أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حميد الخاقاني - ترويض العقل أم حرية الأفكار وجدلُها















المزيد.....



ترويض العقل أم حرية الأفكار وجدلُها


حميد الخاقاني

الحوار المتمدن-العدد: 4710 - 2015 / 2 / 4 - 09:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في نقد "ثقافة" الإتباع والتقلـيد (3)

ترويضُ العقـل أم حريـة الأفكـار وجدلُـها؟
حميد الخاقاني

يكثُرُ في موروثنا الثقافي، التقليدي منه والمتنوّر، مديحُ العقل والدعوةُ إلى أن يكون هو زينتنا، وهادينا إلى معرفة أنفسنا والعالم، حتى قيلَ بأنَّ خلْقَ العقل سبقَ خَلْقَ الانسان. ويُفْهَمُ من هذا أنه كانَ شَرْطاً لخلقِ بني الانسان ووجودهم، وتمَيُّزِهم عن سواهم من المخلوقات.
(غالباً ما يُقَدَّمُ العقلُ في هذا الموروث وكأنه شيئ جاهز، كاملٌ، مجَرَّدٌ عن الزمان والمكان واشتراطاتهما وتحولاتهما. تاريخ البشر والأفكار والحضارات، ومراحل تطورها جميعاً، وكذلك البحوث والدراسات الحديثة في تركيبة الدماغ وطبيعته، ونشوء عملية التفكير وإدراك الأشياء، تناقضُ هذا التصوّر المثالي تماماً، وتَقْلِبُهُ على رأسه).

وبرغم هذا المديح العالي ظلَّت (ثقافة الاتباع والتقليد)، وما تزال، لا ترى في العقل وصاحبِه عاقلَيْن إلا إذا عَقِلا أحكامَها ومقولاتها وتصوّراتها عن الانسان والحياة والكون والتاريخ، وتماهَيا معها. ولأن هذه "الثقافة" تؤمن بأن العقل وصاحبَه، والمجتمعَ في النهاية، بحاجة إلى مُرشِدٍ ووصيّ دائماً، وأنها وحدَها الرَحِمَ الذي يلِدُ هؤلاء المرشدين والأوصياء، فقد أخذت لنفسِها، باسم المقدَّس كما هو الحال دوماً، حقَّ أن تحدّدَ هيَ للعقل مناطقَ حركته، مُحيطةً إياها بأسلاك شائكة لا يجوز له تخطِّيها، والخوضِ في لُجَجِ ما بعدها من منطقة حرام!
نحن هنا إزاء ظاهرة كانت، مثلما رأينا في القسم الثاني من هذه الدراسة، وما تزال، ملازمة لبنية التفكير في هذه "الثقافة"، في مؤسَّسَتَيْها الفقهية والسياسية خاصة، وكذلك في المؤسسة "الثقافية" التابعة فيما بعد. وهي ما يمكنُ أن نطلقَ عليها ظاهرةَ (غيتو الأفكار).

إقامةُ مثل هذا (الغيتو) الفكري تهدف إلى أن تفرضَ على المثقفين الأحرار أن يفكِّروا بعقل هذه "الثقافة" فقط، ويرتدوا أقنعتَها، وألاّ يرسلوا عقولَهم ترعى في غير حقولِها هي، ولا ينطقوا بما يتعارض وثوابتها، أو يوقظوا "إبليس" الشك حولَها.
وليستْ سياسةَ الترويع التي توافقت هذه المؤسسات على اتِّباعها ضد أمثال هؤلاء المثقفين، باستخدام العنف المعنوي تارةً: (المروق على الأخلاق والتقاليد، الاتهام بالزندقة، التكفير، والطرد من المِلَّة)، أو الفيزياوي، الجسدي تارةً أخرى: (الحبس، التعذيب، والقتل)، أو كلاهما معاً في حالات غير قليلة، سوى تعبيرٍ هِسْتيري عن خشية هذه "الثقافة" من انتصار العقل المتنوّر لحرية النقد والجدل الفكريَّيْن في تلك الأزمان (هل يختلف الحال في زماننا هذا؟)، ورغبتها في تكريس عقلية التقليد والتبعية، وتحريم الخروج عليها، وإظهار ما قد يؤدي إليه هذا الخروج من تعدديةٍ في الأفكار والاجتهادات، بوصفه خَرَقاً وخبالاً وكفراً.

وكانت لجماعة المفكرين الأحرار من فلاسفة العرب والمسلمين مِحَنُهُمْ كذلك مع ممثلي هذه "الثقافة" والحاكمين باسمها، حتى قبلَ أنْ يُلْحِقَ بهمِ (الغزالي) في (تهافتِه)، كما رأينا، صفاتِ الحُمْق والخَبال والكفر، وقبل أنْ يفتِيَ (ابن الجوزي، 1116م ـ 1201 م)، أحد علماء الحنابلة وفقهائهم، في كتابه (تلبيس إبليس) بأنَّ ابليس هذا قد خلطَ الأمور وألبسها عليهم، حيث يذكر بلغة الشاهد المُوقِنِ ما نصّهُ : "إنما تمكَّن ابليسُ من التلبيس على الفلاسفة حتى انفردوا بآرائهم وعقولِهم، وتكلَّموا بمقتضى ظنونهم من غير التفاتٍ إلى الأنبياء" (تلبيس ابليس /45).

وأول من تعرَّض للعسف منهم (يعقوب بن اسحاق الكندي، 803 م ـ 873 م)، المُلَقَّب بفيلسوف العرب، وأحد من رأى فيه بعضُ الباحثين في تاريخ الفكر من الأوربيين واحداً من أعظم العقول الاثني عشر في العصر الاسلامي الوسيط. وبالرغم من أنّ نظامه الفلسفي قام على التوفيق بين العقيدة والفلسفة، والسعي إلى تعزيز مبادئ الدين الأساسية (الوحدانية، الوحي، النبوة، المَعاد) بالحجج الفلسفية العقلانية، إلا أن جهده الفلسفيَّ الكبيرَ هذا لم يشفَع له لدى المؤسسة الفقهية الرسمية التي طغى التشدد فيها مع بدءِ خلافة (المتوكل) خاصةً، إذ لم تنسَ له قولَه بأنَّ الفلسفة طريق مختلف للوصول إلى الحقيقة، ودعوتَه لأهمية دراسة العلوم الطبيعية، الدنيوية (الرياضيات خاصة) لأنها تمنح دارسَها أسسَ التفكير المنطقي. فكان أن تعرَّض، في تلك الحقبة، للضرب وصودرت مؤلفاته الكثيرة وأُتْلِفَ بعضُها، وفُرِضَتْ عليه العزلةُ حتى وفاته!

وبعده كان على فيلسوف آخر كبيرٌ، هو (الشيخ الرئيس) ابن سينا (980 م ـ 1037 م)، أن يواجهَ مِحَناً مماثلة، حيث أودعَ سجن الحاكم البويهي في همدان، وحُكِمَ عليه حتى بالموت بسبب كتاباته في نقد الضلالات والمفاسد، ولقوله بقِدَمِ المادة. ولم يُنقذه من هذا المصير غيرُ علاجه، وهو السجين، لأميرها وشفاء هذا على يديه. وكان قولُه بقِدَم المادة وأزلية وجودها واحدةً من مقولات فلسفية ثلاثٍ له حَكَمَ فيها (الغزالي) عليه بالكفر، ورآه صاحبَ بِدعةٍ فيما عداها من آرائه الفلسفية!
وتبِعَهُ في أحكامه هذه فقهاء وكتاب آخرون. فقال فيه (ابن قيِّم الجوزية، 1292 م ـ 1349 م)، في نونيَّتِهِ التي كرَّسَها لذَمِّ الفلاسفة، متأثّراً بما حكَم به (الغزالي) عليهم :
"هذا الذي قاد ابنَ سينا والأُلى قالوا مقالتَه إلى الكُفْران"!

كما ذكرَ المؤرخ (ابن العماد الحنبلي، 1623 م ـ 1676 م) في كتابه (شذرات الذهب في أخبار مَنْ ذَهَب) عن (ابن سينا): "إنّ كتابه (الشفاء) اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلبُ متديّن" (237/ ج3).

وما هذه سوى أمثلةٍ على ما ظلَّ فقهاء التشدد، ومن استطاب الوقوفَ في ظِلالهم من مؤرخين ووعاظ وكتاب، يرونه في آرائه كعالم طبيعة وفيلسوف، كما في أفكار سلفِه (المعلم الثاني بعد المعلم الأول أرسطو) أبي نصرٍ الفارابي (870 م.ـ 950 م.) ومن جاء بعدهما من الفلاسفة، باعتبارها خروجاً على العقيدة، كما يريدونها هم.
ولست أظنّ أنّ (ابن القيّم)، وهو يُسَطِّر "نونيَّتَهُ" المذكورة، أو (ابن العماد) الذي امتلأ قلبُه غَمّاً حين اطَّلَع على فلسفة (ابن سينا)، وكذلك مَن شابههما في الرأي، كانوا يعرفون بأن هذا العمل الموسوعي الأساس، ذا الثمانيةَ عشرَ مُجلَّداً (كتاب الشفاء)، قد وصل الغرب الأوربي في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، مُتَرْجَماً من العربية عبرَ الاسبانية إلى اللغة اللاتينية، أيْ تماماً في الوقت الذي أخذ فيه الانحطاطُ يتسارع عندنا، والحضارة العربية ـ الاسلامية تمضي إلى الانطفاء.
فمنذ العقد الأول للقرن الثالث عشر أصبح ابن سينا يُعْرَفُ بِـ Avicenna هناك، وبدأت أفكاره تؤثر في فلاسفة اللاهوت الأوربيين، خاصةً (ألبيرتوس ماغنوس، 1193/أو 1206 م ـ 1280 م) و(توما الأكويني، 1225م ـ 1274م)، اللذين أسَّسا، بعد دراستهما لفلسفة اليونان وتفاسير الفلاسفة المسلمين لها، وجدلهم معها، الفلسفةَ الرسمية للكنيسة الكاثوليكية. وصارت كُتُبُه تُدرَسُ في كليات اللاهوت وفي معاهد التعليم العام في الجامعات الأوربية. مثقفو أوربا ولاهوتيّوها، ممن عرفوا (الشِفاء) وتجادلوا معه نقدياً آنذاك، وجدوا فيه شفاء للنفس والعقل وتحريراً لهما، في زمن كانت فيه قارَّتُهم ما تزال غاطسةً في الظُلمة.
ولما أتاهم كتابه الآخر، الباهرُ (القانون في الطب)، أطلقوا على صاحبه تسميةَ (أبو الطب الحديث في العصور الوسطى). في القرن الخامس عشر وحده صدرت منه 15 طبعةً لاتينية، وواحدة باللغة العبرية. وظلَّ (القانون) هو المرجع العلمي والعُمدة في تدريس الطب في جامعات أوربا حتى القرن السابع عشر(تاريخ العرب؛ مجموعة مؤلفين ألمان. برلين 1971 ، 161/ج1).

نحن نلعن فلاسفتنا ومفكرينا، ونرى فيهم أعواناً للشيطان، ما دامت عقولُهم ومعارفهم قد هدتْهم إلى اجتهادات لا تُطابقُ اجتهاداتِنا، أو بعضها، والآخرون ممن نحسبُهم من"الكفار!" يأخذونهم إليهم، يدرسونهم، ويتمثلون أفكارهم، أو بعضها، ويجعلون منهم ومنها رافعاً من روافع نهضتهم.
(ألا ترى كم نحن بائسون يا الهي؟!).

وما حدث لابن سينا وغيره من فلاسفة العرب والمسلمين في المشرق الاسلامي حدث مثله لأقرانهم في مغربه. ومن بينهم (ابن باجة، 1106 م ـ 1138 م) الفيلسوف الذي يُنْظَرُ إليه بوصفه مؤسسَ المذهب العقلي هناك. كان هذا المفكر الشغوف بالتأمل والسؤال ينطلق من "أن العقل والمعرفة العقلية هما سبيل السعادة" (الفيّومي، محمد ابراهيم: ابن باجة وفلسفة الاغتراب، بيروت 1988. ص46). وقد وجد ابن باجة أن النظرَ العقليَ الخالص هو وحده الموصل إلى مشاهدة الله.
وكان هو أول مَن شَرَعَ، من أهل الأندلس، في نقد منظومة (الغزالي) الفكرية التي تقول بضعف العقل وعدم الركون إليه في كل شيئ، وترى، في (المنقذ من الضلال) خاصة، أن الإلهام هو مصدر المعرفة الأهمُّ والأوثقُ، فنرى ابن باجة يشيرُ في كتابه (رسالة الوداع) إلى سبيل الخيال الذي سلكه (الغزالي) في هذا المنحى الذي ضلَّ فيه، وأضلَّ به كلَّ من انساق وراءه. وعلى النقيض مما ذهب إليه (أبو حامدٍ الغزالي) أسهب ابن باجة في تبيان فضل العلم والمعرفة والتأمل الفلسفي العقلي على الانسان، فهي، مثلما يقول، تُعينُه على معرفة الطبيعة ونفسِه والاهتداء للخالق. وقد خلُصَ من هذا كلِّه إلى القول بأنَّ "العقل أحبُّ الموجودات إلى الله عزَّ وجل" (ابن باجة وفلسفة الاغتراب /105).
ولمثل هذا ذهب، بعده بسبعة قرون، شاعرٌ ألماني كبير شغَلَتْه ثقافة العرب الأندلسيين، وهو هاينريش هاينه (1797 م ـ 1856 م) حين ذكرَ في (أحوال فرنسية؛ تمهيدٌ لتمهيد، باريس 1832) بأن حقوق الانسان أتت من السماء "الموطنِ الأزلي للعقل".

وكان صاحبنا ابن باجة هذا خيرَمن تأمَّل في غربة أهل العقل واغترابهم وكتب فيها، حتى رحل مسموماً عام 1138، لضيق فقهاء زمانه به، وإثارتهم الساسةَ والرِعاعَ عليه، وتقديمه للحكام ولجُهّالِ الناس بوصفه "قذىً في عين الدين" و"نكبة للمؤمنين"، لا لشيئٍ إلا لقوله بما لا يعرفونه، ويعجزون عن الاهتداء إليه.

ولم تكن حال الفيلسوف، الأديب والقاضي (ابن رشد، 1126 م ـ 1198 م) الذي تأثر به، خيراً من حاله، إذْ كانت له، هو الآخر ولدواعٍ مُماثلة،، محنته مع حرّاس الشرع وسلاطينه من عبيدِ الجهل. لقد أفتى فقهاء البلاط بأنه "يجحد بالقرآن ويُعَرِّض بالخلافة"، فإذا بنقد مؤسستي الفقه والسياسة، وهما دنيويتان، يصبح جحوداً بالقرآن، وكأنهما والقرآن شيئ واحد، وما هما بذلك. فكان أنْ طورد ابن رشدٍ، وتشرَّد ونُفِيَ، سنةَ 1194م، مع عدد من المشتغلين بالحكمة والعلوم في حينها، إلى حارة اليهود في مدينته، إشارةً إلى طرده من المِلَّة!
كما أُحرِقت كتبه وسائر كتب الفلسفة معها، وهي مؤلَّفاتٌ أصبح بعضها، فيما بعدُ، دافعاً، هو الآخرُ، في نهضة أوربا العقلية.

ولهاينريش هاينة في جريمة الإحراق هذه موقفٌ ذو دلالة يوردُه في مقطع شعري من مسرحيته (المنصور) المنشورة عام 1821 م، يقول فيه: "كان هذا مدخَلاً لاغير/ فهناكَ، حيث تُحرَقُ الكتبُ، يُحرَقُ، في النهاية، البشَرْ".

في عصرنا الحديث كان حرقُ الكتب مقدمةً لإحراق الناس وخراب البلدان مراتٍ ثلاثاً: واحدةً في ألمانيا النازية، وأخرى في ايطاليا الفاشية في عهد موسوليني، وثالثةً اسبانيا الفرانكوية، حيث عاش ابن باجة وابن رشد وأُحرقت كتبهما وكتب أقران لهما في التأمل العقلي!
في نهاية ستينات القرن الماضي شهدت بلادُ الصين، إبّان ما أُطْلِقَ عليه "الثورة الثقافية!" حينذاك، حالة مماثلة، إذ أُحرقَت كتبٌ كثيرة لمفكرين وفلاسفة، وحتى لقادة وعلماء شيوعيين، بزعم أنها تروّج لفكر "بورجوازي!" مُنْحَطٍّ، وأُرْسِلَ أدباء وفنانون، وأساتذة جامعاتٍ ومدرسون، كثيرون إلى معسكرات عملٍ قسرية في الأرياف والجبال والمصانع!
هل يُمكن لِـ"ثورة ثقافية" تبدأ بإحراق الكتب ونفي المثقفين إلى مثل هذه المعسكرات أن توصَفَ بأنها "ثورة" حقاً، وفوق هذا "ثقافية"!

(في مطلع هذا العام، 2015، أقامت "دولةُ داعش الاسلامية!" في الموصل حفلاً لإحراق كتب الفلسفة والتصوف، ومنعت تدريسهما في معاهد العلم في المدينة ومدارسها، وكأن الماضي يعود ليذكِّرَنا بأنّ فتاواه ووجوهه البربرية حاضرةٌ في حاضرنا، وأنّ هذا الحاضرَ لا يجوز أنْ يخرجَ عن ذاك الماضي!).

ويُرْوى أن مؤسستي الحكم والفقه قد حظرتا، في حملتهما على الفلسفة والفلاسفة، في عهد الخليفة الموحِّدي (المنصور، ت. 1199 م)، على الناس، يومَذاك، الاشتغال بغير العلوم التطبيقية كالطب والنجوم والحساب. وليس مثلُ هذا الحظرِ غيرَ تقييد للمعرفة وللعقل معاً، ونوعٌ آخر من الإحراق لهما.

وكان ابن رشد الذي يُنْسَبُ إليه قولٌ يرى فيه، عن صواب، بأن إطالةَ اللحى لا تصنع حكماءَ، ولا تأتي بحكمة، قد عمد في كتابيه (تهافت التهافت) و(فصلُ المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) إلى الرد على هجمة الغزالي على الفلاسفة، ساعياً، بمعرفةٍ دقيقة ونظَرٍ ثاقب، إلى نقض أطروحاته وآرائه في هذا الشأن، ونقدِ ما تقوم عليه "ثقافة" الاتباع والتقليد.
فقد عمل على بيان الصلة بين الفلسفة والشريعة، وكشفِ خطَلِ القول بنقض إحداهما للأخرى. فأظهرَ أنَّ القرآن يوجبُ، في الكثير من آياته، التفكُّرَ في خلق السموات والأرض، والنظرَ في ملكوتهما، داعياً "أولي الأبصار" إلى أن يعتبروا فيما يرونه ويتأملوا فيه. ويخلُصُ، من هذا كلِّه، إلى أنَّ النظرَ في الفلسفة وعلوم المنطق مُباحٌ في الشرعِ، مأمورٌ به، غيرُ محظور. فليس فِعلُ الفلسفة، كما يقول، شيئاً أكثرَ من النظر في الموجودات (المخلوقات) من جهة دلالتها على الصانع (الخالق)، "وأنه كلما كانت المعرفةُ بصنعتها أتَمَّ كانت المعرفة بالصانع أتَمَّ." (فصل المقال، الطبعة الثانية، القاهرة 1983. ص22).

ثم نراه يضع العلاقةَ بالسلَف وما أورثوه لنا من فكر وتعاليم في سياقها الجدلي، أي أنها علاقة أخْذٍ مما جاؤوا به، وإضافةٍ إليه، وصَدٍّ عما لم يعد مناسباً لزماننا فيه. فإذا كان القدماءُ قد فحصوا، كما يذكرُ، كُلَّ ما يُحتاجُ إليه من النظرِ في أمر المقاييس العقلية أتمَّ فحصٍ، "فقد ينبغي أن نضربَ بأيدينا إلى كتبهم، فننظُرَ فيما قالوه من ذلك، فإنْ كان كلُّه صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصوابٍ نَبَّهْنا عليه" (فصل المقال /26). والقدماء، عنده، هم قدماؤنا، وقدماء غيرِنا.

كما يتناول في كتابه هذا (ص25) موضوعةَ (البِدْعَة). وهي نوعٌ من "سيفٍ أيديولوجي" يسلُّهُ التقليديون على أعناق من يجتهدُ بغير ما اجتهدوه هم، فيلعوننهم، ويُلْقون بهم في النار، حتى قبلَ أن يقفوا وإياهم أمامَ خالقهم فيحكُمَ بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، مثلما ورد في أياتٍ كثيرة من (الكتاب).
ومعروف أنّ تاريخنا يزخرُ بأهل الأفكار، جماعاتٍ وأفراداً، ممن رماهم فقهاء التقليد بالبدعة، وبهذا مهَّدوا لمؤسسة الحُكم السبيلَ، عقائدياً، لملاحقتهم وقطع رقابِهم حيثما كان لها ذلك. وعلى أنَّ رَمْيَ المخالف للتقليد السائد، والمختلفِ مع حُرّاسه الأيديولوجيين، بالبدعةِ ما يزال حاضراً في زماننا هذا، إلا أنَّ "فتاوى التكفير" صارت أكثر شيوعاً منه، وغدتْ هي "المفاتيح العقائدية" لقتل الآخر وملاحقته، وفتح أبواب الجنة للقاتل!

(بدلَ (البدعة) شاعَت، في أوساط المؤمنين بالأيديولوجيات الدنيوية وأدبياتهم، حتى تسعينات القرن الماضي، مفاهيم مثل (التحريفية) و(الانتهازية) بوجهَيْها "اليميني" مرةً، و"اليساري" مرة أخرى. وذلك لوصف من شرع في نقد النظرية، أو تطبيقاتها العملية في هذا المكان أو ذاك، ورأى الرسميون في نقده ما حسِبوه خروجاً على أسس النظرية، وإساءةً لها، وتشويهاً لنقاوتها!).

في (فصل المقال) يكشفُ ابن رشد تناقضَ فقهاء المؤسسة الرسمية ومثقفيها في شأن (البدعة). فهم إذ يصفونَ النظرَ في القياس العقلي بدعةً، لأنَّ مسلمي صدر الاسلام لم يعرفوه، نراهم يتجاهلون، في الوقت نفسه، أن النظرَ في القياس الفقهي وأنواعه، لم يكن يعلمُهُ الناس حينذاك أيضاً، وهو شيئ حدثَ استنباطُه بعد الصدر الأول. ولم يكن إحداثُهُ وإبداعُه، في عهدٍ غير عهد ذاك السَلَف، سبباً في أن يرى أحدُ فيه بدعة. لا الإمام الغزالي رأى هذا، ولا من سبقه من أهل التقليد أو جاء بعده!

ويرى (ابن رشد) أنَّ تكامل المعرفة لا يتحقق بالانقطاع عما أنجزه الآخرون في الثقافات الأخرى، وانما بالتفاعل النقدي مع مُنجزهم هذا. فهو يقول في (فصل المقال /26) بأن من الواجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله، من بحثٍ وفحصٍ، بما قاله من تقدَّمَنا في ذلك. ولا فرقَ، عندَها، إنْ كان المتقدِّم في هذا مشاركاً لنا في الملَّة أو غير مُشاركٍ، ونظرَ في أشياء المعرفة قبل ملَّة الاسلام، أو بعدَها.
صحةُ المنهج وآلياتِه واستنتاجاتِه لا تحصلُ تزكيتُها، في رأيه، بكون صاحبها من أهل ملَّتنا أو من غيرهم. كأنَّنا بأبي الوليد ابن رشد يقول لنا، هنا، بأن الحقائق تظل حقائقَ بصرف النظر عمن توصّل إليها وأتانا بها.
لا المشاركةُ في العقيدة أو في العِرقِ، في الفِرقة أوالمذهب، في الحزب أو الأيديولوجيا، هي المعيارُ في اعتبار الحقائق حقائق.

وقد أخذه فهمُهُ للدين والايمان، وتسامحُ الحكيم فيه وانفتاحُه إلى القول، في الكتاب نفسه (ص42)، بأن "المذاهب في العالم ليست تتباعدُ، حتى يُكَفَّرَ بعضُها ولا يُكَفَّرَ". وحدة الأديان عنده تأتي من واحديةِ مصدرها وأصلها: ألله رب السموات والأرض.
مثلُ هذه النظرة لا يُمكن أن تجد لها قبولاً، بالطبع، في "ثقافة" الاتباع والقليد، لأنها تمثِّل نقضاً لأسس هذه "الثقافة" ودعائمها التي تقوم على أنّ أصحاب كلّ مذهب يرون الحقَّ فيهم وحدهم!

هذه الرؤية الحرةُ للأشياء، فضلاً عن معرفته العميقة، وقراءاته النقدية الدقيقة لفلسفة اليونان، ولأعمال من سبقه من فلاسفة المسلمين، وتعليقاته المستفضية على أعمال ارسطو خاصة، هي التي أوصلته إلى خلقِ نظام فلسفي خاصٍ به، صار يُعْرَف في أوربا القرون الوسطى بِـ (الابن رشدية،Averroismus).
وكما حدث لأعمال ابن سينا، فقد حَدَتْ نظراتُ ابن رشد الفلسفية والاجتماعية بمفكِّري أوربا، من أرثودوكسيين متزمتين أو ممن غايرَهم وخرج عليهم، أن يستدعوه إليهم ويحاورونه، كُلٌّ وفقَ مقارباته لأعماله، وذلك مُذْ بدأوا بمعرفتها مطلع القرن الثالث عشر، وصاروا يتشرَّبونها ويهضمونها، انطلاقاً من ميلانو وباريس، لينشأ، بعد ذلك، وخاصة عقِبَ ترجمة (تهافت التهافت) عامَ 1328، ما أصبح يُعْرَفُ، في تاريخ الفكر الأوربي، بتيار المفكرين (الإبن رشديين)، لقد غدا منجزُ ابن رشدAverroes الفلسفي، على مرّ الأيام، بعضاً من الفكر الحيّ، المتحرِّك في ذاكرتهم الثقافية، امتد أثرُه إلى عصر الأنوار الأوربي، وظل مادّيو القرن السابع عشر الانجليز يرون أنفسَهم ممثّلين لإرثِهِ الفلسفي الغني (تاريخ العرب /244).
الترجمات اللاتينيةُ لأعمال ابن رشد نُشِرَتْ، أول مرة كاملةً، في البندقية عام 1471 بما يزيد على 50 طبعة.

لم يقتصر أثرُ ابن رشد على مفكري أوربا وفلاسفتها الذين لم تُتَحْ لهم معرفة أرسطو كاملاً، واكتشاف الافلاطونية الحديثة، والأخذُ باتجاهات فلسفة (وحدة الوجود)، في حينها، إلا من خلاله، بل تعداهم إلى متصوفتها كذلك. فقد استنبطَ التصوف الأوربي، في نهاية العصر الوسيط، من أفكاره في التمييز بين مراحلَ ثلاثٍ في تطور الفرد عقلياً، فكرةَ الإيمان ذات المنحى الاصلاحي، والاعتقاد باستقلالية الفرد وقدرته على أن يقرِّرَ، عبرَ المعرفة والإيمان، خياراته بنفسه. هذه الفكرة منحت هؤلاء المتصوفةَ المصلحين أماكن تأثير أوسعَ بين الفئات المحرومة من الناس (معجم الفلاسفةـ طبعة ألمانيةـ برلين 1982. ص426).

أما ذاكرتنا الثقافية الجمعية، الرسمية والاجتماعية، نحن العربَ والمسلمين، فقد أهملته، مثلما أهملت غيره من فلاسفتنا ومفكرينا الأحرار، ولم ترَ فيه وفيهم أكثرَ من لُقْيَةٍ متحفيةٍ، في أفضل الأحوال. هذه الذاكرة لم تَسْعَ لتمَثُّلِ أفكاره وأفكارهم، أو محاورتها نقدياً، ليس بسلاح (الفتوى)، كما هو مألوف عندنا، بل عبر الجدل الذي يُضيفُ ويُغني. الجدلُ الذي يجعل للأفكار، أيّاً كانت، أثراً في تطورنا الثقافي والحضاري. حتى ما نرفضه من أفكار له دورٌ ما في إيقاظ وَعْينا.
ولكن هل يُمكن انتظارُ مثل هذا من ذاكرة تحفَلُ بالميّت، الساكنِ من الأفكار، وتحتفي به على أنه "الجديد" مهما تقادمتِ الدهور، وتغيَّرت الدنيا؟

قبل ابن رشد وابن باجة واجه (ابن مسرة القرطبي (883 م ـ931 م)، وهو أول من أدخل الحكمة إلى الأندلس، وعدَّه دارسون متأخرون أحدَ رواد المدرسة الافلاطونية الحديثة، مصيراً مشابهاً، حيث أثار اشتغاله بالفلسفة العقلية غيظَ الفقهاء، فرموه بالتفسخ والإلحاد، وأوغروا صدر الحكام عليه، فأُحرِقت كتبه، ونُفِيَ وحُكِمَ عليه بالعزلة.

لم تقتصر مظالم مؤسستي الفقه والحكم المتحالفتين على الفلاسفة العقليين وحدهم، بل تعدَّتْهم إلى شعراء وأدباء اطَّلعوا على آراء الفلاسفة، ودرسوها وتأمّلوا فيها، فكان لها أثرٌ في نظرتهم لأنفسهم ومجتمعاتهم والعالم وكتاباتهم عنها. أحد من تعرَّض لمثل هذه المظالم (أبو العلاء المعري، 973 م - 1057 م)، أحدُ أهمِّ نماذج التنوير في تراثنا، حيث زندَقُهُ بعضُ قضاةِ وفقهاء و"علماء" زمانه على السماع والوشاية، غالباً، ودون مناظرة معه، أو جدلٍ نقدي مع ما كتبَ وقال!
فقد نقل ياقوت الحموي (1179 م ـ 1229 م) في كتابه (ارشاد الأريب إلى معرفة الأديب) عنه أنه : "كان متهما في دينه يرى رأيَ البراهمة . . ." (ارشاد الأريب، 170/ م1). وذهب إلى مثل هذا، غير ياقوت، آخرون.
ولم يكن الدافع في حكمهم هذا عليه سوى نقده للدولة ومفاسدها، وإستنكاره لأن تجعل، هي وفقهاؤها، من الدين والإيمان مصادرَ لتجهيل العباد وإثارة النزاعات والقتل بين أهل الأديان والمذاهب، وإنكاره للكثير من خرافات الرواة والفقهاء وكشفه لمقاصدها، وإبائه، مثلما كتب لأحد مُحاجِجيه منهم، أن يطلبَ الرشدَ ممن لا رشدَ عنده، ودعوته إلى إمامة العقل ومشاورته واستفتائه في كل شيئ.
وكان الأمام علي قد وضع للعقل موضعاً مماثلاً حين قال، قبل هذا بما يقرب من أربعة قرون، بأنّ "خير ما يُعْبَدُ به الله العقل. "

(قبل ما يزيد على العام أتتنا أحداث "الثورة!" السورية بنبأٍ يفيدُ بأنَّ "جهاديي" الارهاب الاسلاموي من "جبهة النصرة" و"داعش" وأخَواتهما قد قاموا، حين دخلوا "معرَّة النعمان"، بتفجير تمثال أبي العلاء ونبشِ قبره، وهو ما فعلوه بضريح (حجر بن عدي) صاحب الإمام علي كذلك. لعنة التزمت العقائدي تلاحق الناسَ حتى وهي راقدةٌ في قبورِها. ومن فُكاهات عصرنا المريرة أن البعض يريد لنا أن تصدّق بأن أمثالَ هؤلاء "الجهاديين!" سيأتون لأهل سورية بالحرية والديمقراطية).

ولم يكن حظُّ أبي حيان التوحيدي (922 م ـ 1010/ أو 1023 م) الذي يرى ياقوت الحمَوي، في ترجمته له، بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، بأفضل من حظوظ أصحابه من أهل العقل في ثقافتنا. فكانت له هو الآخر خيباته المتعاقبة من أهل عصره، وذوي الإمرَةِ منهم خاصة، واغترابه عنه وعنهم. واحتوت كتاباتُه، في مواطن غير قليلة منها، شهادته النقدية على سوء الأحوال في تلك الحقبة، وانقلاب المعايير فيها، وانهيار القيم حتى عند من يعظُ بها نهاراً ويسخر منها ليلاً. وقد أخذته تلك الأحوال، في لحظة غضب ويأس وجودية من زمانه، وناسِ زمانه، إلى أن يجعل من كتبه، في آخر أيامه، طعماً للنيران، وذلك بعد أن اضطرَّه مالكو زمانِه، مثلما كتب هو: " . . . إلى ما لا يحسنُ بالحرِّ أن يرسمَه، ويطرح في قلب صاحبه الألم". وهكذا ضاع الكثيرُ من مؤلفاته التي بلغتْ نحوَ العشرين.
يذكر (جلال الدين السيوطي، 1445 م ـ 1505 م) في كتابه (بُغية الوعاة) دافعَ إبي حيانٍ لإتلاف مؤلفاته، من أنه "ضَنَّ بها على من لا يعرف قَدْرَها، فجمعها وأحرقها، فلم يسلم منها غيرُ ما نُقِلَ قبلَ الإحراق".
وإذا كان القليلُ الذي وصلنا من كتبهِ قد سَلِمَ من الإحراق، فإن صاحبَها لم يَسْلَمْ، لفكره الحر ونقده العقلاني، من لهَبِ التشدد العقائدي، واتهامه بالضلال والزندقة والإلحاد. فقد قال عنه (الحافظ الذهبي، 1274 م ـ 1348 م)، في مصنَّفه (سِيَرُ أعلام النبلاء، 119/ج17) مثلاً، بأنه "الضالُّ الملحد".
وحكم عليه (ابن حجر العسقلاني، 773 هـ ـ 852 هـ) في كتابه (لسان الميزان، 83ـ41/ج7) بأنه "كان صاحب زندقة وانحلال". ولهذا وغيره حنق عليه وزراء السلطان طالبين قتلَه، فظلَّ هارباً، مُسْتَتِراً عنهم، حتى مات!

وليس لنا أن نُغْفِلَ، في هذا السياق المرير، ما كابده متصوفةُ الاسلام الكبار من مظالم الحكام وقضاتهم وفقهائهم، لا لشيئ إلا لأنهم تمثّلوا الدين علاقةَ إيمانٍ ومحبةٍ بين الفرد المؤمن، المُحِبِّ، وخالقِهِ المحبوب. علاقةَ تخلُّقٍ بأخلاقه وفناءٍ فيه، لا علاقةَ "تديُّن" شكلي فحسب، تقوم بالوصاية فيها على الناس والدين، وحتى على الله ورسوله، مؤسسةُ فقهٍ كهنوتية الروح والطابع. وغالباً ما تكون هذه مُلحقةً بمؤسسة الحكم، مبرَّرَةً لأحكامها وسياساتها، ومفاسدها كذلك!
وما كان لهم إزاء أحوال كهذه سوى الاغتراب عن دنيا الحكام وفقهائهم وأتباعهم. وهي غربة أوضح مقاصدَها شيخهم الأكبر (محيي الدين بن عربي، 1164 م ـ 1240 م) ) في (الفتوحات المكية، 528/ج2)، قائلاً : "يطلبون بالغربة وجود قلوبهم مع الله". ولأن الصوفي لا يطلب وجود قلبه مع الحق طمعاً في جنةٍ أو خوفاً من نار، فتلك من أخلاق السوق وعاداته في حسابات الربح والخسارة في عُرْفِهم، فقد صار عليه ألاّ يملك شيئاً، ولا يملكه شيئ، مثلما قال أحدهم (الرسالة القشيرية في التصوف /280)، أيْ ألا يمتلكه أحدٌ، أو شيئٌ سوى الخالق.

لقد رأت هاتان المؤسَّستان في علاقة الإيمان الصوفية هذه إفلاتاً من سطوتهما، وتهديداً لوصايتهما تلك، خاصةً وأنّ أئمة الصوفية فهموا التصوفَ جهاداً في إحقاقِ الحقّ للمخلوقات جميعها، ونظروا لجميع الأديان بوصفها طرقاً مختلفة للوصول إلى الخالق، واجتهدوا في إنَّ إحقاقَ الحقّ لا يتحقق إلا بمجاهدة الظلم والطغيان في نفوس الأفراد والمجتمع.

هذه الرؤيةُ الصوفية وتجلياتها هي التي جعلت، مثلاً، قاضي بغداد (محمد بن داود) يقضي للمقتدر العباسي (ت. 932 م.)، ولوزيره (حامد بن العباس)، بتعارضِ صوفية (الحسين بن منصور الحلاج) مع تعاليم الاسلام. فَسُجِنَ الشيخ الغريبُ وعُذِّبَ، وحوكِمَ وأُقيمَ عليه حدُّ الزندقةِ، وقُتِلَ مصلوباً على جذع نخلة في بغداد عام 922 م.
ومن المفارقات أن ذاكرة التاريخ تحفظ لنا بأن لا أحدَ من خلفاء بني العباس وقضاتهم وفقهائهم، وغالبية من سبقوهم، وجاؤوا بعدهم، قد عبد اللهَ وأحبَّهُ، كما فعل الحلاجُ، حتى ما عاد يرى شيئاً غيرَ خالقه المعشوق، ولا يسمع صوتاً غيرَ صوته، مُجَسِّداً بهذا فهمَه للتصوف بأنه (تصفيةُ القلب من غير الله).

وبسَعْيٍ من فقهاء السلطان ومكائدهم واجه السهرودي القتيل، صاحب فلسفة الإشراق، مصيراً مشابهاً، إذْ قُتِلَ عام 1191 م، وهو سجينٌ في حلب، خَنْقاً بأمرٍ من سلطان مسلمٍ، ما نزال نحتفي به فخورينَ إلى يومنا هذا، ألا وهو صلاح الدين الأيوبي!

ولم يكن هذان العقلان الباهران أول من كابد ظلمَ المؤسستين المذكورتين من أهل التصوف، ولا آخرهم، فشهداء الأفكار الحرة منهم، ومن غيرهم، في تاريخنا القديم والحديث، وتاريخ غيرنا، كُثْرٌ. ولمثل هذا أشار أبو فراتٍ الجواهري (1900م ـ 1997م) حين قال مخاطباً صاحبه أبا العلاء يوما :
لثـورة الفكر تاريخٌ يُحدِّثُنا بأنَّ ألف مسيح دونها صُلِـبا

وألفُ الجواهري هنا آلافٌ مؤَلَّـفةٌ يعجزُ أنْ يُلِـمَّ بها ذِكْرٌ عندنا وعند غيرنا. فالثقافاتُ الأخرى، في تلك الأزمنة وما سبقَها وتلاها، لم تخلُ من مثل هذه الظواهر بالطبع. ولعلها عند بعضها قد طغت في وحشيّتها على ما شهده تاريخنا.

ففي الثقافة الأوربية بدأت، في عهد الامبراطورية الرومانية، مطاردةُ أهل العقائد الأخرى بتُهَـم الزندقة والإلحاد، مع سعي قيصر روما (قسطنطين، 270 م ـ 337 م)، الملَّقَب بالكبير، إلى دمجِ الديانة المسيحية بالدولة، وإيثارها، بعد عام 312 م، على غيرها من الأديان التي كان رعايا الامبراطورية يتوزّعون الإيمان بها، وإعلانها ديانةً له عام 324 م، وللدولة فيما بعد.
لقد ظلَّ المسيحيون الأوائل ملاحقين ما يقرب من ثلاثة قرون، يدعون لدينهم بالكلمة والحجة الحسَنة، فيُسْجَنون ويُعَذَّبون ويُقْتَلون، ويُلْقى بالكثير منهم للوحوش أحياء، دون أن يَثْنيَهم هذا عن مواصلة نشر دعوتهم لما رأوه حقاً. وهاهي كنيستُهم تختار، منذ ذلك التاريخ، أن تكون حليفاً للقيصر. وأن تُصبحَ عبرَ هذا التحالف آلةَ دنيا وسياسة. هذا التحول أثار استنكارَ أعداد من رجال الدين المسيحيين، آنذاك، فانعزلوا في صوامعهم البعيدة مترهبّين عابدين لربهم، متوجهين له وحده.

لقد منح قسطنطين، وغالبية من جاء بعده، الكنيسة امتيازات كبيرة، فملكت الأموالَ والأراضي الزراعية والضياع، وأُعفِيت من تسديد الضرائب عنها، ونُقِلَتْ إليها بعض مسؤوليات الدولة في القضاء، ووُفِقَ على إعطائها المواريث والهدايا وتحولَّت قبور شهدائها إلى مزارات ودور عبادة. وأصبح للمطارنة والأساقفة، الذين كانوا خُدّام الرب المُطاردين من قبلُ، حقَّ التدخل في توظيف العاملين في مؤسسات الامبراطورية.
(في العصور الوسطى أصبح بابا الكنيسة الكاثوليكية صاحب الكلمة الفصل في تتويج ملوك أوربا).
وفي مُقابل هذا منحت الكنيسةُ القيصرَ أساساً عقائدياً وأيديولوجيا لأن يُصبحَ هو الحاكم المطلق، وهو ما كان مثارَ أزمات وجدل في روما من قبل. لقد قدَّمت عقيدة التوحيد المسيحية، عبرَ موقفها الذي صيغَ في وقت مبكر من تاريخها، قاعدة شرعية لقيام حكم ملكي مطلق، إذ كما بسود في السماء ملك واحد، ينبغي أن يحكمَ في الأرض ملكٌ واحد كذلك!
ويبدو أن القيصر قد وجد في دعوة اللاهوت الكنسي الرعيةَ، آنذاك، لإبداء الطاعة لأُولي الأمر دعماً "سماوياً!" آخر لحكمه. ففي رسالة بولس الرسول إلى أهل رومِيَة (روما) تردُ هذه الدعوةُ بصيغة الطَلَب: "لتخضَعْ كلُّ نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطانٌ إلاَّ من الله، والسلاطينُ الكائنةُ هي مُرِتَّبَةٌ من الله، حتى إنَّ من يُقاومُ السلطانَ يقاومُ ترتيبَ الله" (13 ،1،2).
وهكذا، ومن خلال هذا الحلفِ، الذي أصبحت فيه الكنيسةُ كنيسةَ الدولة، واكتسبت هذه الأخيرة وحاكمُها صفة التقديس، صار قسطنطين مشابها للحواريين و"عاشق الرب"، كما تذكر صحائف التاريخ الكنسي
التي تؤرخ لعهده. وحملَتِ الإمبراطوريةُ، فيما بعد، تسميةَ (الامبراطوريةُ الرومانية المقدسة!).
لكنَّ نعتَ "المقدَّسَة" هذا لم يُغَيِّر، أبداً، من حقيقتها الأولى شيئاً، وبقائها سجناً كبيراً لشعوب وأقوام كثيرة في أوربا وخارجها.

ومنذ ذلك الحين صار نشرُ العقيدة يمضي بمصاحبة جيوش القيصر وسيوفه. ولم يختلف الأمرُ مع الحملات الصليبية (1095 م ـ 1250 م) كذلك، وتواصل مع الفتوحات الكولونيالية في أمريكا اللاتينية وأسيا وإفريقيا أيضاً. مصالح السياسة والاقتصاد وبسط النفوذ تعانق مصالح التبشير الديني، وتأخذها معها في حملات الدم والموت هذه.

وبمرور الأزمان وتوَطُّدِ سلطة الكنيسة كان قمعُ التيارات والمدارس الفكرية والفلسفية والعقائد الدينية الأخرى يتَّسعُ ويشتد، ويُطْرَدُ العلماءُ والمشتغلون بالتعليم من وظائفهم، بتُهَم الزندقة والإلحاد. ففي عام 529 للميلاد أُغْلِقَتْ أكاديمية أثينا الفلسفية، آخر معاقل التقاليد والفكر الفلسفي اليوناني القديم، بزعم أنها موطنٌ لأفكار العهد الوثني وفلسفاته. وقد طورد أساتذتها، وهاجروا من أرض الامبراطورية "المقدسة" إلى بلاد فارس ليجدوا لهم ملجأً في ضيافة ملكها (خسرو أنوشيروان).

لقد بلغ عسف الكنيسة ودولتها الدينية ذروته في العصر الوسيط، حيث قامت (محاكم التفتيش الدينية) التابعة لها بارتكاب جرائم وحشية إزاء أهل العقائد الأخرى، والمفكرين الأحرار، وحتى دعاة الاصلاح من رجال الدين المسيحيين. ولم يبدأ لجمُ هذا النزوع التدميري لقمع الآخر المختلف، ومَحْـوِه باسم العقيدة إلا مع بزوغ عصر التنوير في أوربا، وفصل الدين عن الدولة، وإنقاذه من أن يكون وعاءً يُفْرِغُ فيه الحكامُ والساسةُ تناقضات مصالحهم، ومقاصدَهم في بسطِ نفوذهم وسلطانهم، كما حدث عندهم، وما يزال يحدث عندنا، والعياذ بالله.



#حميد_الخاقاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَقاتل السياسة . . . . مقاتل الأفكار
- في نقد -ثقافة- الاتباع والتقليد (1) أسئلة الثقافة وصدأُ العق ...
- إضافة مفهوم -ثقافة- إلى ما لا يُضاف إليه
- قيامة الطائر
- صناعة السلطة
- شبح الشيوعيين مرة أخرى
- -ديمقراطيو- السلطة وأشباح اليسار الديمقراطي
- الطيب صالح ومعضلة الهوية
- جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين


المزيد.....




- وفاة قيادي بارز في الحركة الإسلامية بالمغرب.. من هو؟!
- لمتابعة أغاني البيبي لطفلك..استقبل حالاً تردد قناة طيور الجن ...
- قادة الجيش الايراني يجددن العهد والبيعة لمبادىء مفجر الثورة ...
- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حميد الخاقاني - ترويض العقل أم حرية الأفكار وجدلُها