أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ربيعة برهان - غربة مشاعر















المزيد.....



غربة مشاعر


ربيعة برهان

الحوار المتمدن-العدد: 4702 - 2015 / 1 / 27 - 23:11
المحور: الادب والفن
    








في ليلة هادئة، تسللت بهدوء إلى كهف ذاكرتي البعيدة بعض الشيء. محاولة نفض الغبار عنها بعد إهمال دام لفترة من الزمن. في رغبة مني أن أرتب رفوفها حسب الزمان والمكان. أرتب المهم فالأهم. الأكثر إيلاماً فالمؤلم، والأكثر فرحاً فالمفرح، لأن النسيان بدأ يأخذ مجراه في تلافيف دماغي.
وأنا أتسلل في إحدى الممرات، فإذا بواحدة تصحى من نومها وتتحرك محاولة إزالة طبقة من الإهمال عنها. حاولتٌ أن أتجاهلها بالابتعاد عنها، لكنها تنحنحت بإصدار صوت خفيف كي تلفت نظري. وقفت لحظة عندها، نظرت إليها كي أتعرف عليها، وما بها؟ عند ذلك تشجعت وابتسمت ابتسامة صباحية نصف غافية.
هل تذكرين ذلك الاسبوع العصيب؟ " قالت بغصة"
سألتها: عن أي أسبوع تتحدثين؟
وحاولتُ المضي في تسللي، أدرت ظهري لمتابعة عملي في الترتيب.
((مطار دمشق الدولي والسفر والغربة)): قالت بغصة.
توقفت لحظة وسألتها: ماذا تريدن الآن؟
قالت: أريحيني من تخزين مشاعرك عندي. انقليها إلى أي مكان اخر
كيف؟ سألتها.
اقترحتْ على ان افرغها حروفاً وكلمات على ورق او حتى على شريحة الكترونية تُركن في مكان ما غير هذا الركن.
أجبتها: لا اُتقن فن الكتابة، لا اُتقن فن الرواية.
قالت: جربي
قلت: لا أحب البوح بأسرار مشاعري والآمي.
قالت: آلامك كآلام الاخرين.
قلت: لقد تقدم بي العمر وفات الاوان، لا فائدة من البوح الان.
قالت: لا لا لا ابدا لم يفت الاوان.
دار حوار بيني وبينها، لم أستطع ان أتهرب منه. تلبستني كالوسواس القهري، واقنعتني ان ارتبها في كلمات على السطور كي تستقر فيما بعد على رفوف المكتبات.
قالت لي:
سوف احرث لك الماضي حرثاً....... انتقي منه ما يناسبك للبوح به.
بعد جدال بيني وبينها دام فترة، اقنعتني واقترحت على ان ابدأ وقت توقفت السيارة بنا في الموقف المخصص لنقل المسافرين من والى مطار دمشق الدولي. كان الجو ربيعيا وذلك في نيسان من سنة 1990.... هل نسيت ذلك اليوم العصيب؟
نعم نعم .....تذكرت ذلك الصباح الذي لا يشبه اي صباح من صباحات حياتي. يومها تعرفت على مشاعر جديدة وكأنها احتلتني احتلالا. دخلتني عنوة ولخبطت كياني. قيدتني قيدا مطبقا. شعور مشوه ومشوش يكتنفه اللبس والغموض. شعور يلفه الضباب. خليط من حزن وغبطة.......ثقة وخوف......... نجاح وفشل...... مزيج من هكذا مشاعر دفعة واحدة صعب التأقلم معه. حاولت وبذلت قصارى جهدي لأتأقلم معها ولكني ارهقت، هدتني هدا. عاصفة من الخوف لفتني واخذتني بعيدا الى هوس الفشل.
الفشل في تخطي حواجز المخابرات السورية والوقوع بين ايديهم، التي لا ترحم ولا تعرف الانسانية. لقد سمعت قصص كثيرة عن مهارتهم في التعذيب. من كثرة احترافهم يظن المرء انها غريزة خلقها الله فيهم، وثبّتها في خلاياهم كي تصبح جزء من طبيعتهم، وذلك من اجل اثبات ولاءهم لأسيادهم. الحق يقال انهم مبدعون في هذه الحرفة، اظنهم درسوا وتعرفوا على أعنف وأقذر ما خلفته الحضارات السابقة من الشرق والغرب في التعذيب. تظنهم انهم يتعاملون مع ملك الموت في مهمته في قبض الاروح هناك.
لي قريب عاش المأساة سنين هناك. حيث سمعته يقول مرة: قرأت في القرآن الكريم بان جهنم تأتي بعد الممات في حال عدم عبادة الله. عشت تجربة عذاب جهنم قبل مماتي وانا ما زلت حيا في اقبية السجون وزنزاناته....... يا له من تعبير قوي........... بقيت هذه الجملة في ساحة تفكيري تلازمني اينما تحركت كزمرة دمي. كلون بشرتي، كانتماء اطفالي لرحمي.
سؤال ألح في الظهور على شاشة اوهامي لما كل هذ الخوف والقلق؟ مع ان السفر حلم كثير من الناس، فرحة عمرهم.
لان...... لان زوجي يحمل في حقيبته الصغيرة جواز مزور. كان لابد منه ومن حمله. كانت جزأ من لعبة التهريب واللجوء الى أوربا. لعبة ايجاد وطن بديل. وطن يحتضننا، يؤمن لنا الأمن والأمان.
كان لزوجي تجربتين سابقتين فاشلتين في محاولته اللجوء الى احدى الدول الإسكندنافية قبل تجربتنا. الاولى قبل سنة ونصف من تاريخ هذه المغامرة عندما اكتشفوا ان الفيزا المطبوعة على جوازه مزورة حيث ارجعوه الى دمشق على اول طائرة بعدما أمضى هناك عدة ليالي في الترانزيت. كان من المفترض بعد كشف التزوير ان يسلمونه الى السلطات العراقية. كونه عراقي الجنسية. سوف يواجه حكم الاعدام لا محالة، لأنه كان مطلوبا من قبل السلطات العراقية كونه معارضا سياسيا. ولحسن الحظ كان يحمل رقم تلفون صديق له مقيم في ايطاليا. اتصل فيه وشرح له الوضع. وبدأت المفاوضات بين صديقه وواحد في البرلمان الايطالي حيث رسي الجدال على تسليمه للسلطات السورية وليس العراقية.
في اثناء عودته الى سوريا حيث رافقه شخص ايطالي ليسلمه الى السلطات السورية يدا بيد. كان مقيدا اليد طول الوقت بيد الشخص المرافق له الى سوريا. في اثناء تواجدهم في الطائرة التقى زوجي بوفد من الفنانين العراقيين الذي يقيمون في ايطاليا متوجهين الى سوريا لعقد مؤتمر فني هناك. حيث اقنعوا الشخص الذي يتولى مرافقة زوجي ان يفك قيده ويتركه ينزل من الطائرة مع الوفد وكأنه واحد منهم ......كان زوجي يحمل آنذاك الجواز اليمني الجنوبي حيث كانت اليمن في وقتها متعاونة مع المعارضين العراقيين وعلى ذلك الجواز اقامة مؤقتة في سوريا.
والتجربة الثانية، عندما ارجعوه من السويد قبل عشرة أشهر من الان. والتي وصل اليها بعد عناء ورعب وخوف وكانت حجتهم بان سوريا بلد الامن والامان. فعاد بعد مضي عشرين يوما...... على الرغم من كل تلك المصاعب التي مر بها فقط كان مصرا على عن سبيل لأحدى الدول تمنحه وبنات الجنسية. الحق يقال انه عمل ما بوسعه كي يُأمن الهوية والامن والأمان لعائلته الصغيرة وعرض نفسه مرارا للمتاعب. أصبح السفر رعبا بالنسبة لي، بعد تجربة زوجي وما سمعت عن تجارب الاخرين.
اين سيحط بنا المطاف؟ اعرف اسم البلد المقصود. ولكنني لا اعرف اهل ذلك البلد. ولا لغتهم...... ولا عادتهم ... ولا جغرافية ارضهم ... ولا سجونهم وامنهم ... فقط كنت اسمع انها مدينة الضباب كيف يكون ذلك؟ وانا التي كنت وما زلت أكره الضباب.
في المطار عانيت من انفصام مشاعري، امسيت اعيش حالات غريبة اغتربت عنها. تلك التي تعودت عليها وكبرنا سويا، وتعايشت معها ليل نهار. بحثت عنها: لم اجدها، كأنها هاجرت وطارت قبلي وسبقتني الى المجهول.
احسست بأنني مشتاقة الى ارض دمشق قبل ان اغادرها. حنين الى مسقط راسي. حيث الطفولة والمراهقة، الشباب، العشق والأصدقاء. بيت اهلي، اخوتي، حيث حيات الماضية كلها، ذكرياتي بحلوها ومرها.
عبقت في روحي رائحة امي وابي كأنني أتأرجح كالطفلة الرضيعة بين ايديهما.
زوجي مبتهج وقلق في نفس الوقت، يحاول ان يزرع الامل عندي بمستقبل أفضل لنا. يحاوطنا من كل حدب وصوب. يتقدمنا في كل الخطوات كأي رجل شرقي. يجب ان يكون سباقا في كل الخطوات او ربما اراد ان يكون في المقدمة ككبش فداء في حال تعرضنا الى اي مكروه. توتره يرتسم على شفاهه ببسمة كاذبة. أستطيع بكل سهولة قراءة احساسيه وتحليل مشاعره دون ان يعلنها. من نبرة صوته، من حركة يديه، من طريقة حديثه، وحتى من ارتسام بسمته على شفتيه وفي صمته.
جررت ورائي ابنتاي الصغيرتان وانا مثقلة الخطوات. عضلات ساقيً ارتعشت، وهنتا بسرعة عجيبة. وكأن حمى هاجمتهما فجأة. قبل ان ادخل فناء المطار. حلقت عيناي في سماء الوطن التي كانت تحتوي بعض من الغيوم. علها تمطر فوقي نوعا من الامل والهدوء لأعصابي. لكن الغيمة كانت بعيدة بعض الشيء، منشغلة في مغازلة زهرات الربيع اليافعات الجميلات، ومنهمكة في توديع السماء.
دخلنا بهو المطار. اناس كثر منهم المودعون ومنهم المسافرون. شاشات كبيرة فيها كتابات لم افهم اول الامر ما هي. زوجي منشغل في شرح تلك الكتابات لي والتي يجب على ان افهمها، هضمتها بسرعة وتأقلمت معها مباشرة. بدأت افهم كل المكتوب عليها ولكن بالعربي طبعا. عيوني على بناتي الصغيرات، اخاف ان يضيعوا مني في هذه الزحمة. زوجي يجر الحقائب التي تولى هو الاهتمام بها وراءه وانا توليت الانتباه على صغاري. البنت الكبرى تبلغ من العمر أربع سنوات واربعة أشهر، كانت تتمتع بهدوء ووعي كالكبار تخاف على اختها كثيرا تراقبها دائما. كأنها كانت تمارس امومتها بشكل مبكر. البنت الصغرى تبلغ من العمر سنة وعشرة أشهر ولكنها نشيطة جدا لا تهدأ. تريد ان تتعرف على العالم بأقصى سرعة. تحتاج الى شخص بالغ معها طوال الوقت حتى يستطيع السيطرة عليها من شقاوتها. بسمتها مرسومة دائما على شفتيها الرقيقتين اللامعتين.
قلقي على اطفالي وعائلتي وعلى حالي من المكان الجديد الذي نقصده جعلني متوترة ولكنني كنت بارعة في اخفاء هذا التوتر. اول مرة أجرب السفر والغربة لا اعرف مصيرنا القادم اين يرمي بنا.

زوجي وصديقتي التي اتت معنا الى المطار مودعة يمازحاني ويلاطفاني طوال الوقت كي يبعدا عني التوتر والقلق والحزن على فراق الاهل والاصدقاء والوطن. اذكر يومها انها قالت لي (بلهجتها الجميلة الرقيقة غني لفيروز الصوت هنا له صدى حلو) نظرت اليها وهمست في اذنها (سكن الليل وفي ثوب السكون تختفي الاحلام) اغنية للسيدة فيروز، كانت تحب هذه الاغنية عندما كانت تسمعها مني. قالت: ارفعي صوتك اريد ان اودعه. احسست ساعتها بان حنجرتي تقلصت واصبحت كقطرة ماء وغرقت في داخلي الحزين. كما يغرق طائر صغير في مستنقع كبير لاحد يشعر بغرقه الا موته.

السفر كان اجبارا وليس خيارا. كنا نبحث عن اي بلد اخر يمنح اولادي وزوجي حق المواطنة وهوية تثبت مواطنتهم، لان وطني الام سوريا عاجز كل العجز عن اعطاء اولادي جنسيتي. ابوهم عراقي معارض وفاقد حق المواطنة في العراق ايضا. ومن طبع الدكتاتوريات العربية سحب الروح من المعارض وليس حق المواطنة

جاء وقت الدخول الحقيقي في معركة الغربة. حضنت صديقتي بشدة وقبًلتها واهديتها قطرات من دموعي التي امطرت على كتفيها عدة مرت. عانقت هي بدورها بناتي. احسست بغيرة بسيطة اعترتني عندما رأيتها تعانق زوجي مودعة.
اتجهنا الى اول حاجز. احسست ان ساقاي أصيبت بشلل جزئي. مشيتي ليست على ما يرام. حاولت ان اتأنق فيها وامارس مشية أنثوية بعض الشيء كي لا يفضحني توتر قدمي.
طبعا في بلادي كان الحاجز الاول للشرطة والمخابرات. وكنت وما زلت أكره شرطة بلادي. يتكلمون بعنجهية عالية، عندهم صلاحية، السب، الشتم، الضرب، الرفض وحتى قبض الارواح. دائما حاقدون. وحقدهم احمر لا اعرف لماذا؟
نحمل جوازات مزورة. يا هلاًّ من فترة عصيبة. عيني ومسامعي على الشرطي وعيني ومسامعي على طفلتاي البريئتين وعلى صديقتي التي بدا التباعد يأخذ مداه ببيننا.
ارتجاف واختلاج في داخلي. تمنيت ساعتها ان أجد اي شيء اتكأ عليه كي لا أقع ارضا، حاولت ان اتماسك، اتعافى من كل هذا الاختلاج. نجحت في محاولتي تلك ولكن بصعوبة. ظننت بان الشرطي يلاحظ ارتباكي. مد يده وسحب الجوازات والبطاقات. بعد تفحص وتمحص في اوراق الجوازات اشار دون ان يقول اي كلمة مجرد ان حرك ابهامه بان نتحرك الى الامام احسست براحة رهيبة. وكأنني كنت احمل ثقلا على اكتافي وقع وتحطم، تنفست الصعداء وصعدت كمية من الاوكسجين الى دماغي لتعيد لي توازني. اول نقطة تفتيش كانت الاصعب في تلك الرحلة. على فكرة كانت الجوازات التي خرجنا بها من دمشق غير مزورة. كنت احمل جوازي السوري وزوجي جوازه اليمني.
الحاجز الثاني كانت لفحص الحقائب ومع ذلك كنت مرتبكة. وبعد اجتياز اول حاجز وثاني حاجز بسلام، توجهنا الى مركز الخطوط الجوية. زوجي يتقدمنا طبعا. اخذ على عاتقه متابعة كل شيء لأنني كنت امية في السفر ليس لدي اي سابقة او اي خبرة فيه. ملتحقة به وكأنني عصفور مربوط في كفه.
أسئلة كثير تتزاحم وتتراكض في ساحة تفكيري في انتظار جواب. ولكنني اهملتها ولم اعطها أي جواب لأنني في وقتها تركت زوجي يقودنا ولكن الأسئلة لم تتركني وكانت تلكزني بين فترة وأخرى ماذا؟ لماذا؟ ما هذا؟؟ كيف؟
كبقية الناس وقفنا في صف طويل بعض الشيء... اطفال تتراكض وتلعب واهالي يركضون ورائهم يرجعونهم الى احضانهم ولكن الاطفال لا تعرف الهدوء. يتعرفون على العالم من خلال لعبهم. اخذ موظف الخطوط الجوازات. بدأ هو بدوره يدقق في وجوهنا وفي الجوازات.... ولكنه أعلن ان كل شيء تمام. عندما قال لزوجي بان يضع الحقائب للوزن، وبعد التأكد من وزنها وضع موظف الخطوط رقما عليها وتركها تسافر في ممر يمشي لوحده. وغابت عني خلف حاجز اسود قابل للتحرك. خاطرة حمقاء زارتني في تلك اللحظة.... تصورت للحظات ان يسألنا الموظف ان نضع البنات للوزن ايضا... وان يرقمونهم ويشحنوهم كما الحقائب. ضغطت وتمسكت بطفلتي الصغيرة التي كنت احملها بين ذراعي وضغطت بقوة على يد بنتي الثانية... كنت قليلة الكلام في ذلك الوقت، فقط اراقب، تاركة القيادة لزوجي. بعد الوزن والتدقيق في كل اورقنا سافرت امتعتنا قبلنا. وخف الحمل العضلي نوعا ما. بعدها توجهنا الى الحاجز الرابع وهو الاخير. عبرنا ذلك الحاجز بهدوء.
بدأت غربتنا الحقيقية عند عبورنا اخر حاجز في مطار دمشق الدولي. دخلنا منطقة السوق الحرة، هنا بعد ان هدأت اعصابي قليلا، رجعت لي القدرة على الكلام وكأنني كنت مربوطة اللسان. سألت زوجي لماذا سميت بالسوق الحرة؟ قال لي لأنها لا تخضع للضرائب. تمشينا قليلا في تلك السوق كل ما فيها جميل. مرتب ترتيب أنيق. ولكنني وجدتها غالية الثمن بعدما قارنتها بالأسواق الشعبية التي كنا نتسوق منها. انها لعبة اقتصادية حقيرة لاستقطاب المستهلكين. دقت ساعة الطيران بعدما قرانا سطرا من سطور تلك الشاشات الكبيرة بان البوابة المخصصة لرحتنا فتحت ابوابها وحان وقت الطيران. حمل زوجي البنت الصغيرة وجررت انا ورائي البنت الكبرى. خطواتي مذعورة مترددة. قدماي في صراع ما بين التقدم واكتشاف العالم الجديد وما بين التراجع والبقاء في حالة البحث عن هوية وجنسية لأطفالي وبقائنا في حالة الفقر والعيش حد الكفاف. مصلحة اطفالي انتصرت في معركتها معي.
دخلنا بوابة السفر. طائرة كبيرة اشاهدها من خلف زجاج سميك يا لها من الة ضخمة.... فرحت لمشاهدتها لأول مرة. ولكن فرحي كان ممزوجا بالتوتر والقلق. بنتي الصغيرة كانت في بداية تعلمها للكلام لفظت كلمة طائرة بطريقة مضحكة وبصوت عالي حيث ضحك بعض الناس هناك ............حملتها وقبلتها وامضينا وقتا احاكيها واعلمها لفظ كلمة طائرة. شاركتنا ابنتي الكبرى في الضحك والمزاح. وقتها اعطيت امومتي مساحة بعيدا عن التوتر. استرخت اعصابي قليلا وبدأت حرارة البسمة الحقيقية تعود الى عضلات شفتاي.

صعدنا سلم الطائرة وصوت هديرها كصوت اعماقي يجلجل ويهدر. دخلنا الطائرة. ممر الطائرة مكتظ بالناس وحقائبهم. بعض منهم مريح للنظر والبعض الاخر مخيف لا اعرف لماذا؟ مرقمين نحن قبل الرحيل ها هي ارقام مقاعدنا محجوزة لنا سلفا. هدأت اصوات المسافرين قليلا بعد ترتيب حوائجهم في رفوف الطائرة. قبل ان تتحرك الطائرة جاء صوت من سماعات فوق رؤوسنا من كابتن الطائرة يرحب بالركاب ويشرح لهم معلومات عن الرحلة، والى اي حد سوف يعمق ويعلو في الفضاء، كم تستغرق رحلتنا، وعن درجات الحرارة. وايضا كان لابد من تعليمات تأتي من طاقم العاملين في الطائرة عن كيفية التصرف السليم في حال إذا ما حدث اي شيء مكروه للطائرة وكل شيء محتمل. صوت يأتي من سماعات فوق رؤوسنا تهطل منها التعليمات وهناك اشخاصا يمثلون بحرفية عالية تلك التعاليم امام الركاب. اراقب حركاتهم واسمع التعليمات وقلبي يقفز بين ضلوعي من الخوف. يا ترى ما هو الأسوأ الذي ممكن حدوثه. الموت فوق المحيطات؟ خاطرة اخرى زارتني في اثناء تمثيلهم لتلك التعليمات. هي ان تكون بنتي الصغيرة لقمة واحدة لسمكة قرش صغيرة والبنت الثانية لقمة لسمكة أكبر فيما لو وقعنا فوق البحر. سؤال قفز فجأة امامي ماذا لو مت فوق البحر هل من المعقول ان ما من أحد يدفنني في مسقط راسي ولا أحد يزور قبري. غربة في الحياة وفي الممات؟
صوت هدير الطائرة يزداد فجأة وتحركت ببطء. مع تحرك عجلات الطائرة تسايلت دموعي على حدود اجفاني وامطرت بعض منها خارجها. لمح زوجي لمعان تلك الدموع التي حاولت اخفائها في عيوني، لف يده حول عنقي، وبابتسامة مليئة بالعطف على حالتي مسح دمعتي وطبع قبلة على خدي وبدء يمازحني ويهدئني. قبلته كانت بمثابة قطرة مطر تلقتها الأرض العطشى بعد موسم جفاف. كم كنت بحاجة لتلك اللمسة كي ترمم مشاعري المتهتكة. ليس عندي تجربة سابقة في ركوب الطائرات لا لا اعرف متى يتوقف اهتزاز العجلات على الارض، بدت سرعتها أكثر من الاول وقطعت مسافات ليست بالقليلة مقارنة بالسيارة. فجأة توقف ذلك الاهتزاز ومع ارتفاع الطائرة الى الفضاء شعرت ان قلبي سقط ارضا، وشتان ما بين الارتفاع والسقوط. صعود الة تختلف كليا عن سقوط قلب وتمسكه في جذوره. لا جدوى من الانتحار ورائه. اعدته الى مكانه قدر المستطاع. واقنعته بالرحيل معي.
كل شيء غريب علي في داخل الطائرة. الكراسي فيها ضيقة. الممر الذي يفصل صفوف الكراسي كانت ضيقة أيضا لا تتسع الا لشخص واحد. ازرار فوق المقاعد. ابنتي الكبيرة تسألني ما هذا؟ ما ذاك؟ متى؟ الى اين؟ اسئلة كثير طرحتها علي. كنت اتظاهر باني اعرف كل شيء واجيبها بهدوء. اخاف ان تقرأ فيً توتري لكن زوجي ينقذني بأجوبة كان يعرف بأنني لا املك الجواب الصحيح عليها. الصغيرات يردن ان يكتشفن كل شيء من حولهن. ارادت بنتي الصغرة ان تذهب الى الحمام، يا لها من ورطة، تلبكت بعد الشي. اخبرت زوجي فقال لي الحمام في نهاية الممر على اليمين. مشيت في الممر كانت لخطواتي تجربة جديدة وغريبة. امشي في الفضاء. تجربة مخيفة وممتعة. سؤال احتل مساحة في تفكيري جزئيا ما هو ؟؟؟ ماذا لو انكسر الممر الذي امشي عليه وسقطت رجلي في الفضاء ...... سمعت مرة ان الحرارة في الفضاء العالي باردة جدا، ما لو تجمدت رجلي........ تركت الخاطرة تتجمد في مكان قدمي وصحوت على صوت ابنتي تقول لي (بسرعة ماما) .... دخلنا الحمام تلك الغرفة الصغيرة ... وانا والصغيرة نكتشف كل الاشياء الجديدة من حولنا في تلك الغرفة. انتهت ابنتي من تفريغ امعائها ونهضت بنشاط. اردت ان أنظف مخلفاتها ....... دارت عيناي حولي في محاولة لإيجاد الماء للتنظيف.... لمحت عيناي زر جنب معقد التواليت مددت يدي وضغطت عليه فاذا بصوت لا اعرفه من قبل واختفت تلك الفضلات بسرعة رهيبة دون اي ماء يسفك، شفطه شفطا ... اخبرتني امي وانا صغيرة السن ان الشيطان يسكن في أقذر الاماكن. ويصدر اصواتا في حال غضبه.... ويفعل اشياء غريبة. لماذا هو الان هنا ؟؟ ولماذا غضب ؟؟ ماذا فعلنا له؟؟

من منتصف الرحلة قدموا لنا وجبة طعام .... ليس لذيذا كطعام البيت ولكن لابد من اكله لا خيار لنا. بعد الطعام نمن البنات واعطوني فرصة لراحة جسدي وفرصة لتكاثر اوهامي وخوفي من القادم. اغمضت عيناي كي لا تفضحني بما يجول في دماغي. فاذا بي اغفوا وأصحو من بعدها على يد زوجي ينقر على ركبتي وطلب من ان اعيد حزام الامان لأننا على وشك الهبوط في مطار الجزائر.
بدأ هبوط الطائرة........ علا صراخ الاطفال وذلك من الضغط الناتج نتيجة عملية الهبوط.... كنت قد رأيت مرة برنامج عن هذه الظاهرة. الاطفال يبكون ليحموا اذانهم من الضغط المرافق لصعود وهبوط الطائرات.
اترقب هبوط الطائرة، ليس لي خبرة من قبل كيف يكون الهبوط. لا اعرف... وعند تلامس عجلاتها على الارض احسست ان هناك هزة ارضية وبقوة هائلة. تصورت للحظة ان احدا ما يرى قفزات قلبي من الخوف. وبدون شعور حضنت صغاري. اذكر يومها ان بعض الركاب بدء بالتصفيق وهنؤوا بعضهم البعض على السلامة. بدأت سرعة الطائرة تخف رويدا رويدا. بعد فترة هدوء وجيزة عند هبوط الطائرة وتوقفها بشكل نهائي تلاها فوضى من الركاب وكأنها ساعة الحشر. كل منهم يتفقد حاجياته ويهمون بالخروج من الطائرة.
مدرج المطار في الجزائر يشبه مدرج مطار دمشق، درجات الحرارة لا تختلف كثيرا. بعدها دخلنا بهو كبير ومررنا في ممر طويل بعض الشيء كي نصل الى حاجز تفتيش الجوازات والتأكد منها ومن الفيز. وها هي المرحلة الثانية من محنة الخوف والقلق والتوتر. داهمتني كأنها حمى بدأت تسري في دماغي.
يا لها من ورطة إذا فشلنا في الدخول الى الجزائر. هل يأخذون مني اولادي؟ ويرجعونني الى مسقط راسي؟ كيف ارجع خالية من عائلتي؟ هل سيسلمون زوجي للسلطات العراقية واخسره الى الابد؟ اخماس واسداس تضرب في دماغي.
لقد بعنا أكثر حاجيتنا في سوريا لنؤمن ثمن التذكرة وثمن الجواز المزور. اخاف العودة، ولكنني كنت ارغبها داخليا. هناك اهلي وبيتي ووطني. بنتي الصغرى كانت تنط امامنا كالأرنبة والكبرى تسأل كثيرا اين نحن؟ الى اين؟ لماذا؟ اسئلتها اتعبتني لأنني لم أستطع ان اجاوبها بصدق، اكذب عليها تارة واصدق ولا أرد عليها تارة اخرى. هكذا نعلم اطفالنا الكذب والمراوغة. حملت بنتي الصغرى وابوها تولى قيادة البنت الكبرى. خطواتنا ممتلئة بالهم والوهم والقلق.
تلقيت تعليمات من زوجي بعدم المبادرة والرد على اي سؤال إذا سألوني، أقنعني انه هو من سيتولى الرد. لأنه يعرف ان المخابرات في الجزائر اسوء من المخابرات السورية. التعامل معهم صعب ايضا. جاء وقت التدقيق في الجوازات. نظر الشرطي الينا وتفحص ملامحنا والصور الموجودة في الجوازات. قلبي تتراكض نبضاته وكأنهم في سباق. ولكنها سرعان ما هدأت بعدما قال الرجل اهلا وسهلا بكم افي(الجزاير). مشينا بعض الخطوات بعد اول حاجز، زوجي هنئني على السلامة وعلى مرور كل شيء بسلام. ببسمة بهية ولطيفة، طبعا كالعادة هو في المقدمة دائما انا لا اعرف متاهات المطارات ودهاليزها.
توجهنا الى المكان المخصص لاستعادة حقائبنا. فاذ بشريط اسود عريض يدور في وسط قاعة كبيرة ومرتفع عن الارض بعض الشيء. شبهته اول الامر ب(قشاط) شيء كان يربط ما بين موتور ومضخة الماء على بئر ارتوازي كان في ارض اهلي. نفس اللون، الملمس والرائحة. للحظة رجعت الى ايام المراهقة والتي كنت اتنافس فيها مع ابي واخوتي الشباب على تشغيل تلك المضخة. من صغري أحب التحدي. الناس مصطفين حوله، يترقبون وصول حقائبهم. حقائب في مختلف الالوان والاشكال تدور معه. الارنبة (ابنتي الصغيرة) حاولت ان تقفز فوقه بعدما تركت يدي بسرعة عجيبة وحاولت ان تتسلق ذلك الشريط. صرخت بصوت عالي، ساعدني عليها شخص كان بجانبي وارجعها الي سالمة. وطبعا في هذا الحالة دائما انا كنت الملامة في نظر زوجي. اهمال.
المهم حصل خير وفي اثناء انتظارنا لنلتقي مع حقائبنا شاهدت ما شاهدته في مطار دمشق عمال جزائريين يحومون حول الناس يتظاهرون انهم يساعدونهم في التقاط حقائبهم كي يحصلوا على بعض النقود. يا للعار على بلداننا التي تجعل من مواطنيها شحاذي مطارات...... لم أستطع افهم لهجتهم ولكنني قرأت حركات ايديهم وتوسلات عيونهم.... لم يكن معي اي نقود فائضة كي امارس كرمي عليهم ولكنني اكتفيت بالحقد على حكامنا التي تأكل الاخضر واليابس وتدع مواطنيها تمارس الشحاذة اليومية وتصبح جزأ من الثقافة الدارجة، من العادات والتقاليد.
اخذنا امتعتنا وتوجهنا الى فندق قريب من المطار كان محجوز لنا غرفة فيه. ذلك من ضمن ترتيب تهريبنا الى لندن ان نبقى في الجزائر ثلاث ليالي ومن ثم نتوجه الى بريطانيا (لندن). كل شيء مدفوع سلفا. الفندق كان من الدرجة العادية. بعيدا كل البعد عن مظاهر البهرجة والفخامة
وصلنا الفندق بعد الظهر. اول مرة انزل فيها فندق. طبعا كان لاكتشاف المكان مساحة من نظري. اول ما يلفت نظر الغريب او السائح هو الاختلاف بين البلدين. الطقس لا يختلف كثيرا عن سوريا والشوارع وملابس الناس ايضا لا تختلف. ولكنني وجدت صعوبة في فهم لهجتهم. احسست بانها لا تمت للغة العربية باي صلة. لم افهم اي كلمة سمعتها من عمال ذلك الفندق سألت زوجي ما ذا يقولون؟ هل يتكلمون الفرنسية. حاولنا ان نتكلم معهم بالفصحى. احسست وكأنني في حصة اللغة العربية. استهجنت واستغربت هذا. عندما كنت في المدرسة علمونا ان الجزائر بلد عربي ويتكلم اللغة العربية. (امة عربية واحدة).
صعدنا الى الغرفة المخصصة لنا وبدأت عينياي في اكتشاف المكان فوجدت عند باب الغرفة تعليمات باللغة الفرنسية اولا عن كيفية التصرف السليم في حال حصل اي حريق ومن ثم العربية ثانية
اخذن البنات قيلولة الظهيرة وبقينا انا زوجي نتحدث عن الباقي من الرحلة ونخطط لليوم القادم. جاء المساء ودور وجبة العشاء. اكلت بدون اي شهية كان لابد ان املئ معدتي. صعدنا بعدها الى الغرفة. نمنا ليلتنا بدون هز. وفي صباح اليوم الثاني نزلنا الى مطعم الفندق لتناول فطورنا. كل شيء جديد علي، طبيعة الاكل، طعمه، رائحته. كان فطورهم يشبه فطور الفرنسيين. بينما كنت متعودة ان اجلس الى طاولة صغيرة وفيها صينية كبيرة بعض الشي موضوع عليها الفطور السوري اللذيذ المكون (زيت وزعتر. زيتون. لبنة. جبنة. فلافل في بعض الاحيان. فطاير. مكدوس، هذا الاخير الذي افتقدته فيما بعد. حتى الشاي كان طعمه يختلف.
كان لابد ان نملأ بطوننا اشتهينا ذاك الاكل ام لم نشتهيه. حاولت ان اجاري الظرف الذي انا فيه وامثل انني تمتعت بالأكل.
امضينا بعض الوقت في مطعم الفندق. الذي كان يحتوي على كثير من الاجانب ومن عدة جنسيات. طلبت من زوجي ان نخرج خارج الفندق كي يلعبن الصغيرات قليلا. امضينا يومنا الاول في الفندق وكان نشاطنا الوحيد هو النزول الى مطعم الفنق والصعود الى الغرفة. في اليوم التالي كان لابد ان نذهب الى وسط العاصمة الجزائر كي نتعرف عليها، لسنا بسائحين كي نمارس طقوس السائحين. من مطاعم وتكسيات وتسوق. كنا لا نملك المال الكافي. ركبنا المواصلات العادية اي الباصات الداخلية وتوجهنا الى وسط العاصمة، عيوني في كل زاوية اريد ان اكتشف كل شيء حولي. جهزت اذاني لكل كلمة ولكل لحن لكنني لم افهم شيء منه. يا لها من لهجة غريبة وصعبة يتكلمون العربية بلهجة فرنسية.... ايقنت يومها بان الاستعمار الفرنسي ترك تركة ثقيلة على تلك اللهجة. ابنية كا تكون اكثرها بيضاء من الخارج. وصلنا الى مركز البريد المركزي كي نرسل جوازاتنا ونودعهم عند شخص عراقي يسكن العاصمة الجزائرية. كان علينا ان نخرج من الجزائر بجوازات أخرى . وندخل لندن بدون جوازي السوري كي لا يعرفون بأنني سورية ويرجعونا الى سوريا كما حصل لزوجي في تجربته الثانية عندما وصل السويد قبل اقل من عشرة أشهر طالبا اللجوء هنالك ولكنهم ارجعوه في اول طيارة قادمة الى سوريا رافضين طلبه او قبوله كلاجئ وكان عذرهم بانه كان يسكن في سوريا وأنها بلد امن وامان. حسب اعتقادهم ان العراقيين مستقرين فيها لان قانون اللجوء وضع واقر لحماية الانسان من الاضطهاد ولحميتة حياة الانسان
ودعت جوازي وهويتي السورية هناك على امل اللقاء بهما بعدما احصل على اللجوء في بريطانيا. لعبة ممتعة ومقززة تلك هي لعبة اللجوء.
بناتي لا ذنب لهم الا انهم نتاج ام سورية ليس مسموح لها ان تمنحهم جنسيتها كمواطنين سوريين واب عراقي لا يحمل جنسيته لقد اضاعها في التدخل في السياسة ومعارضة رئيسهم المفدى.
رجعنا الى الفندق قبل المغرب بقليل. رمينا بأجسادنا على الاسرة كي تستريح قليلا.
ليلتها سألتني بنتي الكبرى عدة مرات متى نعود للبيت؟ يبدو انها تعبت ولا تعرف كيف تعبر عن تعبها وغربتها عن بيتها الاول. احساسها بالغربة طفولي ولكنها كانت تعاني بشكل او باخر. الاماكن خاوية من ذاكرتها الطفولية اين العابها؟ اين صديقتها؟ اين بيتها؟
سامحيني ايتها الصغيرة، اعذريني لما سببته من ارتباك لمشاعرك ولكن لا اعرف إن كنت ستسامحينني في المستقبل ام تشكريني على هذه النقلة ام ماذا؟
مخيلتي اخذت بمعاتبة احلامي، لأنها رسمت لي مستقبل أفضل ولم تنبهني لكل تلك الصعوبات التي ستصادفني في الوصول الى تحقيق احلامي.
في اخر ليلة قضيتها هناك جاءتني امي في المنام لتقول لي: لقد اشتقت لك ارجعي اريد ان احضن البنات انا لي حق فيهم ايضا. واهدتني بعض من لمعان دموعها وقالت الله يسهل عليك ويفتح لك الابواب المغلقة اينما كنت... وصحوت بعدها على صوت زوجي يوقظني كي نجهز للسفر.
بدأ العد التنازلي لمواصلة رحلة التوتر والقلق. من ضمن رحلة التهريب تلك كان لابد ان نستقل تاكسي كانت في انتظارنا في باحة الفندق كي تحملنا وترمينا في المطار. مطار الرعب كما كنت اراه انا.
وصلنا المطار في الوقت المحدد. صالة المسافرين مكتظة بالمسافرين والمودعين كأي مطار في العالم. افتقدت صديقتي التي ودعتنا في مطار دمشق. وحيدة انا,,,,,,,, لا صديقة,,,,, ولا حتى هوية تثبت من انا. احسست بان جسدي خاوي من شخصيتي ومن هويتي. الا ان سمعت رجل هناك يتكلم مع امرأة بلهجة سورية قفز قلبي فرحا. تيقظت كل طاقات حاسة السمع عندي وكما يقولون صرت كلي اذان صاغية. قلت لزوجي انظر الى ذلك الرجل انه سوري يتكلم اللهجة السورية. قطع على زوجي فرحتي التي كانت قصيرة جدا وقال لا تهتمي به، ربما هو واحد من المخابرات السورية التي زرعوها في كل مكان، زاد توتري ومن خوفي اصبحت على يقين بانه يراقبنا. القى الوسواس وشاحه علي ورافقني بقية وقتي في ذلك المطار. جاء وقت عبور التفتيش الاولي للجوازات والبطاقات، كنا نحمل جواز اماراتي واحد كعائلة (الزوج، الزوجة، الاطفال) أقنعني زوجي ان اتكلم اللهجة الإماراتية بحال سئلت اي سؤال.
يبدو انني اصبحت بارعة في التمثيل لأنني مثلت نفس الدور الذي مثلته في مطار دمشق بكل تفاصيله وزيادة عنه انني خارج الوطن الان. ماذا لو اكتشف امرنا؟ ماذا لو ان أحد موظفي المطار لعب لعبة الشريف والمزور؟ هل يسلموننا الى الانتربول الدولي؟ ام الى السلطات السورية؟ اين يكون مصير بناتي؟
مررنا الحواجز بسلاسة، فخف التوتر نوعا ما وانزاح عني الخوف جزئيا، ركبنا اخيرا الطائرة متوجهين الى لندن عاصمة الضباب.
عادات وتقاليد الركوب في الطائرات فهمتها ومشيت على هواها
كان الوقت من الجزائر الى لندن اطول منه من دمشق الى الجزائر بقليل. ولا يختلف شيء في الطائرة سوى طبيعة الركاب والتعليمات هذه المرة اتت باللغة العربية والانكليزية.
في تلك الرحلة ودعت اجواء الوطن العربي كليا. وبدأ البعد والتباعد يسلك طريقه فوق البحار واليابسة. إذا هذه هي الهجرة. احسست بان هناك اشياء مشتركة بيني وبين الطيور التي تهاجر فوق البحار للبحث عن مكان أفضل للعيش.
كنت اتنافس مع بنتي الكبيرة على المقعد الذي يجاور الشباك. ارادت كما اردت انا ان نكتشف عالمنا من العلالي.
البنت الصغيرة دوختني من كثر حركتها ومن كثر هذيانها ولكن على ان اتحمل شقاوتها رفضت الجلوس في المقعد انه يقيد حركتها وحريتها. الاطفال تتعامل مع الحرية بحرية مطلقة وبصدق كامل ما أجملهم.
قطعنا شوطا كبيرا في سماوات اوطان كثيرة. مناظر لم اعتد على رؤيتها من قبل، لنظري تجربة جديدة، اراضي واسعة، شاسعة الاطراف منظر الارض من الأعلى غير منظرها ونحن ندب اقدامنا عليها، منظر مرعب لأول وهلة لكنه جميل، حتى منظر الغيوم كانت تختلف، شعور جميل ان أسبق الغيوم في العلو، ان اكون فوقهم وان اتبادل الادوار. ولكن يا ترى هل بمقدوري ان امطر خيرا وفيضانا عليهم؟ الغيوم من الأعلى تشبه بساطا من الثلج اوفي بعض الأحيان جبالا ثلجية.
ذكرني منظرها بمنظر مدينتي الزبداني التي كانت تكتسي وتلبس البياض الثلجي عدة مرات في الشتاء، وكيف كنا نتعامل معه؟ كل حسب عمره وكل حسب مسؤولياته. كان عندنا نحن الصغار عيد لأننا لا نستطيع الوصول الى المدارس. عطلة ولهو. ذاكرتي رمتني من شباك تلك الطائرة وسافرت على متن بياض تلك الغيوم الى تلك الايام حيث كنت اركض فوق الثلج الابيض كالأرنبة. كنت أحب ان ادوس حبات الثلج واسمعها تتكسر تحت قدماي وتتألم؟ صوت انغراس اقدمي فيها كان له وقع جميل على مسامعي. تدحرجت ولعبت وابتلت ملابسي المتواضعة برطوبة ذلك الثلج...... اه يا ذلك الزمن الطفولي. لو ترجع ولو لحظة ولكن هيهات.... الزمن يركض لا أحد يستطيع ان يوقفه. ولا بد ان يرحل معنا ويقف في محطات كما نفعل وها هي محطتنا القادمة دقت ساعتها، اقتربنا من اجواء العاصمة البريطانية لندن
لم اعد ارتاب من هبوط طائرة. ولكن رعبا اخر استبدلته وكأنني صادقت كل انواعه في تلك الرحلات.
وفي اثناء هبوط الطائرة في مطار هيثرو هبطت معها معنوياتي. سبقتني الى الحواجز ونقاط التفتيش.
خرجنا من الطائرة ومشينا في ممر طويل اطول من الممرات التي مرينا فيها في المطارات الاخرى لان مطار لندن أكبر بعشرات المرات من المطارات السابقة.
اعتقد ان من طبع الانسان الخائف اما ان يبطئ في المشي واما ان يسرع. ظننت ان قدماي اصيبت بالحالة الثانية، كنت شبه راكضة مسكينات بناتي أصبحن تركضن ورائي
قبل الوصول الى نقطة تفتيش الفيز والجوازات عرج زوجي الى أقرب مرحاض لا لكي يفرغ مثانته ولكن كي ينفذ الخطة المتفق عليه مع المهربين والمزورين ويتلف الجواز ويخفي اي ورقة تثبت هويتنا المزورة نهائيا كي لا يضطروا الى تسليمنا الى اي دولتنا في حال رفضهم قبولنا. وفي اثناء انتظاري لزوجي لاحظت احدى موظفات المطار والتي كانت مسؤولة عن تنظيم صفوف القادمين الى نقاط فحص الجوازات والفيز ارتباكي وخوفي اقتربت مني وكلمتني، لم افهم عليها كأنها كانت تسألني اين جوازك لم افهم لغتها ولكنني فهمت لغة جسدها وحركة يديها. تركتني وعادت الى تنظيم الصفوف ولكنها عادت لي بعد فترة. اظنها سألتني مرة ثانية اين جوازكم فتكلمت انا بدوري في لغة الاشارات، واشرت الى خاتم الزواج الذي في إصبعي واظنها فهمت على بأنني انتظر زوجي وسألتني اين هو؟ فأشرت بيدي باتجاه المرحاض ففهمت علي تركتني مرة ثانية ولكن الوقت تأخر بنا في هذا المكان. عادت لي وسألتني نفس الاسئلة نفس الحركات وفهمت منها انها عرفت اين هو زوجي وماذا يفعل في اشارة من يديها هل يمزق الجواز هناك؟ يا ويلي ماذا اقول وكيف أرد عليها وفي اثناء لغة الاشارات بيننا ظهر زوجي وبحركة من عيوني فهمت هي مني ان القادم نحونا هو زوجي، حييته وسألته ما بكم اين جوازاتكم رد عليها وقال بالعربية ومع حركة يديه باننا اضعناه.
بدأت رجلاي برقص جنوني على الحان دقات قلبي المذعورة توجست ساعتها بانها سبقتني الى السجن لتفتح لي بابه.
استدعت تلك المرأة أحد ضباط المطار المسؤول آنذاك عن تلك المشكلات وترتكنا معه والحق يقال انها لم تسيئ لنا ابدا كانت لطيفة معنا كانت تمازح البنات وتضحكهم معهم
جاء الضابط وسألنا نفس الاسئلة على ما اظن ولكنه لم يستطيع تكملة محادثته معنا او بالأحرى لغياب لغة مشتركة. أشار بيده بان نلحقه. كنت خائفة مرعوبة ولكن زوجي طمأنني بقوله هنا لا يتعاملون بالضرب او الاهانات هناك قوانين تحكمهم لا يستطيعوا تجاوزها. يجب عليهم ان يتعاملوا معنا بإنسانية. الحق يقال انه كان لطيفا معنا. لم يظهر منه اي حركات تدل على عدم الاحترام او حتى العصبية. عرف من خلال لفظنا للغتنا باننا نتكلم العربية. لحقناه الى غرفة فيها كراسي مريحة وطاولة شاي توسطها. وفيها غلاية ماء وبعض من السكر والشاي والحليب والبسكويت ,,,,,, نظيفة مرتبة وفيها بعض من العاب اطفال
استدعى ذلك الضابط أحد المترجمين. وكان مصري الجنسية القى التحية واول ما لفت نظري هو ان الضابط جلس على أحد الكراسي كالتي نجلس عليها ومواجهتنا وبدون اي تعقيد او عنجهية يحترم مهنته اخرج اوراق وقلم من حقيبة صغيرة. لم يكن معه مسدس او اي الة تجبر الشخص الاخر على الخوف والسقوط في الاخطاء. صوته كان هادئا لم اقرأ في ملامح وجهه اي عصبية او اي تعالي علينا كان يحترم مهنته ولا يشبه من قريب او بعيد ضباط من ضباط بلادي. الذين يحملون مسدسهم على جنبهم وبشكل دائم وبدون اي خجل. اجزم انهم مهانون واذلاء بدون هذا السلاح. ليس هناك اي وجه للشبه فيما بينمهم. الانطباع الاولي كان جيدا وعلى ضوئه بدأت اسارير نفسي تعود الي رويدا رويدا.
وبعد ساعة من الاخذ والرد من نحن؟ ومن اين اتينا؟ وكيف وصلنا؟ وماذا نريد منهم وماذا نتوقع؟ اعطا نفسه واعطانا فرصة للراحة تركنا على امل الرجوع خلال ربع ساعة كي نكمل الاستجواب

ساعتها اثلجت اعصابي وسكت قلبي عن الصراخ الداخلي لم اعد اسمع دقاته تهدر. ولكن في مساحة دماغي اسئلة كثيرة تتمشى هنا وهنا وتلح علي. يجب على ان اسكتها من وقت الى اخر كيف؟ بإهمالها واللهو والانتباه على بناتي لأنهم اما جائعين او انهم يرغبون في الذهاب الى الحمام كي يملؤون وقت فراغهم، هكذا هم الصغار لا يعرفون وقت فراغ كما نفعل نحن الكبار
رجع المحقق ومعه المترجم، وكان الحديث بمجمله مع زوجي ولكن بين فترة واخرى كان المحقق يسألني إذا كنت موافقة على اقوال زوجي وهل المعلومات التي ادلى بها صحيحة. بعد فترة ليس بالقصيرة انتهى المحقق من استجوابه لنا وطلب منا ان نوقع على اقوالنا، قال لنا لا أستطيع الان احسم امر اللجوء ولكنه طلب منا ان نملئ استمارات بخصوص هذا الموضوع. قال لنا بان هذه لندن امامكم ادخلوها بأمان، وأعطنا روقة كي نراجع بها غدا هنا في المطار مسؤول اللاجئين. لا يستطيع هو البت في قبولنا كلاجئين.
اخيرا وصلنا الى بر الامان. انتهت رحلة الرعب والقلق والوهم.
يا لها من فرحة كبيرة بعد كل ذلك القلق والهلوسة والتعب. رقصت مشاعري رقصا غجريا على الحان عزفتها اوتار قلبي. لم استمع لمثيلها من قبل. مع عزف تلك الالحان تقطعت اوتار القلق. هربت اوهامي وخوفي بعيدا استبدلتها بفرح وغبطة، عادت الى مشاعري التي سبقتني الى المجهول من قبل. الم اقل لكم بان مشاعري اغتربت قبلي في مطار دمشق وسبقتني الى المجهول وها هو المجهول أصبح حقيقة
اتجهنا بعدها الى استلام حقائبنا وفي تلك الاثناء التقينا بالعائلة العراقية التي كانت موجودة معنا في نفس الفندق في الجزائر، يبدو ان حالتهم تشبه حالتنا. اخذنا حقائبنا سويا ومشا زوجي مع الرجل وانا بدوري مع المرأة. وفي اثناء الخروج من داخل المطار الى صالة الاستقبال في ممر طويل، مرورا بتفتيش الحقائب كانت المرأة تحدثني عن كثرة المآسي التي مرت بهم منذ خروجهم من العراق. فاذ بي اسها عن ابنتي الكبيرة التي تاهت مني لمدة اقل من دقيقتين ولكنها كانت بالنسبة ما يعادل سنوات. عانيت لحظتها أكثر مما عانيت طوال حياتي من الم ووجع وخوف وقلق. سحبت روحي مني. انشطرت عيناي الى عشرات او مئات العيون. كل واحدة منها تبحث في زاوية على الاميرة الضائعة. اذاني جاهزة لالتقاء صوتها الهارب من زحمة الناس لا اريد ان اسمع الا صوتها تقول ماما. لهيب حرارة اقوى من حرارة الشمس شب في قلبي. صوتي ازدادت ذبذباته وانا انادي باسمها علها تصل اليها وتحملها الى احضاني. حواسي كلها اصبحت في حالة من البحث. تمنيت لو انبطحت ارضا وزحفت باتجاهها بسرعة لأرى قدماها الصغيرتان تمشي نحوي. اصبحت ضائعة كالمجرة التائهة في الكون والتي قرب حتفها في الحفرة السوداء.
لم ولن أنسي تلك الدقائق. ذلك اليوم لعنت زوجي في داخلي عدة مرات لولاه لولا وجودنا هنا لما اضعت صغيرتي. حقدت على حالي لأنني لم انتبه لها بالقدر الكافي. تصورت حالتها. عيناها وهي تبحث على اهلها ما ذا لو افتقدنها الى الابد ما هو شعورها؟ هل ستسامحنا؟ ذاكرتها الطفولية قصيرة الامد كالسمك يا ويلي لو نستني لو تغير اسمها ماذا لو اخذوها وباعوها هل تتعرض للضرب للإهانات للاغتصاب؟ لا تعرف لغتهم كي تسأل عني وتعطي اوصافي فيما إذا سألت وسئلت. البنت الصغيرة التي بين يدي لا تعرف ما الذي حصل لامها التي اصبحت كالمجنونة فجأة. عيناها تترصد عيوني تريد ان تعرف ما الذي حصل لامها. شاركتني خوفي وبدأت تنادي معي اسم اختها التي لا تعرف كيف تلفظه ولكنها حاولت ان تشارك امها وجدانيا. خففت من وزني بتركي اكياس وحقيبة صغيرة كنت احملها على كتفي كي أصبح مثل الريشة تطير بسرعة كي ارجع الى الرواء قليلا حتى ابحث عنها. ولما وصلت الى حاجز الخروج من المطار لم يسمح لي الرجل المسؤول هناك ان ادخل الى داخل المطار اي الى ما قبل حواجز الخروج تكلمت معه لغة الاشارة لكنه قال لي لا يمكنك الدخول بإشارة. اردت ساعتها ان اضربه وازيحه من طريقي. الححت عليه وفي اثناء الحاحي عاصفة قوية تحمل رائحتها هبت نحوي. ما هي الا لحظات حتى تكحلت عيناي برؤياها قادمة من وراء ذلك الحاجز. ركضت نحوها وهي ا يضأ ركعت الارض واخذتها في حضني وبدأت بالبكاء فرحا، شممت رائحتها مرات ومرات. انتشيت بها، تفقدت عيناها وما تعرضتا له من خوف هي الاخرى. وكان لقاء حميم بينها وبين اختها الصغيرة التي حاولت ان ترمي نفسها من بين ذراعي لتعانق اختها وتعلن لها عن فرحتها.
استراحة قليلة من الخوف زارني مع فرحتي بلقاء ابنتي. ولكنها عاودني فجأة عنما وجدت نفسي والبنات وحيدات. اين زوجي؟ هل فرحته بالوصول الى ما كان يصبو اليه جعل قدماه يسرعان الى الامام؟ بدأت اتلفت حولي علني اسمع صوته ينادي اسمي؟ هل مكتوب على ان تزورني كل انواع الضياع؟ اهلي، وطني، اصدقائي، لغتي، مشاعري، بنتي وزوجي لما كل هذا الحقد من الايام علي؟
مشيت مع المرأة ومع جموع الناس التي تمشي باتجاه واحد. فاذا بزوجي ينتظرني مع التي تنتظر احبائها في صالة الاستقبال. وأخذت اعاتبه على السرعة في تقدمه وهو بدوره عاتبني على البطيء اخبرته باننا كنا على وشك اضاعة اميرتنا. هز براسه وبحلق عيناه التي أرسل لي من خلالها عبارة اللوم وكأنه كان يقول لي الأمومة لا تليق بك.
كان الوقت ليلا لا مكان نذهب اليه. بعد نقاش بيني وبين زوجي ونوع من الجدال والبحث عن مكان نرمي فيه اجسادنا المتعبة كي ترتاح قليلا. وخاصة اننا سوف نأتي باكرا كي نقابل مسؤولي اللاجئين كي يؤمنوا لنا مكان للسكن المؤقت. قررنا ان نبات تلك الليلة في المطار. اتخذنا زاوية هادئة. مشردين وجياع نحن. ولحسن الحظ كنا نحمل بعض من الدولارات. ليلتها اشترينا بعض من الطعام كي نسكت تلك المعد الجائعة.
وجدنا زاوية هادئة بعض الشي في ذلك المطار الكبير كي نرمي اجسادنا علها تستريح من عناء السفر. فرشت ارضا بعض من ثيابنا الثخينة كي اجعل فراشا مريحا لتلك الصغيرات. نامو بدون ممارسة دلعهم المتعاد كبقية الصغار، مددت جثتي بجانبهم وتمنيت ان يغفو دماغي وتبقى عيوني على تيقظ وترى اي حركة حولهم. اخاف على الصغيرة من ان تصحو وتمشي بعيدا. ككل الصغار الذين يمشون بدون هدف. فقط لممارسة اكتشافهم للأشياء من حولهم. دماغي وعيوني وجسدي ارقدهم الغفو ولكن حاسة السمع بقيت على قيد الاستيقاظ. لا اعرف كيف؟ كنت اسمع كل حركة من حولي. زوجي اخذ على عاتقه حراستنا، اخذ يتمشى هنا وهناك كي يبعد النوم عنه كي لا يهاجمه لان النوم لا يهاجم الواقفون.
وفي نصف رحلة النوم تلك أيقظني صوت ابنتي الصغيرة وهي تتقيأ. صحوت مذعورة. اول ما خفت منه هو التسمم الغذائي. أصبح لونها اصفر. ناديت زوجي، خاف هو الاخر تغيير لونه ولاحت الدمعة في عينيه ولكنه قهرها وابعدها عن اجفانه حملتها واخذتها الى أقرب حمام كي اغسل وجهها. هدأت معدتها نوعا ما. رجعت اتفقد البنت الثانية ووجدتها غافية. وضعت الصغيرة في حضني ورجعت اليها غفوتها مرة ثانية. زوجي نظف المكان ببعض من محارم الحمامات. ترجيته ان ينام قليلا، وضع راسه على احدى الحقائب وغفا وإذا بي اغفوا انا ثانية واصحى من بعدها على صوتي فاذا بي كنت احلم وانادي ابي. نظرت حولي فوجدت نفسي مشردة بعيدة عنه الاف الكيلومترات. غصصت واغرورقت عيناني ونظرت الى صغيراتي وزوجي وابتسمت.
نظرت الى ساعة يدي فاذا بها الحادية عشر الا ربع. صباحا وعلى عجلة من امري ايقظت زوجي واعلمته بان الوقت قد تأخر علينا لمقابلة مسؤول اللجوء. نظر الى ساعته وابتسم وقال: هناك فرق في التوقيت موعدنا بعد ساعتين من الان
اقترب موعد اللقاء مع الموظف. رائحة النوم والتشرد تعبق بنا وبدأنا نسأل عن عنوان اللقاء بلغة الاشارة طبعا. سألنا عاملة من عاملات التنظيف علها تعرف وترشدنا الى المكان. كانت زنجية غامقة اللون اشارت بيدها بان نلحقها. لم تتركنا الا بعد ان اطمأنت باننا في المكان المناسب.
الموظفة والمترجم كإنو جاهزين للقائنا. تأكدوا من اسمائنا ومن اعمارنا ومن بعض البيانات قال سوف ننقلكم الان الى مكان اخر حيث تنامون عدة ايام هناك في غرفة واحدة، ومن بعدما الى بيتكم الخاص
تبعناها الى خارج المطار. نظرت الى الفضاء احسست بان تلك الغيمة التي ترجيتها ان تمطر على نوعا من الهدوء من مطار دمشق تنظر وتقول الحمد الله على سلامتكم. تركتها في ذلك الفضاء وركبنا السيارة وانطلقت فينا في رحلة جديدة.
ومع انطلاقة السيارة الى موقفها الاخير في رحلتنا هذه رجعت الى كهف ذاكرتي التي تسللت اليه من قبل. الى تلك الذاكرة التي ألحت على ان اخفف عنها الحمل. نظرت اليها وابتسمت وسألتها بنوع من الفخر بأنني قمت في عمل عظيم وخففت عنها. هل انت راضية عني؟ هل خففت عنك حمولتك التي كنت تشتكين من ثقلها؟
قالت:" نعم نعم شكرا لك". ولكن! عندما سمعت كلمة ( لكن )
ادرت ظهري وتسللت من ذلك السرداب بهدوء كما دخلته كي لأوقظ الاخريات متعمدة التهرب منهن. ولحظة وصولي خارج الكهف اوصدت الباب بإحكام. ورميت المفتاح الى داخله من نافذة صغيرة جدا كي لا أراه ثانية او أضطر إلى استخدامه مرة اخرى نفضت يداي من ذلك الغبار الذي علق بهما، وتركت تلك الذكريات الاخريات مسجونة في ذلك الكهف مهملة.
ولحظة انتهائي من تدوين هذه الذاكرة وضعت القلم والورقة جانبا ونظرت الى ساعتي فإذ بها تقارب الثانية صباحا. نبهني النعاس كي اذهب الى الفراش وامدد جسدي كي يرتاح قليلا قبل بدء يوم عمل جديد ومعركة جديدة مع الحياة.
ذهبت الى سريري وغفوت غفوة طفل حديث الولادة بلا ذاكرة.
انتهت





#ربيعة_برهان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ربيعة برهان - غربة مشاعر