أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافي مصالحه - مواعيد البُكاء المُرّ















المزيد.....

مواعيد البُكاء المُرّ


رافي مصالحه

الحوار المتمدن-العدد: 4683 - 2015 / 1 / 6 - 09:25
المحور: الادب والفن
    


مواعيد البُكاء المُرّ -- بقلم : رافي مصالحه

وَصَلتْ قبل الموعد المنشودِ بساعةٍ.

لم تثنها عن الوُصول كلّ تلك الوعود التي حنثَ بها في الماضي, وفي كل مرةٍ كان يتفنن في صياغة المبرّرات والحُجَج. لكنّها وصلت بدافعٍ غير مُبرّرٍ بتلقائيةٍ شبهِ آليّةٍ كأنها مسلوبة الإرادة.

بعد ساعةٍ أخرى من المكوث بنفس الطاولة التي شهدت لحظات الأمل والخيبة، في ذاتِ الرّكن النائي من المقهى الذي أضاء نورُه المُحتضر ناصية الزّقاق المُعتم في الحيّ الذي تنكرت له المدينة الغارقة بالظلمة البائسة, كان فنجان قهوتها بارداً كليلها, مرّاً كتعاستها. وبينما ارتحلت مخيلتها بين كلّ المواعيد المبتورة التي بثّها ثمّ سارع لقتلها قبل أن ترى النّور, أيقظتها نغمة هاتفها المحمول من هواجسها لتعلن قدوم الرسالة النصية: "حبيبتي. لن آتي للأسف. شغلني أمر طارئ. لكنّي أحبك !".

عجباً لهذا الحبّ الذي نختصرُه في رسالةٍ نصيّةٍ نخطها في لحظةٍ ونمحوها في لحظةٍ فتحوّل ذلك الشعورَ الرّاقي الذي لطالما تغنّى به الفلاسفة والشعراء على مدى العصور إلى مجرّد تطبيقٍ في شاشة الجوّال محا هيبة الشوق ودفء العاطفة وحرقة اللهفة. في سالف الدّهر كان المحبّ يتمرّغ (باكياً) بالتراب الذي علا رسماً دارساً لمضارِب حمى حبيبته, يُنشد الشعر بحضرة خليليه إما محموماً وإما ثملاً حتى يفارق الحياة أو يفقد عقله. وكان الحبّ أنقى وأطيب يوم كان ساعي البريد يَحملُ رسائل العشقِ فيُحيي قلوباً ويُفني أخرى بورقةٍ يدفعها بين أيدي أناسٍ قد أعياهُم الإنتظار وبثّ الأمل في نفوسهم نزراً من الحياة, وقد يموت الحبيبان وتعيش الورقة بعدهما دهراً لتروي سيرة ملحمةٍ غراميةٍ أخرى في صفحات الزمن. ولا عجب أن يصيرَ حالُ الحبّ في مساق التحضّر وركب التمدّن الذي يهوي بنا نحو هوّة الضّمور الإنسانيّ, إلى أن يُباع أقراصاً في الصيدليات أو معلباً مع تاريخ نفاذ الصّلاحية, أو مجمداً في البقالات.

ما أشبه الوقوع في شرك الحب بالمَخاض !. كيف يمكن أن ننسى تلك اللحظات الأولى التي يرافقها الارتباك والتعرّق والنبض الذي يكادُ الكون يضجّ بإيقاعه المتسارع عند ميلاد حبّ جديد ؟. إن ذاكرة الرعشة الأولى عندما يداهمك الوَله الأوّل قد تدوم كالوشم, وقد تتلاشى كتلك القلاع التي لطالما بنيناها على رمل الشطآن فسرعان ما هوت أمام أوّل موجة. ثمّة لحظات من الفرح يتوقف عندها الزمن فيكف القلبُ عن الخفقان هنيهة, حينما تفرضُ الأقدار لقاء الصّدفة المعفيّة من ضريبة الإنتظار ومرارة الخذلان, والتي توقد شرارة نارٍ مُستعرةٍ من الشوق واللهفة الى الرؤى, قد أحسن "اليوت" وصفها في قصيدته العابقة بالشاعرية "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك", وثمة أزمنة للحزن الذي ينبع من متاهات العدم وينضَحُ من عُمق أوراق الرّسائل المهترئة التي دكن لونها وبهتت حروفها وتاهت سطورها بين الألم والوحشه, بعدما دُفنت في أدراج منسيّة.

أما هي, فمنذ باغتها بحضوره الطارئ, صادر منها كيانها, فكان كأنه يخطّ ببنانِهِ قدرها, فما فتئت تجتاحها الذكرى التي تكمن في الفجر المبكر من ساعات شوقها المتأجج كالحمم بصدرها, فتضرمُ الشوقَ في لياليها, وتوقظ الحنين المستعرَ في خبايا ذاتها ثم تولي الأدبار راحلةً نحو العتمة لتتركها فريسة للترقب المرهق كعشيقة الملاح التائه في اللّجج البعيدة, التي تَعلّقَ ناظراها بالأفق السحيق, تحيكُ له وشاحا من نسيجِ جراحها وقد أعياها أرق الليالي لفرط ما ترقبت اللقاء الذي لم يكتب له أن يتم أبدا. هل هناك ما هو مرهق كشغف الموعد الذي قد يمر محاذيا لقلبٍ تخدشه الشجون, يَعبرُ كالغريب, دون أن يلتفتَ حتى ؟!!.

وحده الليل يُدركُ كم أجهزت عليها الوحدة، وكم بكت وكم انتحرت آمالها على مشنقة الإنتظار في جوف العتمة وعيناها اللتان خانهما الكرى تحجرتا وهما مقيدتان إلى شاشة الجوال بانتظار مكالمةٍ لم تأتِ أبدا.

لا زمن يُتاح للحب كساعات الليل, وأروع ما فيه سكونه الذي يضج بعذوبة لحن التوق الى التلاقي, وتجتاحك حينها نوبات من العبثيّة وتتسرب إلى نفسك في خضم هذا السكون تعاسة غيرُ قابلةٍ للتفسير, ولا تجد في هذا الشأن ما هو أصحّ من مقولة الشاعر "جون كيتس" : "قد تكون الألحان المسموعة عذبة، لكن الأعذب هي تلك غير المسموعة".

لا مبالغة إذن, إزاء كل ما يفعله الليل بالعاشقين, فيما تغنى به "بوشكين":

"صوتي الذي يضفي عليه الحب

رقة وشوقاً

يزعج سكينة الليل الحالم..

في حين تحترق شمعة ناحلة شاحبة

قرب سريري فتذيب نفسها.. "

تُرى, ماذا عرفتْ عنه ؟. ان الرّغبة الجامحة في كشف الغموض الذي يكتنف شخص الطرف الذي يهمس في الطرف الآخر من الهاتف هي سرّ حياة هذه العلاقة. وكلما تمّ التعارفُ والتقاربُ حتى تهاوت أوراقُ التينِ كاشفةً عن عُريّ كل ما تاق اليه فضولها حتى يفتر الشوق ويبرد الحنين. انها علاقة تشبه التمثال الثلجي يحيا في العتمة ويتلاشى سريعاً أمام نور الشمس.

وفي محادثاته كان يحرصُ على اقتضاب جُملِهِ كي يُغرقها بالتساؤلات ويتلاعبُ بوعيها بغموضِهِ الآسرِ الذي أصابها أحيانا بدوارٍ أدمنت لذته, وأحيانا أخرى ارتقى بها إلى أمكنةٍ عالية كما تتسامى روحُ صوفيّ عابد الى قممٍ شاهقة من عدم الوعي.

اجتهدت كثيرا أن تمحوَه من ذاكرتها المُرهَقة، لكنّ ملامحه كانت تفرضُ نفسها عنوةً أمام ناظريها. من الناس من يمرّ في حياتنا كلوحةٍ فنية جميلة تقطن وجداننا, فيظل الذهن يذكرأولئك لسنوات. وآخرين هم بدون أبعاد ولا ظِلال, لا تشعر بمغادرتهم ولا يبقى منهم غير ذلك الوميض الذي يخبو بلمح البصر.

وما أن يستسلمَ جفناها للسّباتِ ويزورها طيفهُ في ذروة الحُلم حتّى تهمّ بأن تدنو منه قاب همستين أو أدنى كي تخاطبه فتتبعثر الكلمات في حنجرتها في ذهولٍ شاردٍ وتصحو مذعورة ليرسو شراعُ لهفتها على ساحل اليأس, وتنسلّ الآمال مرتحلة من أبوابٍ شبه مفتوحةٍ, وخلف جُدْران السكون قلوبٌ كسيرة تتمايل على أنغام العويلِ المتوسّل المُنبعث في ظلمة الليل كتراتيل الصلوات. بعد كل فصول هذه المأساة, أعلنت انتماءها للصّباحات المشبعة بالشجن وصارت تخشى من هاجس النهايات المتربّص في مدامع النساء اللواتي انفطرن حبّاً وجزعاً من غوايات الإرتحال الأبديّ سعياً وراء طيفِ فرحٍ يتخفّى خلف متاريس الأوهام, وتناسل نحيبهنّ خلف نوافذ تطلّ على شوارع نصف مهجورة...



#رافي_مصالحه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رافي مصالحه - مواعيد البُكاء المُرّ