أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد كودي - 5اليمين / اليسار / الوسط: في إقرار حدود التمفصل السياسي















المزيد.....



5اليمين / اليسار / الوسط: في إقرار حدود التمفصل السياسي


محمد كودي

الحوار المتمدن-العدد: 1311 - 2005 / 9 / 8 - 07:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



كيف يمكن إقرار معايير موضوعية لترسيم التمايز يمين / يسار / وسط؟ وهل يشكل هذا التمايز بناءا حقيقيا أم مجرد وهما نظريا؟ وأين يكمن التمايز يمين / يسار / وسط؟ وما هي المعايير المؤسسة لهذا التمايز؟.
أولا: اليمين / اليسار / الوسط: أين يكمن التمايز؟
حظيت محاولة إقرار ترسيم تمايزي للظاهرة الحزبية، انطلاقا من ثنائية يمين / يسار، بالكثير من الجهد المبدول من طرف العديد من الباحثين وعلماء السياسة. وفي هذا الإطار يعرف "دافيد كوت" اليمين واليسار "بأنهما يرتبطان ببعض السمات والمميزات، كالقول بأن اليسار يرتبط بالإيمان بالعلم والعقلانية والمساواة بين الأفراد والشعوب، ومناهضة مختلف أشكال القمع والإضطهاد والتمييز العنصري، والإيمان بالحرية - حرية الإنسان، والتفاؤل بمستقبل الإنسانية، ومناهضة الحرب، والسعي إلى السلم".
لاشك أن هذه السمات والمميزات التي أثارها "دافيد كوت" لا تعمل على توضيح التمايز يمين / يسار، بل تكثف حالة الغموض التي تعرفها هذه الثنائية. لأن مفاهيم مثل العلم، الحرية ومناهضة الحرب ... الخ لا يمكن أن تشكل تحديدا أو تعريفا لمفاهيم اليمين واليسار. لأن بعض الإتجاهات اليمينية كانت امتدادا طبيعيا للموروث الفكري والنظري والسياسي لعصر الأنوار، كما أن اللاعقلانية والتوتاليتاريا شكلت سمات سياسية للعديد من الإتجاهات اليسارية. من هنا يتعين تجاوز هذه التعريفات التي ترى أن اليمين استبدادي وسلطوي، وبأن اليسار تحريري، كما لو أن اليسار ينفلت من المحاولات الإستبدادية والسلطوية.
أما "سيمور مارتن ليبست" فقد أعطى تعريفا لليسار واليمين من خلال تبني مقولة الواقع الإجتماعي والسياسي، فهو يرى أن هذا الأخير يعبر عن نفسه في صورتين: صورة ديمقراطية وصورة متطرفة، وأن لكلا هاتين الصورتين تقسيمهما من حيث اليمين/الوسط/اليسار. فالصورة الديمقراطية تنقسم إلى موقف يسار ووسط ويمين، انطلاقا من القاعدة الإجتماعية والإقتصادية، فهناك يسار اشتراكي يستمد قوته من العمال اليدويين وفقراء الريف، وهناك يمين محافظ يستند إلى أصحـاب رؤوس الأمـوال والــزراعـة الـرأسـمالــية والمهـن الحــرة، فــي حـين أن الـوسـط الديمقراطي المعروف بالليبرالية يستند إلى الطبقة الوسطى، لاسيما صغار الموظفين والجماعات المهنية. وما يؤاخذ على هذه المقاربة هو ربطها الميكانيكي بين الأصول الإجتماعية والإنتماء السياسي، خلافا لما أتبتته أعمال السوسيولوجيا الإنتخابية، حيث لا يمكن الإعتماد على الإنتماء الطبقي بمفرده في تحديد مستوى التعاطف والإنتماء السياسي، لأن هناك مجموعة من العوامل التي تتدخل في تحديد السلوك السياسي للأفراد، مثل العوامل الدينية التي لها دور مهم في تحديد التوجهات السياسية والسلوك السياسي. فأغلب الكاتوليك في فرنسا يصوتون لصالح الأحزاب اليمينية، على الرغم من انتماءاتهم الإجتماعية الدنيا. بالإضافة إلى العوامل الدينية هناك العوامل العرقية والتاريخية، فقد أظهرت الإحصائيات أن السلوك الإنتخابي ليس له دائما طابعا عقلانيا، حيث لوحظ أن شرائح اجتماعية غير محظوظة تصوت لليمين.
ويقترح "أندريه سيجفريد" تعريفا ضمنيا لثنائية يمين / يسار، ويرى أن إقرار ترسيم تمايزي للظاهرة الحزبية من خلال هذه الثنائية يعتبر "عملية صعبة، وأحيانا تعسفية، وها هي القاعدة العامة التي لجأت إليها لتقسيم الأصوات ما بين التجمعين، فإنه ينتمي لليمين كل من يعتمد بصفة مباشرة أو غير مباشرة على الكنيسة... والقصر، وأنه ينتمي إلى تحالف اليسار كل ما هو معرض للهجوم من طرف الكنيسة والقصر بصفة مباشرة أو غير مباشرة. وبالتالي فإن الفكرة الموجهة هي البحث دائما حول على ماذا نعتمد أو من يدعمنا؟ ومن من نحن معرضين للهجوم"؟
إن هذا التعريف يستبطن التمايز يمين / يسار في مرحلة معينة، ويشكل آلية لإقرار التمايز في إطار شروط تاريخية محددة، وذلك من خلال استحضاره بقوة وبكثافة رهانات الصراع بين العلمانية والكنيسة، وبين الجمهورية والملكية. وبالتالي لا يمكن اعتماده كآلية مجردة منفصلة عن شروط إنتاجها في تحديد واقع التمايز يمين/يسار. ولاشك أن هذا التعريف سيتم إثرائه من طرف Andre Sergfreid"" حيث يرى: "أنه من الممكن إضافة تقسيم آخر ما بين تحالف اليمين وتحالف اليسار، وسيكون على أساس موقف الأحزاب من وجهة نظر اجتماعية، وهذا التقسيم ليست له أية علاقة مع الأول، لأن اليسار الحقيقي الإجتماعي سيتم تقليصه بشكل كبير، فبالنسبة لكافة أجزاء فرنسا فإن هذا التقسيم الإجتماعي هو الذي يتم اللجوء إليه، ولكن بالنسبة للغرب ( غرب فرنسا) فإن التقسيم السياسي هو المهم.
والملاحظ أن التمايز الذي أقره "Andre Sergfraid" يندرج في إطار التعريفات السابقة التي أتينا عليها، والتي تحاول إقرار نوع من التمفصل بين اليسار واليمين من خلال استحضار العامل الإجتماعي. حيث أن التمايز يمين / يسار يستحضر بكثافة التوترات والرهانات الإجتماعية للفاعلين السياسيين، باستثناء في الغرب الفرنسي، حيث سجل الباحث بأن الشرائح الفلاحية على الرغم من انتمائها إلى فئات دنيا، فقد شكلت مع ذلك قلاعا أساسية لمختلف أحزاب اليمين السياسي منذ الثورة الفرنسية.
وعمل "فرانسوا غوغيل" في إطار بحثه عن معايير موضوعية لإقرار ترسيم تمايزي بين اليمين واليسار على إدخال مفهوم جديد يتمثل في مسألة الدهنيات أو العقليات، فهو يرى "أن السياسة ليست فقط الأفكار ... والمصالح، ولكن كذلك: الدهنيات. فخلف الأفكار والمصالح نجد الدهنيات والثوابت النظرية، وهي في جميع الحالات لاعقلانية، وتهم معنى الحياة وطبيعة الإنسان وغايات المجتمع، وهذه الذهنيات هي أكثر استقرارا وثباتا من نظام الأفكار .
إن مفهوم الدهنيات يحيل إلى مجال خصب هو مجال التمثلات، بالنظر إلى كون هذه الأخيرة تبقى ثابتة في حمولاتها ودلالاتها، مثل رؤية الفرد للدين، وغايات المجتمع، وطبيعة علاقات الإنسان بالإنسان، وعلاقة الفرد بالطبيعة.
إلا أن السؤال المحوري كيف يمكن أن نحدد واقع التمايز بين اليمين واليسار داخل الحقل السياسي؟ وهل يتعين اللجوء إلى مقاربة شمولية تأخذ بعين الإعتبار الأفكار والمصالح، بالإضافة إلى مجال آخر أكثر شمولية هو مجال التمثلات، بالنظر إلى أن الإنقسام يغطي كافة هذه المجالات؟ أم يتعين اللجوء إلى المقاربة السوسيو اقتصادية التي يتبناها النموذج الماركسي والتي تتلخص في كون الأفكار والمبادئ النظرية والإيديولوجية... الخ التي تمثل البنية الفوقية ما هي إلا انعكاس لأنماط الإنتاج وللبنية التحتية التي تعرف ديناميكية صراع الطبقات. إلا أنه لا يمكن الإقرار بأن التمايز يمين / يسار هو صورة مطابقة وإطلاقية لواقع الصراع الإجتماعي بين البورجوازية والقوى المنتجة أي العمال. أما حقل التمثلات فهو يعمل على إثـراء المقــــاربة من خلال البحث في البنيات الداخلية واللاواعية للفرد والجماعة.
ومما لاشك فيه أن "نظام القيم" يعتبر جزءا أساسيا من الثقافة السياسية للفرد، انطلاقا من تمثله لسلم القيم التي يزخر بها المجتمع، لأن التنشئة الإجتماعية والسياسية تمنح للفرد المواد الأولية لتأسيس المواقف السياسية. وفي هذا الإطار حدد "Kluckholn" و "Strodtbeck" خمس مشاكل أساسية للوجود الإنساني:
1 - تعريف الطبيعة الإنسانية.
2 - علاقة الإنسان بالطبيعة.
3 - غايات النشاط الإنساني.
4 - العلاقة بين الأفراد.
5 - العلاقة مع الزمن.
وإنطلاقا من هذا الخماسي، يرى "Alain Lancelot" إمكانية تحديد قيم اليمين وقيم اليسار على الشكل التالي:

اليســــار اليمـــــين
1 - الطبيعة الإنسانية: - يمكن أن تصبح كاملة - لا يمكن أن تصل درجة الكمال
2 - العلاقة مع الطبيعة: - تحويلها وتغييرها - تقليدها ومحاكاتها
3 - أهداف النشاط الإنساني: - التغيير - التملك
4 - العلاقة بين الأفراد: - المساواة - التراتبية
5 - العلاقة مع الزمن: - القضاء على كل شيء "TABLE RASE" - الإرث (Héritage)
- الفعل (Faire) - التملك (Avoir)

إن النقاش حول الطبيعة الإنسانية هل يمكن أن تصل درجة الكمال، أم أنه محكوم عليها أن تظل في حدود سقف معين لا يمكنها تجاوزه جدال قديم. وفي إطار العلاقة مع الطبيعة فاليسار إرادوي، فهي حقل للتجربة الإنسانية، وبالتالي يمكن إخضاعها والسيطرة عليها وتوجيهها لخدمة الإنسانية. أما بالنسبة لليمين، فالطبيعة تمثل إكراها، وبالتالي لا يمكن إخضاعها إلا بالرضوخ لميكانيزماتها وقوانينها.
وفيما يخص النشاط الإنساني، فاليسار يرى أن غايته الأسمى وهدفه الأساسي هو التغيير: تغيير الحياة وأنماط العيش، والتعجيل بتقدم الإنسانية . أما اليمين فيرى أن هدف النشاط الإنساني هو مضاعفة الميراث الإنساني. وفيما يخص العلاقة بين الأفراد، فاليسار مساواتي، أما اليمين فيعتقد أنه لا يمكن إقرار العدالة بدون المحافظة على التراتبية بين الأفراد. وفي إشكالية العلاقة مع الزمن، فاليمين يرى ضرورة المحافظة على التقاليد والموروثات الثقافية والإجتماعية، لكونها تشكل اللحمة الأساسية للمجتمع. أما اليسار فيعتقد بأن التقاليد تشكل عائقا أمام تطور الإنسانية، وبالتالي يتعين القضاء على كافة البنيات الإجتماعية والثقافية والسياسية، لإرساء نظام اجتماعي وسياسي جديد مبني على المساواة والحداثة والعقلانية.
إن هذه المقاربة على الرغم من الأهمية التي تكتسيها، إلا أنه يستحيل الإعتماد على نظام القيم كآلية جوهرية في تحديد التمايز يمين / يسار، بالنظر إلى كثرة الإستثناءات التي تعاني منها، لأن التمايز داخل اليسار يجعل هذه المقاربة ناقصة، لأن الكثير من الإتجاهات اليسارية تقبل بإقامة نوع من المصالحة مع قيم المجتمع الرأسمالي، من خلال تبنيها لاقتصاد السوق، ورفضها للتطرف السياسي، وقبولها بقواعد العمل الديمقراطي، كما أن مفاهيم التغيير والتقليد هي مجرد قيم أدواتية تستخدمها الحركات السياسية بمختلف اتجاهاتها للوصول إلى السلطة.
بالإضافة إلى هذه الطروحات التي أتينا عليها، هناك طرح آخر يزعم بأن اليسار يسعى إلى خلق مجتمعات مفتوحة كبديل تاريخي وسياسي عن المجتمعات المغلقة، التي تنزع إلى إقصاء الإختلاف والتمايز. إلا أن مفهوم المجتمعات المفتوحة كما حدده "كارل بوبر" هو لصيق بالمجتمعات الديمقراطية والتنافسية، وبالتالي لا يمكن اعتماده كسمة أساسية من سمات اليسار. لأن اليمين هو الآخر، وفي إطار قبوله بالحمولة التعددية لمقولة الهوية، يساهم في تدعيم البنيات المؤسسية والإجتماعية للمجتمعات المفتوحة، كما أن العديد من الإتجاهات اليسارية كانت ترفض مسألة الإختلاف، وتعتبرها أمرا شاذا ولصيقا بالأنظمة القديمة المبنية على الطائفية والقبلية والعشائرية.
ويحاول "لابونس" مقاربة التمايز يمين / يسار من خلال ثنائية الدين / الإلحاد، حيث يؤكد بأن الحضور القوي للمعطى الديني يعتبر أمرا ثابتا في المنظومات النظرية والإيديولوجية لليمين السياسي. إلا أن هذا الطرح الذي يماهي بين الدين واليمين يتضمن نوعا من التهافت. فإذا كان هذا المعطى حاضرا بقوة في تقاليد بعض الإتجاهات اليمينة، وعند بعض مفكري اليمين مثل "Joseph de Maistre" و "Cartes" و "Donossos" و "Carl Schmitt" إلا أن هناك الكثير من الإتجاهات اليمينية، التي لا تتبنى أي تقليدا دينيا بل أن هناك من بينها من يتبنى تصورا علمانيا للسياسة. بالإضافة إلى كون المعطى الديني لا يعتبر أمرا غريبا عن الحركات اليسارية، لأن التيارات الدينية التي انطلقت منذ ثلاث عقود أو ما يزيد عن ذلك، أثارت على مستوى الفكر الفلسفي والسياسي اهتماما كبيرا. وانصبت جهود وأبحاث كثيرة لتفسير أسباب نشوء هذه الظاهرة، وتحديد مسارها، وأفق تطورها. كما جرى التوقف كثيرا عند هذه الظاهرة من حيث أثرها في الصراع السياسي، وفي تحديد العلاقات بين الأطراف والقوى السياسية والإجتماعية المختلفة. وجرى التعبير عن هذه الظاهرة ب "لاهوت التحرير"، وهي حركة داخل الكنيسة الكاتوليكية في أمريكا اللاتينية، وتحديدا في الكنيسة الدومينيكانية، وتضم جماعة من الرهبان والأساقفة، وتقود نشاطات سياسية واجتماعية بجانب فعاليات المجتمع المدني، كما أنها شاركت في حركات التحرير في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، حيث عرفت الشيلي حركة "المسيحيين من أجل الإشتراكية" التي ساهمت إلى جانب الإشتراكيين والشيوعيين في قيام السلطة الشعبية بقيادة "سلفادور الليندي"، وكذلك ساهمت الكنيسة الكاتوليكية في جامايكا والسلفادور، بقيادة "المونسيور روميرا" كبير أساقفة السلفادور في دعم الحركات اليسارية الثورية، وإدانة كل الجرائم التي ارتكبت بحقهم من قبل النظام العسكري.
إلى جانب هذه الطروحات نجد طرحا آخر يربط ثنائية اليمين / اليسار بالموقف من الإشتراكية، فاعتبر الأحزاب التي تتبنى النهج الإشتراكي بأنها يسارية، في حين أن الأحزاب ذات التوجه الليبرالي تحسب على اليمين. والملاحظ أن هذا التعريف بقي قاصرا عن إرساء معايير موضوعية، لتأسيس التمايز يمين / يسار، لكون هذه الثنائية هي سابقة على ظهور الإشتراكية كفلسفة وإيديولوجية حزبية، بالإضافة إلى أن الإشتراكية ذاتها يطبعها التعدد والتنوع.
ويعتبر"دينو كونفرونسيسكو" "Dino Confrancesco" أن اليمين يمثل كافة أشكال التجدر في الطبيعة والتاريخ، مثل الدفاع عن الماضي والتقليد والموروثات، بينما يرى أن اليسار يمكن تعريفه انطلاقا من مفهوم الإنعتاق أو التحرر. ويضيف في هذا الإطار أن كل تعريف عليه حتى لا يكون احتماليا ومؤقتا في مواجهة تعدد وتنوع الحالات التاريخية أن يبحث عن روح اليمين وروح اليسار. ويحدد روح اليمين انطلاقا من المقولة التالية: "لا شيء خارج أو ضد التقليد الكل في التقليد ولأجل التقليد". وبالنظر إلى واقع التعدد والتنوع الذي يعتبر خاصية أساسية في اليمين السياسي فإن Cofrancesco يشير إلى ستة أنواع من أشكال التقليد:
1 - التقليد كنموذج مثالي.
2 - التقليد كتصور مثالي لمرحلة حاسمة في تاريخ الإنسانية.
3 - كإخلاص للأمة.
4 - كذاكرة تاريخية.
5 - كجماعة يجمعها وحدة المصير.
6 - وفي الأخير كوعي بتعدد الواقعي .
وخلف هذه الحمولات والدلالات المشحونة والمشبعة بنظام القيم، تتواجد مختلف الحركات السياسية اليمينية والمواقف الفردية. ومن وجهة النظر هذه "فالإنسان اليميني هو الذي يرغب في المحافظة على التقاليد، في حين أن الإنسان اليساري هو الذي ينزع إلى "تحرير" أمثاله من القيود التي تفرضها الإمتيازات الناتجة عن العرق، الطبقة والطائفة".
ولاشك أن هذه المقاربة تندرج في إطار المقاربة السالفة، التي تحاول اعتماد نظام القيم لإرساء أواليات للتمايز يمين / يسار، وتحاول المماهاة بين مقولات قيمية وأدواتية. إلا أنه إذا كان التعارض يمين / يسار يحيل إلى أنظمة آراء ومواقف وقيم تتجاوز الحقل السياسي بالمعنى الحصري، وترسم رؤيتين متعارضتين للعالم والطبيعة، إلا أنه لا يتعين اختزال هذه الأنظمة الرمزية في مقولة التقليد.
أما "إليزابيث كليوتي" "Elisabeth Galeotli" فتقترح ضرورة التمييز بين السياقات التي تظهر فيها، ومن خلالها ثنائية يمين / يسار، وتحدد هذه السياقات في أربعة:
1 - الخطاب العادي.
2 - الخطاب الإيديولوجي.
3 - الخطاب المتعلق بالخيال الإجتماعي.
4 - الخطاب الذي يهم التحليل التاريخي والسوسيولوجي.
ومن خلال تحليلها للإيديولوجيات الــتي سـادت خلال القـرنيـن الأخـيـرين، تــرى أن الخاصية الأساسية لليمين هي التراتبية، أما الخاصية الأساسية والمميزة لليسار فهي المساواة.. ويرى "نوربرتو بوبيو" "Norbretto Bobbio" أن التعارض بين "التراتبية" و "المساواة" لم يكن منتظرا، فلماذا استعملت الباحثة مفهوم "التراتبية" وليس "اللامساواة"، مع العلم أن النقيض الإصطلاحي للمساواة هو اللامسواة وليس التراتبية. والواضح أن الهم الذي دفع الباحثة إلى استخدام مفهوم التراتبية هو الخوف من إزاحة الإيديولوجية الليبرالية إلى اليمين، أي في خانة الإيديولوجيات التي تعتبر أن اللامساواة بين البشر أمرا طبيعيا وجوهريا. وانطلاقا من ذلك، فهي تعتبر أن اللامساواة الإجتماعية التي يسمح بها النظام الليبيرالي هي كيفيا مختلفة عن اللامساواة التي يحيل إليها الفكر التراتبي، لأن المجتمعات الليبرالية على الرغم من تأطيرها لمجموعة من أنواع اللامساواة من خلال آلية السوق والمبادرة الحرة، إلا انه لا يمكن اعتبارها مجتمعات تراتبية.
وعلى الرغم من أن التمييز بين اللامساواة الليبرالية واللامساواة الإستبدادية أمر في غاية الأهمية، إلا أن هناك أمور يتعين الوقوف عندها فيما يخص التمايز يمين / يسار، بالنظر إلى أن الخطاب السياسي غير دقيق، لأن أغلب الكلمات المستعملة في هذا الخطاب تجد جدورها في الخطاب العادي واليومي، بالإضافة إلى أن حمولاته تبقى مشبعة بأحكام القيمة، وبالتالي تثير مجموعة من مشاعر التعاطف أو الرفض، الإنجداب أو الإشمئزاز، كما أنها تتواجد في كل مكان حتى أننا أحيانا لا نشعر بها لأنها تظل كامنة. وتأسيسا على ذلك يمكن القول أن الهاجس الذي تحكم في الباحثة يتمثل في المزاوجة بين أمرين متفاضلين ومتناقضين، فمن جهة هناك: مقولة اليمين المشبعة بحمولة اكسيولوجية سلبية والليبيرالية التي تضفي عليها الباحثة قيمية إيجابية، لذلك فإن تحويل معيار التمايز بين اليمين واليسار من "اللامساواة" إلى التراتبية ما هو إلا مناورة، ربما غير واعية حتى لا يتم شحن الليبرالية بالمفاهيم والمضامين السلبية. لهذا فإنه من غير الملائم من الناحية العلمية استبدال مفاهيم واضحة للتمايز بين اليمين واليسار مثل "المساواة" و "اللامساواة" بمعايير ناقصة ويلفها الغموض، مثل "المساواة" و "التراتبية"، بهدف واحد يتمثل في إنقاذ الإيديولوجية الليبرالية من الأحكام السلبية.
ويحاول "ماركو روفيلي" "Marco Revilé" مقاربة التمايز يمين / يسار انطلاقا من أربعة معايير أساسية: أولها المعيار الزمني، حيث أن التمايز يمين / يسار هو نتاج طبيعي وحتمي للتناقض بين حالة الثبات والحركة، والمعيار المكاني، حيث التمايز يحيل إلى التمييز بين مبدأ المساواة ومبدأ التراتبية ، والمعيار القراري: "Décisioniste"، ويتم بناءا على التمييز بين الإستقلال أو التبعية، وفي الأخير المعيار السوسيولوجي، حيث التناقض بين النخب الموجودة في السلطة والطبقات المحكومة.
والواضح أن هذه المعايير يلفها الغموض، لكونها تستحضر بكثافة مفاهيم هي موضوع جدال كبير في كافة حقول المعرفة مثل المساواة والتراتبية، والثبات والحركة، وبالتالي لا يمكن إخضاعها لمنطق تحليلي واحد أو أحادي، بالإضافة إلى كون " "Marco Revili لا يعمل على تحديد مضمون محدد ودقيق لهذه المفاهيم، الأمر الذي يجعل أغلبها قاصرا عن إقرار ترسيم تمايزي للظاهرة الحزبية إانطلاقا من ثنائية يمين / يسار.
ثانيا: المعايير المؤسسة للتمايز يمين / يسار.
ترجع ثنائية اليمين / يسار إلى المراحل الأولى من الثورة الفرنسية، إلا أنها لم تعد سجينة الرحم الذي تبلورت فيه، بل أصبحت تغطي الآراء السياسية لجميع المواطنين، لكون التمايز يمين / يسار يحيل إلى أنظمة آراء ومواقف، تتجاوز الحقل السياسي بالمعنى الحصري، وترسم رؤيتين متضادتين للعالم. وهذه الأنظمة الرمزية تضم مكونات إدراكية وتقييمية، ولكنها أيضا عاطفية، بالإضافة إلى كون مضمون وحمولة هذه المكونات متغيرا ومراوغا، حيث أن التمايز يمين / يسار مبني على قدرته في أن يتطور مع الزمن، وأن يحدد الرهانات التي يتبلور فيها هذا التفسخ جزئيا على الأقل. ويحيل تكون الأنظمة الرمزية لليسار ولليمين كما أظهرت ذلك الدراسات والأبحاث القيمة "لبول بوا" و "أندريه سجفريد" إلى عصور سابقة للثورة في الغالب. وساهمت هذه الأحداث التاريخية في تكريس جغرافية سياسية متمايزة بين فرنسا اليسار وفرنسا اليمين، الأمر الذي توضحه الخرائط السياسية الإنتخابية. وبناء عليه، ما هي المعايير المؤسسة للتمايز يمين / يسار؟ وهل يمكن لهذه المعايير أن تشكل آلية علمية لتحديد تمفصلات الحقل السياسي، والإحاطة بالطبيعة المراوغة والديناميكية لهذه الثنائية؟
بخلاف التعاريف التي أتينا عليها سابقا، يبقى التعريف من خلال روح المساواة واللامساواة من أكثر المعايير نجاعة في تحديد تمفصلات الحقل السياسي. ومفهوم المساواة "هو نسبي وليس مطلقا، كما أنه يتطلب ثلاث متغيرات أساسية يجب أخذها بعين الإعتبار:
1 - الأشخاص الذين يجب أن تقسم بينهم الخيرات والأعباء.
2 - الخيرات والأعباء التي يجب توزيعها.
3 - معيار التقسيم والتوزيع. بمعنى أن أي مشروع للتوزيع لا يمكنه أن يتجنب هذه الأسئلة الثلاثة، نعم للتوزيع ولكن بين من ومن؟ وما الأمر الذي يراد توزيعه؟ وعلى أي معيار؟" .
ومن خلال القيام بعملية تركيبية لهذه المتغيرات الثلاثة، سنحصل على أنماط متعددة من التوزيع، والتي يمكن القول بشأنها أنها كلها مساواتية، على الرغم من أنها قد تمايز بين البعض والبعض الآخر. فمثلا بالنسبة للأشخاص، يمكن أن يهم الأمر كل الأفراد، أو عددا كبيرا منهم، أو الإقتصار فقط على عدد قليل منهم، كما أن الخيرات المراد توزيعها قد تكون حقوق أو تسهيلات إقتصادية أو مواقع في السلطة. أما المعايير فقد تكون الحاجة، الإستحقاق أو الكفاءة أو الجهود المبدولة. وأي واحد من هذه المعايير ليست له قيمة حصرية، فقد توجد وضعيات يتعين المزج بينها.
وانطلاقا من ذلك فإن كل وضعية معينة تحدد المعيار الحاسم في خلق المساواة، فمثلا في الإمتحانات المدرسية والجامعية فإن الكفاءة والإستحقاق يبقى هو المعيار المناسب لتكريس حالة المساواة بين الطلبة، ونفس الشيء بالنسبة لمباراة العمل، حيث يتعين الإعتماد على معيار الكفاءة، وفي شركات الأسهم يتعين توزيع الأسهم حسب حصص أسهم كل مساهم في الشركة. وفيما يخص المجتمع السياسي، فالمقاعد البرلمانية يجب توزيعها حسب الأصوات المحصل عليها في العملية الإنتخابية.
وانطلاقا من هذه المعطيات التوضيحية لمفهوم المساواة، يمكن التمييز بين مذاهب أكثر أو أقل مساواتية، حسب الأشخاص الذين تغطيهم، والكمية والقيمة الأكثر أو الأقل أهمية للخيرات المراد توزيعها، والمعيار المتبنى لأجل توزيع هذه الخيرات بين الأشخاص، فمثلا بالنسبة للأفراد فإن الإقتراع العام الذي يشمل الذكور والإناث أكثر مساواتية من الإقتراع الذي يقتصر على الذكور، كما أن هذا الأخير أكثر مساواتية من الإقتراع الحصري، الذي كان يشترط ضرورة توفر الأفراد الذكور على نسبة معينة من الأملاك العقارية، أو على أداء حصص معينة من الضريبة، أو التوفر على مستوى تعليمي محدد. وبالنسبة للخيرات المراد توزيعها، فإن الديمقراطية الإجتماعية التي تمنح للأفراد حقوقا اجتماعية مثل الخدمات الصحية و التأمينات هي أكثر مساواتية من الديمقراطية الليبرالية. كما أن معيار توزيع الخيرات انطلاقا من مبدأ "لكل حسب حاجته أكثر مساواتية من المعيار الذي يعتمد على المكانة الإجتماعية، الخاصية الأساسية للمجتمع التراتبي. وقد اهتم العديد من الباحثين بتحديد مفهوم المساواة واللامساواة.
وفي هذا الإطار أشار "أليكسيس دوكفيل" إلى أن المجتمعات الحديثة تتجه بالضرورة نحو القضاء على المراتب والمناصب وإلى إحلال الأمواكوليس ( الإنسان المساواتي) محل الأوموايراركيكوس [Homo acqualis, Homo hiearchicus ] ، وهذا التوجه لا يعني الإنتقال إلى المساواة من حيث الواقع، بل يهم فقط المساواة في الحقوق، الأمر الذي يؤدي إلى إقرار نوع من المساواة في الأوضاع والظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
إن الديمقراطية حددت لنفسها هدفا رئيسيا يتلخص في إيجاد مجتمع سياسي، يتعين أن يكون هدفه الأساسي تكريس المساواة، في حين أن النظام الإقتصادي بقي محكوما باللامساواة والنزاعات المصلحية، الأمر الذي يحتم أن لا يقتصر هدف الديمقراطية الرئيسي على تأمين المساواة فقط من حيث الحقوق السياسية، بل عليها أن تشمل الفرص، وتحد قدر الإمكان من اللامساواة من حيث الموارد(.
وفي هذا الإطار أشار "جورج بوردو" إلى ضرورة حلول الديمقراطية الحاكمة محل الديمقراطية المحكومة، وانتصار الإنسان ذي الموقع المجتمعي المحدد "لا ذلك الإنسان الكلي وحسب، الذي لا يطلب منه التخلي عن الظروف القسرية التي تحدد وتقولب حياته اليومية، بل أيضا ذلك الإنسان الملتصق كل الإلتصاق بالواقع، والذي تستجيب تطلعاته بأسرها للشروط التي هي شروطه بالذات ضمن المحيط الذي ينخرط فيه، إنه إنسان ذي موقع محدد". وهذا الأمر هو ما يعبر عنه "جون راولز" عندما يماهي بين العدالة والإنصاف، فالإنصاف لا يمكن إقراره إلا من خلال المزاوجة بين مبدأين هما الحرية والمساواة، على الرغم من أن "Rawls" يعطي الأولوية لمبدأ الحرية على أن تكون مقترنة بمبدأ المساواة، الذي يتضمن وجهين أساسيين: تكافؤ الفرص، وضرورة أن تؤدي الحرية إلى تقليص التفاوتات والإجحافات، لأن "الديمقراطية كمشروع مجتمعي هي بحاجة لمبدأ دفاعي ضد تعسف السلطة: مبدأ ذو وجهين: فهو يسمى حرية، عندما يشدد على الحد من سلطة الدولة وتعسفاتها الإفتراضية، ويسمى مساواة عندما نكون في معرض التعريف غير المباشر بمبدأ مقاومة التوزيع غير العادل للموارد الإقتصادية والسياسية"(.
وتأسيسا على ذلك، فإن معيار المساواة واللامساواة يشكل الآلية الفعالة لإقرار التمايز بين اليمين واليسار. إلا أن هذا الطرح لا يعني بأن المساواة بين الأفراد يجب أن تكون مطلقة، بغض النظر عن أي معيار تمايزي، لكون هذا الطرح يترجم فقط نظرة طوباوية وتصريحا بالنوايا لا يمكن إعطاءه بعدا أو حمولة عقلانية. إن الدفاع عن كون اليسار مساواتي "Egalitaire" ، لا يعني بتاتا أن له نزعة مساواتية إطلاقية "Egalitariste" . حيث يتعين التمييز بين المذاهب والحركات المساواتية التي ترغب في تقليص الإجحافات الإجتماعية، وفي جعل اللامساواة الطبيعية أقل قسوة، وبين المذاهب والحركات المساواتية التي تنزع إلى خلق مساواة مطلقة، لأن المساواة في صياغتها الأكثر راديكالية هي القاسم المشترك لأغلب اليوتوبيات، مثل يوتوبيا "Tomas More" ويوطوبيا "قانون الطبيعة" لـ Morely "" ومجتمع "الإنسجام العالمي" لـ "Fourier" ويوتوبيا "Babeuf" الذي يقول: "إننا نرغب في العيش والموت متساوون كما ولدنا، إننا نرغب في المساواة الحقيقية أو الموت، وهذا ما نحن في حاجة إليه" . و "Babeuf" يعتبر "مجنونا" كل من يرفض المساواة في حدودها القصوى.
ومع ذلك فإن استمرار النموذج الطوباوي في التاريخ الإنساني دليل على الإغراء الكبير الذي تمارسه قيم المساواة، بالإضافة إلى قيم أخرى، مثل الحرية والسلام على الأفراد في كل الأزمنة والأمكنة. إن اللامساواة الطبيعية هي أمر قائم في كل المجتمعات، وإذا كانت بعض أشكالها يمكن معالجتها، فإن أغلبها لا يمكن القضاء عليه، كما أن هناك العديد من أشكال اللامساواة الإجتماعية التي يمكن القضاء عليها: فاللامساواة الطبيعية المرتبطة بالميلاد في أسرة دون أخرى أو في جهة من العالم دون أخرى، تختلف عن اللامساواة الناتجة عن معايير الإستحقاق والكفاءة.
وانطلاقا من التمييز بين اللامساواة الطبيعية واللامساواة الإجتماعية، نجد أن اليمين هو أكثر استعدادا لقبول ما هو طبيعي، ولكن كذلك التوابع الطـبيعيـة، مثل الأعراف والتـقاليد ووزن
الماضي والتاريخ. أما اليسار فهو مستعد فقط لقبول اللامساواة الطبيعية الحقيقية.إن التمييز بين اللامساواة الطبيعية واللامساواة الإجتماعية قد تم توضيحه بصورة نموذجية من طرف كل من "روسو" و "نيتشه"، ففي خطاب الأول حول "أصول اللامساواة"، يرى أن الناس يولدون متساوون إلا أن المجتمع المدني، أي المجتمع الذي يحل شيئا فشيئا محل حالة الطبيعة، من خلال تنمية الفنون يجعلهم غير متساوين. أما "نيتشه" فيفترض بأن الناس هم من حيث الطبيعة غير متساوين، ويعتبر أن هذا الأمر يعتبر امتيازا يتعين المحافظة عليه وتكريسه، لأن المجتمع الإغريقي استطاع أن يخلق نموذجا حضاريا في كافة مجالات الفكر والإقتصاد، لكونه كان مبنيا على العبودية، ولكن المجتمع وحده من خلال أخلاق القطيع، وأديان الرحمة والشفقة قد أعاده متساويا.
إن نفس الفساد الذي أدى في نظر "روسو" إلى حصول اللامساواة، قد أدى بالنسبة إلى "نيتشه" إلى تحقق المساواة، فالأول يرى ضرورة إزالة إشكال اللامساواة والقضاء عليها لأنها تتعارض مع المساواة الأساسية للطبيعة. أما الثاني فيرفض المساواة لكونها ترغب في إزالة اللامساواة التي تسعى الطبيعة إلى نشرها بين الأفراد، وبذلك فإن التركيب أو التضاد لا يمكن إلا أن يكون راديكاليا، فباسم المساواة الطبيعية، فإن نصير المساواة يدين اللامساواة الإجتماعية، وباسم اللامساواة الطبيعية فإن المناهض للمساواة يدين المساواة الإجتماعية. ويرى "نيتشه" أن المساواة الطبيعية هي "خلفية فكرية جميلة تعمل على إخفاء عداء العامة لكل أشكال الإمتياز والأرستقراطية، وشكل ذكي ومخادع للإلحادية".
من هنا نجد أن الطروحات النظرية والسياسية لليمين السياسي تصب كلها في اتجاه رفض المساواة، واعتبار اللامساواة بين الأفراد أمرا طبيعيا، وهي خارج إرادتهم، بحيث تجد أصولها الأولى في الطبيعة البشرية. ولذلك عارض منح حق التصويت والإنتخاب للنساء، بالنظر إلى غلبة العواطف لديهن، وانعدام التفكير العقلاني، وخصوصياتهن البيولوجية والإجتماعية. وفي المقابل لعب اليسار دورا حاسما في الدفاع عن المرأة، والإعتراف لها بالحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية. بالإضافة إلى كون أغلب الحقوق التي تم تكريسها بعد الحرب العالمية في دساتير الدول، بدءا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق الدولية الأخرى، التي تؤكد على الحق في التعليم والعمل والصحة وحماية الطفولة، كانت نتيجة أساسية لنضالات اليسار الإشتراكي. وبذلك يمكن القول أن المساواتية هي المعيار الأساسي الذي يميز حركات اليسار . إلا هذا لا يعني قطعا بأنه يرغب في إلغاء كافة أشكال اللامساواة، أو على أن اليمين يرغب في المحافظة على كل أشكال اللامساواة، ولكن فقط أن الأول أكثر مساواتية وأن الأخير أكثر لا مساواتية .
وفي هذا الصدد يرى "سيمور مارتن ليبست" بأن الأفراد الذين يؤيدون الأحزاب اليسارية الديمقراطية هم أكثر تأييدا للحريات المدنية، والقيم الديمقراطية الإجتماعية من الأفراد الذين يؤيدون الأحزاب المحافظة. كما أن أحزاب الديمقراطية الإجتماعية لا تدافع عن الحريات المدنية فحسب، بل إنها تؤثر في مناصريها أيضا في الإتجاه نفسه. أما اليمين السياسي المحافظ، فيخشى تقليديا الديمقراطية السياسية ... وكثيرا ما أبدى معارضته للفكرة القائلة بأن هناك حكمة في صوت الناخبين.
وفي هذا الإطار يشير الفيلسوف الإجتماعي والسياسي "روبرت ماك أيفر" أن اليمين السياسي مثل دائما الأحزاب المرتبطة بقوة بمصالح الطبقات العليا المسيطرة. أما اليسار فقد إستحضر بقوة في مرتكزاته الإيديولوجية، ومواقفه السياسية الشرائح الإجتماعية الدنيا. ويرى أن هذا التقسيم مقبول من الناحية التاريخية، لأن اليمين المحافظ دافع بقوة عن المصالح والإمتيازات، في الوقت الذي كانت تتعرض فيه هذه الأخيرة إلى هجوم اليسار. كما أنه وقف دائما إلى جانب الأوضاع الأرستقراطية والسلطات الموروثة والثروة، في حين أن اليسار ناضل دائما لتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص، ودافع عن مطالب الطبقات الأقل امتيازا .
ولاشك أن الإشكال الأساسي الذي هيمن على الفكر الإنساني، يتمثل في إعطاء الأولوية للمساواة أم للحرية؟ فكافة الأطروحات والمرتكزات الإيديولوجية للأحزاب السياسية تدور بشكل محوري حول هذه الإشكالية، فالحرية ترتبط عادة بالمساواة، وتشكل مثلها مثلا أعلى، وشعارا ثابتا في النظريات والإيديولوجيات السياسية، لأن هذين الإصطلاحين لهما مضمون عاطفي جد قوي، وقدرة قوية على التعبئة. ويلاحظ في هذا الإطار N.Bobbio"" أنهما قد يتكاملان في حالات معينة، إلا أنهما في أغلب الحالات يكون مصيرهما التناقض والتضاد، ويقدم التاريخ السياسي الحديث نماذج عديدة تبنت المساواة كمقولة سياسية، مثل النموذج السوفياتي، إلا أن النتيجة كانت هي تغييب الحرية. وفي المقابل يجري في المجتمعات الغربية الإشادة بالحريات ولاسيما الحرية الإقتصادية، دون أن تنشغل هذه المجتمعات إلا بصورة ثانوية بأشكال اللامساواة التي تنتج عنها . كما أن هناك العديد من الأمثلة التي توضح بأن السعي من أجل المساواة قد يحد من الحرية، في حين أن السعي من أجل الحرية قد يعاظم من اللامساواة، غير أن هذا الإستخلاص لا يعني -كما يؤكد Bobbio- أن كل إجراء مساواتي سيحد بالضرورة من الحرية، علما أن هذه الحرية بوجه عام غير موجودة، فهناك حريات خاصة، كحرية الرأي والصحافة والمبادرة الإقتصادية والإجتماعية، وينبغي دوما تحديد أي شكل من أشكال الحرية هو المعني بالأمر.
والجدير بالذكر أن هناك حركات سياسية وعقائد إيديولوجية تركز على المساواة أكثر من تركيزها على الحرية، في حين أن العديد من الحركات السياسية خصوصا تلك التي تتبنى النهج الليبرالي الكلاسيكي والنيوليبرالي تعطي أهمية قصوى للحرية، إلا أنه من الصعوبة بمكان استخدام هذا الإختلاف كمعيار للتمييز بين اليمين واليسار، لأن إعطاء قيمة أكبر أو أقل في نظره - بوبيو نوربرتو- للحرية يسمح بالتمييز بين جناح معتدل وجناح متطرف داخل اليسار أو اليمين، لأن الحركات الثورية والحركات المناهضة للثورة، على الرغم من اختلافهما حول مشروع التحويل الشامل للمجتمع، إلا أنهما يتفقان في آخر التحليل على أن هذا المشروع لن يوضع موضع تطبيق إلا بإقامة أنظمة تسلطية. وتبعا للموقف من المساواة والحرية يقترح "Bobbio" الترسيمة التالية لتوزع العقائد والحركات السياسية:
أ - في أقصى اليسار، تتموضع عقائد وحركات تجمع المساواة والتسلط، ومثالها الأبرز تاريخيا "اليعقوبية"، التي طبقت بشكل فعلي، في مراحل ووضعيات تاريخية مختلفة.
ب - في يسار الوسط، تتموضع عقائد وحركات تجمع المساواة والحرية، والتي يجري تسميتها اليوم ب "الإشتراكية الليبرالية" و "الإشتراكية الديمقراطية".
ج - في يمين الوسط، تتموضع عقائد وحركات تجمع اللامساواة والحرية، وتمثلها الأحزاب المحافظة التي تتميز عن اليمين الرجعي بإخلاصها للنهج الديمقراطي، وتتبنى المساواة في حدودها الدنيا، كتطبيق القانون في مواجهة الجميع.
د - في أقصى اليمين، تتموضع حركات وعقائد تجمع اللامساواة والتسلط كالفاشية والنازية، وهي مناهضة للمساواة والحرية.
وبالنظر إلى الهم المساواتي الذي يسيطر على الحركات اليسارية، حاولت دائما إلغاء ما اعتبرته العائق الأكبر في وجه تحقيق المساواة، أي الملكية الفردية أو "الحق المرعب"، ومهما كانت هذه الأطروحة صائبة أم مغلوطة، فقد عرفت في مختلف اليوتوبيات التي تنزع إلى خلق مجتمعات مساواتية. فحين سئل "روسو" عن أصل اللامساواة أجاب أن الشخص الأول الذي قام بوضع سياج على قطعة من الأرض وأشار هذا لي، شكل بهذا الفعل البداية الأولى للامساواة، لذلك فالعمل من أجل إلغاء الملكية الفردية كمؤسسة مسؤولة عن اللامساواة بين البشر شكل المرتكز الأساسي في إيديولوجية اليسار الماركسي الذي تبنى المساواة الإطلاقية. بالإضافة إلى أن النضال من أجل إلغاء الملكية الفردية وخلق ملكية مشتركة لوسائل الإنتاج اعتبر دائما نضالا يساريا من أجل خلق مجتمع مساواتي، كما أن التأميمات كانت حاضرة دائما في البرامج السياسية والإقتصادية للأحزاب الإشتراكية باسم المساواة.
إن الإعتراف بأن اللامساواة بين الأغنياء والفقراء تعتبر أمرا قائما لا يعني إغفال أشكال أخرى من اللامساواة كتلك التي تميز بين الرجال والنساء، بين العمل الدهني والعمل اليدوي، بين الشعوب المتقدمة والشعوب المتخلفة.
وإذا كانت الشيوعية هي أول يوتوبيا انتقلت من مملكة الخطاب إلى الممارسة قد تحولت إلى نقيضها. فإن مشكل اللامساواة بين الشعوب والمجتمعات والأفراد لازال قائما بصورة خطيرة وغير محتملة، بل توسع إلى حد كبير وبشكل مأساوي، مع تزايد تملك الوعي بشروط العالم الثالث والعالم الرابع أو "كوكب الغرقى" على حد تعبير "سيرج لاتورش". وإذا كانت الشيوعية التاريخية قد فشلت، إلا أن التحدي الذي طرحته مازال قائما. وأمام هذا الواقع فإن التمايز يمين / يسار يبرز اليوم بجلاء أكثر من السابق، الأمر الذي يدفع إلى القول بأن اليسار لم يستكمل طريقه وإنما ابتدأه للتو.








#محمد_كودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليمين / اليسار: في أواليات التصنيف التمايزي 4
- التمايز يمين / يسار : أية حمولة سوسيوجية؟
- التمايز يمين / يسار : بحث في نظام التسمية2
- 1 اليمين/ اليسار: مقاربة نظرية لشروط النشأة وآليات التصنيف ا ...


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد كودي - 5اليمين / اليسار / الوسط: في إقرار حدود التمفصل السياسي