريغ الاشواك المنغرزة في الروح.
عالجت الأم القلقة صراخ ابنها المفزوع في منامه بالتعاويذ والرقى، اما الأب فخفف من غلواء امانيه المعقودة على محمد، ذي الحافظة الآسرة، والذكاء الوقاد، بأن يستعيد مجد اسرة الفقه النجفية المنكودة. بموازاة ذلك كان الفتى محمد يغرق في إيقاعات الشعر، اجراس روحه الحبيس.
شروخ الروح تجلّت في وعي الطفل في صورة حرمان من ملاعب الصبى، وعوزا مؤسسيا الى المحسنين، وآلام أب صامت تفتك به المحنة، فيموت بغتة امام ناظري الطفل. فيفجع الابن بهذا الفقد مرتين: مرة حزنا على أب، ومرة خسارة طفل صغير لسند راشدين. بات الجواهري في حالة من انعدام الوزن، او هكذا خُيّل اليه. ولكنه اكتشف، في صدمة كبيرة، انه تحرر من وصاية أب، خرج من قبضة ظله الآسر، ليكون امام حريته المرعبة في ان يختار:
"بعد وفاة والدي انفردت بشخصي... قبل ذلك، كنت مجرد ظل له ولوصايته المحكمة عليّ..".
بعد رحيل الأب، يقول الجواهري، "خرج الشاعر من جبّة الفقيه (ذكرياتي ص 85).
من بالغ التبسيط ان نتصور خيار الجواهري محض واقعة "نفسية"، او محض نتاج "عائلي" لطفل يُجر جرا الى عالم الفقه، فيعاند ويرفض، ويتمرد على رغائب الأب، ويجد نفسه بعد رحيل ابيه، طليقا، يصنع ما يشاء. فشروط خروج الجواهري على التيار القوي الذي دفعه دفعا لدخول عالم الفقه، تقع خارج بنيته النفسية، بل حتى خارج احوال عائلته. ثمة طيف من عوامل أدت به الى هذا الخروج، ليس بينها شيء من صنع يديه.

يتبع القسم الثالث



#فالح_عبد_الجبار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفقهاء في النجف :الجواهري و التمرد الأول :
- نحن والدستور
- الدين والدولة في الصراع على دستور العراق
- في استشراء العنف الأصولي
- المؤسسات الاجتماعية والمجتمع المدني في العراق
- علي الوردي وعلم الاجتماع
- برلماناتنا وبرلماناتهم
- تجاوز الخوف من الماضي
- العراق: دولة دينية، دولة مدنية...؟
- الأضحية والضحية - أقانيم في ثقافة التعارض
- المشروطة أم المستبدة؟
- الأفندية والملائية بين قرنين
- كرنفال الديموقراطية: حقيقة الأشياء أم مظاهرها
- العراق: مصادر العنف ومآله
- نحن والغرب من إدوارد سعيد إلى محمد عبده
- تأملات في العنف, لا سيما عنف أولئك الذين يفجّرون العراق
- في انتظار البرابرة... في وداع البرابرة
- تأملات في الماركسية
- العراق حيال مسألة الفصام بين الأمة والدولة
- عراق غامض المآلات مُقلق, لكن البعث... لن يعود


المزيد.....




- -بأول خطاب متلفز منذ 6 أسابيع-.. هذا ما قاله -أبو عبيدة- عن ...
- قرار تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا يقلق مخالفي قوانين ا ...
- سوناك يعلن عزم بريطانيا نشر مقاتلاتها في بولندا عام 2025
- بعد حديثه عن -لقاءات بين الحين والآخر- مع الولايات المتحدة.. ...
- قمة تونس والجزائر وليبيا.. تعاون جديد يواجه الهجرة غير الشر ...
- مواجهة حزب البديل قانونيا.. مهام وصلاحيات مكتب حماية الدستور ...
- ستولتنبرغ: ليس لدى -الناتو- أي خطط لنشر أسلحة نووية إضافية ف ...
- رويترز: أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار لأو ...
- سوناك: لا يمكننا أن نغفل عن الوضع في أوكرانيا بسبب ما يجري ف ...
- -بلومبرغ-: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على 10 شركات تت ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - فالح عبد الجبار - الفقهاء في النجف