أحمدحميد فيغاس
الحوار المتمدن-العدد: 4718 - 2015 / 2 / 12 - 21:24
المحور:
الادب والفن
قصتان قصيرتان
(دموع تتلصص)...
أحمد حميد فيغاس
ثمة صبية لم تتجاوز عقدها الثامن تلصص من وراء جدار محطم على قمامة في نهاية السوق.اعقاب سجائر ومعلبات الغذاء التي انتهت صلاحيتها واوراق الخضار المرمية في القمامة تستكين في البرد على الأرض الرطبة الموحلة .امرأة كبيرة في السن تنحني على اوراق الخضار وبعض فتات من أطعمة فاسدة. كانت ابنتها الصبية التي تختبئ خجلا. تنتظر امها لتحمل معها الطعام.هنالك رجل يبلغ الاربعين من عمره يتلصص.. ينقل نظراته بين المرأة العجوز والصبية الصغيرة التي تتلصص هي الأخرى بحذر، خوف أن يراها احد، يحاول الرجل حبس دموعه عبثا ،فقد كانت المرأة تذكره عباءة المرأة بعباءة أمه . كان وجه المرأة يشي بحزن عميق ..وجه يحمل من المعاناة والعوز مالم يحمله وجه آخر، فالتجاعيد الغائرة حول فمها وعينيها فيهما اسوداد وازرقاق فاحم.اسرع الرجل في الذهاب الى السوق القريب ليحضر بعض الطعام والخضار الطازج .وحين عاد مقتربا منها قال:
- مرحبا كيف الحال ؟
واجهته بكسوف وهي تسقط اكياس النفايات بارتخاء من يديها المعروقتين في المزبلة. كانت يدها المعروقة ترتعش وعينيها جامدتان.. عين على وجه الرجل الوسيم.. وعين على كيس النفايات التي جمعتها طعاما الى بيتها ،مسحت يديها في العباءة ،وقفت امامه بكسوف واحترام .ثم همست بصوت واهن,, صوت تخالطة حشرجة أسى:
-ها..وليدي...
_شتدورين حجية ؟
أضافت بذات اللكنة الحزينة الواهنة وهي تحاول أن تبتسم له:
- اجمع الطعام الى بيتي واطفالي .
ترك الرجل اكياس الطعام التي جلبها تسقط من يده وراح يلتفت الى الخلف خوف أن يراه أحد.. و..ذهب دون أن يلوي على شيء.. لم يكلمها قط. كان شيء في داخله يحترق..يتمزق..يعوي.. وكانت عيناه قد أغرورقتا بالدموع بينما ذهبت المرأة تحمل الاكياس بخجل دون أن تنبس بكلمة.. أما الصبية التي كانت تتلصص من مسافة قريبة فراحت تحاول أن تداري خجلها. كانت تبتسم لكنها ابتسامة فيها مرارة.. ابتسامة بريئة تخضبت بدموع كثيرة سالت على شفتيها الورديتين.. دموع غزيرة انبثقت بتلقائية لم تستطع أن تحبس جريانها المتدفق..وكان الرجل قد تلاشى في الزحام.وفي داخله عاصفة من البكاء لم يستطع كبحها حتى غاب في شوارع المدينة لايلوي على شيء وهو يحدق في البنايات الكونكريتية الشاهقة الارتفاع.والعابرين بأربطة أعناقهم وبدلاتهم الأنيقة والفتيان الصغيرات يتبضعن من المحال القريبة..كان يمشي دون أن يعرف الى أين ستقوده خطاه. اقترب من شاطيء شط العرب وبعد ان جلس على دكة كونكريتة.أوحشته النوارس المحلقة على سطح المياه..والزوارق وناقلات النفط وهي تستكين قرب الجرف مثل أشباح عملاقة..لم يثره شيء..أي شيء.. بالرغم من أن السماء كانت رائقة ورغم عذوبة النسيم وبضع قطرات مطر تندي جبينه وخديه المتوردين.
(حلم)...
تمنيت يوما ان اكون دمية بيد طفلة صغيرة كي تعتني بي وتعطيني كل ما كنت اتمناه من هذه الدنيا. كنت لا افكر في شيء غير تلك الطفلة.وذات يوم تحقق حلمي حين استيقظت من نومي في وقت متأخر ورأيت نفسي دمية صغيرة كما تمنيت.كنت في السرير الناصع البياض فتحت عيني لكنني لم استطع ان احرك رأسي أو يدي ولم استطع التكلم. فقط كنت انظر نظرات واهنة لكل ماحولي من العاب والوان تهب للعالم وللحياة قلب بريء وطفولي.في تلك اللحظة دخلت الى الغرفة طفلة جميلة كأنها تحمل سر الوجود. كانت تشبه الملاك، حملتني وضمتني الى صدرها وعانقتني بشدة وهي تقبلني وتقول: (كم احبك يادميتي العزيزة، ماذا تريدين ان نفعل اليوم؟ ) كانت تجيب نفسها كأنها تعرف مافي قلب الدمية وتقول لها: (هل تريدين الطعام وبعدها سنلعب معاً هيا بنا ياعزيزتي )اطعمتني طعاماً ليس حقيقياً لكنه الذ مذاقاً من العسل كما لو كنت أتذوقه انا فقط.احاسيسي وجسدي بدءا يكونا دمى و يتقبلا كل شيء بخيال الاطفال من طعام او برد وحر فكلما كنت اشعر بالبرد من دون ان احرك شفتي كانت الطفلة تغطيني وتقول لي.الجو بارد اليس كذلك يا دميتي العزيزة وهي تعانقني وتقبلني بحنان.حتى أنها ذهبت بي الى صديقاتها لتلعب معهم فوجدت الكثير من الدمى بيد صديقاتها فوضعتني في سرير قرب دمية جميلة جداً فتكلمت الدمية معي فرحت جداً فنطقت انا ايضا وقلت لها: هل انتِ التي تتكلمين فقط؟فقالت: لا فكل الدمى تتكلم مع بعضها لكننا لا نكلم البشر الحقيقيين.فقلت لها: ولكن كيف جئتي الى هذا الجسد وتلبستي الدمية.فقالت هذه لعنة حلت علينا في هذه الدنيا لأنها ابتلت بأشخاص جهلة ونفوس ضعيفة فكل من كان قلبه صادقا وعقله واعيا في الحياة دخل متلبسا في هذه الدمية فقالت:وانت كيف دخلت؟انا تمنيت ان اكون دمية وان أحقق حلمي سريعا..أن أبتعد عن تلك النفوس المريضة.. أن أحافظ على آدميتي من التلوث.. قلت ذلك وانا في سريري بينما كنت انظر الى العاب معلقة فوق رأسي كانت هنالك طيور ملونة وملائكة تطير بأجنحة وردية ولكن سرعان ماكانت الطيور تتحول الى غربان بشعة وراحت الملائكة تختفي والدمية بجانبي تضحك بصوت عالٍ ومزعج فقلت للدمية: لِمَ تضحكي هكذا؟فقالت: اذهب الى حياتك الحقيقية.وهكذا نمت وتركت كل ماحولي وغرقت في سبات عميق وبعد نومي الطويل فتحت عيني فلم أجد إلا ابنتي تلعب على صدري وكنت في بيتي انسانا حقيقيا وليس دمية. ففرحت جداً حين عدت الى حياتي السابقة وعرفت أن حياة الاطفال كم هي بريئة ومليئة بالأحلام التي لاتتحقق.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟