جورج بشنار خالق -فويتسك-

غوث زرقي

الحوار المتمدن-العدد: 4658 - 2014 / 12 / 10 - 21:30
المحور: الادب والفن
    

1- بشنار (1813-1837)

أ – تقديم:

للأدب الألماني مكانته الخاصة في الأدب الأوروبي والعالمي وقد أثر في عدة فنون لعل من أبرزها الفن المسرحي الذي شهد من خلاله النص الدرامي عدة تجارب أثرت مدونة النصوص المسرحية العالمية وتمتد هذه التجارب تقريبا من غوته Goethe وشيلر Schiller وصولا للقرن العشرين مع برشت Brecht وهاينر مولر Heiner Müller ولعل جورج بشنار يمثل همزة الوصل بين هؤلاء الأعلام وبين فترتيهما أي أواخر القرن الثامن عشر والقرن العشرين ويمكن أن يكون الجسر الرابط بينهما وملهما لتجربة الكتابة في المسرح المعاصر أيضا ولذلك سنسلط الضوء على العصر الذي كتب فيه نصوصه الدرامية ونقدم لمحة عن سيرته التي امتدت لعقدين وأربعة سنوات فقط خلق فيها بشنار أعمالا فنية جديرة بالدراسة والاهتمام.
فما هي أعماله الفنية، وما هي الظروف السياسية والاجتماعية التي كتب فيها ؟ وأين تتموقع كتاباته في الأدب الألماني والعالمي عموما، وما مدى تأثير عصره في أعماله؟
ب- حياته:

ولد جورج بشنار في 17أكتوبر 1813 في دارمشتات (مقاطعة هيسن في ألمانيا) وهو الابن البكر لكارولين روس Caroline Reuss وارنست بشنار Ernst Büchner وكان أبوه طبيبا ريفيا عمل فترة في حرس نابليون. عرف بشنار بميله إلى الفيزياء والرياضة وفي نوفمبر 1831 درس الطب في جامعة سترازبورغ وأصبح ينشط مع مجموعات من الجمهوريين ويتبنى فكرهم وطرحهم السياسي وفي سترازبورغ سكن عند قس بروتستنتي يدعى يوهان جاكوب جاغلي وتعرف على خطيبته ابنة هذا القس ليكتب عنها رسائل من أجمل ما عرف الأدب الألماني. وفي1833 استقر في مدينة جيسن لينهي دراسته في الطب في جامعة جيسن وفي نفس هذه السنة شارك بشنار في الاحتجاجات السياسية التي أقيمت ضد حكم بوليسي متعنت جعله يعاني أول أزمات حياته ويشارك مشاركة ايجابية في الثورة فيؤلف بيانا اجتماعيا ثوريا سماه "رسول هسن" في مارس سنة 1834 ويساعده أستاذ اللاهوت "فيدج" على طبعه في مكتبته السرية وتوزيعه بمعرفة أصدقائه واعتبرت السلطات حيازة المنشور خيانة عظمى، فيسرع بشنار إلى فرانكفورت ليحذر رفاقه من تفطن السلطات لهم وهكذا ضاعت دعوة البيان وأحلامه بالثورة وصودر البيان قبل أن يصل إلى الأيدي وقُمعت الحركة الثورية واستيقظت روح الفنان في نفس بشنار الذي فرّ إلى بيت أبويه في شتاء 1834/1835 هربا من القبض عليه حيث كتب هناك في شهري جانفي وفيفري مسرحيته الوحيدة التي أتمها قبل موته وهي "موت دانتون" ثم هرب في فيفري سنة 1835 إلى سترازبورغ قبل صدور الأمر بالقبض عليه بقليل ويواصل دراسة الطب هناك وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة "عن الجهاز العظمي للأسماك" ويتابع الكتابة فيؤلف مسرحيته "ليونس ولينا" سنة 1836 ومن ثم مسرحيته "فويتسك" سنة 1837 إلاّ أنه لم ينهها، فتوفي في 19 فيفري 1837 وهو لم يناهز سن الرابع والعشرين.
ج- عصره: ألمانيا الفتاة 1830- 1850:

تندرج الفترة التي كتب فيها بشنار كتاباته في فترة زمنية أُطلق عليها اسم عصر ألمانيا الفتاة وهي تمتد من1830 إلي 1850 حيث اشترك مع عدة أدباء في هذا العصر في سمة واحدة هي نقدهم الحاد للأوضاع الاجتماعية والسياسية في ألمانيا ورغبتهم في الإصلاح ويطلق على هذا العصر أيضا اسم العصر الأدبي لفترة ما قبل مارس ، فبعد أحداث سياسية عقد عليها الكثيرون الآمال في أن تأتي بمزيد من الحرية والديمقراطية جاء عصر الانتكاسة الرجعية الذي أعاد القوى القديمة إلى الحكم مما جعل الكثيرين وخاصة الشباب منهم يشعرون بخيبة الأمل. كانت الثورة الفرنسية في عام 1830 قد أتاحت للطبقة البورجوازية في غرب أوروبا الفرصة في المشاركة في الحياة السياسية وفي تأثير أكبر في مجرى السياسة وتزايد اهتمام الشعب بالسياسة حتى في ألمانيا واهتم أدباء حركة ألمانيا الفتاة بالهجوم على الرقابة والكفاح بالكلمة المكتوبة ولم يخفوا إعجابهم ونقدهم لما حدث من أحداث في الثورة الفرنسية وهذا ما جعل بشنار وعدة كتاب آخرين يختلفون بشكل واضح عن معاصريهم من الأدباء الذين لم يهتموا بالقضايا السياسية في أعمالهم مثل أدباء البيدرماير وكتب أدباء ألمانيا الفتاة المنشورات والنداءات وتوجهوا مباشرة إلى الجمهور أي أنهم كانوا يعتقدون في الطابع الوظيفي للأدب، فقد آمنوا عكس أدباء البيدرماير بإمكان تربية الإنسان ليصبح كائنا أفضل.

2- التاريخ بين المؤرخ و(الفنان) الكاتب المسرحي

يعتبر التاريخ مادة مشتركة يشتغل عليها الفنان والمؤرخ ولئن كان التاريخ نقطة اشتراك بينهما إلا أنه يدعو إلي عدة أسئلة ونعتقد أنها أسئلة هامة وجب على الباحث أن يخوض فيها ويكشف لبسها ولأننا نشتغل علي تقنيات الكتابة عند جورج بشنار- ومسرحية موت دانتون تعتبر من أهم كتابته التي تنطلق من مرحلة تاريخية مرّت بها الثورة الفرنسية- ارتأينا أنه من الضروري أن نسلط الضوء على التاريخ بين الكاتب المسرحي والمؤرخ لنتبين بذلك الاختلاف القائم في طريقة استخدامه. فهل يكتب الكاتب المسرحي نصا فنيا أم تاريخا؟ وإذا كتب نصا فنيا فكيف سيكون موقفه من التاريخ؟ وإذا كتب تاريخا فهل يكتسب الثقافة التاريخية والمنهج التاريخي لتسجيل أحداث المجتمع؟
سننطلق في إجابتنا عن هذه الأسئلة بالإشارة إلى الخلط بين الشخص والشخصية وضرورة التفريق بينهما حتّى يتسنى لنا تبين نقطة الاختلاف الأولى بين المؤرخ والكاتب المسرحي. إن الشخص من ضمن ما يعنيه التعبير عن "قيمة حية عاقلة ناطقة" . أما الشخصية "وهي كائن من ابتكار الخيال يكون له دور فعال ما في كل الأنواع الأدبية والفنية التي تقوم علي المحاكاة مثل اللوحة والرواية والمسرح والفيلم السينمائي.." . الشخصية (Personnage) هي تمثيل وإبراز وعكس وإظهار لطبيعة القيمة الحية العاقلة الناطقة أي الشخص ((Personne ولتوضيح ذلك سنعتمد علي مثال يبسط لنا الفرق الشاسع بين الشخص والشخصية وأيضا الفرق بين المؤرخ والكاتب المسرحي في اشتغالهما علي مادة التاريخ.
لقد اعتمد "ألبير كامي" في كتابته لمسرحية "كاليقولا" على المؤرخ "سويتون" في كتابه "حياة أثني عشر قيصرا". يقول سويتون : "كان كاليقولا مصابا بالصرع منذ طفولته وكان يقف كثيرا أمام المرآة ليجرب في قسمات وملامح وجهه كل ما يثير الفزع والرعب. ولم يكن كاليقولا متمتعا بصحة طيبة جسميا وعقليا.." . لقد انطلق "ألبير كامي" من معلومات تاريخية دقيقة عن "كاليقولا" (الشخص) عبر كتاب المؤرخ "سويتون" ليستمد منها مجموعة رموز لشخصيات وأحداث واقعية حوّلها إلى بنية درامية ثم أضفى عليها ما يمكن أن يحقق مشهدا جدليا يسعي فيه العقل إلى تجاوز المحدود، وينطبق هذا المثال علي مسرحية موت دانتون لجورج بشنار الذي سلط فيها الضوء علي مرحلة تاريخية هامة من الثورة الفرنسية وهو عهد الإرهاب الذي يمتد منذ انتخاب روبسبيار عضوا في الهيئة التنفيذية العليا ولجنة السلامة العامة سنة 1793 ومشاركته في إعدام الملك لويس السادس عشر وعائلته وصولا إلي 27جويلية 1794 حيث تم إعدامه أي روبسبيار نفسه وأتباعه بعد أحداث التيرميدور. ومن خلال هذه الفترة الزمنية، ركز جورج بشنار على فترة محددة وهي تقريبا من 3أفريل إلي 6 أفريل 1794 أي الفترة التي تمت فيها محاكمة جورج دانتون وإعدامه وهي الفترة التي تدور فيها أحداث المسرحية التي كتبها بشنار سنة 1835 والتي تدور أحداثها بصراع ألمع الثوار الفرنسيين بين الجمعية الوطنية بقيادة دانتون ولجنة الإصلاح بقيادة روبسبيار ليعالج الكاتب فنيا مرحلة هامة من تاريخ الثورة الفرنسية نتطرق خلالها لصراع عدة ثنائيات:
- الأفكار/ الأهواء
- الحب/ الكراهية
- السلم/ الحرب
- التفاؤل/ التشاؤم
- الصمود/ الاستسلام
- المقاومة/ الخضوع
- الارستقراطية/ المهمشين
تناقض وتضاد يغمر المسرحية جعل منه بشنار مناخ نصه ومكنه من خلق شخصيات درامية متحركة بأفعالها لترسم لها مشاريع وبرامج وتتفاعل فيما بينها لتنسج شبكة علاقات تولدت من خلالها التحالفات والصراعات الكامنة في النص المسرحي وسخرّ بشنار لشخصياته مخيلته وهواجسه وخلفياته.. "فالشخصية تسخر لإنجاز الحدث الذي وكل الكاتب إليها إنجازه. وهي تخضع في ذلك لصرامة الكاتب وتقنيات إجراءاته، وتصوراته وإيديولوجيته : أي فلسفته في الحياة." . يبدو لنا جليا أن بشنار لو لم يكن له ثقافة تاريخية أو بالأحرى لو لم يتمكن بشنار من تاريخ الثورة الفرنسية وإطلاعه على أهم رموزها لما استطاع أن يكتب مسرحية موت دانتون إذ أن درايته بتاريخ هذه الثورة وتمكنه من معرفة جزئيات وتفاصيل مرحلة منها مكنه من كتابة مسرحيته فيتبين لنا أن بشنار يملك ثقافة تاريخية ومنهج تاريخي يسجل به أحداث المجتمع حتى لو كان هذا المجتمع غير مجتمعه فبشنار يرى أن التعرف على الثورة الفرنسية ليست حكرا على الفرنسيين فقط فلأفكارها ولأحداثها القدرة علي التحليق في سماء موطنه ألمانيا أيضا ولما لا أن تقرأ في جميع أصقاع العالم حتّى يتمكن القارئ من الإطلاع علي مرحلة من الثورة الفرنسية بمعالجة فنية يقدم فيها الكاتب المسارات المختلفة التي تم إتباعها في مرحلة من الثورة الفرنسية ويُمكن القارئ التفاعل مع المسار الذي يحبذه، إن التاريخ هنا هو منبع يستلهم منه الكاتب أعماله وهو أيضا أداة تحليل للواقع ومنه يقدم الفنان رؤيته للعالم. "إنّ الفن الفعال الذي تمتد جذوره في الواقع التاريخي والاجتماعي هو الذي يعمل جاهدا على فهم الواقع وممارسته وتعديله" .
إنّ التعمق في تقنيات الكتابة عند جورج بشنار يساعدنا على تبين جملة من الخلفيات والأفكار التي تدفعه للكتابة وجب علينا حينها رصدها واستنطاقها. فما هي هذه الأفكار والخلفيات والايدولوجيا التي تحرك بشنار للكتابة؟
3- دوافع بشنار للكتابة المسرحية: الخلفيات والأفكار والايدولوجيا:
عند كتابة نص مسرحي توجد جملة من الأفكار والخلفيات ورؤى للعالم تدفع الكاتب لاختيار مواضيع وتيمات محددة ينطلق منها في كتابته لنصه ويتبين لنا ذلك في نصوص جورج بشنار، ففي مسرحية فويتسك تتطرق الكاتب لعلاقة الجندي باللذين يفوقونه مرتبة في المؤسسة العسكرية ومن خلال هذه العلاقة العمودية تتولد مآسي الجندي فويتسك وكأننا ببشنار حينها يعريّ المؤسسة العسكرية ليكشف لنا سخطه على الضباط الذين يستغلون مناصبهم العليا في تحقيق مآربهم وحتى شهواتهم الجنسية على حساب الجنود. واختيار بشنار للثورة الفرنسية كإطار كتب فيه مسرحية موت دانتون ليس اختيار اعتباطي أو عشوائي فالتطرق للثورة كتيمة مسرحية هو بالتالي كشف الكاتب لهواجسه وأفكاره فالمجتمعات الأوروبية عانت طويلا من الأنظمة المستبدة التي صنعت التفاوت الطبقي وانتهكت حقوق الإنسان واختزلت الثروات عند طبقة اجتماعية (الملوك، النبلاء، الطبقة الارستقراطية ورجال الدين..) دون غيرها من الطبقات الأخرى فتمثلت الثورة الفرنسية مصدر إلهاما للفنان حتّى يبدي رؤيته للعالم ويعالج واقعه بطريقة فنية مبنية على تطلعاته وأحلامه وآلامه، هكذا يتطلع بشنار للثورة الفرنسية في مسرحية موت دانتون كفكر وموقف لا يشمل المجتمع الفرنسي فقط بل شامل وعام لكل المجتمعات. ومن هنا تتضح لنا "العالمية" في كتابات جورج بشنار وتحديدا في مسرحية موت دانتون. فما هي العالمية؟ وكيف تتشكل ملامحها في كتاباته؟


4- العالمية في كتابات بشنار

تتضح لنا العالمية في كتابات بشنار في مسرحية موت دانتون من خلال تناوله لموضوع من مواضيع الواقع ونقله من المجتمع الفرنسي إلى ألمانيا حتى يتسنى للقارئ الألماني ومن ثمّ القارئ في بلاد أخرى الإطلاع على أحداث مرحلة هامة من الثورة الفرنسية بمعالجة فنية. وتتضح لنا العالمية في كتابات بشنار بنقله لموضوع من مواضيع الواقع من الخاص إلى العام وهذا ما ركز عليه مواطنه "يوهان فولفغانغ فون غوته" "ففي القرن التاسع عشر انطلق الألماني غوته من ذلك الترادف بين العالمي والجوهري، فقال إن تناول الشعر لموضوع من موضوعات الواقع يقتضي نقل ذلك الموضوع من الخاص إلى العام أو العالمي.." . فغوته مضى إلي مفهوم العالمية ليوظفه بمعني جغرافي/ ثقافي يشير إلي دول أوروبا وكان هذا التحديد الجغرافي والثقافي أساسيا في مفهوم "الأدب العالمي" الذي توصل إليه. فنستنتج حينها، أن طبيعة الشعر أو أيّ عمل فنّي (لوحة، منحوتة أو نص مسرحي..) عند تناولها لموضوع من موضوعات الواقع تتطلب العالمية أو بعدها الكوني. وقد كان بشنار وفيّا للعالمية حيث اتضحت معالمها بامتياز في نص مسرحية موت دانتون التي تناول من أحداثها كاتب ألماني موضوع مسرحيته، فأخرج بذلك تلك المرحلة التاريخية من الثورة الفرنسية من دائرتها الضيقة التي تهم المجتمع الفرنسي إلى مجال شاسع تتخذ منه هذه الأحداث بعدا كونيّا "فالعالمية هي حالة من الانتشار والأهمية يكتسبها الأدب والنتاج الثقافي بشكل عام حين يخرج عن حدوده الإقليمية أو الوطنية (المحلية) ويصبح معروفا أو مقروءا في مناطق أخرى من العالم.." . يبدو أن العالمية نابعة عن أفكار بشنار وخلفياته السياسية والثقافية، فلو نقترب من هذه الأفكار والخلفيات لنتعرف عليها أكثر ونرصد مدي أهميتها في كتابات بشنار.
5- الأفكار والخلفيات السياسية والثقافية المؤثرة في كتابات جورج بشنار:

تعتبر الأفكار والخلفيات السياسية والثقافية من الدوافع الأساسية للكتاب المسرحيين، فتختلف من كاتب إلى آخر عبر تطلعاته ورؤيته للعالم ونلتمس هذه الأفكار والخلفيات عند بشنار من خلال ثلاثيته المسرحية موت دانتون، فويــتسك وليونس ولينا. لقد كان بشنار منحازا للجائعين من العمال والفلاحين وكان يسعى جاهدا للتقرب منهم حتّى يدرك ألامهم وهواجسهم ويبلغ صوتهم وقد رفع شعار:"جوع البطون يطرد المثل العليا من الدماغ" ليبين أن نوعية الصراع في وطنه هو صراع طبقي بامتياز يخلو من المثل العليا ويتضح لنا ذلك في اللوحة الأولى من مسرحية "فويـتســك":

- "الضابط: أنت بلا أخلاق يا فويتسك.. فقير بلا أخلاق، إلى متى ستظل على هذا الحال؟
- فويتسك: نحن المساكين يا سيدي لا نملك المال. فبماذا ستنفعنا الأخلاق في هذه الدنيا؟ أمثالنا أشقياء في الدنيا والآخرة. ولو أنّ أبواب السماء فُُتحت لنا لكان علينا أن نشتغل عند الله في قصف الرعود.!" .

ففي مسرحية فويتـــسك كثف بشنار من الصور الدرامية التي تعلن عن انتصار المادية على المثالية فنجد في نفس اللوحة ، فويتسك يجيب الضابط بعد أن ألح عليه هذا الأخير بأن يكون فاضلا "الفضيلة لم أذق طعمها بعد.. إن عامة الناس من أمثالنا لا يعرفون ما هي الفضيلة فالطبيعة هي التي تتحكم فيهم. لو كنت سيدا وأضع على رأسي قبعة وفي يدي ساعة وسلسلة وأستطيع التحدث بلباقة لاشتهيت أن أكون فاضلا. لابدّ أن الفضيلة شيء جميل يا سيدي الضابط! ولكنني فتى مسكين" ـ فنلاحظ أن بشنار قد عمد عبر شخصية فويتسك أن يسخر من المثل العليا (الأخلاق والفضيلة) وبأنها تنتفي عند حضور الفقر والحرمان. فهو يناهض مثالية الشاعر شيلر . لقد كثف بشنار من الضغط المادي على شخصياته وهذا ما يعكس خلفياته السياسية الوفيّة للطبقات المسحوقة. لقد شارك بشنار في تمرد المثقفين دون أن يخفي سخطه عليهم وارتيابه فيهم ذلك أنه لم يؤمن بثورة تأتي من أعلى وبترديد شعارات الحرية بينما الشعب محروم من حقوقه الأوليّة رازح تحت نير الجوع والظلم والوحشيّة وكان لابدّ في رأيه أن يرفع الحرمان المادي والظلم الاجتماعي عن الشعب قبل التفكير في حقوقه السياسية وهاهو ذا يعبر عن ذلك في بيانه الثوري "رسول ريفي من هسن" فيقول :"إن الضغط المادي الذي ينوء به جزء كبير من الشعب الألماني يبعث على السخط والحزن مثله مثل الضغط الروحي. وليس من المؤلم في نظري أن لا يسمح لهذا المثقف أو ذاك بالتعبير عن أفكاره بقدر ما يؤلم حقا أن نجد ألاف العائلات لا تملك أن تسوي خبزها" .
- ملاحظات واستنتاجات
نلاحظ بأنّ لبشنار أفكارا وخلفيات سياسية وثقافية واضحة كان لها تأثير شديد على أعماله، فعبر شخصياته ينقل لنا بشنار أفكاره وهواجسه ونلاحظ عكسه لصراعات مجتمعه في الصراعات الكامنة في مسرحياته ونتحسس في كتاباته في مابين الأسطر موقفه من الوضع السياسي والاجتماعي، فشخصية فويتسك هي صوت بشنار المناهض لأوضاع بلاده حينها فهو وغيره في تلك الفترة من أدباء ألمانيا الفتاة هاجموا بشراسة الرقابة وكافحوا بالكلمة المكتوبة ولم يخفوا إعجابهم ونقدهم لما حدث في الثورة الفرنسية وهذا ما جعلهم مختلفين بشكل واضح للأدباء الآخرين الذين لم يهتموا بهذا الشكل من القضايا السياسية مثل أدباء البيدرماير . فبعودتنا لبيانه الثوري "رسول ريفي من هسن" نلاحظ مدى تأثير هذا البيان في كتابات بشنار المسرحية ويبدأ البيان بشعار "السلام على الأكواخ والحرب على القصور" ومن هذا الشعار نلاحظ أنّ مفهوم الصراع لدى بشنار هو صراع طبقي بامتياز. لقد انطلق بشنار من ضرورة التغييرات السياسية المفيدة للشعب والتي لا يمكن أن يقوم بها أحد غير الشعب وخاصة عن الشرائح المقهورة التي يمثلها شخصية فويتسك في مسرحية فويتسك. إن لهذا البيان الثوري المؤثر في كتاباته بعـــد تحريضي يحرض فيه بشنار الطبقة المستغلّة في منطقة هسن ويدعوها للاستفاقة والدفاع عن حقوقها المنتهكة فيقول لهم في بيانه: "اذهبوا مرة واحدة إلى دارمشتاند وانظروا كيف يستمع الأسياد هناك بأموالكم، ثم احكوا لنسائكم الجائعات وأطفالكمأن الخبز الذي كان مخصصا لهم قد ذهب إلى بطون أخرى.. ألمانيا هذا الوطن الحبيب، مزقه هؤلاء الأمراء.."
إن كتابات بشنار ليست مفرغة من الخلفيات السياسية التي سجلت حضورها لديه ونلاحظ اهتمامه الشديد في تطويعها في كتاباته لكنه لم يكتب هذه المسرحيات من أجل أهداف أيديولوجية فالأيديولوجية ليست سوى دافعا له تحثه على الكتابة فيستلهم منها أفكار ومواضيع يدرجها بمعالجة فنية في نصوصه المسرحية.
نستنتج أن بشنار له نظرة استشرافية فكتابته لمسرحيات فيها أبطال كفويتسك تصارع العالم المادي ولا تنادي بالمثل العليا وتنظيره في بيانه الاجتماعي الثوري "رسول ريفي من هسن" لنظريات عن طبقة العمال قد أثرّت فيما بعد في عدة أعمال فنية فلسفية ودراسات في علم الاجتماع والاقتصاد "..ولقد صوغ بشنار في هذا البيان نظريات عن طبقة العمال ستتطور فيما بعد عند ماركس وانقلز.."

#غوث_زرقي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات