أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الحامدي - - احزان سعيدة - رواية حول عمل ومعاناة النساء في االارياف التونسية















المزيد.....



- احزان سعيدة - رواية حول عمل ومعاناة النساء في االارياف التونسية


عادل الحامدي

الحوار المتمدن-العدد: 4658 - 2014 / 12 / 10 - 00:19
المحور: الادب والفن
    


رواية
1
تنهض سعيدة باكرا كعادتها كل صباح... تحدق بنظرات كليلة الى امامها حيث ترى فى الافق غبارا قادما على عجل يلوث صفاء الصباح ..تلقى يدا عجولة على ظهر ابنها تستنهضه من نوم يود لو يطول ثم تستند بيدها المعروقة المسودة الى الجدار المتاكل وباليد الاخرى تعالج صرة صغيرة بها قطع نقدية هى بقية حصيلة عمل اليوم المنقضى ...تدفع الى الطفل واحدة من تلك القطع وهى توصيه بالحذر عند ذهابه الى منزل اختها المقعدة المجاور حيث يستكمل نومه و ينتظر الى ان يحين موعد ذهابه الى المدرسة ..وبخطوات بطيئة متعرجة وبقامة نصف منحنية بسبب فتلة مزمنة تغادر البيت المتداعي وسلوى قد سبقتها الى الاستيقاظ والاستعداد لتنضمان الى قافلة من النساء سبقنها الى حيث ينتظرن وصول تلك الشاحنة بغبارها المتطاير لتبدا رحلة يوم جديد من المعاناة والانهاك.
................
2
بينما جسدها مستسلم لاهتزازات الشاحنة التي فرضتها تضاريس الطريق ويداها قد التفتا بشكل محكم على حافة مؤخرة الشاحنة لتحفظ توازنها .كانت سلوى قد استسلمت لاغراء الجلوس فوق الحافة والهواء الذي يثيره اندفاع الشاحنة يطير بشعرها ويدها ممتدة ممسكة بحديد المشبك الذي يحمى البلور الخلفي للشاحنة .. كانت الوحيدة من ضمن المجموعة التي ترفض بشكل قطعي ان تضع شيئا فوق راسها كلما انطلقت الى العمل مع البقية وكان سلوك سلوى هذا مجلبة لمواقف متباينة في صفوف النسوة اللواتي كن يرافقنها في الرحلة اليومية نحو الحقل ولاستياء رب العمل المحافظ جدا الذي اثناء تجواله بين العاملات بدا له ان سلوك سلوى قد يكون مجلبة فتنة لابناءه المارين طوال الوقت قرب العاملات ..فكان يتبادل الاحاديث مع الجميع باستثناء سلوى فهو كان يشيح براسه عنها ويزم فمه ويقرب ما بين حاجبيه قرفا..نادتها سعيدة منتهرة اياها :
- اقعدي على ارض الشاحنة واتركي الحافة
- لماذا ؟كان ذلك ردها على كل سؤال لا يروقها .
امتلا وجه سعيدة بالضيق ..فسلوى بنت اختها وتعد نفسها مسؤولة عنها في الصغيرة والكبيرة ..كانت تريدها محتشمة في انسجام مع ما يريده لها مجتمعها ولا تريدها ان تجلب لنفسها المشاكل بما يثيره في نفسها زهوها بجمالها ..وفي نفس الوقت لا تخفي فرحا داخليا و زهوا لرؤية ابنة اختها على هذا القدر من الجمال ..وغلبتها شماتة مفاجاة وهي نتظر الى سلوى وشعرها يطير مع الريح ..تذكرت نظرة حقودة متغطرسة لمحت عفيفة ابنه صاحبهم توجهها اليها وهي مكبة مع بقية العاملات على جمع صابة الفلفل.فعادت تقول بصوت واهن:
- سلوى بنية اختى انزلي عن الحافة فقد يختل توازنك وتقعي في الفوسي
فاستغرفت سلوى في الضحك وزيادة في اخافة خالتها ابقت يدا واحدة فقط ممسكة بالقضبان والاخرى انشئت تمررها على شعرها وتتخيل بنفس تملؤها التشفي رد فعل صاحب العمل الشديد التزمت وهو يشيح بعينيه فجاة عنها بعد ان حدجها بنظرة مظلمة ...لم تحتمل سعيدة ان تكون حادة مع سلوى اكثر من ذلك فهي تحبها وبينها وبين نفسها تعشق جمالها وشعرها الطويل المنسدل على كتفيها وقامتها الممشوقة ووجهها جميل التقاطيع ..وكم من مرة انفردت بها وهما في السانية وقد اعرضت عنها بقية العاملات كرها لجمالها وما اثاره فيهن من احساس بالنقص و تزلفا لصاحب العمل ونفاقا له وشرعت هامسة تحدثها عن افضل الطرق للمحافظة على ذلك الجمال ..واحسست بارتجاجة قوية وهي ترى الشاحنة تستدير نصف دورة لتدخل المعبد بعد ان قطعت شوطا من الرحلة وهي تسير في مسلك مترب ..الان يجب ان تكون صارمة اكثر مع سلوى فالطريق مكشوف وعشرات العربات تمر امامهم وخلفهم والنظرات الجائعة تلتهما فلم تعتم سعيدة ان مدت يدها وجذبت سلوى اليها وطوقتها بذراعها لكي لا تعاود محاولة الركوب على الحافة :
- ماذا كنت تصنعين يا سلوى يا روحي ؟ احسبت نفسك ذاهبة الى عرس ؟؟..
- الحق كلما ركبنا هذه الشاحنة احسب نفسي واتخيلها ذاهبة الى عرس فتلك طريقتي الوحيدة لاجتناب الاوجاع التي يثيرها في ادراكي الى اين نحن ذاهبون فعلا
- يا روحي يا بنية اختى .يا ناري على زينك ...ردت سعيدة هامسة
كانتا وهما تتكلمان تحاولان قدر المستطاع ان تبقيا صوتيها منخفضين فبقية المجموعة وان كانوا فعلا من الجيران الا ان ما بينهن من الصلات كان ضعيفا واهيا واثناء العمل في السانية قلما يتبادلن حديثا..كان فتور علاقات الجيرة وانقطاع الروابط بشكل كلي تقريبا ينعكس بصورة جلية على واقع علاقاتهن اثناء العمل ومستوى تضامنهن مع بعضهن كلما تعلق الامر بنقاش مع صاحبه حول اى اشكال يعترض سيره..فلم تكن تلحظ شيئا من التضامن الذي من المفروض ان يكون سائدا بين مجموعة من العاملات وحدهن هم مشترك وعناء واحد .بل ما كان يقع ان كل واحدة كانت تعمل على الايقاع بالاخرى لدى العرف بالادعاء بانها غير متفانية وغير مباليه ولا جدوى من الاعتماد عليها بعد اليوم ..كل ذلك لان كل واحدة كان لديها ابنه او قريبة او صديقة ترجتها ان تتوسط لدى صاحب السانية لعله يقبل تشغيلها معهن.ولم يكن العرف بالذي يرفض او يستنكف اللعب على وتر التناحر بينهن الذي ولده الاحتياج الضاري الذي ينهش حياة هؤلاء النسوة ويدفعهن الى القيام بما يستطعنه لدرءه عن حياتهن فكان يعد التي تجتهد اكثر في العمل وتعطي مردودا افضل من البقية ان ينتدب المراة التي حدثته عنها هامسة ووصفت له ما تعيشه من حياة ضنك وظروف لا ترحم ..ويعني الاجتهاد في العمل البقاء وقتا اطول ..الى حدود المغرب فبقاء الواحدة الى حدود ذلك الوقت يدل على حرص منها يثلج صدره ويزيح من راسه فكرة بغيضة يراها في وجوه العاملات كلما تجول بينهن مفادها انهن لا يعتبرن السانية باي شكل مجالا ينتمين اليه او يسترحن فيه .بل ساحة عناء متصل وشقاء لا ينتهي يتحرقن الى الخلاص منه وما ان تنتهي ساعات العمل حتى تراهن قد تتابعن سريعا متجهات الى الشاحنة التي ستقلهن عائدات الى بيوتهن ..كانت الواحدة تظل مكبة او منحنية على اعواد الفلفل الصلبة ورائحة الفلفل الحريفة تملا انفها وحرارته تحرق يديها العاريتين حتى تشعر بجسدها قد تحول الى ما يشبه الخشبة لفرط التصلب فلا تنجح في الاستقامة الا بعناء شديد ..اما الوجوه فسحناتها صارت مسودة متغضنة والارجل ملئتها الندوب الناجمة عن كثرة اصطدامها برؤوس الفلفل ذات الاطراف الحادة المدببة ومع كل هذا فان سلوى كانت لا تنفك تحاول الحفاظ على شئ من رقة يديها واشراق وجهها والحيلولة دون تجفافه و تحول لونه الى السواد بان تلف حوله عندما تشرع في العمل شالا لا يحجب شعرها الا جزئيا ويبقي اغلبه هابطا على وجهها او منسدلا خلف ظهرها ..وهكذا كان كل من يراها في ذلك الجوار يشعر بانها لم تكن تضع الشال استجابه لدواعي الاحتشام وامتثالا لمقتضياته كما تفهمه الاغلبية التي تفرض على الانثى ان لا تظهر من جسدها غير يديها وجزء من وجهها بما يكفي لتحقيق التواصل الضروري معها.هكذا قدر المنصف وهو يتجول بينهن ويلقي مواعظه دون ان ينتظر او يحسب حسابا لرد محتمل من احداهن فالكل كن يستمعن خاضعات مصادقات وبين الحين والحين كن يجلن نظرة نحو سلوى يملئها الغضب والحسد في ان فقالت سالمة في لحظة افلت فيها زمام نفسها من يدها :
- والله لو كانت لي عليك سلطة لربطتك الى تلك الكلتوسة واشبعتك جلدا وصلت كلمتها الى سعيدة فانتصبت بصعوبة وقالت دون ان ترفع صوتها مخافة ان يصل الى سمع المنصف:
- الحمد لله ان لا سلطة لك عليها ولا على نفسك حتى فهي دائما متغلبة عليك
سبحان الله... سالمة تقول هذا وتعني نفسها بهداية سلوى الضالة ..وهي لا تكاد يبين منها غير هيكل عظمي جففته السنون والشظف :
- انظري الى نفسك ..قالت سلوى ساخرة ان كان يتعين عليك ان تضعي حجابا ونقابا فوق راسك يداري ما لديك من فتنة ...وشرقت بالضحك
.....................
3
لم تكن سالمة بصاحبة فتنة قليلة او كثيرة ..كان جسدها معروقا يابسا ويداها كيدي ميتة ووجهها كالحا مسودا ومع ذلك ورغم كل هذه الشناعة كانت لا تكف عن ابداء هواجسها من ان تكون قد خالفت تعاليم الشرع واستجلبت على نفسها غضب الخالق فيما يتعلق بضرورة ستر الجسد كله وساندها في ذلك المنصف الذي كان يجد لذة لا توصف وهو ينتصب امرا ناهيا متكلما بما يمليه الشرع والاخلاق ودوافع اتقاء الفتنة وغواية الشيطان التي لا يكاد يفلت منها غير من كان قوي الايمان شديد التسليم بقضاء الله وقدره ..هكذا شدد المنصف على النقطة الاخيرة ..ان كل ما نعيشه وقسمة الارزاق بين البشر ما هي الا تقدير الهي حكيم لا قبل لنا بمناقشته فان تجد ان البعض قدر عليهم الحرمان فلحكمة في نفس الله تتجاوز قدرة البشر على الاستيعاب وعقولهم على الفهم ..ثم من انت ايها المخلوق محدود الادراك حتى تناقش مشيئة خالقك ؟؟ ..بينما النساء منغمسات في عذاب لا تبين له نهاية من الصباح الى ساعة الظهر كان المنصف لا يتوقف عن حثهن على زيادة البذل والاخلاص في العمل وتلاوة ما عليهن من ضرورات وواجبات لا نهاية لها ..كانت النساء تتابعنه شاخصات الابصار والايادي لا تكف عن قطف حبات الفلفل الحمراء الحارة ووما اكثر ما تهم احداهن بحك انفها الذي سريعا ما يلتهب بفعل الرائحة الحريفة للفلفل فتغلبها نوبة من العطاس تثير ضحك المنصف فيظل يضحك حتى تنتهي نوبتها ليقول لها :
- الله يرحمك.. فتشميت العاطس من اوكد الادلة على قوة الايمان فتجيب التي انفها استثار وهي لا تزال تعطس وانفها يسيل :
- يهدينا ويهديك ولدي... وبهذه الاجابة يحس كلاهما احساسا خداعا بانهما اكملا اقامة اركان الدين وارضيا الخالق .. وبين الفينة والفينة تجيب واحدة منهن بالمصادقة التامة على ما يقول جملة وتفصيلا في اشارة الى سالمة ومدى تقصيرها في الاستجابة لضوابط التعاليم الالهية ..اجل سالمة مقصرة وعليها ان تحتشم اكثر فعندما تمشي بين نبتات الفلفل يلاحظ احيانا كعبيها عاريين واذ تباعد ما بين خطواتها يرى شيئا من ساقيها الى ما فوق الكعب قليلا ..سلوى وهي تصغي الى هذا الكلام تشعر بالغثيان
- سيبونا نرتاحوا يرحم والديكم ..ماذا تريدون من المراة ان تفعل لكي لا تكون عنصر فتنة للذكور ؟؟
- اسكتي انت يا ق ...
فدمدمت سعيدة
- كفي عن اهانة ابنة اختي فهي لم تسئ اليك بشئ
- لم تسئ الي بشئ ؟؟؟اساءت الى خالقها ..
- كيف اساءت الى خالقها ؟؟
- امرها فعصت اوامره
- من قال لك تلك اوامر الله ..كتب في اللوح المحفوظ ان نصيب المراة ان تكون طول حياتها حبيسة سجن اسمه حجاب ونقاب
- اه اه اه قرقر المنصف ...عودوا الى العمل الان فقد اضعتم من الوقت الكثير ...وهكذا فعندما يتعلق الامر بمصلحته وضرورات العمل التي تكتسي بالنسبة له صبغة اكثر قداسة من اي امر اخر لا يعود يلقي بالا لشئ اخر ولوكان ارضاء خالقه باجبار سالمة على ارتداء سروال رجالي تحت جلبابها الذي كانت حليمة من اشد المتحمسين له ففي رايها المراة التي ترتدي جلبابا دون ان ترتدي تحته سروالا سميكا فضفاضا غليظا انما تبتغي الفتنة وتنتظرهبوب الريح لكي تظهر ما تحت الجلباب وينكشف ما تضمر
................. ...
4
نظرت سعيدة وهى تهتز وتتمايل عندما دلفت الشاحنة مجددا الى طريق مترب يؤدي بعد قليل الى السانية التي يعملون فيها ...نظرت الى ساق سلوى التي انحسر عنها جلبابها قليلا فهالها ما راته من بياض ونعومة وقدرت ان فتاة لها كل هذا الجمال والبهاء جديرة بحماية مضاعفة وان لا تغفل عنها لحظة ..فهؤلاء ابناء صاحب الحقل لا تكف نظراتهم حائمة حولها طوال اليوم رغم تذمراتهم المفتعلة التي تخفي رغبة جامحة وشبقا بالكاد يسيطرون عليه...اخيرا توقفت الشاحنة بجانب طريق مترب يؤدي الى اعماق الحقل وعلى اطرافه ماء منسكب من انبوب يوصل الماء الى الفلفل... كانت مساحة طويلة من الطريق الترابي المؤد ي الى الحقل موحلة بفعل الماء الذي ظل ينز طوال الليلة المنقضية من الانبوب ..وكان على النساء ان ينسللن على اطراف تلك المساحة الموحلة ويلجن الحقل متتابعات ثم يشرعن في رحلة طويلة فالحقل كان مترامي الاطراف الى ان يبلغن وسطه وهناك كل واحدة تربط شريطا من القماش حول وسطها تشد به عمودها الفقري او هكذا خيل اليها ليظل متماسكا اثناء انحناءاتها وانتصاب قامتها التي لا تنتهي عند عملية الجني التي ستستمر حتى الظهيرة...قالت سلوى وهي تمشى قرب سعيدة التي توشك ان تلتصق بها ..
- ظهرى اوشك ان ينقسم من كثرة الانحناء والانتصاب ...
- -انت جديدة يا سلوى في هذا العمل ..ولكن ماذا ستفعلين بشهائدك ؟؟ فهي لا تطعم خبزا ...خير لك ان تقومي بالجني وانت مقرفصة
- مقرفصة ..انني اجهل كيف افعل ذلك
- ساريك بعد قليل كيف تفعلين ذلك ..ولم يتح لها قدوم زوجة صاحب الحقل المجال للاسترسال في الكلام ...قدمت محيية مسلمة وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة عريضة وهي تسال عن الاحوال وتنتقل من موضوع الى اخر بسرعة قبل ان تعني بالاستماع الى اجابة على سؤال طرحته ...كانت كأنها توشك ان تلتهمهم وان تقول كل شئ في وقت واحد فلم تدع لاحدى العاملات فرصة ولا مساحة من الوقت لتقول كلمة ثم قالت:
- علينا ان ننتهي من عملية الجني اليوم فلم يبق اكثر من خمس جنب ..اذا توزعتن كل اثنتين يقمن بجني جنبة امكننا الانتهاء اليوم وسكتت قليلا ..ثم كانها خشيت ان تقول واحدة من العاملات شيئا فانها عادت تقول بصوت تغلب الحدة على نبرته :
- واحذرن ان تخلفن ورائكن عند الجني فجدور الفلفل كثيرة التشعبات..وعندما همت حليمة بان تقول شيئا سبقتها قائلة :
-لا ينقصكن شيئا ...التاي حاضر ..والفطور ياتي في وقته ..والرجال يتكفلون برفع الاكياس الى فوق الشاحنة ..ماذا غير هذا ..ومطت شفتيها علامة اقتناعها الكلي بسلامة تدابيرها واستعدادها لابداء الاستغراب من اي اعتراض محتمل قد تفوه به احدى النساء اللواتي امامها ...احقاقا للحق منصورة كانت لشد ما تكره النقاش في امور بينة وفي تقديرها الذي قلما يخطئ فكل ما تقوله هي بين لا لبس فيه فماذا بقي للبقية ليقلنه غير الكلام الزائد ؟؟؟
- وهل يجب ان نرفع الاكياس بانفسنا الى فوق الشاحنة لكي تقتنع هذه المراة الجهنمية باننا قمنا باكثر مما علينا ..تمتمت سلوى في اذن خالتها وهما سائرتان في اتجاه اعماق الحقل
.....................
5
..ولكن الجنبة كانت طويلة جدا وممتدة الى نهاية البصر لحد ان سلوى لم تستطع ان ترى لها نهاية ..واذهلها كيف ان اجسادا كاجساد هؤلاء النسوة على هذا النحول والضعف والهشاشة يمكنها ان تتحمل عناء يوم كامل من الجني وهن بين انحناء وانتصاب ونقل للاسطلة الى الاكياس ثم نقل الاكياس التى امتلات الى جانب الحقل حيث الشاحنة تنتظر ..ثم العودة مرة اخرى الى الانحناء والانتصاب والجنبة لا تزال طويلة ممتدة ...همست سعيدة في اذن سلوى :
- تعالي معي ..نتعاون على جنبة واحدة واريك كيف تعملين وانت مقرفصة وتتحركين مثل البطة ...ولكن سلوى بعد محاولات كثيرة فاشلة لكي تتاقلم مع مشية البطة عجزت عن المواصلة فهي لم تفتا تتعثر وتقع على وجهها كلما حاولت التقدم الى الامام وهي مقرفصة ..واخيرا انتصبت على قدميها واكبت مثل خالتها ..وهذه يا لهول ما رات ...شاهدت سطورا طويلة من الفلفل فات سلوى قليلة الخبرة ان تقطفها فظلت حبات الفلفل الاحمر عالقة بها فاضحة غفلة العاملة وتهاونها ...فعادت القهقرى ويدها ممسكة بالسطل التي قاربت الامتلاء الى النصف وهي تصطدم بجدور الفلفل السميكة الصلبة لكي تقطف ما سهت عنه سلوى ...هذه بدلا من مواصلة الجني وهي واقفة قعدت فجاة على الارض وهي تجيل نظرة متوسلة تجاه خالتها التي لم تعبأ بها للحين اذ يدها كانت منشغلة ونظراتها مركزة على حبات الفلفل التي فاتت سلوى ..وعندما اكملت تنظيف تلك المساحة وامتلا السطل اشارت الى سلوى ان تحمله وتفرغه في الكيس ..ولكن سلوى ظلت واجمة في مكانها لا تتحرك :
- خالتي....
- مابك يا سلوى ؟
- يا وحلتي ...
- تكلمي ..لقد افزعتني
- خالتي ...مغصو..رة
امتلا وجه سعيدة بالامتعاض ..وفي نفس الوقت بنظرات الحيرة ..واجالت نظرات حذرة متجهمة تجاه جمع الرجال الذين يقفون عند نهاية الخط الفاصل بين حقل الفلفل والارض المحروثة حديثا والمزروعة حبوبا وبينهما المسلك الفلاحي في نهايته المساحة الموحلة التي خلقها تسرب المياه من الانبوب منذ الصباح ..واعادت النظر الى سلوى مرة اخرى ..كانت تعابير وجه سلوى تفصح عن حاجتها الملحة ....فهي لا تكف عن التقلص وفكها الاعلى منطبقة بشدة على الاسفل كانها تمسك نفسها بمنتهى العناء ...الى اين تذهبين ؟؟ تساءلت سعيدة حائرة وقد دهمها الخطب ...واجالت النظر فيما حولها تبحث عن مكان تستتر فيه سلوى وهي تقضي حاجتها ..ولكن ذلك ليس كل شئ فاضافة الى مكان أمن لا تصله العيون هي بحاجة الى الماء وقليل من الصابون ..وهؤلاء الرجال غلاظ الاجسام والطباع لن يصدقوا لحظة ان فتاة عصرتها حاجتها الطبيعية تحتاج الى كل ذلك لتقضي غرضها في ظروف انسانية ..وكان القدر قيض لها الخلاص من ازمتها تلك لمحت سعيدة في الناحية الاخرى التي كان الرجال مستديرون اليها بظهورهم وعلى مسافة أمنة بعض الشئ أكمة مرتفعة تعلوها حشائش عالية ..وفي الحال اشارت الى سلوى ان تذهب سريعا في ذلك الاتجاه ..- كيفاش ...باش ...نمس..
- ماذا ..سالت سعيدة مقهورة ؟؟
- باش نمسح روحي
وكأن سعيدة اخذت على حين غرة ..فهي لم تحسب حسابا لذلك ..ومع ذلك يتعين عليها التصرف سريعا
- لا ادري وليس معنا ماء ولا يمكننا ان نجازف بطلبه لذلك الغرض ..استعملي حجرة ملقاة حتى نعود ..
- حجرة ؟؟سالت سلوى باشمئزاز
- لا حل غير ذلك ..اسرعي لكي لا ننفضح ...
كان الحديث الهامس بين الاثنتين قد استرعى التفات بقية النسوة اللواتي كن يجنين الفلفل غير بعيد عنهن ..
-ماذا بها هذه الغشيرة ؟سالت حليمة بصوت يغالبه الغل ...
- لا شئ ..ردت سعيدة ...تعبة قليلا
- تعبة ..لم تكد تجمع شيئا وسريعا ما اصابها التعب ..تجاهلت سعيدة ما في ذلك الكلام من تحامل فهي ادرى الناس بحقد حليمة التي لم ترزق بغير بنت شوهاء عرجاء دميمة الملامح ولا كان جديدا عليها كرهها لسلوى و بغضها لجمالها الذي كان يذكرها بدمامة ابنتها ..اشارت سعيدة الى سلوى بيدها ان تسرع فانطلقت هذه متعثرة لا تدري ما ستفعل بنفسها ولكنها عندما بلغت الاكمة تصرفت بأكثر الطرق حماقة وجهلا : قبل ان تنحني رفعت جلبابها التي تلبسه مكرهة الى اعلى وهي لم تكن مرتدية تحته سروالا رجاليا سميكا غليظا ساترا واذ رفعت ثوبها الى اعلى انكشف للرجال الذين استداروا جميعهم في لحظة واحدة كامل نصفها الاسفل ..للحظة واحدة كان ذلك النصف منكشفا امام اعين النساء اللاتي ندت عن اغلبهن شبه صرخة وخاصة حليمة التي اندفعت بخليط من التلذذ والتشفي :
- الله لا يخزينا ...هاوالرباية متاع القراية ...امتلا وحه سعيدة للحظة بخجل عارم ..ولكنها عندما لحظت نظرات الرجال الفاسقة وسمعت كلام حليمة المتحامل تصلبت تقاطيعه وغدا كتلة حجرية لا تحمل اي تعبير ...
- هذي الطفلة المتعلمة ..قال المنصف ساخرا لمن حوله وهو يظن ان كلماته لن تصل الى سعيدة ..كانت هذه كانه وخزها بابرة حادة
- تحسب ان ما اورثك ابوك يجيز لك ان تقذف ابنة اختي بما يحلو لك من الشتائم ؟؟ لا تخجل ..
- لا تخجل هي ؟؟
- كانت مغصورة ..ولم تدر اين تذهب في سانيتك المترامية الاطراف
- مغصورة ؟؟؟ه ها ها ها واستغرق في ضحكة طويلة شاركه فيها من حوله من الرجال الذين كانوا قد عاودوا الاستدارة الى الحهة الاخرى وبغتة شرع رضا يتلوى وهو يضع يده على بطنه ويصرخ :
- اح اح راني مغصور ...ها ها ها
..................
6
ادركت سعيدة ان لا مكان لها بعد كل ما قيل والاباري التي وخزتها اعجزتها عن ان تحتمل البقاء لحظة واحدة اخرى ..ابنة اختها لمجرد ان اعترضتها حاجة طبيعية لا تغلب قد غدت مضغة في افواه اولئك الاتقياء والتقيات اللواتي لا يكففن عن جلد ذواتهن وتاثيمها .ونظرات المنصف وابنه الذي اقعى بطريقة مثيرة للغيظ كانه يقلد قعدة سلوى وراء الاكمة ووجهيهما ممتلئان بتعابير الهزء السخيف والتفكير السطحي الذي لا يعرف التسامح الانساني ..سالت سعيدة نفسها ونظراتها ضائعة بين ابنه اختها العائدة خجلة من الاكمة والرجال الذين لا يكفون عن ارسال الضحكات والاشارات المليئة بالمعاني القبيحة ..ان كان المنصف هو المطالب بالتسامح ام نحن اللواتي لا نملك من حطام الدنيا شيئا غير اجساد هزيلة براها العمل اليومي الشاق المنهك ..وهو لا يكف عن السفسطة وكنز المال وادعاء الفقر بينما كل ما يقوم به يثبت العكس ويؤكد انه بصدد جني مرابيح طائلة جراء عناءهن المستديم ويزيد على هذا بادعاء ان كل ما نحن فيه وما هو فيه قسم ...
- يعطك سم ...تمتمت بين اسنانها ونظرت بحدة جنونية نحو ابنة اختها :
- لن نبقى هنا ساعة اخرى هيا بنا ...
- نترك العمل ..قالت سلوى بخليط من الحيرة والحبور فهي لم تتاقلم ابدا مع عمليتي الانحناء والانتصاب المتتابعتين ...
- الم تسمعي ما يقولون ؟؟
- يقولون ماذا ؟؟
امتلا وجه سعيدة بالحنق ..ودون ان ترد على سلوى جذبتها ومشت بها على طول احدى السواقي حتى وصلت الى نهاية الحقل وتقدمت الى المنصف
- يا سيد لن ابقى اكثر ..اعطني اجرتي واجرة ابنة اختي ..
- بدون نقاش .اجاب معك الف حق..ولكن تاكدي انك لن تجدي عملا مجددا قبل مدة طويلة فهذه السانية الوحيدة التي مازال فيها فلفل ..لم تعبا سعيدة باجابته المخاتلة ...كانت تدرك انه بوده لو بقيت تعمل فهي اكثر نشاطا من البقية ولكن ادراكها لجزء اخر من سبب رغبته الخفية في استبقاءها ملا نفسها غيضا ووجهها اسودادا ..فردت محنقة
- لا اريد ان اعمل مع اي منكم اعطني اجرتي ..كانت تعابير وجهها قد غدت في منتهى الشراسة ..فامتثل لها وادخل يده في جيبه ..ولكنه وهو ينقدها اجرتها لم ينس ان يخصم منها اكثر من النصف ولم ينقدها من اجرة سلوى اكثر من نصف النصف ..فسلوى ..قال وهو يجيل نحوها نظرة كريهة بما امتلات به من فجور وفمه مفتوح على اخره يفضح حقيقة بلاهته ..لم تكد تجني شيئا يذكر طوال الوقت ..كانها جاءت عروسة في كروسة ..وضحك ضحكة عربيدة ..لم تطق سعيدة الاستماع الى بقية كلامه فتناولت ما سلمها من مال وادارت وجهها في الحال متجهة الى الطريق حيث تنتظرها رحلة شاقة للعودة على الاقدام الى المنزل ...
.....................................
7 .
تنفست سعيدة الصعداء عندما لاح لها المنزل من بعيد ..كان مجرد بناء غير مكتمل في تجمع سكني فوضوي على اطراف المدينة لم يصله الماء وطرقاته مسالك ترابية محفرة وجدران البيوتات من الخارج يطغى عليها لون الاجر الاحمرمثلها في ذلك مثل جدرانها الداخلية التي لطخت بشكل اخرق بدهن على سطحها غير المستوي الملئ بالنتوءات ...دفعت سعيدة الباب المرتج الذي عادة ما يقفل بقطعة حديد في طرفيها فتحتين واحدة غليظة لا تمر من الثقب الممسك بها وفي الثانية ثبت قفل صدئ لا يفتح الا بعناء شديد....تلك الساعة كان القفل مفتوحا مما يدل على ان امين قد عاد من دراسته وولج البيت رغم تعليمات امه بالبقاء في دار خالته الى حين عودتها ..قبل ان تستفهم منه عن سبب عدم اطاعة كلامها القت بنفسها على الفراش البالي الممزق الذي كان اول ما صادفته فالمسافة التي قطعتها كانت طويلة انهكت قدميها وسلوى بجانبها تنهج لفرط التعب والحرارة التي كانت تلك الساعة في ذروتها ...بينما سعيدة قد اسلتقت لتريح جسدها ويدها على راسها كانت سلوى لا تكاد تحتمل نفسها وسارعت الى الفجوة التي تستخدمها خالتها مرحاضا- فحاله على كل حال افضل من مرحاضهم التعيس الذي لا ماء فيه وحوضه مجرد اناء مكسر حصل عليه كمال والدها من كدس فيراي - بعد ان سكبت من الاناء البلاستيكي في سطل صغير كمية من الماء وولجت في تلك الفجوة لتزيل عن جسدها اوضار تلك الاكمة .كانت تلك غير الساعة التي اعتاد امين ان يرى فيها امه عائدة من العمل فقلب في وجهها نظرة مستفهمة .وهي قبل ان تهتم بنظرته سالته فجاة :
- ما الذي جاء بك الى الدار وقد قلت لك ان تبقى عند خالتك الى حين عودتي ؟
- جاء عمي كمال سريعا ..
- ما دخل هذا في هذا ؟ هل طردك ؟؟
- لا كان حانقا فقط ..لم يعثر على عمل .ظل الى حدود التاسعة في المقهى ..
- هل طلب منك ان تعمل بدلا منه ؟ صمت امين حائرا ثم نطق متلجلجا :
- لقد اخافني غضبه ...وخشيت ثورته ..فعدت الى هنا ..سكتت سعيدة مفكرة ثم لانت تعابير وجهها وهي تتخيل وتتمثل احاسيس طفل يلفه كل ذلك البؤس المضني ويواجه ثورة رجل خاب امله في يومه فقالت برقة .:
- عمك كمال يحبك كما تعرف ولكنه احيانا يفقد اعصابه بسبب صعوبات المعيشة وغياب الشغل فلا مال بلا شغل وبلا مال لا معاش...
كانت وهي تقررهذه الحقائق المتعلقة بزوج شقيقتها كانها تقررحقائق متعلقة بواقعها هي بالذات ..فاليوم بعد ان انفصلت عن مشغلها حتى وان زعم لها ان اليوم هو اخر يوم عمل في جني الفلفل..فلن يكون من اليسير ان تعثر على عمل في احد الحقول الى غاية نهاية الربيع ..فعندها قد يكون هناك من الفلاحين من يحتاج خدماتها لتحمير فلفل السنة القادمة او لزرع شتلات البطيخ او حتى لحصاد كمية من الشعير الاخضر لاعداد المرمزلشهر رمضان المقبل رغم ان الايام التي يحتاجها عملا كهذا الاخير تعد على اصابع اليدين ...اما من الان والى ان يحين ذلك الوقت فعليها ان تتدبر امورها ..بعد غد ستذهب الى البريد لتتسلم الجراية الهزيلة التي قررتها لها السلطات منذ وفاة زوجها قبل اربع سنوات ...ستون دينارا عليها ان تقضي بها مختلف حاجياتها ..هي وولدها وابنة اختها التي غالبا ما يعود والدها خالي الوفاض بعد ان عجز عن ايجاد عمل في احدى الحضائر بسبب كثرة المتدافعين على تلك الحضائر وهزال جسمه الذي يجعله اخر شخص يمكن ان يرغب فيه ارباب العمل والمعلمية ليكون صانعا عندهم ...لم يكن كمال بالشخص الذي يستهين بكرامته بدعوى ابعاد الاحتياج عن حياته وتحصيل قوت يومه وعائلته فكم من مرة من المرات القليلة التي حالفه فيها الحظ بالحصول على شغل يوم افسد كل شئ وانهى نهاره قبل ان يبدا وهو يلحظ تأمر بقية العمال الاقوى منه بدنيا عليه ونيتهم الخبيثة في القاء اشق الاعمال على كاهله هو .كان سريعا ما يتفطن لما يدبرون له ويشعل معركة تنتهي غالبا بقذفه خارج الحظيرة ...ولا كان بالذي يلقي بنفسه على اخت زوجته ويستسهل طلب المال منها فهو يدرك انها محتاجة اكثر منه وحري به ان يساعدها هو ..بيد ان ايام عملها هي كانت اكثر بكثير من ايام عمله فهو يظل متعطلا اغلب الايام وهى تعمل غالبا ..وعندما نقول تعمل فنقصد تلك النوعية من الاعمال الشاقة التي لا يقبل بها غير من الجأته ضراوة الاحتياج والفاقة المحيطة به الى قبول ما يشبه تحطيما منظما للجسد وسلخا تدريجيا للجلد وقتلا لقدرة الرئتين على التنفس ...ذلك السمسار الذي في ظرف سنوات قليلة تضخم رصيده بفضل دخوله بين الفلاحين والمعامل فلا يمر شئ من الحقول الى المعمل الا بواسطة منه ..اي انه وضع نفسه بين الطرفين وسيطا بما يتيح له السيطرة عليهما معا فينال من هذا وينال من ذاك دون ان يتعب جسده قيد انملة ...وما هي الا مدة قصيرة وصار يشرف على اعماله من نافذة ميغان مثيرة للحسد ..كان دأبه ان يشترى الفلفل من الفلاحين بعد ان احتكر تلك السوق وفرض السعر الذي يلائمه .وهؤلاء وجدوا فيه رافدا ماليا لا تنضب نقوده يتسلم بضاعتهم في الحال وينقدهم مقابلها من المال دون تاخير ..ان احد هؤلاء الفلاحين كان من عادته قبل ان يسيطر السمسار على تلك التجارة ويعد دكانا اكتراه لتجميع الفلفل ان يحمل منتوجه عشية ويعود من الغد الى السوق المركزية وينتظر الساعات الطويلة قبل ان يسعر ويتسلم مقابله...مما يعني اضاعة ساعات طويلة في الذهاب والاياب ..فلم يكن يهم الواحد مقدار ما سيخصم السمسار من مداخيلهم لحسابه قدر ما اهمهم ان يتخلصوا من عذاب الانتظار في ساحة السوق..وصاحبنا السمسار علاوة على شراءه الفلفل الاحمر المعد للتحويل الى هريسة فانه يشترى كذلك الفلفل الاخضر من البيوت المكيفة وشتاءا والطازج صيفا ...وها هي سعيدة قد تعلق املها ورجاءها بان يحمل لها الغد حمولة من الفلفل الاخضر يكلفها السمسار بتنظيفها من الحبوب في ساحة منزلها بالذات...كان ذلك هو مخرجها الوحيد المامول من ورطتها المالية تلك ... لم تكن تدري حجم تلك الحمولة وان كان يمكن ان تعتمد على ما ستدره عليها من مداخيل تقيم بها اودها وابنها حتى تتسلم اجرة الشهر القادم ولكنها اعتزمت وهي ما زالت ممددة على الفراش ويدها على راسها وتشعر بجسدها كله متخشبا وجبينها ساخنا ملتهبا لم تكن تدري بسبب الحرارة ام بسبب الغضب الذي استعر في داخلها من اجل سلوى ان تشرك معها شقيقتها رغم عجزها وسلوى حتى اذا اتضح ان الحمولة التي سيجلبها السمسار متواضعة ..كانت تريد لثلاثتهن ..هي وابنها وشقيقتها وابنتها قدرا متساويا من المداخيل ينلنه بعرق الجبين بدلا من شحذ صدقة منها يحمرلها وجه شقيقتها خجلا وهي تحدثها عن عجز كمال عن توفير مستلزمات العشاء والفطور الذي يليه حتى ..يا لقساوة العالم ..عائلة اختي قد تنام جائعة وذلك اللعين يعظنا ويوصينا بستر الاجساد ..هل ابقى لنا هذا البؤس اجسادا ؟؟؟
...........................
8.
وذلك السمسار لم يكن اقل تقوى واستقامة من الفلاح الذي تخاصمت معه في اليوم السابق ..كان دقيق الشفتين بما يدل على ذخيرة من القساوة في نفسه تهيئه للدوس على كل من يعترضه املس الوجه خاليا من التقاطيع بل اكاد اقول بلا ملامح اشقر العينين .وعندما يتكلم كان يتخذ هيئة شخص فرغ لتوه من مص ليمونة ...تعابير وحهه دائمة التقلص.ونظراته دائما وجلة وهي تحدق الى بعيد
..................................
9
هؤلاء الفلاحين من الملاكة الكبار الذين جمعوا المجد من طرفيه : الاملاك المترامية الاطراف الموروثة في الدنيا وجنة الخلد مترامية الاطراف هي الاخرى او اكثر اتساعا في الاخرة وهم رغم ظفرهم بالنعيم بصورتيه الدنيوية والاخروية لايبدو ان شيئا سيشبع شراهتهم ولا يكفون عن التذمر واظهار الاسى والحسرة والرثاء لانفسهم من قساوة ما يكابدون من عناء وما يواجهون من ظروف وما يعانون من مصاعب لا حصر لها ولا نهاية لتعدادها لا تتيح للواحد منهم ان ينقد العاملة التي تقضي سبع ساعات مكبة على العمل في حقله في مختلف الظروف المناخية غير تلك الدنانير الستة التي يدفعها لهن بشق الانفاس ..التكاليف دائما تتجاوز المداخيل وهذه شحيحة جدا دائما ..فهو اذن يعتبر نفسه قد قام نحوهن بشئ معجزاذ قام باعطائهن مالا حتى وان انتظرنه احيانا اياما طويلة بعد نهاية مدة العمل ... فمن اين لهن ان ينلن اجرا مماثلا بل من سيقبل بتشغيلهن عنده اصلا ..وماذا تساوى مثيلاتهن في الدنيا ؟؟التي لا تقبل في رحابها غير صاحب المال ...ان الله الذي قسم الارزاق بين العباد لحكمة خافية لا يعلمها الا هو قد يكون ادخر لهن - هؤلاء التعسات المنكودات الحظ المتعاقدات مع بؤس لا ينتهي - نعيما سابغا وسعادة ابدية ينلنها بعد ان يجتزن اتراح وتعاسات هذه الحياة الفانية القصيرة بما يملئها من محن وابتلاءات هي قربان يقدمنه ثمنا لتلك السعادة الابدية التي تنتظرهن ولا ريب ..ان الله اذا احب عبدا ..هكذا اعتاد المنصف وامثاله على ترديد ذلك ..اذا احب عبدا ابتلاه واخرون اذا احبهم الله ..اعطاهم بلا حساب من خزائنه التي لا تفنى واذن فالله يحبني لهذا اعطاني ويحبكم لهذا ابتلاكم ...هل من معترض على تلك القسمة النزيهة؟؟
...............................
10
ان المسلكية الكسولة المخاتلة التي يعتمدها عدد من كبار الملاكة بل جميع الملاكة دون استثناء ...فبعضهم ملامسه في نعومة الحرير واخرون في خشونة الشوك في البحث عن ارخص السبل لابقاء عجلة الانتاج دائرة في حقولهم الموروثة - فهم لم يقدموا شيئا في حياتهم يؤكد جدارتهم باملاك بهذه الشساعة - ان كان لشئ ان يبررلانسان كائنا من كان ان يلتهم بمفرده قصعة تكفي العشرات بل قل المئات - ولا تعبوا في سبيلها بل اغلبهم يعيشون عالة على ميراث وتراهم يرددون مصبحين ممسيين : هذا من فضل ربي - ادت الى ان تتحول عملية الافناء التدريجي لاجساد جحافل من النساء مهيضات الجناح جسدا وروحا الى منهج حياة متبع ومسلك عمل منظم يعود عليهم بالفوائد الجزيلة والثمار الوفيرة فهم - اي اولئك الملاكة - لا يملكون تصورا او رؤية لتحريك وتطوير حقولهم خارج دائرة الاستغلال الفاحش لعرق النساء من الفئات الضعيفة التي لا نصير لها ولا مدافع واستعدادهن لقبول اي عمل مهما كان مقدارما فيه من المشقة واي مقابل يعرض عليهن على ان لا يبتن ليلتهن وصغارهن على الطوى ..
وفي داخل تلك الدائرة اياها يقوم الدين حارسا للاطماع والمصالح ومسوغا لكل اشكال الجور والاستغلال فلا يتردد الواحد من اولئك الملاكة -زاعمين ان اليد العليا خير من السفلى ..اي انهم يريدون افهام النساء انهم هم من يقدم تلك الدنانير الستة الحقيرة خير واكرم منهن اللواتي يتلقينها- ..عن التشدق بمقدار مايتبع تضحياتهن من ثماروثواب جزيل وما يتسم به سلوكه حيال عاملاته من تقوى واستقامة وخشية لله ...
- توا انا باهي معاكم ومساعدكم...ديما نساعدكم ..ماعامل عليكم حتى مزية كله من عند الله
- باهي انت يا سي وديما مساعدنا ...الله يخليلنا بها
العمل شرف ...هكذا يعظهن المنصف عادة ويقيم مقابلة نتنة بين شيئين لم يخطرا على بال واحدة من العاملات ...ايهما خير واشرف ..التي تاكل بعرق جبينها ام التي تاكل بعرق افخاذها ...( وهكذا ادركت سعيدة مبكرا انها ان لم ترض بشروط المنصف ومن لف لفه فهي لا ريب تاكل بعرق فخذيها لا مفر ولا طريق ثالث امامها ) الفقر ليس عيبا بل العيب في الثورة والنقمة على امور قدرها الله العلي الحكيم ...ومضى المنصف يطرشق بايات حفظها عن ظهر قلب في الرضا بالقسم والخضوع لاحكام المقادير ففي النهاية تلك المقادير كلها لصالحك وكل ما تحتاجه الصبر والتمسك بحبال الايمان الغليظة المفتولة ..وهن يستمعن الى تلك الاقوال النافذة كحد السكين الى سويداء كرامتهن ولا يملكن لخبثه دفعا ..ذلك الخبث اياه الذي يدفعه الى الطرشقة بايات اخرى تناقض في مضمونها الاولى كلما رام تقديم نفسه في مجموعة من الناس تمهيدا لقضاء حاجة يعلم ان الاستشهاد بايات قرأنية يحولها هي الاخرى الى قران منزل لا سبيل الى التفصي منه ...وهكذا احكم المنصف وامثاله لف حبالهم حول رقاب كل من حولهم ..جاهدت حليمة لكي تتنفس وعنقها قد التف حوله حبل سميك كان المنصف قد انهى فتله ذلك الصباح ....
.........................
11
افاقت سعيدة بعد غفوة لم تدر اطالت ام قصرت لتجد راسها يلتهب التهابا وفمها جافا وطعم المرارة يملؤه ..رفعت راسها ببطء وعناء شديدين ففي داخله كانت تشعر بطاحونة دائرة ضجيجها يوشك ان يجعله ينفجر ..ومن خلال فرجة الباب لاح لها الجو حارا مغبرا منعقدا ..فرغم انهم في اواخر نوفمبر ومستهل الشتاء فان الطقس يابى ان يجود بقليل من الرطوبة والبرودة تلطف ما يطبعه من جفاف ملا محيط الدار والاراضي المجاورة حيث الريف الاجرد يمتد ورائهم منبسطا خاليا من الملامح بلون اصفر باهت ...دوامات من الهواء الساخن الجاف لا تزال تسفي بين الحين والاخر فتغمر حوش الدار ومحيطها ببقايا الورق البالي واكياس البلاستيك التي تظل لبعض الوقت طائرة في فضاء الدار لتتكدس اخيرا في الزوايا وفوقها تتكوم الاتربة فيتحول الحوش الى كومة من النفايات ترهق سعيدة نفسها للخلاص منها فهي ما ان تزيلها حتى تعاود الريح لعبتها وتاتي بالمزيد من الاكياس السوداء والاغبرة... وخلف الدار ..خلف ذلك التجمع السكني يمتد الريف المجاور خاليا من معالم الخصوبة كانه صحراء لا تنوع فيها ولا تضاريس فهو باكمله مجرد سطح مستوي لا تفاصيل تتخلله باستثناء مساكن متفرقة بنيت كلها على غرار واحد... نظرة واحدة تجيلها سعيدة نحو ذلك الريف تملئها ضجرا وضيقا وتتسرب قتامة المشاهد امامها الى نفسها فتضيف الى قتامتها المزيد ...على طول المسلك الفلاحي الذي يخترق ذلك الريف ويمر خلف التجمع ترى بين الحين والاخرشاحنة ايسوزو عتيقة الطراز تسير بسرعة سلحفاتية وسائقها يحاذر مطبات الطريق التي لا تحصى فلا يفتأ يبطئ سرعته ويبطئها ويبطئها الى حد ان عربة يجرها حمار صاحبها اعتاد المرور بذلك المسلك يوميا بحمولة من الفصة هي كل ما تنتجه ارضه وما يغله منها ويقيم به اود صغاره قد التحقت بالايسوزو عديد المرات ومشت بجوارها وصاحبها يضحك بملا شدقيه
.......................
12
استيقظت سعيدة وهي لا تدري ان كان ما تشعر به من التهاب في جبينها كان نتيجة انفعالها المفرط تلك الظهيرة على خلفية فضيحة الاكمة ام بسبب حمى اصابتها وهي عائدة في ذلك الجواللافح ...عاودت القاء نظرة من خلال الباب ورغم الجو المنعقد الغائم تاكدت ان الشمس توشك على المغيب ...نادت امين وهي لا تدري بفعل الطاحونة الدائرة في راسها ان كان قريبا منها ام لا يزال يزاول دراسته ...فسرعان ما اجابها واطل براسه ..لم يكن يلعب بعيدا فالغباروالريح السافية افسدا عشيته
- الست في المدرسة ؟؟سالته سعيدة وهي تتاوه
- تعرفين انني لا ادرس عشية اليوم ..اجابها
- اه اه تذكرت ...وتذكرت سعيدة ايضا في الحال انها لم تشرع بعد في اعداد العشاء ولا اشترت لوازمه بعد ..كان من عادتها عند العودة عشية على متن الشاحنة ان تتوقف لحظات في طريق العودة امام حانوت تعرفه لتتزود منه بما تحتاجه احيانا عندما لا يكون معها مال يبيعها بالدين ويمهلها حتى تاخذ اجرتها من مشغلها ...اما اليوم فاختارت طريقا مختصرة هي وسلوى للعودة الى الدار فلم تمر امام الدكان وعليها اذن ان ترسل ابنها امين الى دكان في اطراف المدينة لا يبيعها بالدين الا اذا ذهبت هي اليه وبمنتهى العناء تقنعه وتؤكد له انها ستسدد الدين لا ريب حالما تتسلم اجرتها ..رفعت راسها الثقيل بصعوبة ودست يدها في جلبابها الممزق تحت ابطها واخرجت صرة بها ورقة نقدية وبضع قطع ونادت امين... هذا المبلغ لا يكفي للوازم العشاء وفطور الغد لها ولعائلة اختها ..فهي اعتادت كلما عرفت ان كمال عاد مبكرا وما اكثر ما كان يفعل ذلك ان تعد طعاما يكفي العائلتين وتترك منه بقية لفطور الغد وحتى لعشاءه ...وعليها ان تتصرف بمنتهى الحكمة لكي لا تبيت هي وابنها وعائلة شقيقتها على الطوى..ولكن من اين تاتيها الحكمة ورأسها تشعر كان مجموعة من المطارق تنهال عليه دون توقف ..تحركت من مكانها ومشت حبوا في اتجاه الركن الذي تستخدمه عادة مطبخا ..لم يكن هذا اكثر من صفين من الاجر رصفا متقابلين وبينهما مدت مجموعة من الاعمدة شكلت المنضدة التي وضع فوقها موقد غازي قديم وبجواره عددا من الاواني الحديدية والبلاستيكية وسطل ماء مملوء الى منتصفه وبجانب الحائط الملاصق اتكأت مكنسة او بقايا ما يسمى مكنسة وبوصولها امام المنضدة حبوا فرأسها الثقيل لم يسعفها للقيام على قدميها جربت ان تستند على صف الاجر وتنتصب واقفة فما ان همت بذلك حتى دارت الدنيا في عينيها واعتراها ضباب كثيف فاكبت برأسها على المنضدة ويداها معقودتان على عنقها وهي تجاهد لتسترجع وعيها ..وعندما اتضحت الرؤية امامها مجددا رفعت راسها والقت نظرة من الكوة التي تفتح على دار شقيقتها فشاهدت سلوى وقد بركت على ركبتيها واكياس البلاستيك تتطاير حولها وامامها صف من الاواني التي التصق بها طعام عشاء الليلة البارحة فهي تكشطها بمنتهى العناء ووجهها تتقلص تعبيراته دالا على غثيان تشعر به جراء صوت الكشط وحيال الاوساخ الملتصقة ..ادركت سعيدة من وقفة سلوى ومن التصاق الطعام بالاواني ان شقيقتها لم تطبخ اليوم ولا ستطبخ هذا العشاء ..فكمال عاد مبكرا ..هكذا اخبرها امين ولا مال معه وما تحصلت عليه سلوى ديناران لا يغنيان فتيلا ...فرفعت صوتها في الحال منادية
- سلوى ..سلوى اتركي ما بيدك وتعالي ..التفتت سلوى واطالت النظر في وجه خالتها ثم انتصبت ومشت بخطوات بطيئة في اتجاه الكوة نحو خالتها
.................................
13
ادركت سعيدة من الوهن الذي كانت عليه سلوى وترنح خطواتها وهي تتقدم نحوها ان هذه لم تاكل منذ وصلا الى الدار في الظهيرة
- لم تاكلي شيئا ؟؟
- بلى اكلت ...
عرفت سعيدة ان سلوى لا تقول الحقيقة ..فهي مصرة على ان تداري سواة حالها ...يخجلها فقرها حتى امام خالتها التي تحبها كل الحب وهذه لم تدع سلوى تسترسل في انفتها ..
- اقعدي وكلي شيئا من هذه البسيسة فهي مقوية
- بسيسة ؟ في ساعة المغرب ...
- نعم في ساعة المغرب وفي كل ساعة ..اقعدي
وسلوى تجاه لهجة خالتها القوية لم تجد مفرا من طاعتها فقعدت ..وامامها صحن صغير به كمية من الرفيسة اكبت عليه سلوى وقد نسيت زعمها بانها اكلت ...واخيرا قالت سعيدة
- الوقت متاخر والجو مغبر يملؤه العجاج ...خذي هذه النقود واقضي لنا لوازم العشاء لنا كلنا ...ولم تزد هذه اللوازم على 100غرام طماطم و200حمص وكيلو مقرونة ولتر من الزيت وقليل من الفلفل الاكحل ..يخلف على الجاري ..ان بقي رخيصا ولن يبقى فعندها نربط على بطوننا حجارة تمتمت سعيدة لنفسها وسلوى مصغية لتمتمتها
- عشاء واحد لنا جميعا ؟؟
- نعم لنا جميعا
- ولكن ابي ....
- دعي امر ابيك لي انا واذهبي بسرعة قبل ان يداهمك الليل ..تناولت سلوى النقود وهمت بالانطلاق بيد انها توقفت والتفتت الى امين المتلهف على مرافقتها
- دعيه يا خالة يرافقني
- اه اه...تاوهت سعيدة اذهبا معا اذن واسرعا ...امسكت سلوى بيد امين وما اسرع ما كانا يتحركان في عاصفة من الغبار طمرتهما وهما متجهان الى اطراف المدينة
................................
14
.بالكاد تسميه طرف مدينة او تسميه طرف ريف ..كان لا يحمل شيئا من سمات المدينة ولا من سمات الريف ...كان قطاعا سكنيا هجينا جمع من كليهما أسوأ ما فيهما : من المدينة فوضاها وبلادتها ..ومن الريف فظاظته واوساخه .ومتساكنيه من النازحين جلهم احتفظ بعاداته الهجينة التي دفعته اليها حياة الخصاصة فكان عدد غير قليل منهم يربون اغناما في بيوتهم التي لم تكن اكثر من بناء بالاجر الاحمر غير مكتمل البناء واكثر النوافذ يسدها نفس ذلك الاجر مما يعطي للحي منظرا متناهي البشاعة ..في احدى البطاحي القريبة كارو ملقى على الارض وقريبا منه ربط بغل امامه كومة من التبن احاطت به دائرة من قوالب الاجر اياها مخافة ان تطير الريح بالتبن وفي داخل تلك الدائرة نثار من الروث يتحول اذا بال عليها البغل الى كتلة لزجة مرنخة تغوص فيها قدما جمعة صاحب الكارو وهو يقوم بتغيير موضع نوم البغل ..وفي المسالك المحفرة المغبرة التي قامت مقام الطرقات تتحرك النساء كالحات السواد وقد علقت بأطراف جلابيبهن اشرطة من التراب اليابس من كثرة ملامسة طرف الجلباب للارض ...واذ ينحسر الجلباب قليلا بفعل نفخ الرياح الجافة التي كانت تهب في اتجاهات متعارضة كان طرف الجلباب يسفر تحته عن سروال رجالي غليظ سميك يرتد دونه البصر خاسئا وهو حسير لا يتيح للعين المتربصة ان تبصر من علائم الانوثة شيئا ..كن نصف اناث نصف رجال ..ثم لم يلبثن ان كففن تماما عن ان يكن اناثا فغدون مخلوقات هجينة في جلابيب سواداء متسخة ووجوه منتفخة محتقنة بفعل ضغط احجبتهن على اعناقهن بما شكل صورة ماساوية لكائنات تمعن في تشويه ذواتها وطمسها وهي تحسب نفسها تتقرب الى الخالق بامعانها في ذلك التشويه الذي يدين ذلك الخالق وما ابدعت يداه ...كانت سلوى وهي تطوق امين بذراعها قد قاربت ان تصل الى الدكان واذ همت بولوجه اعترضتها امراة تعرفها من قبل ..وقبل ان تفوه هذه بكلمة حدجت سلوى بنظرة حادة واجالت فيها بصرها من رأسها الى اخمص قدميها ثم لم تزد على ان قالت لها هامسة كالمهددة :
- انتبهي لنفسك فانت تظهرين اكثر مما يلزم .....اكثر مما يلزم ..لوت سلوى شفتيها احتقارا وتخطت المراة داخلة... سخرت سلوى بينها وبين نفسها: مالذي اظهرته لهم وعرفوه من حقيقة بؤسي وهوان عائلتي على الناس والعالم الذي لا يرحم وامي المقعدة وابي العاطل عن العمل دوما هل يجب ان اخبرهم اننا ننام احيانا دون عشاء ام ان ذلك يعد كشفا لاكثر مما يلزم ؟؟؟؟؟....امتلات نفسها بالحسرة وهي تشد امين اكثر الى جانبها كانها تخشى ان يفلت منها ويتركها وحيدة فلا انيس لها في تلك الساعة سواه
....................
15
كيف تحول ما حدث من رغبة جارفة تنسجم تماما مع منطق الحياة والتاريخ في استنشاق هواء نقي جديد والعبور الى افق يتسع للجميع ولا يضيق باحد الى ميل مازوشي قاتل لسد كافة مسام التنفس ودفع شعب باكمله الى اختناق شنيع... ذلك التوق والرغبة العارمتين التين عبرت عنهما الاقلية الواعية الشجاعة لتحطيم الاغلال التي تكبلها بصورتيها المادية ممثلة في الفاقة والاحتياج والمعنوية ممثلة في القمع وتكميم الافواه قد اصطدم بنكوس الاغلبية الجاهلة العاجزة واستسلامها وركونها لما تعودت عليه وألفته لعقود طويلة من انتظار الخلاص اتيا من فوق فلا ايمان لها بقدرتها هي على تغيير واقعها ولا قدرة لها على استنباط حلول جماعية تخرجها من أزماتها التي لا تنتهي ...فالكل يشك في الكل ولا ثقة لاحد في احد ولا في نفسه حتى ...قرات سلوى على احد الحيطان وهي اخذة طريق العودة والليل قد اوشك ان يحل :
- نرحل ولا نحمل الذل ....بدا لها شعارا مثيرا للسخرية والخجل ...هكذا دابهم دائما ..الفرار من المواجهة والبحث عن الخلاص بشكل فردي انعزالي الذي غالبا ما ينتهي بكارثة تزيد في تعميق المازق وتصبغه بصبغة ماساوية اليمة ...الكثير منهم يفرون من مأزقهم نحو جنة يتوهمونها في الشمال وراء البحر فينتهي غريقا في اعماقه ولقمة رخيصة في بطن قرش من قروش البحر واخرون يفرون من مأزقهم نحو جنة خلد قربانها رؤوس بشر مثلهم يقطعونها فينتهون الى مصير مماثل ...رؤوس مفصولة عن اجسادها في مشاهد دموية مرعبة ...ولكن ابدا ان تتوحد لهم كلمة ويبحثون عن خلاصهم في الداخل ..هناك حيث مكمن الداء وموطن الازمة ..انتهت ايام الاحتراق واتضحت السبل وبان العدو واضحا جليا فما بال التردد والنكوس يسيطران على كل حركاتنا وسكناتنا .؟؟؟النا حياة اخرى غير هذه الحياة نحياها ام اضعنا من اعمارنا القليل ونحن نرسف في الذل والمهانة لكي نجود بالمزيد... دون ان تشعرتقدمت سلوى من الشعار وازالت كلمة نرحل وعوضتها بكلمة نثور فصارت الجملة على النحو التالي
- نثور ولا نحمل الذل ....وعندما لم تر احدا بقربها لتدعوه لوضع مقولتها موضع التطبيق والثورة مجددا واوشك الطريق ان يخلو من المارة فمن عادة اهل تلك الاطراف النوم مبكرا قبل ان يأوي الدجاج الى اقنانه مع غروب الشمس ....اسرعت في خطاها وهي توشك ان تحتضن امين والخوف قد داخلها لخلو النهج الذي كانت تخترقه ..وعندما وصلت نهايته وبان لها الخلاء الذي ستجتازه قبل ان تبلغ المرتفع الترابي الاصطناعي ثم تنحدر الى الجهة الاخرى وتبلغ المنزل شاهدت شبحين لم تدر اكانا رجلين ام رجل وامراة يقفان وهما ملتصقان بالحائط وعندما حاذتهما فهي لم يكن امامها غير مجال ضيق تعبره قبل ان تبلغ الخلاء تبينت فيهما شاب وفتاة وقد اسكرتهما نشوة الغرام الجارف فانشا يرتشفان من رحيقه حتى الثمالة ...وقد تلاصقا لحد يخالهما الرائي شخصا واحد ا..وضعت سلوى يديها على عيني امين كيلا يشاهد شيئا وقد صعقتها هول المفارقة بين ما سمعته نهارا وما تشاهده ليلا ...ثم تحول مشيها ركضا وهي تعبر الخلاء حتى ارتقت التل الترابي وعاودت النزول فتنفست بملا رئتيها وابطأت في سيرها وامين بجانبها ينهج لفرط التعب وكثرة ما ركض ...وبدا لها اخيرا ان تسليه عن تعبه
- هل ستنجح كالعادة هذه السنة ؟؟
- تعرفين ذلك ...ولكن المعلم يتشدد معنا في اعطاء الاعداد لحد اظن انني لن انال اكثر من تسعة في اغلب المواد ...
- لماذا؟.... انت مجتهد دائما ؟؟
- لانني لا اتابع دروسا عنده ...
- والذين يتابعون دروسا عنده ماذا يعطيهم ؟؟
- اولئك دائما الاوائل ...كل المواضيع سهلة عليهم فهي مثل كتاب مفتوح امامهم ...
- انت ايضا تتابع دروسا عندي منذ بداية السنة الدراسية ...فمما تخشى ؟؟؟
- ليس الامر هكذا ...تكلم امين بلهجة الكبار ...الحكاية فلوس تدفعها يعتني بك .ولا تدفعها فلن تمر ...
- اه ...تنهدت سلوى وقد فهمت
- ولكن بامكانك ان تتحدى جميع المصاعب فهي تحيط بنا من كل جانب ...انا درست في ظروف اسوا من ظروفك ...واجتزت الباك ودرست بعدها ثلاث سنوات ...ونلت شهادة
- ثم ماذا فعلت بعدها ؟؟
- لاشئ ..انتظر عملا قد ياتي وقد لاياتي ...
- اذا اتى فلن يكون اكثر من مسحاة تعزقين بها الارض ...او دلوا تملئينه بالفلفل او الجلبانة في سانية احدهم ...
- لا عيب في ذلك في حد ذاته ...ولكن العيب في السيستام الذي نعمل في ظله ...يستعبد الجميع ولا يفلت من طاحونته احد
..........................
16
.لم يستطع امين ان يستوعب معنى السيستام ولم يكن بمقدور سلوى ان تشرح له اكثر وهما على مسافة خطوة من الدار فولجاها ونظرة حائرة ترتسم على وجهه ...
- والناس بسلبيتهم ساعدوا على استمرار ذلك السيستام اضافت سلوى ..وهي تضع قدما داخل الدار ولكن امين كان منشغلا عن الاصغاء اليها بالنظر الى والدته وقد غادرت الركن الذي تستعمله مطبخا وعاودت التمدد على الحشية البالية ووجهها محمر ويديها لا تكفان عن دلك جبينها ..كان صهد الحمى قد انهكها واعجزها عن البقاء على قدميها فتركت تحضيرات العشاء واستسلمت لصداع اليم والريح تسفي من خلال الكوة المطلة على بيت شقيقتها وتملا عينيها بالغبار فالطقس لم تهدا ثائرته بعد ..سارعت سلوى باغلاق الكوة فانقطع سيل التراب وعادت فبركت حذو خالتها وهي تقول فزعة
- خالتي ما بك ..؟؟ لا اراني فيك سوءا ..
- راسي ..راسي يا سلوى مكسر ...احسبه ثقيلا كحجرة رحى ...
- هذا من الغضب وصهد الشمس والرياح الافحة ...
- دعينا من الاسباب ...وقومي اعدي العشاء بدلا مني
- الا يمكن ان اجلب لك شيئا ينعشك قليلا ؟؟
- حليمة قريبة منا ...اذهبي اليها واطلبي منها قليلا من العطرشية
......................
17.
نهضت سلوى سريعا وخطت خارج الباب وهي تعاود لف شالها حول راسها وما هي الا دقيقة وكانت تطرق على باب حليمة ...فتح لها الباب طفل متسخ الانف حافي القدمين ومن الفرجة التي اطل منها الطفل - فهو لم يفتح في وجهها الباب باكمله - شاهدت عشرات الشكائر مرصفة بجانب بعضها في الحوش ..ادركت دون عناء انها مليئة كلها بالفلفل الاخضر الذي جلبه السمسار لتنظيفه من الحبوب ...اذن فقد ضربت حليمة ضربتها ونالت امتياز العمل مع السمسار وتحصلت على كمية تكفل لها مدخول شهر كامل من العمل هي وابنتها واسقطت تدابير خالتها سعيدة في الماء ..الفلفل كله صار عند حليمة ...وهذه هيهات ولو ان لديها القناطر المقنطرة منه ..ان تدعو سعيدة لمشاركتها العمل وتشاطر المدخول ...دون ان تعاود النظر توجهت الى الطفل بالكلام
- خالتي سعيدة تعاني من السخانة وترجو من امك قليلا من العطرشية لانعاشها ..اطلت حليمة من فتحة الباب الداخلي وحالما شاهدت سلوى عاودت الاختفاء ..وبعد لحظات كانت ابنتها الدميمة تنظر بعينين متجهمتين الى سلوى وهي تمد لها يدها بكاس احتوى على قليل من السائل ...وقالت بعصبية
- اعيدي الكاس سريعا
- دقيقة واحدة واعيده ...
- باهي برا ...خالتها سعيدة ....
وصفقت الباب في وجهها ولسان حالها يقول
- عين الحسود فيها عود
....................
18
واحقاقا للحق فان العود انغرس في عيني سلوى بالذات ...اما حليمة وابنتها فلم يصبهما شيئا ...عادت سلوى كالعمياء من فرط احساسها بالاهانة وخيبة الامل وكثرة الأغبرة الثائرة حولها .ودخلت الدار متعثرة فوجدت خالتها متمددة على ظهرها وقد مدت رجلا وعقدت الاخرى ويدها لا تكف عن المراوحة بين جبينها وعنقها ..فسكبت سلوى اكثر ما في الكاس في راحة يدها وقعدت على ركبتيها وانشات تمرر يديها على جبين خالتها وصدغيها التي لم تحتمل طويلا التدليك الاخرق الذي مارسته سلوى فهي لا خبرة لها بذلك وما عتمت ان نحت يدها عنها وصبت ما بقي في الكاس في راحتها ومررت اصابعها خلال شعرها وهي تتأوه ثم سكن تاوهها قليلا والتفتت الى سلوى
- العشاء يا سلوى ...انهضي ودعيني لشاني ...
وامين اين هو ؟كان ساكنا في ركن من اركان البيت العاري وقد فتح كتابا وشرع بقراءته
- ألست جائعا ؟؟
- لا ..
- لم تاكل شيئا من الظهر
- بلى اكلت ...
- ماذا اكلت ؟؟
- سلوى اشترت لي ...وعجز عن تذكر ما اشترت له سلوى .. ثم هزكتفيه علامة اللامبالاة ....كانت تعرف ان امين غير اكول :
- مثل ابيك ..صار هيكلا عظميا في اواخر ايامه ...تمتمت سعيدة لنفسها وقد عاودتها الام الحمى الى جانب الام اخرى انتابتها فجاة وهي تنظر نحو طفلها الهزيل وتتذكر والده ...اما سلوى ففي الحال تذكرت انها متغيبة من ساعة المغرب عن منزلها وقد يعود والدها بلوازم العشاء ولا يجدها ...كان ذلك احتمالا ضئيلا ولكنها مضطرة الى اخذه في حسبانها ...فامها منذ اصابتها تلك الجلطة لم يعد بوسعها القيام بشئ فعال ..نهضت سريعا واجتازت الساحة المتربة الصغيرة الفاصلة بين الدارين فراعها السكون وشاهدت فراش والدها خاليا ..لا ريب انه في مكان ما في الجوار فالمقهى قلما يرتاده فجيوبه خاويه وهو لا يملك حتى ثمن القهوة ...عادت بعد ان اطمانت على امها لتعد العشاء كما كلفتها خالتها فوجدت في انتظارها مفاجاة سيئة ...كان سطل الماء الممتلئ الى منتصفه كل ما لديهم لاعداد الطعام ...وهاهو بفضل الرياح المسفية قد تحول الى ماء متعكر لكثرة ما سقط فيه من اتربة واوراق ممزقة ...لم تشا سلوى ان تضيف الى معاناة خالتها هما جديدا ..وراء منزلهم على مسافة بضع مئات من الامتار ثم دار بجوارها بئرا مياهه مالحة ومع ذلك فان صاحبه كثيرا ما يتخذه ماءا للشرب وطبخ الطعام .مسوغا سلوكه بالقول :
- كلها مرارة وملوحة ..لا شئ سيحلي هذه العيشة الكلبة ....فاعتزمت ان تصطحب امين معها مرة اخرى الى تلك الدار وتملا الوعاء البلاستيكي ذو العشر لترات وتعود سريعا ...لم يكن من الممكن ان تعود الى اطراف المدينة في ذلك الظلام الحالك لتملا الوعاء بالماء العذب من احد معارف خالتها ..نادت امين واسرت اليه بما نوت ان تفعل وما اسرع ما كانا يتجهان صوب تلك البئر وهما ملتصقان ومشيتهما قد اوشكت ان تصير ركضا ..صاحبة المنزل شاهدت سلوى قادمة من بعيد وعرفت ما تبغي وسريعا ما كان الوعاء ممتلئا وسلوى ترفعه فوق كتفها ..ولكنها قبل ان تغادر ساحة تلك الدار شاهدت شاحنة ضخمة متوقفة في وسطها وعلى جانبها كتابة باللغة الايطالية لم تفهمها ورجل ضخم الجثة يرتدي جلبابا ناصع البياض ولحيته كانها دغل واقفا بقربها وصاحب الدار يجزل له ايات الترحيب ويدعوه الى الدخول فالبيت بيته ..والضيف بعد ان تكلف الممانعة لفترة وضع قدما في الداخل وولج البيت ..لوت سلوى راسها باشمئزاز ولفت ذراعها حول الوعاء بعصبية وباليد الاخرى شدت اليها امين وعادت على اعقابها دون ان تلتفت مرة اخرى ..وما هي الا فترة قصيرة وكانت تدلف الى بيت خالتها وكتفها قد ابتلت بالماء الذي كان يطفح من فوهة الوعاء غير محكمة السد ...نظرت اليها سعيدة مستفهمة ...
- لم يعد الماء في السطل صالحا ...ملئه التراب فذهبت الى بئر صالح وملئت الوعاء ... احنت سعيدة راسها وغطت عينيها مجددا بيديها ..فعادت سلوى تقول بصوت خفيض كانها تشفق على خالتها ان تسمعه
- رايت سلفك هناك ...
- فوزي ؟؟؟تساءلت وقد رفعت ظهرها وانتصبت كان عقربا لدغتها
- نعم ..فوزي في لباس ملائكي ولحية كأنها غابة ...ضيقت سعيدة عينيها ونظرتها ملئتها الكراهية ثم كانها قررت انهاء الحديث مع سلوى في بدايته فعادت تقول بصوت لا اثر للانفعال فيه :
- اعدي العشاء فلم يبق وقت لنضيعه ...شمرت سلوى عن ذراعيها وبعد محاولات عديدة فاشلة لاشعال موقد الغاز نجحت في ايقاد النار والمحافظة على انتظامها فاستدارت الى القدر تصب الزيت وتقطع البصل ونظراتها تنتقل وجلة بين الموقد وخالتها المحمومة ودارها من خلال الكوة تتابع حركات امها الواهنة وهي تحاول ان تستجلب لنفسها النوم بعد عناء ليلة كاملة ارقت فيها
- فوزي ...؟؟؟ ذلك الانتهازي ...غمغمت سعيدة بينها وبين نفسها ..قاتل شقيقه ...قاتل زوجي ...ذلك الكتلة الحجرية المجردة من المشاعر والاحاسيس والانسانية ما عدى احاسيسه الجياشة تجاه الفلس والدينار ..بعد ذلك الزلزال الذي فتح الباب واسعا امام الداخلين والخارجين والراغبين في استبدال جلودهم وتبييض سيرهم ..عاد فوزي مع من عاد من ايطاليا ...بعد ان ظل فارا لسنوات طويلة هربا من حكم بالسجن وعقلة على املاكه ..عاد متطهرا بعد ان غسل يديه من دم اخيه ..زوجها ووالد طفلها الوحيد امين بحجة قام بها الى مكة ولحية تطوق وجهه ولباس ملائكي يخاله الرائي قد هبط لتوه من الملكوت الاعلى
..........................
20
قسم السيد المرهوب المقام ثروات البلاد بينه وبين حاشيته والشعب الذى رضى بحكمه قسمة فى منتهى العدالة :له اللحم وللحاشية المطيعة بقايا اللحم وللشعب العظام يلحسها ويحلم بها وقد امتلات لحما حتى حولتهم عقود من اللحس الى جحافل من الكلاب الجرباء منسلة الشعر مقوسة الظهر... ورغم هذا التحول الفظيع من فصيلة البشر الى فصيلة الكلاب فقد استمرت الامور على ذلك المنوال عقودا خاصة وقد اكتشف الشعب فى نفسه بفعل الثقافة التى توارثها تابعية كلبية يحسد عليها وجنبته الاصطدام بالحقيقة المروعة ...ولكن ذلك الاكتشاف لم يحل دون بروز حقيقة اخرى :معالم الهزال وانهيار القوى فى مفاصل واجساد الكلاب المتحولة وارواحها حتى صارت اشبه بمخلوقات الظل تمشى الحيط الحيط ولا تاكل القوت بل تنتظر الموت ...وفى غرامها بالموت وتلهفها عليه تحول ذلك الانتظار الى ثقافة وعقلية ..صارمبرر وجودها الانتظار ان لم يكن عظما يابسا فموت يريحها ويفضى بها الى جنات تخلد فيها ...والقلة الذين اثروا الحياة وتمسكوا بها صاروا اما كلابا عقورة تنسل ليلا وتغير على مواطن الخصب وتعود بلحم وشحم كثير تتقاسمه فى جنح الظلام ويدركها مع ذلك عسس سيدنا مرهوب المقام فيفرض عليها قسمة ضيزى: لكم الربع ولى الباقى...ولا تجد من معترض على ما قسم فقد ابقى لهم الكثير مع ذلك .واما تحولوا الى جراء تائهة فى المفازات الخالية جائعة ظمىء لا يمسكها على قيد الحياة سوى خيط الارادة وامل ضئيل فى تبدل الحال
..........حتى كان يوما مشهودا ذلك الذى انتفض فيه كلب عربي عشش فى جسده البرغوث كان قد امضى السنين نائما على عربة بدائية والجوع ينهش احشاءه ..نهض ذلك الكلب وتلفت حوله باحثا عن نفسه فعجز عن العثور عليها بين دمجة من الكلاب السمينة المعشعشة بما قدمه لها السيد من لحوم طرية تسد عليه مداخل الطرقات وتمنعه من الحراك فى ابسط صوره وجحافل الكلاب الجرباء الشبيهة به وكلها ملقاة فى الزوايا وقد برزت عظامها وكل كلب يتلهى بعظم يلحسه كل حزب بعظمهم فرحون ...كلبنا الذى استيقظ واستعرت فى عروقه دماء الكرامة اذ اكتشف انه ليس كلبا ولكنهم صيروه كذلك ويعجز ان يعود انسانا اختلطت عليه عناصر كينونته وعجز عن تصفيتها فاوكل ذلك للنار عسي ان يكون فى النار ما يسمح بصهر العناصر الدخيلة ...وسرعان ما سرت الشرارة فى اجساد بقية الكلاب وارواحها وكانت اسابيع مشهودة عاود هذه المخلوقات المنكوبه حلمها بان تعود كائنات سوية تمشي على قدمين وبقامه منتصبة لا اثر فيها للاحدداب وتاكل اللحم الذى هو ثمرة عرقها ...كان زخم الحلم اكبر من ان يقاومه السيد الاكبر فلاذ بالفرار ومعه ما خف حمله وغلا ثمنه ..وما ان اختفى شخصه الكريه عن الانظار حتى هجمت على البلاد طائفة من الكلاب المدربة فى الدواوير المجاورة التى يضمر اهلها شرا للبلاد مستطيرا ولا يعرفون جوعا ولا مسغبة يتقدمهم ويقودهم كلبا مسعورا احمر العينين حقود النظرات قبيح الشدقين زعم ان الله ارسل له خيرات هذه البلاد غنيمة وفىئا جزاء ما صبر هو ودمجته وما كان حقيقة صابرا بل كان متربصا بالبلاد الدوائر حتى مكنته منها غفلة اهلها وخرجت معهم جموع من الكلاب التى كانت لائذة بالكهوف وتحمل فى احشاءها جوعا اسطوريا ...هجمت كلها على البلاد تمشمش كل ما صادفته من لحم طرى ويابس وشاركهم فى النهش جموع غفيرة من منتهزى الفرص وفى اقل من سنتين صارت البلاد خلاءا بلقعا مفقرا ترحم معه الناس على سيدهم الذى كان يلقى لهم العظام يلحسونها ويحلمون بها لاحمة ...الان لم يعد ثم مجال للحلم والحقيقة لا يطيقها احدا ... برزت من رحم عملية الاحتراق المشهودة ونتيجة لها جراء صغيرة نامية تحاول قدر ما وسعتها الحيلة استرجاع بشريتها .ودعوة الاخرين الى النسج على منوالها ...فهى بمفردها لم تكن تملك حولا ولا طولا للنهوض بذلك العبء الجسيم ...نبحت هذه الجراء طويلا وحاولت اظهار شراسة وندية لم تسعفها بها قوائمها الطرية الخالية من المخالب وافواهها الخالية من الانياب فى وجه تلك الكلاب القادمة من البرارى المجاورة والاخرى الخارجة من الكهوف محاولة انقاذ ما بقي للشعب المجوع من لقمة تقيه غوائل العودة الى سيرة الكلاب الجائعة ...ذل الحاجة يعصف بالكرامة ..وكان ما كانت تريده تلك الجراء الصغيرة ان تتخلص وتخلص معها شعبها من تلك الحاجة اللعينة وتعود ويعود معها بشرا اسوياء ..وفى خضم هذا الصراع ظهر على حين فجاة ضبعا مسنا معروق العظام وجمع حوله عددا غفيرا من عشاق السلطة وراغبي استدامة النعمة بكل الطرق وزعم ان بوسعه اصلاح عالم الكلاب وتحويلهم الى بشر رغم انتماءه هو الى عالم الضباع اكلة الجيف ...كان هذا الضبع يحمل معه اينما اتجه بقية من جيفة حولتها السنين الى هيكل عظمى وكلما ذكروه بحقيقته ينفخ فى عظم من عظام تلك الجيفة فتخرج اصواتا مختلطة يحسبها السامع انغاما ويزعم هو انها انغام البلاد الاصلية التى لا يمكن لها الرقص على انغام سواها .. وفى خضم دوامة النهش التى مارستها الكلاب االعقورة حتى لم تبق على بركة الله جلدا على عظم والانغام الناشزة التى تصدرها عظام تلك الجثة تعاظم الخطب وبركت البلاد فاجتمع كبار الذئاب فى دوارهم القائم فى الجهة المقابلة من الجبل واصدروا امرا للجميع - اذ اكتشفنا - وما كان بالاكتشاف ان ما عشناه طوال هتين السنتين ان هو الاوحى يوحى من الجهة الاخرى من الجبل - باعادة تدوير الامور فى اتجاه سلخ جلد الشعب سلخا لكى لا يفكر فى انتفاضة اخرى ابدا ابدا ...ويستتب الامر لكبار الذئاب المتربصة فوق قمة الجبل ومن والاهم من ضباع وكلاب مدربة .فكان ان خرج علينا وعلى الناس من زمن لم يزل قريبا ذئبا محمر الوجه سمين القوائم ثقيل الملامح اتفقت الذئاب والضباع والكلاب المدربة على تمكينه من صلاحيات الحل والربط فى هذه البلاد ورات فيه خير حامى لبشمها وجشعها تربي فى مذئبة كبار الجبل وتشبع بتعاليمهم واخبرنا بانه لم يبق فى البلد لا لحم ولا عظم وعلى الجميع ان يربطوا على بطونهم حجارة... وعندما لفت البعض انتباهه الى اكداس الخيرات التى تنام فى مغارات محروسة وعلى مراى ومسمع من جموع الكلاب الجرباء التائقة الى الخلاص من جوعها و ممارسة انسانيتها وجراءنا التى لا تتوقف عن النباح والضرب بقوائمها سخر منهم ووصفهم بالحالمين فتلك الخيرات حكرا على السادة وعلية القوم كما ينص على ذلك قانونهم السارى بقوة الامر الواقع وكلما سلمنا بذلك القانون ازدادت فرصتنا فى العودة الى سيرة لحس العظام التى هى اقصى ما يصح لنا التطلع اليه... وذلك الامل فى نيل الجميع انصبة متساوية من اللحم يستحيل ان يتحول الى واقع فهو لم يات من اجله ..مشروع الانسان فى هذه الربوع يبدو ان الوهن قد ادركه ...والجراء الصغيرة لم تقو على مغالبه تيار السادة الذئاب ..وعندما جلست الاطراف الثلاثة من كلاب وذئاب وضباع لمناقشة مصير البلاد اختفت ملامح كل طرف ...فلم يعد بالامكان معرفة ايها كانت الذئاب وايها كانت والكلاب وايها كانت الضباع ولكن الاكيد ان الانسان لم يكن بينها ولا كان جزءا من اهتماماتها
...................
21
كانت صدفة نادرة وسعيدة تلك التي تهيأت لفوزي ليقيم اركان مستقبله المهني الحافل بالافاريات والسيارات الفارهة عندما طلب منه مشغله ان يقوم بايصال حمولة من الفريب الرفيع الى احدى المدن الداخلية ..كان هذا المشغل شخصا واسع العلاقات ممتد النفوذ طويل الحبال ممسكا بخيوط تجارة الملابس المستعملة عبر شبكة علاقات اقامها مع اشخاص يعملون في الديوانة اتاحت له احتكار افضل واجود البالات القادمة من الخارج وكثيرا ما كان يتفاخر امام اصدقائه بان الوزير الفلاني او المسؤول السامي الفلاني جاءه في الدبو وطلب منه ان يبحث له كسوة رفيعة ما اسهل ما كان يجدها ..احقاقا للحق فان تقسيم وتوزيع بالات الفريب كان يخضع دوما الى هرمية طبقية وتمييز جهوي لا يسمح بان يصل للشعب غير الاسمال والملابس ذات التشكيلات الخرقاء ..الفريب الرفيع لا يمر منه الى الاسواق الشعبية غير النزر القليل واغلبه يظل محتكرا وموصى عليه من علية القوم الذين علاوة على دخولهم المرتفعة فانه بامكانهم الحصول على افضل الملابس بارخص الاسعار
- وفرت له كسوة لو بحث عنها في السوق لكلفته 300دينار ولكن تحصل عليها من عندي ب25 فقط
- ومعطف لزوجة فلان من النوع الرفيع ...كم في الفريب من كنوز للذي يتقن تصيدها ...ب30 دينار وكلفته الحقيقية تقارب 350 دينار
- ملابس داخلية نسائية ...ها ها ها ويضحك ضحكة عربيدة
- ليس فقط ملابس داخلية ..بل نساء دون ملابس داخلية ..ولم يكن بعيدا عن الصواب في قوله فطالما معه المال فبوسعه ادعاء اي شئ ...وسقط بعض مستمعيه عن كرسيه من فرط الضحك الذي اثارته النكتة وما فيها من اثارة بعثت الحرارة في اجساد كثيرة ومن ضمنهم فوزي الذي لم يكن يخفي شغفه بالنساء ..فلا عجب والحال كما يقول ان يتهافت عليه وعلى بضاعته الوجهاء وعلية القوم يبتغون الحصول على افضل المستورد دون ان يتكلف عليهم شيئا تقريبا ولكن في المقابل فان شبكة علاقات الرجل كانت تتيح له الحصول على تسهيلات جمة سواء اثناء تمرير السلع من الميناء او خلال توزيعها على تجار الجملة ..كان تقسيم الامور هكذا :الواجهة البحرية تنال النوعية الافضل بدعوى ارتفاع المقدرة الشرائية لاهلها ..وبقية الجهات تنال الخرق والملابس فاقدة التناسق والمليئة بالالوان الناشزة.... في اكثر جهات الداخل كنت ترى في مختلف الاسواق الشعبية اكوام من الملابس الفريب زهد فيها الحرفاء رغم انخفاض سعرها الى حدود مائة مليم للقطعة الواحدة لعدم ملائمتها لاي مقاس وهي ملقاة ومكدسة على الارض لايام طويلة حتى يتطوع جرار البلدية برفعها والقاءها بعيدا في الخلاء القائم بين اطراف المدينة والتجمع السكني حيث تقيم سعيدة ..وعندها ترى بعض الاشخاص يقلبون تلك الاكداس حالمين بشئ يصلح ناسين انهم قبل يومين كانوا يرونها معروضة ولا يتكلفون حتى مجرد النظر اليها
...................
22
ان عمر النحيف الذي اشتغل طويلا في حرفة يدوية ثم تركها وامتهن تجارة الفريب بالتفصيل بما يعني ان ينشر كدسه يوميا ويظل يترقب ان تنال قطعة منه اعجاب حريف فيشتريها بعد جدال طويل حول الثمن يضطر معه عمر الى انزاله الى حد يحمل خطرا داهما على راسماله ..يحذرك عند شراء البالة بانك قد تتعرض الى ابشع انواع الغش ولا تجد فيها غير الخرق والاسمال وان عليك ان لا تتوقع ان تبيع اكثر من ثلث الكمية ان كان فيها ما يصلح ويجلب الحرفاء والبقية ترميها في المزابل وعليك ان تكون شاطرا وتتمكن من بيعك ذلك الثلث من استرجاع راسمالك وتحقق ربحا تعيش منه ....تحت الشمس ...تحت المطر ...في الغبار ..في صهد الشمس الحارقة ..تلال من الخرق تتكوم بجوار بعضها في صف يمتد الى اكثر من مائة متر ...وبين الكومة والكومة ممر ضيق بالكاد يكفي لعبور شخص منفرد وتحت الاقدام الارضية محفرة لا تستوي لكي تتيح انتصابا مريحا للمنضدة التي تكومت فوقها الملابس ..والبائع قد اقتعد كرسيا مكسرا دون مسند يتابع بعينين يقظتين تدفق جحافل الزبائن على نصبته ويراهن على ايهم سيشتري وايهم يكتفي بالفرجة وهم متحلقون حول كدس الملابس وايديهم لا تتوقف عن التقليب والقيس ثم بعد فترة طويلة لا تظفر بغير واحد او اثنين
- هذه خدمة تحتاج الى اعصاب حديدية لكي لا تنهال على احد الحرفاء الركيكين ضربا بعد ان اشبع الكومة تقليبا ورفسا وانصرف اخيرا خالي الوفاض ...
- لا يزال الخير في المراة فهي عادة لا تنصرف دون ان تشتري شيئا .....طبعا ان بقي لها في الجيب بقية من نقود فأمامها عشرون لازمة ولازمة
...................
23
ومكرم ايضا لا ينصرف عادة دون ان ياخذ معه شيئا ....هكذا توصل عمر الى تلك القناعة بعد ان راقب مكرم زمنا ..مكرم يتميز بلصوصية يتقنها جيدا ومارسها ردحا من الزمن قبل ان يتفطن لها عمر وياخذ منه حذره ...كان يوقف دراجته النارية بشكل ملاصق للكدس بدعوى انه يخشى عليها من السرقة ودون ان ينزل عنها يشرع بالفرز وبين الحين والاخر يقوم باسقاط قطعة اعجبته في سلة موضوعة بين ساقيه وعندما يقضي وطره يتظاهر بان لا شئ اعجبه ويلم ساقيه على الدراجة والسلة فتنطبق ولا يظهر شيئا مما فيها....
قعد عمر فوق منضدته وبيده قطعة ورق مقوى يذود بها في الوقت نفسه عن وجهه لفح االغبار وصهد الحر وهو يعد النقود التي كسبها في يومه ....مازال بعيدا عن استرجاع راسماله واكثر ما بقي في الكدس اسمال فاقدة لكل رونق وتناسق فلا امل في ان تقبل عليها النساء حتى لو نزل بسعر القطعة الى حدود 200 مليم فلن يبيع الكثير ومن الصعب جدا ان يحقق الربح الذي امله ..
- ما الجديد في هذا ..دوما تعيش بالمنى يا كمون ...ولا ياتي المنى ابدا ..
- بيع الحقلئب الجلدية ...اقترح عليه جاره في المنضدة المجاورة يحقق ايرادا افضل ..ما رايك ..ساله ...
- عندما استرجع راس المال يمكنني التفكير في اي شئ اما الان فملكة التفكير عندي معطلة كلما وقعت عيناي على هذه الاكوام التي لا تصلح
- هذه معضلتك ....افتقارك للمخ عندما تتعقد الامور ...
- كيف يمكن لمخك ان يسلكها ؟؟
- بع باي ثمن ..وتخلص من السلعة وابدا من جديد بالمال الذي تتحصل عليه مهما كان مقداره
- والجديد ....عندما ابدا من جديد سيكون اسوا ويذهب بما بقي من مال ..او ادخل في حلقة مفرغة ولدي زوجة وثلاثة اطفال ...
- هذه السوق ميزيريا ...رداءة السلع وفراغ جيوب الناس
- اين ينبغي للواحد ان يطير ؟؟؟
- الى الساحل ...الى الواجهات البحرية ..اترك الدواخل لنتونتها ويمم وجهك شطر الساحل فهناك الربح الوفير ..كان عمر يدرك ان صاحبه يحاول التخلص من مزاحمته واغراءه بالذهاب الى الساحل لكي يخف الازدحام ...مهما كانت الوجهة التي سيقصدها فهو سيظل محكوما براسمال ضعيف لا يتيح له الصمود طويلا ..ماذا يفعل من في جيبه خمسمائة دينار مع من في جيبه خمسة الاف دينار وكيف سيسدد مصاريف التنقل بين مدينته حيث زوجته وابناءه وبين الساحل وجنته الوعودة ..ادار عمر عينيه الى الناحية الاخرى ليتجنب موجة من الرياح السافية حملت معها كشكولا من الاوراق والاكياس والاتربة اختلطت بسلعته ..فلم يعتم ان شرع سريعا بربط حزم الملابس وهو يرفع وجهه الى اعلى محاولا اجتناب رائحة النتونة الفائحة من الاسمال
..........................
24
كانت فرصة العمر لفوزي عندما كلفهما مشغلهما .- هو ورفيقه - ان يوصلا حمولة الفريب الرفيع على متن احدى شاحناته بعد ان قبض ثمنها- فهو لم يكن بالغبي ليفرط في قطعة واحدة قبل استلام ثمنها ..كان فوزي مدركا انها حمولة ثمينة فقيمتها لم تكن تقل عن خمسة الاف دينار ...بمبلغ كهذا حدث فوزي نفسه يمكنني ان ابدا حياتي بمفردي .وسرعان ما اختمرت في راسه فكرة جهنمية ...ماذا لو استوليا على الحمولة وفرا بها الى جهة مجهولة وباعاها لحسابهما الخاص ..عندما بلغا مفترقا يفضي في جهة الى احدى مدن الداخل وفي جهة اخرى الى مدينة ساحلية ..طلب فوزي من صديقه ايقاف الشاحنة لرغبته في التبول فاوقف هذا الشاحنة على حافة الطريق ...ولبث ينتظر ...فكر فوزي وهو يتظاهر بالتبول ما سيكون رد فعل صاحبه لو طرح عليه فكرة الاستيلاء على الحمولة وراجع ما يعرفه عن مقدار تحليه بالاستقامة التي لو ثبت انها من ميزاته فسيكون فوزي حيال صعوبات جمة لاقناعه ...ثم ما لبث ان انتابه فرح غامر ...ليست استقامة صاحبه بالقدر الذي يحول دون تمرير الفكرة في ذهنه بقدر ما هو خوفه من عواقب تلك الفعلة ان وافق عليها ...
- هو سارق ونحن نسرق سارق ..والبادي اظلم .. قال فوزي محرضا وقد افضى بالفكرة كلها دفعة واحدة لصاحبه
- تذكر انك لو تتمسك بالتردد حيال فكرة كهذه فستظل نادما بعدها طوال حياتك
- لست مترددا ولكن ...افكر في العواقب ..صاحبنا ..بول عليه ماذا تساوي هذه الحمولة بجانب ما لديه من ثروة
- العواقب ...؟؟؟لن يعثر علينا ابدا سنذوب مثل فص ملح في الطعام ..
- وهذه الشاحنة ؟؟ لم يكن من العسير على فوزي ايجاد الحل
- نتركها ملقاة على قارعة الطريق بعد افراغها من الحمولة او نفتعل لها حادثا
- ولكن سيجدونها فارغة من السلعة ويدركون ان الحادث مفتعل
- ولكنهم لن يجدوننا فلنا الف طريقة للتخفي
- اين نذهب ؟؟
- حيث يكون المال والكسب ...الدنيا ليست بالضيق الذي تصوره لك عيناك ..
اخذ الرجل يحسب المسالة من مختلف الجونب ..اعني بصورة ادق من جانب ما ستدره عليه من كسب فهو كان عاجزا بحكم انغلاق عقله الذي اوصله اليه سنوات طويلة من العمل الشاق القاتل لكل فكرعن ان يرى المسالة من غير تلك الزاوية ...فوجد ان مبلغ الفين وخمسمئة دينار او ثلاثة الاف جديرة بهذه المغامرة ... من سيهتم ان عني الرجل بملاحقتهما وكيف سيثبت انه سلمهما حمولة ما ... هو قبض الثمن والمشتري لا فكرة له عمن جلب له الحمولة ....ان فكر في مطاردتهما فسيكون كمن يطارد شبحا ...وسرعان ما كان يديرالمقود في اتجاه المنطقة الساحلية وهو ينقث دخان سيجارته بطريقة شخص لا يثنيه شئ عما اعتزمه واحلام النقود الوفيرة التي ستهطل عليهما بعد قليل تبعث في اوصاله نشوة غامرة فدخن ودخن ودخن وعندما انتهت العلبة توقف واشترى علبة مارلبورو وفوزي بجانبه يرمقه بعينين تفيضان مكرا وخديعة
............................
25
ولم يتاخر في تسديد طعنته النجلاء لصاحبه ..فهو قد حسبها من الاول وخطط للظفر بالمال كله لنفسه . لقد غدرا بمشغلهما ...وفوزي غدر بصديقه ....فما ان باعا الحمولة بالثمن الذي حلما به وتقاسما العمل على ان يقوم فوزي بالبيع وتسلم المال وصاحبه يعني بالشاحنة وقيادتها حتى تظاهر فوزي بحاجته القاهرة للعودة الى مدينته لامر مستعجل ووعد وعدا قاطعا بالرجوع سريعا .والمال كله بحوزته ..وكانت تلك اخر مرة يراه فيها صاحبه ..فلبث يتخبط على غير هدي بالشاحنة حتى شكت في امره دورية امنية فاوقفته وبعد استجواب لم يطل اعترف سريعا بكل شئ فهو في الحقيقة اعتمد في التخطيط للعملية بالكامل على فوزي وهذا لم يخيب الظن بل ظهر اكثر شطارة مما توقع صاحبه ..فسيق هذا الى السجن وبدل فوزي قشرته كلها بعد ان انتقل الى مكان بعيد واحتمى بعدد من اصدقاءه وسرعان ما بدا المال يهطل عليه مدرارا فانشأ يبرم الصفقة تلو الصفقة ويشتري ويبيع ومرابيحه تزداد وتتضاعف حتى صار يعبث بالسيارات عبثا وامتلك عمارة وتزوج صبية حسناء ومع ازدياد امواله ازداد اصدقاءه فصار لا يتحرك الا وهو مصحوب بدمجة منهم لا يكفون عن تملقه وابداء الاستعداد لتقديم اجزل الخدمات له طالما ان معين المال يتدفق دون انقطاع حتى كانت المرة التي لم تسلم فيها الجرة ..اعتاد فوزي على تدليس الفواتير فكان كل مرة يضيف صفرا الى اليمين في مجموعة ارقام تمثل مجمل الثمن الذي سيتسلمه لقاء السلعة التي جلبها وهكذا ذات مرة كان قد باع حمولة من الحبوب الى احد مخازن التجميع بمبلغ الفين وسبعمائة دينار صيرها بقدرة قادر سبع وعشرون الف دينار...فلم تفت ضخامة المبلغ عين مراقب الحسابات اليقظة الخبيرة وسرعان ما كان فوزي خاضعا للتحقيق حول حقيقة المبلغ والمبالغ التي تسلمها فهي كلها كانت تحوم حولها شبهة التزوير بشكل جلي ..لم ينتظر فوزي ان يثبت براءته فللخبيث دوما الخطة ب التي يعتمدها كلما حوصر فما اشرقت شمس اليوم الموالي الا وهو قد شرع في اعادة بناء حياته في مكان بعيد جدا بعد ان ترك خلفه زجته وشقيقه الذي كان قد خطب سعيدة ..كان قد عبر البحر الى ايطاليا وهناك بفضل المال الذي بذله سابقا والمال الذي تمكن من تهريبه معه امكن له ان يشتري حياة لا يطارده فيها احدا وامانا لا تكدره ملاحقة اوتحقيق فالمال في الغربة وطن
.......................
26
ورمزي شقيق فوزي كان يعاني من انخفاض طفيف في منسوب السكر في دمه لم يحل دونه وممارسة حياته بصورة طبيعية والارتباط بسعيدة التي احبها رغم فقرها ..كان يمثل النقيض من اخيه في كل شئ ..متواضع خلوق لطيف المعشر دائم الامتعاض من انحرافات اخيه وشطحاته التي لا تنتهي ..وعندما تفطن اصحاب المال الى تلاعب فوزي وفر هذا الى ايطاليا كان رمزي على وشك اتمام زواجه من سعيدة ..واذا به يجد نفسه دون ان يحسب لذلك حسابا مورطا في قضية اختلاس تقدر بالاف الدنانير يتعين استخلاصها من ملك العائلة ففوزي لم يكن يكتب شيئا باسمه غير النقود السائلة التي يمتلئ بها جيبه ..كان كل شئ باسم الوالد المتوفي ولما كان رمزي هو الشقيق الاكبر فقد تعين عليه ان يسدد المبالغ التي حكم على فوزي بدفعها ..فقام ببيع بيت النوم التي اشتراها استعداد ا لزواجه ومختلف الاثاث الاخر الذي كان في البيت ليتجنب بيع البيت نفسه او رهنه ..كان كما قلنا يعاني من انخفاض طفيف في منسوب السكر ولكن بفعل تلك الازمة المفاجاة وعدم قدرة نفسيته الهشة على احتمالها تحول انخفاض السكر الى كارثة صحية وفي اقل من سنة صار لا يكاد يبصر شيئا ولا يستطيع التحول بمفرده الى المستوصف ليتحصل على حقنة الانسولين اليومية التي قررها له الاطباء ... في تلك السنة ذاتها عقد زواجه على سعيدة التي رفضت التخلي عنه رغم سوء حالته الصحية وترديها على نحو منذر بالخطر ...وظلت شهورا طويلة ترافقه يوميا الى المستوصف بعد ان تزوجا وهو لا يكاد يعي شيئا بفعل الانخفاض الهائل في منسوب السكر بفعل الصدمة حتى لفظ انفاسه اخيرا في احضانها وهي حامل بطفلهما الوحيد...وامه تجيل نظرة تفيض هما وحزنا بين وجه ابنها المفارق وبطن زوجته التي اوشكت ان تضع حملها وترفع راسها الى السماء وقد حسمت ان تدع ما بين ابنيها لحكم تلك السماء ثم نكست راسها الى الارض واثقة من عدالة حكم تلك السماء ....كانت تدرك ان فوزي قتل رمزي او في افضل الفروض تركه لمصير هو من صنعه وفر بجلده لا يلوي على غير سلامته... كان جبانا منتهى الجبن لئيما انانيا ..عندما بلغه نبا موت رمزي لم يزد على ان اجابها .
- وانا ايضا هنا اموت واحيا في الغربة مائة مرة في اليوم فلا تعتقدين ان رمزي وحده من مات نوحي علي انا الاخر فانا ميت برسم الحياة ..ما ان قرأت تلك الكلمات حتى لاح لها خبثه المعهود وقساوته وموت قلبه التي تفيض من بين السطور...قررت أخير التوقف عن استعطافه ليعود ويتحمل مسؤوليته فذلك بدا لها امرا ميئوسا منه... فوزي لا تهمه غير نفسه وسلامته..حتى زوجته تجاهلها ولم يكلف نفسه عناء الاتصال بها طوال السنوات التي قضاها هاربا ..كان يدرك قلة حيلتها وانها لن تجازف بشئ في غيابه وستنتظره ولو كلفها الامر عمرا ....حتى كان ذلك الامر الجسيم الذي اقدمت على صنعه القلة الشجاعة من ابناء هذا الوطن مدفوعين بتوق غامر لاحقاق الحق وانهاء بؤس وكبت طال امدهما ..واذا بجموع غفيرة من اللصوص والمعتوهين وطلاب الكسب وبائعي الذمم وفاقدي الضمير تكتسح مختلف انحاء البلاد وتنتصب متنفذة حاكمة بامرها مستغلة ميل اغلب الناس في هذه البلاد للاستكانة والخضوع ...فوجد فوزي في الوضع الجديد ريحا مواتية تحمله ليعود بعد ان ابدل ثوبا بثوب وجلس يصلي ويدعو... اعني قام بما يقوم به اغلب المنافقين في هذه البلاد ...بالاموال التي جمعها في ايطاليا -فهو في كسب المال كالمنشار ياكل صاعدا ونازلا- ذهب ليحج الى بيت الله الحرام كما اسماها وفاخر بذلك وعاد اثرها حاجا لا تفارق السبحة يده ولحية تملا صدره ومجموعة من الجلابيب ناصعة البياض وشاحنة ضخمة ممتلئة بالدراجات النارية المستعملة لبيعها في تونس ...قبل طويلا امه التي وجدت نفسها حيال دهائه بلا حول ولا قوة وتحادث مع زوجته ونجح في لفلفة الامور معها وانساءها هجرانه الطويل لها بما جلبه لها من نفائس وسلم على سعيدة التي ردت السلام وهي توشك على الاختناق ثم لم تلبث بعد ايام ان غادرت المنزل الى بيت حقير على اطراف المدينه تركه والدها وتشاركت السكن فيه مع شقيقتها المقعدة ..ومن وقتها ولمدة سنتين انقضتا على عودته رفضت ان تكلمه او حتى ان تنظر اليه او تقبل منه شيئا ...كانت سعيدة صاحبة نفس ابية ذات كبرياء بيد ان هذا الكبرياء لم يحل دونها والتفكير في تلقين ذلك الوغد درسا لا ينساه يشفي غليلها فهي كانت تدرك ان ابتعادها عنه وتنازلها عن حق زوجها في المنزل هو ما كان يريده ..كان يريد ان يتخلص منها قطعا فوجودها في حياته سيمثل بالنسبة له تذكيرا دائما بجريمته ..وهو ..رغم ما فطر عليه من جمود في الاحساس وتبلد في المشاعر لم يكن يشعر بالراحة عندما يتذكر ان رمزي مات بسببه ..كان يريد نسيان المسالة برمتها وان يبعد ويزيل من حياته كل ما من شانه ان يذكره بها ..وهكذا فعندما قررت سعيدة مغادرة المنزل والاقامة بمعية اختها ابدى دهشة واسفا مفتعلين ثم ما لبث ان نسي الموضوع ...وانقضت السنتان وسعيدة في غمرة البؤس وشقاء التنقل للعمل في السواني القريبة والبعيدة او لدى ذلك السمسار ان جاد عليها بحمولة من الفلفل الاخضر لتنظيفها ....وهاهي وقد استيقطت صباحا بعد نوم متقطع تخللته الام فظيعة في راسها لتجد ان راسها لا يزال ثقيلا بالكاد تستطيع رفعه ورغم جوعها فلم تكن لها رغبة في الاكل.. كان طعم المرارة يملا فمها ...وهاهي سلوى تخبرها ان املها في حمولة الفلفل قد سقط في الماء فحليمة قد نالت الصفقة كلها لنفسها.. لم يكن امامها غير ارجاع الكاس فتسلمته منها ابنة حليمة من شق صغير في بابها ولم تكلف نفسها حتى مجرد السؤال عن احوال المريضة.ثم عاودت اغلاق الباب بنفس السرعة التي فتحته بها
.............................
27
عادت سلوى سريعا بعد ان ادت الامانة فسالتها سعيدة ان كان كمال قد عاد الى بيته وتناول عشاءه فاجابتها بالنفي ففراشه ظل خاليا حتى الصباح فانزعجت سعيدة لهذا النبا المفاجئ فهي تعرف ان كمال نادرا ما يلم بالمقاهي ناهيك بقضاء ليلة كاملة في احداها ثم لم يلبث ان غلبها الصداع الذي يطحن راسها فعاودت الاضطجاع ويدها فوق جبينها ..
- انه رجل ويتدبر امره ....
- هل تعرفين او قال لك انه سيتغيب كل هذا الوقت ؟
- لا ادرى ...ولا فكرة لي عن سبب غيابه فهو قبل مغادرته لم اكن هنا ..
- امك حدثها بشئ ؟؟
- ظلت تتاوه طوال الليل وهي في شغل شاغل باوجاع مفاصلها عن كل شئ اخر ..اجابت سلوى وهي لا تقل انزعاجا عن خالتها ...
- لعله دخل في خصومة مع احدهم انتهت به الى المركز ...فهم دائما يقتنصون الاضعف ...سكتت سلوى حائرة وهي تفكر في مصير ابيها وما يمكن ان يكون وراء غيابه هذا ثم انتبهت الى ان خالتها لم تاكل شيئا هي الاخرى وعلامات الحمى جلية على وجهها فقالت بصوت حاني :
- قومي يا خالة وكلي شيئا ...فالانهاك والحمى والجوع قد تحالفت كلها عليك .....وجدت سعيدة كلام سلوى معقولا فهي في حاجة ماسة الى ان تنهض في اسرع وقت ممكن وتتخلص من هذه الحمى لتعود الى مواجهة ما امامها من مصائب اخرى ..فاعتدلت في جلستها وهي تنظر الى سلوى نظرة عرفان وحب غامرين ...انها محظوظة بها وبصحبتها ...سلوى المحبة المعتنية التي تجد فيها رفيقا وانيسا ومحاورا وتساعدها على ايجاد المخارج والحلول كلما انسدت المسالك وادلهمت الافاق وهاهي وهي تؤاكلها تحدثها عن مخرج من ازمتهما يتمثل في عمل في احد بيوت التبريد فريقو الذي على ملك احد الخواص ولا يبعد كثيرا عن مقر سكناهم ..ثلاث كلمترات فقط ..يقطعانها مرة واحدة ..ذاهبات في الصباح وعائدات في العشية
- بعد انهيار املنا في فلفل السمسار لن نعود الى السواني قبل فترة طويلة
- الفريقو يعمل هذه المدة فهي بداية الشتاء وباعة التفصيل يقصدونه لاخراج غلالهم الصيفية المبردة لبيعها....
- هل تظنين ان من السهل ان نعثر على مكانين لكلينا ؟؟
- لا ادري... ردت سلوى ..ساذهب وارى ...
- والى ان تذهبي سيكون العشرات من النساء قد سبقنك اليه واخذن مكانك ومكاني ..
- فرص العمل نادرة وغالية هكذا يقول ارباب العمل دائما ...
- ومن وراء ما يقولون يعود عليهم بالخير العميم ...ذلك ليس اكثر من ابتزاز من قبلهم لكي يشغلوا العاملات بابخس الاثمان
- مارايك في طابونة ؟؟لا نحتاج الى رب عمل فيها
- طابونة ؟؟ في الخلاء ؟لمن نبيع ؟؟
- بل على حافة الطريق القريب من هنا ..وراء التل الترابي ..الطريق الحزامي ...
- كلا ..كلا ...اعترضت سعيدة بشدة ..انها نار لافحة ..وكانها استشعرت حرارة تلك النار فهي كانت سارية في جسدها سلفا عاودت الاضطجاع بعد انتصابة قصيرة ولقيمات من مقرونة البارحة بالكاد هضمتها امعاءها فنار الحمى قد عاودتها بحدة اشد ...
- هل لدينا اسبرين ؟؟
- انت تشتغلين في طابونة على قارعة طريق الهم ؟؟؟؟وعرضة لتحرشات اصحاب السيارات طوال الوقت
- انها مربحة ..
- لو كانت كما نقولين لسبقتنا اليها حليمة وابنتها ..وشعرت سعيدة بصهد الحمى يشتعل في دماءها ولم يكن ينقصها غير طابونة وصهد اضافي يتصاعد منها ...
- قومي وابحثي لي عن اسبرين وحاولي ان تعرفي سبب غياب ابيك
.........................
28
رجعت سلوى بعد فترة لم تدر سعيدة اكانت طويلة ام قصيرة فالحمى جعلتها في حالة بحران غيبت عنها الاحساس بالزمن ..عادت وهي تحمل معها خبرين : احدهما مفرح الى حد ما ..والاخر محزن ولا تدري ما له من تداعيات ...علاوة على ايصالها امين الى المدرسة ...اما المفرح فهو ان هناك مكان لعاملة واحدة في الفريقو.. عاملة واحدة فقط ..واما المحزن والذي ليست متاكدة من تفاصيله فيتمثل في ان والدها حاليا رهن الايقاف كما تكهنت سعيدة تماما بعد خصومة مع شخص لم تعرف هويته ...حاولت سلوى التهوين من الامر فهي كانت تعتقد انه لم يتعد خلافا بسيطا ستتم تسويته في المركز ويغادر عائدا بعد قليل الا ان نظرة وجلة مليئة بالمخاوف ارتسمت على وجه خالتها الجمتها وسربت اليها العدوى فاطرقت ونظرتها مثبتة على الارض فهي لم تكن تعرف شيئا عن تفاصيل الخلاف وما تسرب اليها من معلومات لم يفدها بشئ حول طبيعته والطرف الاخر في الخصومة ...لبثت سعيدة واجمة فترة وهي تشفق على شقيقتها من تداعيات الخبر الاسيف ثم كأنها حسمت امرها على اخبارها فتحاملت على نفسها واتجهت وهي تستند على سلوى الى بيت شقيقتها التي كانت جالسة في فراشها وشعرها مشعثا منفوشا يعطيها مظهر غولة وعيناها محمرتان ويدها دوما على خصرها الذي قلما هادنته الاوجاع ...
- اين والدك يا سلوى ؟؟..حمدت سلوى الله ان ذلك كان حد البأس من والدتها فهي لم تات على ذكره بكلام حاد كما اعتادت ...فاجابت وهي تتكلف الهدوء :
- بيدو لي انه تعارك مع شخص واضطرا الى التوجه الى المركز وسيعود بعد قليل ...
- تعارك مع شخص ؟؟؟ لا يعود من معركه الا مدمدم مدمن على اكل الطرائح
- لا تقولي هذا ...ردت سلوى بامتعاض
- لا اقول هذا ...وماذا اقول ؟؟هل اقول ان اباك بطل مغوار وسيخرج فائزا من معركته هذه ؟؟ لن يكون الا الطرف الاضعف والمغلوب ...كما تعودته منذ عرفته ..مدمن هزائم ...
- ولكنه لم ينهزم في كرامته ... ردت سعيدة مدافعة ...قد يكون جسده ضعيفا ولكن كبرياءه ليس كذلك ...فكرت سلوى ...ان اباها قد جنت كبرياءه على جسده او قل لديه جسد لم يحتمل ما بداخله من كبرياء ...
- تعرفين انه ابى ان يعمل في قاراج ذلك الكلب فوزي عندما تكون هناك حمولة جلبها هذا الاخير من ايطاليا وما اكثر ما كان يجلب ...وقال لا اعمل مع نصاب وقاتل ارواح ..في الوقت الذي كان الاخرون يتهافتون عليه للعمل عنده ..الا يجعلك ذلك تشعرين بالفخر تجاهه ؟؟
- وسمع كلمته البعض ممن يعرفون حكاية فوزي الحقيقية مع شقيقه الماسوف على شبابه ...رمزي مات في سن الثالثة والثلاثين.. وقد يكون فوزي اسرها في نفسه وأضمران يكيل لكمال الصاع صاعين.. ونظرت امامها منزعجة وقد تخايلت لعينيها صور مليئة بالفظاعة لوحش كاسر يمارس انتقامه على راحته ولا يجد الضحية من منقذ او مغيث ..غلب على وجهها التجهم فاتكأت كعادتها على الحائط كانما لتحتمي به من هجوم لا قدرة لها على دفعه ...قالت سلوى بسذاجة :
- كيف يستطيع فوزي ان يفعل شيئا وهو مازال ملاحقا ؟؟فضحكت سعيدة وهي تملا ملعقة بسيسة لشقيقتها وتجبرها على ادخالها الى فمها وردت هازئة
- ملاحق ؟ من طرف من ؟؟انه لم يكن ملاحقا لا سابقا ولا لاحقا الا من قبل عدالة لم تقم اركانها بعد ولا وجود لها ماضيا ولا حاضرا... لو كانوا جادين في ملاحقته لما سمحوا له باجتيازالحدود تلك المرة بعد انكشاف اختلاساته فاكثرهم كانوا يفعلون مثله واكثر منه ..والمستفيدون منه كثيرون وكان مثيرا للسخرية الحديث عن رغبة السلطات في ايقافه او استعادته...من سلبهم اموالهم هم انا وانت الذين في الدرك الاسفل من السلم الاجتماعي تسحقنا الخصاصة والاحتياج ..وهو في عمله الحالي اي توريد الدراجات المستعملة لا يحتاج الى ترخيص فهو قد صار احدهم وبصفته تلك نال صك غفران يتيح له ان يفعل ما يشاء فالابواب مفتوحة امامه وامواله وفيرة يشتري بها كل شئ بما فيها الضمائر والذمم وألسنة تسبح بحمده ....
...........................
29
ولم يلبث شكري جارهم غريب الاطوار بعد ان انتهى من تنفيخ دوارته في الوادي الذي يتوسط التجمع السكني والمرتفع الترابي ان جاءهم بالخبر اليقين حول سبب غياب كمال المحير ..اوقف دراجته المتهالكة امام باب دار كمال وعندما شاهد النسوة الثلاث جالسات والحيرة تعلو وجوههن دفع الباب واندفع في الكلام ساردا ما سمع وشاهد - كان شكري يبدو دائما شخصا في منتهى الغرابة بالنسبة الى سلوى فهي لم تعرف البتة نوع العمل الذي يقوم به ويعيل من وراءه عائلته... كل مساء في الوادي كانت تراه يشعل نارا من قطع من خشب الكلتوس اقتطعها من الاشجار القريبة ويضع فوقها قدرا ضخما لم تدر ما بداخله غير مرة واحدة ..عندما تركه لفترة قصيرة ودخل الى بيته ليجلب ولاعة لاشعال سيجارته فاقتربت بصورة خاطفة وألقت نظرة على ما بداخل القدر فهالها ما رأته ...رات احشاء ما يمكن ان يكون بقرة او جمل وهي تضطرب في القدر فوق النار الحامية ..وتعجبت وهي تتراجع سريعا من اين لشكري ببقرة ليذبحها ويطبخ احشاءها ...لم يكن قادرا على شراء دجاجة اغلب الوقت... لا لم يكن يطبخها ..تلك الاحشاء التي شاهدتها بل يقوم بتليينها لكي يصبح محتواها قابلا للعصر والاخراج ...وبغتة خطرت على بالها فكرة رهيبة : ماذا لو كانت تلك احشاء بغل او حمار مما يتاجر به خفية ويقدم للناس على انه احشاء بقر او جمل فبالنظر الى ضخامة الكتلة التي في القدر كان مستحيلا التصديق انها قد تكون احشاء خروف او عنز ..ووضعت يدها على فمها لتداري غثيانا شعرت به عندما خطرت ببالها تلك الفكرة ...
الان شكري انتهى من تليين دوارة كائنا من كان في القدر وعاد بها الى البيت ثم بعد فترة خرج على متن دراجته وامامه كيس بلاستيكي محكم الغلق ليعود بعد ساعات ويوقف الدراجة امام دار كمال ويشرع في سرد ملابسات الحادثة التي انتهت بتوقيفه ...كان سلوكا في منتهى الحماقة والسذاجة ذلك الذي اقدم عليه كمال وصور له انه بامكانه العبث في حلقة من الذئاب ...ظل يتسكع العشية باكملها في ارجاء الحي بعد ان سئم البقاء في الخلاء المقفر حتى ألجأته العاصفة الترابية على المرور امام مستودع فوزي الذي كان ساعتها غائبا وترك شقيقه الاخر الاوسط الذي لم يكن يهمه شيئا من امر العائلة ولا اثرت فيه كارثة موت رمزي بقدر ما اهمه مقدار ما جلبه معه فوزي من مال عند عودته ....كان المستودع معدا لتخزين الدراجات النارية المستعملة القادمة من ايطاليا في انتظار اكتمال صفقات بيعها واحيانا يجلبان- فوزي وشقيقه الذي اضحى وكيل اعماله - مختصا يقوم بتفكيك احدى الدراجات لبيعها كقطع غيار
فهي مدرة للمرابيح اكثر اذا باعاها قطعا منفصلة ..او لاستبدال قطعة اصلية جاءت مع الدراجة من الخارج بقطعة مقلدة يتولى تركيبها مكان القطعة الاصلية ويبيعان هذه بشكل مستقل فيغنمان ربحا مضاعفا ...حال وصول كمال امام باب المستودع توقف وشرع يتبادل الحديث مع شقيق فوزي ويتناوش معه بشان غلاء سعر دراجاته مقابل حالتها المستعملة بما يعني انه يتهمه ضمنيا بالغش دون ان يصرح بذلك علنا ...فتبديل قطعة اصلية بقطعة مقلدة كان سلوكا دارجا عند الاخوين ولعل اغلب ما كانا يفعلانه في المستودع كان اقتلاع اكثر ما يمكن من قطع الدراجات الثمينة وتركيب الشينوا تبدو لامعة مزخرفة ولا يهم ما يحدث بعد ان يبيعا الدراجة ويقبضان الثمن فلهما الف طريقة وطريقة للتفصي من مسؤولية اي عطب تالي ...
- هذه الدراجة ...- واشار الى دراجة فخمة كانت منتصبة في وسط المستودع -لو عرضتها علي ب800د لما قبلتها وعددت مبلغا كهذا فيها خسارة ...فاغرب شقيق فوزي بالضحك وهو يرد :
- لو عرضتها عليك ب100د لما قدرت عليها ...
ان ثمنها المقترح هو 1800 د وفوزي وشقيقه يعتبرانه ثمنا منخفضا قياسا بحالة الدراجة الممتازة وفخامتها
- من عرض عليك شراء دراجة نارية انت ..هل تعرف كيف تسوق حتى بسكلات او تقدر على ثمنها حتى ؟؟وعاد يضحك وفي دخيلة نفسه اضمر الايقاع بكمال ....
لقد راه احدهم واقفا هناك .....بل اثنان شهدا انهما راياه امام الباب
هكذا شهد الشهود وهم يدللون على السرقة التي اقترفها كمال بعد مغادرة الشقيق المستودع لبعض الوقت وقد استأمن كمال على محتوياته
- ربع ساعة واعود يا كمال ...الامر مستعجل ..قالها وهو يمسك بهاتفه حذو اذنه والانشغال الشديد يبدو على وجهه ...
وكمال وقد غاب عنه ما يخطط له الخبيث الحقود قبل بمنتهى السذاجة حراسة القاراج لحين عودة صاحبه
لقد راه احدهم هناك ولم يكن هذا الواحد غير احد محاسيب فوزي جهزه للايقاع بكمال جزاءا وفاقا لما سبق ان قاله في حقه..ولم يكن في المكان غير كمال في ذلك الوقت فالقطعة المفقودة لا شك لم يستول عليها غيره ..حالما عاد الشقيق شرع يتلفت حوله كمن يبحث عن شئ ثم اجال نظرة متوجسة نحو كمال الذي لم يدخل القاراج قط وظل يحرسه من الخارج ...
- اين هي ؟؟اين هي ؟؟
- ماذا ؟؟ تساءل كمال ببراءة ...
- قطعة ...كانت هنا ...
وشرع يتخبط في ارجاء المكان كمن يبحث جادا عن شئ اضاعه ولما لم يجده ...او هكذا تبادر لذهن كمال خرج من المستودع ودار من خلف كمال والتقطها ...كان قد وضعها هناك طوال العشية ليسهل عليه تمييزها عن عديد القطع الاخرى وعندما تناوش معه كمال اعتزم ان يتخذها ذريعة للايقاع به والان يتعين على كمال ان يفسر سبب وجود القطعة خلفه وما اسرع ما كان يتصل بشقيقه ويده الضخمة ممسكة بكمال الضعيف البنية وبعد اقل من ربع ساعة قدم فوزي مصحوبا بسيارة امنية استجلبها في الحال كانها كانت في جيبه لقد قبض عليه متلبسا بسرقة موصوفة وشهد اثنان كانا بالقرب من المكان انهما شاهدا كمال واقفا والقطعة خلفه يداريها
- هل رايتماه يخرجها من القاراج ...؟؟
- لا بل كانت وراءه طوال الوقت ..لم نتابعه من ساعة مجيئه ...
شعر فوزي بان مجرى التحقيق يمضي في اتجاه لا يلائمه ولا يلائم المخطط الذي اسر له به شقيقه..فتنحى في الحال باحد الاعوان واسر له بكلمات ..وسرعان ما عاد هذا بعدها ودفع كمال الى داخل السيارة بعد ان ثبت بالدليل القاطع الذي دعمه عدد من الشهود ان كمال اختلس القطعة والا فهل كان مجنونا هو - اي فوزي ليترك قطعة ثمينة كتلك في العراء طوال الوقت ..ضجرت سعيدة اخيرا من تكرار شكري سرد المقطع الاخير من الحكاية فقلبت وجهها نحو الحائط ...وسالت سلوى
- اذا ثبت عليه التهمة فبكم سيعاقب ؟؟
- اقل شئ 6 اشهر من اجل السرقة المجردة
- ماذا ..رددت زوجة كمال مستنكرة
......................¬.....
30
ولم تدر ماذا تقول بعدها ...اما سعيدة فلم يبد على وجهها استنكارا او دهشة بل شعرت بقدر من السكينة ادهشها هي بالذات ...حتى لو كانت العقوبة عام او عامين فما الفرق بين وجود كمال داخل السجن ووجوده خارجه ؟..بل - هكذا فكرت سعيدة- ان وجوده داخله واستراحته من عذاب الحياة اليومي بدا لها خير له واكثر رأفة بجسمه الضعيف الذي لا قدرة له على احتمال فورات روحه وثوراتها التي لم تعد عليه بغير المزيد من العناء ...ثم لم تلبث ان شعرت بالتأثم من تفكيرها في مصير كمال على هذه الشاكلة ..وتشكل السجن في ذهنها هذه المرة في صورة فكين مفترسين تطبقان على كل ما يقع بينهما ...ولا يفلتان ضحيتهما الا وهي حطام او شبه حطام ...هنا تلاشى من راسها كل حبوراجبرت نفسها عليه بعد حسابات وموازنات عديدة اجرتها بخلاص كمال من هموم حياته الراهنة ...لقد استراح منها ليواجه دولابا يطحن روحه وجسده ويعتصره وينتزع منه كل ذرة كرامة أدخرها او حاول الاحتفاظ بها ليؤسس عليها امالا في حياة لاحقة مختلفة ...انه زوج اختها المقعدة وانيسها في وحدتها المتصلة ووجوده على قلة ما فيه من نفع - فهو يكاد يكون متعطلا على مدار العام - كان يعطيها - اي اختها المعاقة - شعورا بالتواصل مع العالم فهو كان على الدوام انيسها ورفيقها ..وهي تشعر هذه اللحظة بعار يجللها ويطبع روحها بخجل عارم ..انها سرقة ...سرقة ...ما اشنعها كلمة ...وليست سقوطا في خضم فعل مشرف تفاخر به من اجله ..ليته وقع في كماشة البوليس وهو يقاتل من قضية نبيلة من تلك القضايا التي صدع بها راسها وهو يتحدث بأنفعال عن ضرورة ان يقف من اجلها الجميع فللجميع في رايه مصير واحد ...وهاهو يسقط سقطة مروعة ويلحقه تشويه لن يفلح ما عاش في مسحه ..وسيان كانت القضية صحيحة ام مفتعلة ....حقيقية ام ملفقة ...فدولاب الالسنة الناهشة الشامتة بدا بالدوران بعنف وزخم لم تتوقعهما من عدو لدود ...وهاهي تسمع باذنيها وترى بعينيها شماتة من حسبتهم اصدقاء واقارب ونظراتهم التي تطفح بالتشفي ..قيل انه في هذه البلاد اذا سقط الواحد منا ...فان السكاكين تنهال عليه من كل حدب وصوب دون شفقة وفي نفوس مشرعي السكاكين والمنهالين بها على الضحية تسري لذة غامرة متوحشة تحركها نزعة سادية للتدمير وقودها عجز تلك النفوس والعقول عن البناء واحساسها الدائم بالتفاهة.... ولا تعدم تلك النفس المبررات والمسوغات الاحلاقية لمخادعة صاحبها واقناعه بسلامة وصحة ما يقوم به ..ان السكاكين الطويلة لم تكن تنتظر سقوط احدهم بل هي توالي طعناتها باستمرار سرا وغيلة حتى يعجز الضحية عن احتمالها وكمال توالت عليه الطعنات من كل حدب وصوب حتى جاءته الطعنة التي اسقطته والتي لم يحسب لها حسابا قط ...ان يقبض عليه متلبسا بسرقة ؟؟....لم يدر بخلد سلوى ان اباها سيسجن يوما بتهمة ساقطة كهذه ...يا للعار والشنار ...كانت تتشاطر مع امها وخالتها الاحساس المضني بالخجل وتستمع الى الاقوال وقد امتدت واتسعت لتطالها هي ايضا ...
- هو سارق وزوجته معاقة وابنتهما ...عاهرة ...الى هذا الحد انغرست السكاكين في لحمتهم ...عاهرة ؟؟؟
- حكاية معروفة ..تعرت يوما وهي تعمل في احدى السواني ..وكانت فضيحة مجلجلة ..وانضاف الى هذا المعطى معطى اخر ليؤكد صدقية الدواعي القائلة بتعهر سلوى يتمثل في ان سلوى لا ترتدي حجابا على الاطلاق وتتحدث مع الاخرين من النساء والرجال دون تحفظ فعلى ماذا يدل هذا المسلك ان لم يدل على نزوع فطري نحو التعهر ؟؟فالمتخلقة لا تكلم غير زوجها او احد محارمها ولا تعطي يدها لمصافحة احد ..وهكذا بدا ان مطارق الالسنة التي نهشت كمال وشنعت باعاقة زوجته المحطمة سلفا و التي تحولت بقدرة قادر من عنصر يبعث على الرثاء لحالها الى باعث على شماتة تستاهلها وامتدت الى سلوى لن تتوقف حتى تتركها حطاما او شبه حطام
....................¬....
31
ان اعلى مراحل التوحش في حياة الانسان هي عندما يفقد الاحساس بوجود الاخرين ويغدو لامباليا بمن يجاوره ولا يهمه ولا يفزعه ما يعانيه ولا يشعر بشئ من التعاطف حيال ما يحس به هذا الاخر من مخاوف وما تمتلئ به نفسه من امال والام بل يشعر بالحبور والرضا عن النفس كلما ازدادت معاناة غيره وعذابه فذلك يمثل مدخلا ذهبيا لتأثيمه وتحميله مسؤولية كل انواع الخلل في حياته ...واقارب سلوى وجيرانها عذبوها عذابا صامتا اليما ...لا ضربة مخلب ولا عضة ناب ...ولا دماء تسيل بل لامبالاة متوحشة واهمالا بلغ حد تجاهل الرد على تحيتها اثناء مرورها بالقرب منهم ..ما اسهل قتل روح الانسان وكم يتعين على الانسان ان يسكب في روحه ومعنوياته من مادة الحديد لكي يفلت من الصهر والانهيار الوشيك بفعل تلك اللامبالاة القاتلة ...باتت النسوة الثلاث والولد الصغير وحيدات منسيات ليلة ايداع كمال في االسجن رغم بلوغ الخبر الى مسامع الكثير من اقاربهن... فلم يطرق بابهن طارق ولا واساهن مواسي ...لم يكن الامر مجرد محاباة وتملق لفوزي ورغبة في كسب وده فحسب ...بل كان وراء ذلك النسيان شعورا بالكراهية متغلغلا في الصدور ومتمكنا من النفوس منذ زمن بعيد غذاه تفوق سلوى واتخاذها منهجا خاصا ومسلكا مميزا لها في حياتها ....ابت ان تدخل في القطيع فنبذها القطيع وها هي تدفع وعائلتها وعائلة شقيقتها ثمن اختيار ذلك النهج عزلة ونبذا مؤلمان حد الاماتة ...منذ سنوات طويلة والمقعدة منسية متروكة لحالها وعندما تقع عيناها على احد اقاربها او معارفها تزور اعينهم وتمتلا بالنفور ...وحده كمال الذي تزوجها قبل اصابتها بتلك الجلطة ظل وفيا لها الى اخر لحظة ..ماذا كان يستطيع ان يفعل غير ان يفي لها ..في انعدام الاختيار لكليهما كان صلاح حياتهما وتواصلها ...وابتسمت خجلة من تفكيرها في كمال على هذه الشاكلة ...سالت نفسها اكثر من مرة ..ماذا بيده غير ان يبقى معها وهو عديم الامكانيات هزيل الجسد ؟؟ هل كان بوسعه استبدالها بغيرها لو قدر عليه ؟؟؟ومع مرور هذه الخاطرة في ذهنها بما حملته من تجريد ضمني لكمال من صفة الوفاء الاختياري فان احساسا بالعرفان حياله ملا نفسها ..ليكن دافعه في البقاء معها ما يكون ..انه في الاخير رفيقها وشريكها ويتعين على سلوكها وافكارها ان تتشكل وتتكيف طبقا لهذه القناعة ..ان كمال شخص رائع ...
ولكن سلوى لم تتحول سريعا الى حطام ولا كانت مستعدة لتدع الاخرين يحولونها الى حطام ..كانت تدرك بما توفر لديها من وعي راقي انها وهؤلاء الاخرين يتشاطرون قضية واحدة وهما واحدا ...ويواجهون عدوا واحدا وان يكن متعدد الوجوه ...من فجوات اللامبالاة تتسرب جحافل الظلامية وتفرض نفسها حلا ومخرجا للانسان من بؤسه الى بؤس اشد وانكى..تاثيم الواحد للخر وتحميله وزر كافة الشرور التي في هذا العالم وبحث كل واحد عن نجاته واستعداء قوى الغيب الخارقة القوة كلية القدرة على الاخر تفعل به ما تشاء ..وأذهلها السهولة التي يشرع بها اهل القضية الواحدة في التناحر حتى ترسخت في ذهنها قناعة صلبة بان قوة العدو واستمراره في التحكم في مقدراتهم لا يعود لقوة هذا العدو الذاتية ولا لضرورة موضوعية يدعيها ولا حاجة حيوية تفرض وجوده بقدر ما يعود الامر الى التناحر الجاهل الذي لا ينتهي بينهم ...تذكرت باسى حليمة وابنتها وما بينهم من عداوة لا اصل لها ولا فصل ...وتمنت بينها وبين نفسها الوصول يوما الى طريقة تفلح بها في انهاء تلك العداوة العبثية ...اخذت سلوى من ابيها كبرياءه وانفته اللتان حرمتاه من فرص كثيرة يبذل غيره في سبيلها النفس والنفيس للحصول عليها ...واخذت من امها اصرارها وعزيمتها وعنادها رغم اعاقتها المقعدة ...فهي - اي امها - لم تكن تتوانى في ترتيب البيت وطبخ الطعام كلما شعرت بنفسها قادرة على ذلك ...وكانت سلوى خارج البيت مصطفة مع المعطلين من امثالها امام مكاتب التشغيل تنتظر املا وفرجا هيهات ان ياتيا ....او تجر شارية ممتلئة فلفلا او جلبانة وهي تعمل مع سعيدة في سانية احدهم ..مثلما ألمح الى ذلك امين ساخرا وهي تبتسم من سخريته وتشجعه .....وهكذا من هذا المزيج من عزيمة الام وكبرياء الاب حسمت امرها على ان تذهب صبيحة الغد لترى حظها في العمل في الفريقو ...وانتوت اكثر من ذلك لابنة حليمة ...
وجدت سلوى لنفسها عملا ومكان اخر شاغر لخالتها ولكنها لم تخبرها به بل ارتأت ان تفاتح ابنة حليمة في الامر وتقترح عليها الذهاب معها ...علمت سعيدة متاخرا بالامر ففكرت وقدرت ثم انحنت على سلوى وطبعت على جبينها قبلة حارة اودعتها ما يعتمل في اعماقها تجاهها من العرفان والاحترام العميقين بله الحب الغامر ...واعتراف ببعد نظرها وسداده فهاهي بمجرد حركة بسيطة ونبيلة وان يكن فيها من التضحية المادية قدرا لا يستهان به وما حمل سعيدة عناءا اضافيا قد انهت تلك العداوة البغيضة التي استعرت بينهما لفترة طويلة كان خلالها كلا الطرفين يشعر بنفسه مختنقا ..والان وقد زالت العداوة صار بوسعهم التنفس ...ثم ان حليمة كان لديها علاوة على تلك الابنة طفلان وزوج لا خير فيه فهو دائم التشنج وكثيرا ما يشتبك معها لاقل سبب يضايقه فافسد اخلاقها ومزاجها بسلوكه وجعلها دائمة التوتر فانعكس ذلك كراهية وحقدا على الاخرين تنفس من خلالهما على كربها الذي لا ينتهي ...
....................¬.......
32
لم تجد سلوى مكانا شاغرا ينتظر عاملة اضافية لتشغله ولا عبر لها صاحب العمل عن رغبته فيها ...ولكنها نجحت او هكذا خيل اليها بعد انتهاء يومها الاول في العمل في الفريقو في اقناعه بقبول تشغيل ريم ابنة حليمة معها فالعمل كان يبدو كثيرا والشاحنات لم تكن تتوقف عن المجئ والمغادرة محملة بانواع مختلفة من الغلال والبنات قد شمرن عن ثيابهن الى ما فوق اكواعهن منغمسات في فرز الاكياس الخارجة لتوها من بيوت التبريد واستبعاد المتعفن منها واعادة تصفيف الجيد في صناديق جلبتها تلك الشاحنات ...كان الطقس قد مال الى البرودة بعد موجة العجاج التي صحبت نهاية شهر نوفمبر وبدا ان العمل في الفريقو وملامسة الغلال شبه المتجمدة بالايدي العارية وفرز المتعفن بتلك الايدي اياها والعاملة القائمة بذلك مقعية القرفصاء في ارض فضاء حيطانها من الاجر الاحمر الشبيه بالبيوت التي تعرفها سلوى ...بدا ذلك كله لها ميزيريا جديدة ورحلة شقاء معادة كدائرة مفرغة لا تختلف في شئ عن العمل في الحقول العارية ..قبل وصولها الى الفريقو واكتشافها حقائقه دغدغت خيالها صور لعمل انيق مريح مثلما يجاهد مختلف ارباب العمل في تقديمه كلما رغبوا في اغراء من يحتاجون خدماته لايقاعه في مصيدتهم ...
- ستنتفخ يداك وتحمران عن قريب بفعل البرودة ...قالت سعاد الخبيرة بهذا العمل ...فهي تمارسه منذ سنوات
- الا يوفر لكم رب العمل قفازات تحميكن من ملامسة الغلال المتجمدة ؟؟ضحكت سعاد حتى اوشكت ان تقع على الارض فهي في جلستها المقرفصة كانت بحاجة الى تركيز دقيق لكي لا تفقد توازنها ...
- قفازات ...؟؟ انظري الى الحائط خلفك ...ليس مدهونا حتى ...
- لماذا هو هكذا ؟
- بدافع الضغط على التكاليف ..ثم من يعمل فيه غيرنا نحن وماذا يهمه ان دهن لنا الحائط او تركه مليئا بالرشح فهو لن يزيده مرابيحا وماذا يهمنا نحن من امر الحائط؟؟وفعلا لم يكن يهم سعاد شيئا من امر الحائط الذي تتسرب منه البرودة ويعلوه الرشح ..فهي كانت مستديرة له بظهرها وعيناها على الصندوق الذي امامها ممتلئا بغلة الخوخ والعديد منه قد تعفن ...عشر حبات او اكثر يتعين عليها استخراجها ووضعها في صندوق على حدة واعادة تصفيف الخوخ السليم في صندوق اخر ...
- أليس في هذا خسارة ؟؟ قالت سلوى وهي تجاهد لاخراج حبة خوخ متعفنة ترهلت واوشكت ان تصير مادة سائلة كلها ...
- ماذا تعنين بالخسارة؟؟هم يشترونها رخيصة من الفلاح وقت جنيها بعد عملية ابتزاز متقنة ويحتجزونها حتى زمن الشتاء ليبيعوها بخمسة اضعاف ثمنها الاصلي...ثم خفظت سعاد صوتها خشية ان يسمعها رب العمل الذي لم يكن بعيدا ...
كان في مجئ عدد من الرجال ورواحهم الدائب حول العاملات ما يوحي بصرامة لا تعرف الرحمة تجاههن وحرص على استغلال كل دقيقة ومراقبة لصيقة لهن لكي لا يتعمدن اضاعة الوقت ..فلم تكن ترى غير الايادي ممتدة لا تتوقف عن الفرز والتصفيف ونقل الصناديق الى قرب الباب حيث سيتكفل رجلان برفعها الى فوق الشاحنة ...
- احليلي هذه البرودة وفي هذا الجو ..قالت احدى الفتيات هامسة في اذن سلوى ...التي كانت في شغل شاغل عن الكلام بمحاولة اجتناب رائحة العفونة الفائحة من صندوق الخوخ المتعفن الموضوع قربها ..وفي نفس الوقت هذه الطريقة اللعينة في الجلوس القرفصاء في حلقة من الفتيات حول الصناديق ..تذكرت محاولتها تقليد مشية البطة في سانية الفلفل ووقوعها على وجهها وهاهي تجد نفسها حيال امر مماثل ..كان الامر ركوعا اكثر منه قرفصة ..ركوعا لقوة استغلالية اعتى من ان يكن قادرات على مقاومتها فهؤلاء الشقيات الاتي تحلقن حول الصناديق الباردة والرائحة النتنة تنبعث من الكثير منها لم تدع لهن الضرورة خيارا غير ان يقبلن عمل السخرة هذا ...كن سبع..ثمانية ..تسعة ...اثنتا عشر ..خمسة عشر فتاة متشابها ت كلهن في امتلاء قسمات وجوههن بعلائم الشقاء والفاقة ..ورب العمل بمعية لفيف من الرجال في حركة دائبة حولهن يعد الصناديق الخارجة لتوها من بيوت التبريد ويتفقد الاخرى المفروزة المنتقاة ويشير الى هذه بالقاء صندوق المتعفن في الفراغ المجاور لبناية الفريقو .وبين هذا وذاك يلقي نظرات صارمة على العاملات المقرفصات وبعيني ذئب متربص يرصد كل تهاون وتقصير ولا يتردد في تنبيه المعنية بالامر بتقصيرها ...
- اقلبي هذه الحبة ...وقلبتها سلوى فهالها ان ترى جانبها الاخر متعفنا ...
- كان مجرد سهو مني اعترضت سعاد مبررة ...ومضحية بنفسها دفاعا عن سلوى فاجال رب العمل نظرة حادة على كل الصناديق ثم تحرك مبتعدا ..وظلت الفتيات راكعات لساعات طويلة حول الصناديق المتجمدة وبايديهن العارية لا تتوقف صفوف الصناديق الممتلئة بالغلال المفروزة عن التدفق داخلة وخارجة
- بكم يباع هذا التفاح في السوق ..؟ همست سلوى في اذن سعاد
- يضرب السعر الاصلي في خمسة ويحسب تكاليف التبريد وحساب التالف فيكون السعر لا يقل عن اربعة دنانير ونصف للكيلو الواحد
- من يقدر على شراءه بسعر كهذا
- ليس نحن طبعا
- اذن لمن كل هذا؟؟فحدقت فيها سعاد طويلا ثم قالت
- احيانا نختلس حبة او اثنتين ....
- اذن نغطي بعض حاجتنا بالاختلاس ..من المختلس حقا ؟؟
ثم انقطع الحديث وعادت الايدي تنغمس في الصناديق فصاحب العمل لم يذهب بعيدا ..انه يتشمم رائحة كل حديث ويكره ان تفوه عاملة بكلمة اثناء العمل فيعود سريعا كلما بلغت خياشيمه رائحة حديث هامس يدور بين اثنين من العاملات
....................¬...
33
ان مفاوضات ومساومات تمتلئ بالاكاذيب والمراوغات والحلف كانت تتم دوما في صائفة نضج الغلال بين المنتج ومختلف الاطراف المتربحة منه ..من التاجر الى الوسيط الى صاحب الفريقو ..كلها حلقات تتوسط الخط الواصل بين المنتج والحريف وتحقق ارباحا طائلة من وجودها الطفيلي ذاك ..سالت سلوى نفسها عن الجدوى من خوخ وتفاح في الشتاء ...ذلك ليس موسمهما ..بدا لها تخزين غلة كهذه امرا ترفيا بالنسبة لشعب نصفه او اقل قليلا يعيش تحت خط الفقر ...وتذكرت الخلاء الاجرد الذي قطعته صباحا ذاهبة الى الفريقو وتخيلته قد امتلئ حبوبا وكان هذا الفريقو مركزا لتخزينه بدلا من الغلال ...ومرت بخاطرها مقولة شهيرة لاحد دهاقنة الاستغلال :نحن لا ننتج لتلبية حاجيات الشعوب ..بل ننتج موادا نصنع لها سوقا فيما بعد ..لا غاية من وراء هذا غير الربح ...فعلا ان دولاب الاستغلال لا نهاية لدوراته ولا نهاية لضحاياه ...ثمانية دنانير يوميا ..ذلك كل شئ مقابل تسع ساعات من العمل المتواصل تتخللها ساعة استراحة لتناول الغداء على حسابهن تحت حائط الفريقو الخارجي ..ان سعاد التي تقيم قريبا من الفريقو تفضل قضاء تلك الساعة مستندة الى الحائط على عناء العودة الى المنزل والرجوع مجددا فهي في حاجة ماسة الى الراحة بعد عناء الساعات الاربع الصباحية فما بالك بسلوى التي تقيم على مسافة ثلاث كلمترات وليس لديها وسيلة نقل وقدمت مشيا على الاقدام ...
جلسن متلاصفات وسلوى تشعر ببرد الفريقو مازال ساريا في مفاصل اصابعها ...كانت شمس منتصف النهار ترسل شعاعا ضعيفا لم يكف لاعطائهن احساسا بالدفء فتقاربن من بعضهن كانهن صديقات حميمات والحق فانهن لم يكن غير ذلك فلا شئ يوحد ويقرب بين البشر اكثر من الاشتراك في معاناة واحدة وهم واحد ...
ان هذا الرجل الذي لا يكف عن الذهاب والاياب وشد حزامه حول بطنه طوال الوقت وتعابير وجهه تنم عن جدية هائلة لا تعرف التسامح قد اتاح لهن - باحداثه لهذا الفريقو فرصة الحصول على عمل وتحصيل بعض المال ولكن كل ذلك لم يكن اكثر من اداة في سياق تحقيق هدفه الاساسي : الربح والمزيد من الربح ...فلو انه نجح في الوصول الى مبتغاه هذا دون حاجة الى الاعتماد على عاملات لصرفهن كلهن دفعة واحدة ولما عني بما يلف حياتهن من بؤس وخصاصة ...كانت هذه الحقيقة مرتسمة بوضوح جلي في اذهان العاملات وهن يتناولن لمجهن ويرسلن ابصارهن باحثات عن افق اوسع من هذا الريقو العفن يحتضن احلامهن ...شهيدة حظها يبدو افضل قليلا من حظ البقية فهي مخطوبة وتنتظر عقد قرانها الصائفة القادمة على شاب ساقه اليها الحظ واعجب بها ويعمل في احد حوانيت تقطيع وصقل الرخام بما يعني انه مثلما حدثت سلوى التي كانت كل الفتيات يرغبن في التعرف عليها والحديث معها
- يعود كل مساءا ممتلئاغبارا ولا يكاد يرى شيئا مما دخل عينيه من ذرات الرخام والمياه السائلة بين يديه وعلى قدميه وهي تنصب على الة تقطيع الرخام لكي تخفف من حدة الغبار الثائر الناتج عن عملية التقطيع
- نخطط للزواج في الصيف واعمل هنا لبعض الوقت فقط لافر ثمن جهازي ...ثم ارحل دون عودة فلا اريد ان افقد اصابعي ...
انها تعتبر نفسها اذن من الفرقة الناجية كونها مخطوبة ولها رجل سينفق عليها... ورثت لها سلوى في سرها وهي تفكر في ابيها وانفاقه على امها وما استطاع فعله في ظل ذلك السيستام عند اصابتها بتلك الجلطة ..لم يكن بوسعه ان يفعل لها شيئا غير القبوع بجوارها ليرى ان كانت ستحيا او ستموت ومع ذلك ورغم عجزه فان سلوى وهي انذاك طفلة كانت ترى في عينيه حزن والم هائلين وتعابير وجهه الممتقعة تشي بما يعتمل داخل نفسه من احساس مهين بانعدام الحول والقوة لانقاذ زوجته حتى اشار طبيب المستوصف بادخالها الى المستشفى حيث لبثت شهرين لتخرج اثرهما معاقة في جنبها الايسر ولا تكاد تبين عندما تتكلم ...
- فعلا ..قالت سعاد ...الجلطة اذا اصابت انسانا شلت جانبه الايسر ومعه القدرة على الكلام .وانشأت تضرب عشرات الامثلة لاشخاص تعرفهم اصيبوا بجلطة مماثلة اسفرت عن نفس النتائج او ولدوا وهم يحملون تلك الاعاقة المزدوجة :شلل او اعوجاج في الجانب الايسر مصحوبا اما بالبكم الكامل او صعوبة متناهية في النطق ...
- ان ألمه لعدم قدرته على النطق والتعبير ليفوق ألمه لعدم قدرته على الحركة ..فعجزه هذا يخنق جسده ...اما عجزه التعبيري فيخنق روحه ..قالت رجاء بصوت غلب عليه التاثر العميق وسلوى تنظر اليها منبهرة برشاقة تحليلها وعمقه ...ثم تذكرت بخليط من الحزن والندم وهي تستمع الى هذا الكلام كم كانت تضيق بعنعنة والدتها وثقل كلامها وعجزها عن الافصاح بلغة بسيطة فتلك - الان ادركت سلوى - كانت شظايا من روح الام نفثتها بشكل عشوائي مبعثر بعد ان اعيتها الوسيلة لترتيبها وتنظيمها
- كم درست من سنة يا رجاء ؟
- ليس كثيرا ..باك و سنتين بعدها وعجزت عن المواصلة ..
- من اين انت ؟؟عجبا ولا اعرفك ..واتضح ان رجاء قادمة من جهة بعيدة ..وتمطي وسيلة النقل الريفي للوصول الى الفريقو فلا يتبقى لها بعد دفع مصاريف التنقل غير النزر القليل ومع ذلك فان لشهيدة رجلا ...اما رجاء فلا تدري شيئا عما يخبئه لها المستقبل فهي تعمل ليومها وليومها فحسب ...حسبها ان تجد بقية من المال تغطي بها حاجياتها اليومية ودع ما في الغيب لصانع ذلك الغيب ...
- وماذا لو اتضح ان ذلك الغيب هو مجرد نتاج لما نصنعه نحن يايدينا
انقضت ساعة الراحة وعادت العاملات الى الداخل وهن لما يتمتعن بالدفء طويلا فالشمس ما لبثت ان غيبتها السحب العقيمة التي أكتظت بها السماء ..وعاد السيد الى جولاته المكوكية وراء العاملات وحولهن وعدن الى غمس ايديهن في الصناديق وبرودة ملامس الغلال التي لن يطولوا ثمنها باجورهن تلك تصيب اجسادهن بالتصلب ..ان هذا الرجل الذي لا يتوقف عن شد حزامه الى بطنه طوال الوقت وتعابير وجهه تنم عن جدية هائلة لا تعرف التسامح ونظرة كنظرة الصقر تنبعث من عينيه قدرت سلوى اذ هن مقرفصات فهو بمستطاعه ان يرى اكثر من مجرد صناديق وايادي تمتد لملئها ...فنظرت الى عينيه مباشرة بحدة فاشاح بنظره عنها في الحال كانه قرا ما تفكر فيه اذ قرأت هي اتجاه نظراته المخاتلة وأجال على الصناديق نظرة واجمة قلقة ..
كان الفريقو عبارة عن بناية قديمة غير مكتملة البناء... وباستثناء بيوت التبريد التي كانت محل عناية مفرطة فان منطقة الفرز ورصف الصناديق المعدة للاخراج اي بعبارة ادق مكان عمل العاملات كان اشبه برحبة ماشية لغياب ابسط مرافق الصيانة ومستلزمات العمل المريح ..لا وجود لكراسي لتجلس عليها العاملات ولا لمناضد لتوضع فوقها الصناديق ..بل كل شئ كان موضوعا على الارض والبنات في عملية الفرز كن ملزمات بالجلوس القرفصاء او الاستناد الى الحائط العامر بالرشح خلفهن بما يضيف الى برودة الايدي برودة تسري في الظهور ومنها الى المفاصل وتصيبها بالخدر ..
....................¬..........
34
قاربت الساعة الخامسة وبدأت ظلال المغرب تتكاثف فأسرعت سلوى خطواتها مخترقة الخلاء الواسع الفاصل بين الفريقو ودارها بعد ان تحصلت على وعد من مشغلها بضم ريم بنت حليمة الى المجموعة وتشغيلها معهن ...كانت النظرة المباشرة التي سددتها الى عينيه وما حملت من اتهام نفذ الى اعماقه واصابه برجفة لم يملك حيال كلمات سلوى وهي تترجاه ان يقبل ريم معهن غير ان يجيب :
- حسنا احضريها معك غدا صباحا فقد اجد لها مكانا ...
كانت سلوى تدرك ان ريم وعدد اخر من الفتيات بوسعهن ان يجدن مكانا فالعمل كثيروشاق ويفوق طاقتهن على التحمل ومع ذلك قبلت وأقتنعت بقوله ذاك وعلقت عليه امالا كثيرة فهي ترمي من وراء هذا كله ان تنهي هذا الالم والاختناق المتبادلين بينهن وبين عائلة حليمة ....
عندما قاربت على قطع نصف المسافة لاح لها شخص امين قادما لاعتراضها من بعيد ..فابتسمت واسرعت في خطواتها نحوه ..وعندما اقترب منها فتحت ذراعيها لاحتضانه وهي تقول ضاحكة :
- صرت كبيرا يا امين وتحوز على الحكمة وتعترض ابنة خالتك خوفا عليها من الظلام ..فرد امين
- وانت يا سلوى لن تكبري ابدا ...دائما طفلة ...
- انت اكبر مني دائما يا امين ..انت حاميي وأنيسي ورفيقي ..تتذكر كلما نذهب الى الاطراف ...فرفع امين اليها عينيه ومد يده وطوقها بها فطوقت عنقه وشبكت اصابعها في شعره وبغتة اكتشفت كم كان متسخا ...كانه قد مر عليه عشرة ايام دون غسل ...
- شعرك يابسا جافا يحتاج الى شمبوان لاغسله لك
- تلك العلبة الصغيرة ذات المائة مليم لا خير فيها فهي تسببت لي في تيبسه
- لا باكو شمبوان كبير ...تحافظ به على نعومة شعرك
- غالبا ما تغسله لي امي بالصابون ...
- أعرف ولن ادعها تعيد ذلك مرة اخرى ...عندي بعض النقود وساشتري بها لي ولك علبة كبيرة واغسلك باكملك الليلة ان استطعت ..
- هل سنذهب الى الاطراف مجددا ؟؟
- قد نفعل اذا لم تستطع خالتي الذهاب في النهار فلا مفر من قضاء لوازم العشاء ..
أمتلات نظرة امين باللهفة والشوق فهو يعد كل رحلة يصاحب فيها سلوى عبارة عن متعة غامرة بالنظر لما تحوطه به من حنان ودفء ...
- قولي لها ان تدعني اذهب معك ..
- طبعا اذا ذهبت فسأخذك معي دون ريب .ولكن قبل ذلك انا الان منهكة واحتاج الى قليل من الراحة
....................¬...
35
يبدو ان الحظ قد شرع يبتسم في وجه عمر اخيرا او هكذا خيل اليه..فقد تمكن بعد جهد جهيد من ان يشتري سيارة - هكذا سماها- 504 طراز سنة85 استعملها للتنقل بين جهته ومنطقة الساحل الغنية بالفرص ..كانت سيارته على الدوام ممتلئة بالملابس المستعملة التي سرعان ما هجرها ليتخصص في تجارة بيع الاحزمة الجلدية والاحذية المستعملة وحقائب النساء .فكان كلما جاء ليستريح من عناء العمل وارهاق البقاء مستيقظا طوال الليل في سيارته - فهي كانت في نفس الوقت وسيلة تنقله ومنضدة عرضه - يمر عليه شكري عسى ان يجود عليه بقطعة او اكثر مستعملة مما تبقى لديه مجانا ولم يكن عمر بالذي يخيب رجاء صديقه فبينهما عشرة طويلة جمعهما فيها المر والامر فكان ينزل درج منزله الذي يكتريه وكان ضيقا منتهى الضيق صاعدا بشكل يكاد كون عموديا لضيق لبحيز المخصص له ..ويشرع في محادثة طويلة مع شكري الذي كان قد ركن دراجته النارية المتهالكة حذو الحائط واخرج يده من فتحة قشابية الموكات الرخيصة ووجهه الممتقع الذي تعلوه صفرة دائمة لا يتوقف عن الاهتزاز وعيناه الغائرتان تنظران الى اتجاه ثابت لا تتحولان عنه
- اتعرف يا عمر ان جارتنا وابنتها تعتقدان انني اطبخ احشاء حمار او بغل ..سمعتهما بام اذني هاتين تقولان ذلك ...ههه ههه
ضحك عمر ورد
- لا استغرب لو انك تفعلها ...فاهل هذه اللبلاد كثيرا ما اكلوا رؤوس احمرة فما بالك باحشائها ...
- ليست احمرة على الاطلاق بل احشاء بقرة يذبحها بعض الجزارين ويوكلون لي مهمة تنظيفها
- لهذا ارى وجهك دائما مصفرا ..اجاب عمر بلامبالاة ...
- انها حرفة نتنة ...وانتن منها ظنون الناس نحوي ...فهم دائما ينظرون الي بعين الريبة
- لماذا لا توضح لهم الامر وتستريح ؟؟ارتقى المرتفع الترابي
- استريح ؟؟؟اتعتقد ذلك ثمة الف يتربصون بي لاقتناص الفرصة ...قد يفتكها غيري ويفوز بالدوارة بدلا مني ...اريد ان يظل الامر سرا فكلما ظل كذلك ظللت في مامن من المنافسة ...
- وصاحبي الذي كنت انتصب قربه اطارني من جانبه وفاز وحده بالنصبة ...وهاانا في عناء الحل والترحال بين هنا ومناطق الساحل ...
- هل وجدت العمل افضل هناك ؟؟
- قليلا ..محكوم دوما براسمال ضعيف ...وما انزاد من دخل يذهب في المصاريف التي اتكبدها ...المزمر مزمر ...كانها لعنة تلاحقني ..خشي شكري ان يؤي اطالة الحديث في هذا الموضوع الى ابتعاده عن الهدف الذي قدم من اجله ...
- هل هناك شيئا لي يا عمر ؟؟
- اشياء كثيرة مرقعة ولكن ليس من الجلد ما عدى حقائب نسائية ...فضحك شكري ضحكة صفراء ...
- انظر الى قشابيتي ...صارت ملطخة بفضلات الاحشاء البقر .هل اجد عندك شيئا سميكا ارتديه عندما اشرع بافراغها ...
- بل اشياء كثيرة ..استعمل منها ما تحتاج وبع الباقي لحسابك باي ثمن فانت رابح ...على كل حال هل عندك لي دوارة ؟؟وضحك مجددا ودون ان ينظر الى شكري تراجع في الحال صاعدا الدرج الضيق وعاد بعد دقيقة وبيده كيسا اسودا ممتلئا فناوله شكري الذي كان مستعدا لهذه اللحظة فقد امسك دراجته وامتطاها وقربها من الباب منتظرا عودة عمر ..فما ان عاود هذا الظهور حتى كان شكري يضع الكيس بين ساقيه وينطلق بدراجته بعد ان هز راسه هزة ضخمة مودعا عمر ...بقي هذا لحظات واقفا امام بابه يتبع شكري بنظراته حتى غاب في منعطف النهج ثم التفت الى سيارته المتوقفة امام الباب ..كانت في حالة يرثى لها فعلاوة على قدمها وبطئها المضني فتجهيزاتها الاساسية اغلبها لا تعمل ..الباب لا يغلق واذا انغلق لا يفتح الا بعناء ..والنافذة مكسرة وبدلا منها اقام ستارا بلاستيكيا في احد النواحي ...وقف امامها حائرا لا يدري من اين يبدا اصلاحاته ثم ما عتم ان انتبه الى مفاجأة لم تكن في الحسبان ...احدى العجلات قد فرغت من الهواء ..هذا امر جميل ...وهو ما كان ينقصه لاكتمال شقاءه في اليوم الموالي الذي ازمع فيه الانطلاق مجددا نحو الساحل بالحمولة التي على متن السيارة ...ولم يطل به التردد فالوقت عشية واذا حاول استبدال العجلة فلن يتبقى له وقت كافي لافراغ السيارة من حمولتها والصعود بها الى اعلى الدرج خوفا عليها من السرقة ..ففتح الباب بجذبة عنيفة ونادى ابنه وشرعا معا في انزال الاكياس وزوجته تتابع العملية من اعلى الدرج وعلى وجهها ترتسم نظرة منقبضة متجهمة
....................¬..........
36
لم يتفاجئ عمر بسلوك شكري فهما صديقان منذ المراهقة وكلاهما يعرف طباع الاخر وغرائبه فمن خصال شكري الحميدة انه اذا انصرف ينصرف سريعا دون ان يثقل عليك او يدعك تضجر من رفقته ..كان يدرك ان سلوى شاهدت القدر وما فيه وشاهد النظرة المذعورة المرتسمة علىوجهها وفكر للحظة في مزيد اخافتها .فاعتزم ان يخبرها ان تلك احشاء خنزير ..ولكنه اد تناهى الى سمعه انها تظن انها احشاء حمار اطمأن باله الى انها خافت بما فيه الكفاية ولن تعاود النظر الى القدرمجددا فصار كل عشية يضع الاحشاء التي تسلمها من احد الجزارين الذي يذبح البقر خفية ويضعها في القدر ويشعل النار ولا يكلف نفسه الوقوف وحراستها فمجرد الاعتقاد بانها حمار كان كفيلا باشاعة الرعب والتقزز في النفوس ..فيضحك ويضحك ويضحك ...ثم ينقلب ضحكه اصفرارا عارما يكسو وجهه وهو يغالب الفضلات النتنة محاولا محاصرتها لاخراجها وتنظيف الامعاء .فكر في كمال السجين واعتزم ان يزوره في اول فرصة تسنح
....................¬......
37
ولكنه قبل ان يفعل ذلك اعتزم المرور وهو عائد بعد ان اوصل الاحشاء الى اصحابها امام دار سعيدة ..لعل في الكيس الذي اعطاه اياه عمر ما ترغب في شراءه فهو لم يكن يدري انها عاطلة عن العمل من مدة ولا مال معها كما لم يعلم بحصول سلوى على شغل في الفريقو ...ولكن ما سمعه وشاهده عندما اقترب من الدار كان مفاجأة اخرى بالنسبة له حعلت فمه ينفتح على اخره وعيناه الغائرتان قد جحظتا حتى اوشكتا على الخروج من محجريهما بفعل وقع المفاجأة .....: شاهد الجارتين اللدودتين : سعيدة وحليمة واقفتان امام باب دار كمال - فمنذ ايقافه تحولت تلك الدار الى مقر شبه دائم لسعيدة وامين - وهما تتلاومان وتتعذران وكل واحدة ونهما تربت على كتف الاخرى وتؤكد لها ان قلبها في صفاء البلور وبياض الحليب ...وشاهد سلوى وريم وقد قعدتا على جدار قصير غير مكتمل البناء مواجها للدار وهما تتبادلان الضحكات المجلجلة وامين ينط هنا وهناك فرحا بهذا الصفاء الذي لم ينعم به منذ انفتحت عيناه على هذه الحياة ..لم ثصدق ريم لاول وهلة ما شرعت سلوى باخبارها به ...نادتها حالما انتهت من غسل شعر امين - فامه حذرتها من تحميمه لبرودة الجو - فاجابت عابسة وقد فتحت بابها نصف انفتاحة
- تعالي هنا ياريم نادتها سلوى بمودة ...
- ماذا تريدين ؟؟ ردت ريم بحدة ...
- لدي ما اقوله لك ...
- قوليه من هناك ولا تكلفيني عناء الخروج
- بل ما ساقوله لك يستأهل منك عناء ان تخرجي وتسمعيه ..
- واذا لم اجده يستأهل ان اسمعه اشبعتك ضربا ...
تجاهلت سلوى ما في هذا الكلام من سوء تربية واصرت على مناداة ريم التي تحت ضغط الحاح سلوى تقدمت بخطوات مترددة ووجهها متجهم وهي تتوقع الشرمن غريمتها كل لحظة ...
- اتحسبينني غريمتك حقا يا ريم ؟؟انا ابحث عن خيرك
- خيري ؟ابحثي عن خيركم ..لو ان فيكم خيرا ...
- لو توقفت عن الانفعال فستجدين في ما اقوله لك خيرا كثيرا ...
- خيرا كثيرا من عائلتكم ؟؟...يكثر خيركم ..دون ان تسترسل سلوى في التهاتر معها افضت لها بحقيقة المسألة ...
- بدأت العمل في الفريقو واقنعت صاحبه بتشغيلك معي وسنذهب غدا سويا ...نظرت اليها ريم للحظة غير مصدقة ثم غرست عينيها في عيني سلوى كأنها تبحث عن حقيقتها في اعماق نظراتها فطالعتها نظرة سلوى الصافية البريئة ...
- الحق ما قلته لك ...انا اريدك ان تشتغلي ...
- تقصدين انك انت ...أبنة كمال وخالتك سعيدة توسطت لي لدى صاحب الفريقو ليشغلني عنده ...بدا ان صبر سلوى شرع بالنفاد ...
- اتركينا من حكاية أبنة كمال وخالتي سعيدة انا وانت في هم واحد ...هل تدركين ذلك ؟؟ ماذا صنع لك كمال وسعيدة فعلا وماذا صنعتما لهما ؟؟ وماذا فعلنا لبعضنا لنبرر كل هذه الكراهية المتبادلة ؟؟
اطرقت ريم واجمة لحظة ثم رفعت راسها فلمحت سلوى في عينيها دمعتان قد علقتا فوق خدها المحتقن المحفر ...ذقنها المدبب الذي يكسوه شعر خفيف قد شرع بالاهتزاز بصورة لاارادية منسجما مع المشاعر المختلطة التي ثارت في اعماق نفسها ...هناك من يحبها اذن ...هناك من يحبها ...ومن ؟؟ تلك التي اعتقدت دهرا انها عدوتها اللدودة ...سلوى تحبها وتبغي سعادتها وتتوسط لها في عمل مبجلة اياها على خالتها التي هي بدورها في مسيس الحاجة الى عمل ..وسرعان ما استحالت القطرتان الى سيل منهمر من الدموع نفست بها كربة طال احتباسها ..سلوى في الان ذاته شعرت بانها هزمت عدوا كريها كان يتربص بهما طويلا ويلفهما في شبكة حباله كاخطبوط حقود ...لقد مزقت تلك الحبال واعادت للحظة صفاءها ...لا شئ في حياة الفقراء اهم من لحظة من لحظة ادراكهم ان هناك من يحبهم ويعني بامرهم ....كان ذلك العدو هو اللامبالاة التي هي منتهى الكراهية وذروتها والان ريم ادركت ان سلوى تعني بامرها وتهتم بها فهي تشعر بذوبان كتل ثقيلة جثمت على روحها وعقلها وشلتها وافقدتها كل حس وكل قدرة على التفكير السليم
....................¬...
38
مع تسلل اولى خيوط الضوء الصباحية استفاقت سعيدة كعادتها ...دائما الاولى التي تستيقظ ..وتقلبت في فراشها ملتفتة الى اختها في الفراش المجاور ومع مشاهدتها دراجة نارية مارة عبر المسلك الترابي المؤدي الى المدينة خلف دارهن مدت يدها وهزت سلوى لتستيقظ ..فالصباح قد حل وعليها ان تستعد سريعا للذهاب الى عملها الجديد ...انسلت سلوى من فراشها وهي تشعر ببقايا البرودة مازالت عالقة باصابعها فالغطاء الخفيف الذي القته فوقها لم يجلب لها دفئا كافيا ...فتحت الباب فرات ريم جالسة على طرف الجدار القصير الذي جلسن فوقه البارحة وهي في حالة انتظار فهي تقلب نظراتها بين باب سلوى والطريق الطويل الذي ستقطعنه معا بعد قليل ..اومأت اليها سلوى بالتحية واشارت اليها ان تاتي وتدخل حتى تعد نفسها ..فاشارت ريم براسها بالنفي فهي مصرة على الانتظار في موضعها ذاك ولا تود ازعاج جارتها اكثر ...امين احس بنهوض سلوى فرفع راسه وما لبث ان انتصب واقفا
- صباح الخير امين ..هل في نيتك ان تذهب معنا ؟؟
- بل اشيعكن مسافة واعود ...ابتسمت له سعيدة وربتت سلوى على شعره الذي غدا نظيفا ناعما بعد غسيل البارحة وبعد لحظات كانت الرفيقتان وحارسهما قد امعنتا في الخلاء الفسيح متجهات الى الفريقو ..بعد ان قطعن ثلث المسافة اشارت سلوى الى امين بالعودة فقد انقضت مرحلة الاخطار ولا حاجة لان يتعب نفسه اكثر .فعاد متثاقلا وهو يتلفت كانه اضاع شيئا ففراق سلوى كان شديد التاثير عليه ولكنه ما ان اقترب من باب الدار حتى وقعت عيناه على مشهد انساه فراق سلوى ....كانت حليمة تجر وراءها كيسا ممتلئا بالفلفل في اتجاه دار سعيدة وهي تتعثر في طرف ثوبها وثقل الكيس ..وما اسرع ما انتبهت سعيدة الى الصوت فنهضت مستطلعة وحالما ابصرت حليمة مقبلة تجر الكيس حتى اسرعت نحوها
- يا حليمة لا ضرورة لهذا ...ساتي بعد قليل واعينك ...
- ليست اعانة ...بل نصيبك من الفلفل...
- ولكنه فلفلك انت جلبه لك الرجل ...
- الرجل ؟؟لا بارك في الرجل ولا بارك في ماله ولا بارك في ان تركتك محرومة ...
- ومع ذلك فلا ضرورة لتاتي به الي فاذا رغبت في اعطائي نصيبا فساقوم بتنظيفه في حوشك انت فحوشي صغير جدا والسمسار ان اتي ووجد فلفلا عندي فقد يتهمك ....
انتبهت حليمة الى وجاهة كلام سعيدة ..فتوقفت حائرة لا تدري اتتقدم ام تتاخر فجر الكيس قد انهك قواها سريعا ..صارت قواها تخور سريعا ...بدأت تلاحظ ذلك مؤخرا ...ودون ان تنتظر سعيدة اجابة منها سارعت الى مساعدتها على ارجاع الكيس وتقدم امين كرجل بالغ وهو يهم برفع الكيس على ظهره كما يفعل الرجال الاشداء ...واذ خانته قوته اكتفى بملاحقة امه وحليمة وهما تعودان بالكيس القهقرى ثم تلاشى اهتمامه به حالما وقعت عيناه على محفظته وادواته اغلبها لا يزال مبعثرا ثم انتبه الى ازيز دراجة شكري في الحوش المقابل فانقض على ادواته وحشرها في المحفظة وفي اقل من دقيقة كان خارجا يقفز خلف شكري على دراجته وهي تجتاز الحفر التي طوقت محيط الدار
....................¬.......
39
ارتدت ريم للمناسبة بنوارا فضفاضا يخفي ترهل جسدها فكانت تتعثر فيه من حين لاخر فتشده اكثر على حزامها ...فبنيتها غير المتناسقة لم تتح له ان يستقر في مكان ثابت حول وسطها فكان يرتفع من هذه الجهة ويهبط من تلك ...فتعيده بيدها ثم ما يلبث ان يعاود الانخرام... لم تكن ريم معنية ولا مهتمة اصلا باصلاح ذلك الانخرام ولا كانت تحفل بمظهرها وكيف تبدو امام الناس ..كان وجهها دميما محتقنا قرب عينيها ومحفرا في مستوى الصدغين وفوق ذقنها نبتت شعيرات قليلة سميكة استطالت فريم لم ترغب في ازالتها فذلك كان سيبدو مثيرا للسخرية فهي تعاني من الف تشوه وتشوه ...ولكن ذهابها اليوم مع سلوى الى معمل ..معمل وليس سانية لا تلتقي فيها غير الافدام والتقاءها باشخاص يختلفون عن الذين سبق والتقتهم قد ارقها طوال الليل ...ماذا ستلبس؟؟وكيف تختار من حزمة ملابسها الضئيلة اكثر اللباس مدارة لقبحها ؟؟وكيف سستصرف مع عرفها الجديد وماذا ستقول له على سبيل التعريف بنفسها ؟؟...ولكزتها سلوى بمرفقها لتوقظها من هواجسها ..فهما قد اوشكتا على الوصول ..كان الوقت لا يزال دون الثامنة موعد الانطلاق الرسمي للعمل ومع ذلك وجدن الباب مفتوحا والعاملات في الداخل قد شرعن بعد في العمل ..لم يكن كلهن حاضرات ولكن كل من تحضر قبل الوقت فعليها الدخول والشروع في الفرز فصاحب العمل لا ينظربعين الارتياح الى بقاء العاملات ينتظرن تحت الحائط والباب مفتوحا ...وفي نفس الوقت قلما يتسامح مع التي تاتي متاخرة .التفت فراى سلوى فاشار اليها ان تتجه الى مجموعة من الصناديق كانت في انتظارها فتقدمت وهي ممسكة بريم المرتبكة من يدها وفيما هي تهم بالكلام كام هو قد سبقها
- ممنوع دخول الغرباء ...الا تعرفين القواعد ؟؟
- بلى ولكن هذه الفتاة التي حدثتك عنها امس ووعدتني بتشغيلها ...قطب حاجبيه في دهشة مفتعلة وألقى نظرة جانبية على ريم كأنما عيناه قد تأذتا من منظرها ...ثم نادى ضجرا احد عماله
- انزل الصناديق الفارغة من تلك الشاحنة ...واشار الى شاحنة متوقفة امام الباب واستدار بعد ان اعاد الاشارة الى كدس الصناديق التي تنتظر سلوى ..وقفت هذه حائرة في مكانها لا تدري ما تصنع فهي لن تجرؤ على ان تعيد مخاطبته في امر ريم وفي نفس الوقت لا يمكنها تركها ولا ادخالها معها لكي لا تخرق القواعد ..واخيرا تغلبت على رهبتها وتقدمت بمفردها حتى حاذته وعلى وجهه ملامح الجدية والصرامة ارتعشت لها فرائص سلوى
- ارجوك الم تعدني البارحة بان تشغلها معي
- اشغلها معك ؟؟هل عندي القليل منكن
- لقد وعدتني وقلت لي ان اتي بها معي
- لا ..اجابها بصوت كالرعد... انصرفي الى عملك او غادري في الحال ...وصل صدى كلماته الى سمع ريم كسكين انغرست في صميم املها وشطرته وأخرجته نهائيا من دنيا الواقع.. فأمالت رأسها على الباب لكي لا تترنح في وقفتها ثم عاودت الانتصاب ووجهها قد تصلب وعيناها تجمدتا وهما تسددان نظرة حديدية في اتجاه ذلك الرجل السفيه
..كان الحوار الدائر بين سلوى وعرفها قد لفت انتباه بقية العاملات فجعلن يتلفتن على فترات متقطعة بصورة خاطفة محاولات ان تلتقطن شيئا من الحديث ثم يدرن رؤوسهن نحو القادمة الجديدة ويعدنها وقد امتلات باكثر من سؤال
....................¬.........
40
عادت الى ريم فوجدتها منكمشة بقرب الباب وتقاطيع وجهها ازدادت تغضنا والعرق البارد يتصبب من جبينها ..لبثت سلوى صامتة وهي تجيل نظرة متفجعة نحو ريم وتكلمت اخيرا بصوت مختنق
- لقد نكث بوعده ...ولشد ما ادهشها ان ريم اجابتها برباطة جاش فاجأتها
- اذن ساعود لا تخسري عملك من اجلي ...امسكت سلوى بيدها وشدتها اليها بقوة كانها تودعها في تلك الحركة كل معاني الاسف والاعتذار عن خيبة الامل المريرة ولكن ريم عادت تقول
- لا ذنب لك في شئ ساتذكر انك حاولت شيئا من اجلي ...ولكن سلوى كبر عليها ان تدعها تعود وهي تتجرع طعم خيبتها فواصلت الشد على ذراعها حتى اوشكت ان تحتضنها قظلت ريم ساكنة لثواني ثم جذبت يدها بقوة من يد سلوى واسرعت تخترق الطريق ماضية في اتجاه الخلاء الواسع المؤدي الى التجمع السكني الحقير تتعثر في بنوارها والصباح لما يكتمل انبلاج انواره في ذلك الخلاء كانت ثمة سيارة متوقفة وبداخلها اثنان قدما لتمضية وقتهما مبكرا والفرار من ازعاجات المدينة وعيونها المترصدة ...اضطرت ريم لكيلا تشاهد ما تكره الى ان تقطع نصف دورة حول السيارة مبتعدة عن الخط المباشر الاصلي الذي سلكته هي وسلوى وهما قادمتان وعندما صارت السيارة خلفها بمسافة كافية أبطأت في مشيها وعدلت ثوبها وبصقت في كافة الاتجاهات ..لا شئ فيها يغري او يشد ...لطالما مرت بعدد من الشبان وقد تجمعوا عشية في الخلاء لعقد حلقات سكر فلم يكد احد منهم يلاحظ وجودها او لعل بعضهم حسبها رجلا ...واذ وصلت خواطرها بها الى تلك النقطة مدت يدها الى ذقنها وشدت شعراته كانها تود سلخ الجلد عن اللحم مرة واحدة
....................¬....
41
اقعت سلوى وفكرها مبلبل حيال ريم في مكانها قبالة صندوق ينتظر الفرز ...عجزت عن المحافظة على توازنها فقعدت على ركبتيها على الارض الاسمنتية الباردة وتعابير وجهها المنتكسة تعكس ما يعتمل بداخلها من يأس ومرارة ..ولكن لذلك الرجل طريقة لاستهلاكها وتحطيم معنوياتها قبل ان تفكر في الانقضاض عليه وتذكيره بنكثه وعده ووضعه وجها لوجه حيال حقيقته ...فهو لم يدعها لحظة واحدة بعد مغادرة ريم....سريعا ما قرأ على ما يبدو ما بداخلها من حقد وكره تجاهه فاعتزم ان يبادرها هو بالخشونة ويحاصرها في مربع ضيق لا يدعها تخرج منه ولا يدع لها منفذا لتوجه له حتى نظرة شبيهة بتلك التي وجهتها له امس ..اقترب منها اكثر مما اعتاد وقد تحول وجهه الى ما يشبه المادة السائلة ونظرته الجانبية المتوغرة تحدجها كمسمار انغرس في صدغها
- لديك يومان ..بل يوم واحد في العمل وصرت تقترحين كانك سلطة ..
- لقد عرضت عليك ردت بحدة ...وانت وافقت
- من قال لك اعرضي من قال لك تكلمي واجلبي على نفسك وعلي هذا البلاء ؟؟اتحسبين عواقب ذلك بسيطة ؟
- هي محتاجة الى عمل وهنا العمل يفيض على طاقة العاملات ...
- العمل يفيض على طاقة ...من ؟؟نصف الصناديق تظل متعفنة بسبب تفانيكن المفرط ..بلغ صوته الى سعاد التي كانت تدرك انه كان يكذب : ان الصناديق اثناء وبعد فرزها تخضع لرقابة صارمة من صاحبها ومالكها التاجر الذي جاء لاخذها وهذا لو عثر على حبة واحدة متعفنة في صناديقه لقلب عليهن الفريقو راسا على عقب ...فلا مسؤول غيرهن ..الضربة دائما تقع على رؤوسهن ...ورؤوسهن عارية مكشوفة ومعرضة لكل اشكال الضرب ..كانت سعاد تدرك هذه الحقيقة ولكن هذه الضربة لم تحتملها فردت بحدة اشد ...
- هات لنا صندوقا واحدا يحتوى على حبة متعفنة ...كان يعرف انه يكذب ولا دليل لديه على ما يقول فالعاملات لم تكن دنيئات لتمارسن الغش ولكنه اختار ان يسبقهن بالاتهام ليضعهن في موقع دفاعي ضعيف ويشبع نوازعه اللئيمة المتعطشة للسيطرة بعد ان اعاد ريم على اعقابها ..وما اسرع ما هانت عليه المسالة برمتها ...انها بشعة ...وبالكاد تصلح انسانا ولكن هل من يعمل مع امثال هذا الرجل يمكن ان يظل انسانا ؟؟يوم واحد من العمل في الفريقو مع هذا الرجل ملأ عينيها بالظلام ونفسها باليأس ..ورأت نفسها سلوى - وهي تتخبط في متاهة لا نهاية لها ولا مخرج منها ..راس المال غلب الانسان واستعبده ...فكيف السبيل الى فك عبودية الانسان وأرجاعه حرا ؟ وبغتة اشاحت بوجهها عنه وتركته يهذي وينفس عن نزواته المريضة عندما عن لها خاطرا وجيها : ماذا لو حاولت ان تشكل من مجموعة الفتيات اللواتي كن معها نواة لتنظيم مهمته محاربة عبودية الانسان لرأس المال ؟ هل لديهن الوعي الكافي لادراك حقيقة حقيقة المسالة وترك لامبالاتهن المعتادة تجاه وحشية السيستام الذي يكابدن لفحة ويعانين حره ...هل يحتملن التضحية بالمكاسب الصغيرة في سبيل الهدف الاسمى : العدالة الاجتماعية التي تشمل الجميع ولا ينام في ظلها انسان جائعا او محتاجا او مكروبا ..صار السيستام يعمل في داخلنا ...تذكرت تدخل سعاد في سبيلها أمس ومخاطرتها بعملها لانقاذها من غضب عرفها عندما اكتشف حبة متعفنة في الصندوق المفروز وفي الحال اشرق محياها وامتلات نفسها بالامل ...
....................¬......
42
بيد انهن لا يزلن قلة معدودة والقلة دائما مهما كان نبل ما تدافع عنه ووجاهة مواقفها تظل منبوذة من الاكثرية لما تتوسمه فيها من ضعف ..ان الاكثرية تختار دوما السير في ركاب الواقف .هل ذلك طبيعة ام دليل على فساد طبيعة ؟؟ انها لا تجدف ابدا في اتجاه تختاره لنفسها ويتسق مع واقعها ويجيب على اسئلته واسئلة مستقبلها بل تمشي مع اي تيار تراه منسابا متلذذة ان ترى كتلتها محمولة مع التيار مستريحة من عناء شق طريقها لوحدها.... يا لجهل الاغلبيىة الفاجع والقلة دائما قلة ...التي تمشي عكس التيار تبدو في حجمها كسرب من النمل يواجه اعصارا ..كم سيكون ذلك قاسيا على ذلك السرب
....................¬..........
43
- انت جميلة فلماذا تعملين في هذا الفريقو ؟؟..نظرت اليها سلوى باستياء ولكنها تعامت عن فهم مقصدها وردت على شهيدة
- ماذا تعنين بقولك هذا ؟؟
- اقصد ان بوسعك الحصول على رجل بسهولة ...
- لست اتاجر بنفسي ...
- اذا ظللت تفكرين بهذه الطريقة فلن تفوزي بطائل ...
- لا اريد ان افوز بطائل ...
- بماذا تريدين ان تفوزي اذن ؟؟
صمتت سلوى وهي تنظر الى الخلاء الذي يمتد وراء الطريق ...
- وانت بدورك اذا استمررت في منطقك هذا فلن تفهمي شيئا من كلامي ...انت تقولين ...تفوزين ...افوز ..بماذا فزت انت ؟؟فانت ايضا جميلة
- كل واحد يريد الفوز بشئ لنفسه ...
- ومقابل كل واحد يفوز اثنان او ثلاثة يخسرون ..صيرتها اشبه بعملية مضاربة ..انظري الى عواقب فلسفتك على اصابعنا ...
- انه عمل ...
- وصاحبنا يريد ان يفوز ..ونحن ادواته ...
- نحن ايضا ننال نصيبا ...
- لا ننال الا ما يبقينا على قيد الحياة لنواصل انفاقها في سبيل فوزه ...هل يمكنني ان افكر في مستقبل لنفسي او لك او لرجاء او لسعاد من وراء عمل كهذا ..؟؟
- قد تتحسن الاوضاع بعد فترة ثمة ضغط كبير على الاعراف لتحسين ظروف العمل ...
- لتحسين شروط العبودية ...هذا لا يغير شيئا من الاساس ..ردت سلوى متهكمة
- سمعت ان عرفنا في نيته دهن الحائط واعداد مناضد ...
- لا يغير شيئا ...انه وامثاله يريد من وراء هذه التنازلات الشكلية التي يقدمها ان يحتفظ لنفسه بموقع المسيطر ...
لن يتغير السيستام سيظل الغني عنيا والفقير فقيرا فقط تتغير شروط البؤس وظروفه ..
- الفقر والغنى قدر من عند الله
- انك بكلامك هذا يا شهيدة توجهين تهمة ثقيلة الى الله ..اعتقد انه برئ منها فهو عادل كل العدالة وليس طبقيا
- اذن من اوجد الطبقات ؟؟
- يطول شرح ذلك ...في الاول لم تكن هناك طبقات ..ثم ظهرت البضاعة والتبضيع والتعامل بالاموال واحتكارالاملاك ..
- اذن العيب في وجود الاموال والاملاك ...
- بل في كيفية توزيعها ....واقتربت رجاء التي لم تكن بعيدة وقد جذبها الحديث فقالت وقد سمعت اخر الحوار بين الفتاتين
- تريدين ان تعرفي كيفية عادلة لتوزيع الاموال والاملاك ..هذا يكفيني وما يكفيني هو كذلك يكفيك ..واخرجت من جيبها ثلاث قطع نقدية متماثلة واعطت واحدة لسلوى واخرى لشهيدة واستبقت الثالثة لنفسها ...
- ارأيتم كم هي بسيطة وسهلة العدالة لولا الانانية المتمكنة من النفوس ...
- انه مالك وأنت اعطيتنا منه ..
- لا يحق لي ان اعتبره مالي ولا هو كذلك فعلا ...
- اذن لمن هو ؟؟
- للمجموعة كلها ..انا اعمل على قدر مجهودي وأخذ على قدر حاجتي ..اين المشكلة ؟ وماذا اصنع بالمزيد ؟؟
- هناك قصعة تكفي مائة انسان ..عقبت سلوى ....يحتكرها واحد لنفسه
واضافت بلهجة مريرة
- يا اخواتي ...لا برتقال ولاخضرفي بيتنا ونحن في عز موسمه وذلك السافل في التلفزة يتحدث عن دبارة اليوم بكلغ ونصف لحم علوش ...لم ناكله منذ سنة... تكلمت مهتاجة.... لم تكن رغبة منها في التشكي من ضنك الحال بقدر ما كانت تحاول ايقاد جذوة خامدة في نفوس وعقول الفتيات وعندما شاهدت رجاء تدخل يدها في جيبها مجددا وتهم باعطاءها القطعة الثالثة ضحكت ساخرة وأعادت لها قطعتها التي اعطتها اياها
- هذا لا يحل المشكل ...لسنا متسولات ..
- لانملك من زمام الامر شيئا ..قالت شهيدة بأستسلام لشد ما كرهتها سلوى من اجله ..سأعمل لشهرين او ثلاثة وبعدها عندي رجل يعولني ...
- هل تعرفين في اي ظروف يعمل لك الرجل لكي يعولك ...؟؟
- طبعا.... يأكله الغبار ...
- وسيأتي يوم قريب - اقرب مما تتصورين يعجز فيه عن اعالتك وستتقاتلان ...وغضت رجاء بصرها اذ لاحظت نظرة عتب توجهها لها سلوى فما كان يجدر بها ان تبادر شهيدة بكلام متشائم كهذا ...
- ان لم تصوبا مجهودكما نحو من تسبب في تفقيركما فستقتتلان ..فأنتما ستفتقدان الوجهة الصحيحة التي ينبغي ان تتوجها نحوها ...تابعت رجاء مصرة .اكتشفت سلوى ان رجاء قد قالت كل ما كان يجول في خاطرها ويعتمل في اعماقها واكثر ...فخفضت حدة نظرتها وتركت لها المجال لتواصل ...
- اذا قررنا نحن العشرالعاملات هنا التوقف عن العمل وتعطيله حتى الاتفاق على شروط جديدة تلائمنا فسيأتي بعشرة غيرنا يحللن مكاننا ...هكذا في غياب التضامن ندور في حلقة مفرغة وأرباب العمل واصحاب الرساميل يدركون ذلك فلا يعبأون بنا
- تضامننا يكاد يكون مستحيلا لضعف ثقة الواحد بالاخر وانعدام احساس الواحد بمعاناة الاخر فسيأتي دوما من يقوض مجهودنا لاسقاط هذا السيستام المتوحش
- يقولون ان ظروف العمل ستتحسن ..ولكن ذلك السيستام سيظل جاثما على صدورنا وكل مكسب نناله من هنا ينتزعه من هناك ...مثلا زيادة في الاجور او تحسين في ظروف العمل تتبعها مباشرة زيادة في الاسعار والاداءات فلا خلاص ولاسبيل الى الخلاص الا باقتلاع الشحرة الخبيثة من جذورها ...ولم تسعف سلوى الجراة لتسأل رجاء عن كيفية اقتلاع الشجرة الخبيثة من جذورها ..كانت تدرك ان الاجابة على سؤال كهذا يحتاج الى طاقة تتجاوز ما في مقدور رجاء ان تبذله بمفردها ...تحتاج الى وعي عام عارم ..الى وعي الفقير بفقره ..ووعي المضطهد باضطهاده..... واكثر من ذلك ...عدم استعداده لتقبل واحتمال ذلك الفقر وذلك الاضطهاد اكثر ...الان دون تأجيل ...هكذا يحسم الامر ...لن تسرقني مرة اخرى ولن تستثري على حسابي اكثر ...تقول ان الأرض أرضك...نزلت عليك بساطا مفروشا من السماء مسجلا باسمك ؟؟..تقول أن الرأسمال رأسمالك ..كيف جمعته؟؟وأتحداك ان تريني صاحب رأسمال جمع نقوده من طريق غير السرقة ..السرقة بأشكالها الظاهرة والخفية وتفقير غيره وحرمانه
- والان شهيدة تطلب مني ان ابضع نفسي وأرهن جمالي في المزاد ...وغصت سلوى بريقها وعبراتها ...فسألتها رجاء وهي تحدق فيها مليا
- سأسألك سؤالا خاصا يا سلوى ..أليس في عائلتك الموسعة من يعينكم طالما ان أباك في السجن ؟؟
- بالتاكيد ...في العائلة الموسعة ؟...قالت سلوى ببطء وبنبرة تمتلا تهكما ...هناك الكثيرين بوسعهم مساعدتنا ولكنهم ابتلوا بقلوب متخشبة ونفوس لئيمة طماعة ..لابي اخوين ..او قل لدي عمان ..أحدهما وهو حاليا مدير مصلحة ..جاءه اياما قليلة قبل سجنه وطلب منه ..- عمي المدير طلب من ابي المعدم - اقراضه بعض المال لتسديد نفقات مستعجلة ..بعض المال طلبه عمي المدير من ابي المعدم لان ذلك العم يضن بامواله ويخير انفاقها على اقتناء المزيد من الاملاك له ولابناءه وادخال ابنه الاصغر للدراسة في جامعة خاصة ورغب في استخدام ابي كأداة لتحصيل مصروف حتى ينتهي من صفقاته الكبيرة ...والاخر اشتغل في وظيفة مرموقة وتقاعد اخيرا بجراية يحسد عليها صير نفسه حالما تقاعد "حالة فقر رقم واحد "...فأنشأ يقيم المشروع تلو المشروع ويزعم انه يفعل ذلك لأن دخله الشهري لا يكفيه رغم أنه دبرلابنه وظيفة في نفس سلكه هو فاذا كان دخله الذي يقارب التسعمائة دينار لا يكفيه فماذا عنا نحن ؟؟انا وامي وأدويتها وخالتي وأمين الصغير...وعمر؟؟... هل تعرفانه ؟؟...شخص نزيه رفض ان يشتري ماء الحياة من فوزي بذلة ...حظه ان يعيش الحياة مكتريا منزلا وكل شهر يعيش غصرة تسديد معلوم الكراء الشهري ...واولاده الثلاثة كبروا وكبرت معهم متطلباتهم ..
- احد اعمامك مدير .والاخر متقاعد بجراية محترمة ...وتعانين الاحتياج ...تعجبت شهيدة الساذجة .فهي تعتقد في المعجزات التي تصنعها روابط القرابة بشخص نافذ ومؤثر ...
- ان وجود عمين بهذه الصفات لم يزد على اكثر من انه حسسنا بعمق التفاوت والفوارق الطبقية بيننا وبينهم ..هما حاليا مع بعضهما في صحفة عسل ..دائما يتزاوران ويتقابلان ويتبادلان الخدمات .اما ابي الفقير فلا ملجأ له لا يسألان عنه ابدا ويتجنبان لقاءه والكلام معه ....................¬......
44
أصيب فوزي بوعكة صحية بسيطة ألزمته الفراش لاسابيع عديدة قضى أكثرها طريح الفراش ادعاءا ورغبة في استدرار مزيد من عطف المحيطين به واذ شعر هؤلاء بأن فوزي لا يعاني من اي عارض مرضي عضوي ملموس وبان ذلك على تقاسيم وجهه المتورد الممتلئ اشاع هو على لسانه وعلى لسان زوجته الغافلة وبطريقة التورية والتلميح ان سعيدة ارملة شقيقه ارسلت له" سحرا" فهو يعاني من اعراضه التي لا ينفع معها دواء الطبيب وليس له غير ان ينتظر رحمة الله ليفك عنه سحر تلك الشريرة ..فعلت سعيدة ذلك يحركها حقدها الابدي عليه ورغبتها في ان تراه تحول الى حال مشابه لحال زوجها في اخر ايامه : اي هيكلا عظميا ..وكان هذا الاتهام ينسجم تماما مع عقلية فوزي المتشكلة من خليط من التخريف والانتهازية ..ويتفق مع ميله الدائم الى الظهور بمظهر الضحية والمستهدف من محيط حاقد لا يكف عن محاولات اسقاطه وهاهو بعد أسابيع شبع خلالها بالراحة وأكل ما لذ وطاب من اللحوم والشحوم قد نهض سليما معافى فالله قد رد كيد الحاقدين في نحورهم وأنجاه منهم ..هكذا تحدث وهو يمشي بخطوات تتصنع الوهن نحو المسجد وينفث سمومه التي خالها العديد من السذج وعدها عدد اكثر منهم من الباحثين عن فرصة للدخول في دائرة فوزي المحظوظة تقوى مكتملة الشروط ودليل على رعاية الله لعبده الصالح الورع ..نهض من فراشه لا هيكلا عظميا مثلما حدث لرمزي ايام احتضاره ...بل ثورا ضخما ضاقت عليه مختلف الحلابيب التي جلبها معه من أرض الحرمين فغدا وهو يرتديها - اذ كان مصرا دائما على ارتدائها حتى وهو في عز الشتاء وفوقها معطف جلدي ...- اشبه بكتلة لحيمة شحيمة ضخمة متورمة وبان عضوه بارزا تحت الجلباب فكان يداريه طوال الوقت بادخال يده في جيب الجلباب محاولا توسيعه للتغطية على المنظر المخجل ..وفي نفس الوقت الذي يتحدث فيه .- تلميحا نافذا اكثر من التصريح وهمسا ثاقبا للاذان - عن كيد سعيدة وما فعلت لسحره وسلبه ماله وصحته وشبابه .كان لا يكف عن الحديث عن ما صادفه في حياته من محن يشيب لهولها الولدان خرج منها كلها سالما عد معها نفسه من الفرقة الناجية التي لا يصح عصيانها اوالمساس بها بقول او فعل ..وهكذا مضى فوزي يصنع من نفسه اسطورة ويحول نفسه الى شخص مقدس معصوم ..وفي محيط يختلط فيه الجهل والتخريف بالانتهازية والنذالة كان طريق فوزي وامثال فوزي سالكا ليصير شخصا يشار اليه بالبنان ويعد مثالا لقصة نجاح ساحق كم من شخص يود ان يقتفي اثارها ويترسم خطاها ...فيما الدائرة حول سعيدة تزداد ضيقا واظلاما ..فبعد اقل من عشرة ايام لم تحتمل سلوى مواصلة العمل في الفريقو ولا لمست نزعة في نفوس العاملات للثورة على غطرسة رب عملهن فهو قد أتقن مداراتهن بتحسينات وتلفيقات جازت على ادراكهن الساذج - لما تكبدته خلال تلك الأيام العشرة من عذاب جسدي ومعنوي سامها اياه عرفها الحقود ..ولم تخفر حليمة عهدها ولاتراجعت عن مصالحة سعيدة بعد ان عاد بينهما الصفاء ..بل لم تسأل حتى عن سبب عودة ريم خائبة بعد ان نكث الرجل كلمته مع سلوى ..اكتفت بتوضيح ريم وعادت سلوى مساءا فأخبرتها باكية ان الرجل كذب عليها وخدعها فلم تستغرب ولم تكذب ..حسبها هي الاخرى مثلها مثل سعيدة - في هذه المرحلة على الاقل - انهما صاربمقدورهما التنفس بعد ان زالت اسباب الاحتقان بينهما
....................¬......
45
رحلة شقاء ممتدة ودائرة مفرغة لعينة نعجز عن تلمس المنفذ المناسب للخروج منها هكذا تحدثت سلوى وهي تهم صحبة رجاء بمغادرة مكتب التشغيل بعد ان استطلعتا للمرة العاشرة حظهما في القبول في مناظرة اسمتها الجهات المشرفة على تنظيمها تشغيل فرد من كل عائلة وبعد ان اجابهما الموظف الذي يتقاطر بيروقراطية وخبثا من وراء منضدته بان في حالة نجاحهما وقبولهما فستتصلان باستدعاء في محل اقامتهما وبالتالي فلا جدوى ولا ضرورة للمجئ والسؤال المكرر عن النتيجة ...كانت قد مرت شهور طويلة على تقديمهما لمطلبهما وارقهما الانتظار حتى اتت رجاء اخيرا بالخبر اليقين وهما خارجتان هذه المرة وقد انفتحت عيناها بعد كل هذه المدة على حقيقة كانت غائبة عنها ....:
- تشغيل فرد من كل عائلة وما غاب عنهما وقتها انه كان عليهم وربما تعمدوا اخفاءه - اصحاب تلك الفكرة العتيدة - ان يضيفوا :
- من المحاسيب والاتباع ... ففي حقيقة الامر لم ينل الوظائف والمناصب غير محاسيبهم اما نحن فيعتبروننا من الفريق المعادي فكيف يعباؤون بنا وهم يقيموننا ويزنوننا على اساس ما نفكر فيه ونعتقده ؟؟
....................
لم تطق سلوى البقاء في طويلا الفريقو ولا نجحت في مسعاها مع الفتيات ...كان يبدو لها ان تحريكهن اشبه ببعث الحياة في صخرة باردة ..سعاد التي علقت عليها امالا كبيرة لما ابدته من استعداد للتضحية اتضح انها مجرد فتاة طيبة ولكن راسها يمتلئ بالاوهام والخرافات فهي لا تصور لها للحياة وتحصيل المعاش وبناء المستقبل الا في ظل عرف مسيطر وقوة قاهرة واستسلام كامل لتلك القوة ...اما شهيدة فأملها معلق على رجلها ولا نية لها في الاستمرار اكثر من شهرين او ثلاثة ..والحق ان طموحها هذا لم يتحقق ولا نجحت في البقاء اكثر من شهر واحد ولا وفرت شيئا من ثمن الجهاز ...بعد انقطاع سلوى بأسبوعين قرر صاحب الفريقو اغلاقه بحجة ان العمل انتهى وأصحاب الغلال أخذوا غلالهم وبيوت التبريد غدت فارغة وصرف جميع العاملات دون ان يعلمهن بقراره حتى ..قدمن كالمعتاد صباحا قبل وقت العمل ففوجئن بالباب مغلقا فظللن ينتظرن ساعة كاملة حتى قدم احد العملة صدفة واخبرهن وهو مار أن العمل في الفريقو انتهى
- هكذا دون اعلام ؟؟وفتحت شهيدة فمها ...
- اللي يحسب وحدو ...قالت رجاء شامتة في شهيدة بالذات فهي لشد ما كرهت انعزاليتها....اذهبي الى رجلك ...كانت شهيدة دائما تستنكف عن الخوض مع البقية في همومهن فهي ناجية وكانت فرصة لرجاء لتبين لها سخافة اوهامها ..اما سعاد فانسحبت عائدة الى بيتها القريب دون ان يصدر منها اي رد فعل ...
انسحبت الفتيات كلهن وظلت رجاء واقفة على حافة الطريق تنتظر سيارة نقل ريفي لتقلها عائدة ..كانت المسافة تقارب الخمسة وعشرين كلمترا ولكن جميع السيارات كانت ممتلئة فنصحها صاحب استراحة مجاورة ان تستقل تاكسي الى المدينة القريبة وتركب نقل ريفي من هناك ففعلت ...وعندما همت بالنزول من التاكسي لمحت سلوى تتقدم من باب المكتب ...كانت رجاء هي الاخرى قد أودعت ملفها ولم يكن في نيتها- ولا كانت تعلق أملا - ان تستطلع النتيجة فقد مرت شهور طويلة وتكشفت لعينيها حقائق كثيرة
- تحولت سوق العمل الى ما يشبه اللوبيات والمافيات ...هكذا تحدثت رجاء
- هي كانت كذلك دوما في ظل هذا السيستام فما الجديد ؟؟ وكيف تقولين أنها تحولت ؟؟
- كنت أعتقد انه بعد تلك الهبة الشعبية الهائلة التشغيل استحقاق يا عصابة السراق ستنفتح أمامنا الابواب واذا بها تزداد ضيقا حتى اوشكت ان تنسد تماما ...بررت رجاء رأيها الاول ..
- يقولون ان واقع البلاد صعب ...
- ومن أوقع البلاد في هذا الواقع الصعب ؟؟من خلقه ...لنسأل عن العلة ..
- ما اعرفه ان الحصول على شغل صار حلما مستحيل التحقق...
- وهم يعلقون املهم المزعوم على عودة المستثمرين الاجانب ..هؤلاء حقيقة لم يغادروا ...ولم يجلبوا تشغيلا ولا رفاها ..فهم يدركون مدى رخص العمالة التي يقهرها الاحتياج وذلك ما يبحثون عنه دائما ..ولكنهم في هذه المرحلة يقصدون هرسلتنا ...ودفعنا الى تخفيض سقف طموحاتنا أكثر وأكثر
- ليعتصرنا أصحاب الاموال فيما بعد في سعيهم المحموم الى الربح المتوحش ... انها دائرة مفرغة لعينة ورحلة شقاء مكررة معادة
- هل سمعت بجنون كهذا : في اطار نفس السيستام الذي حكم علينا بالتعطل والبؤس وعلى يد نفس الجلاد الذي سامنا يوهموننا بامكانية الخلاص ...واسترجاع الامل في حياة افضل ......
تعبت الصديقتان من تناوب الكلمات الناقمة وتعبت قدماهما من المشي فسلوى جاءت على قدميها من دارها وراء المرتفع الترابي ورجاء أنهكها الوقوف المطول امام الفريقو وهي تحاول ايقاف سيارة نقل ريفي تقلها الى بلدتها او الى المدينة ...كان الشتاء قد اوشك ان ينقضي ومع ذلك لم يكن الطقس يوحي بأجواء شتوية ..كان جافا مغبرا ووجه السماء متعكر بسحب ترفض ان تمطر ..من خلال صفوف سيارات النقل الريفي المتوقفة أمكن لرجاء ان تقرا على احداها اسم بلدتها ..كانت سلوى معها لتشيعها ولكن عندما بلغتا السيارة اكتشفتا انها ممتلئة ولا وجود لمقعد شاغر ..فوقفت رجاء حائرة وقد انهكها التعب ..فهي تدرك ان سيارات النقل المتجهة الى بلدتها قليلة في تلك الساعة وقد يتعين عليها الانتظار الى ما بعد الظهر لتجد مقعدا شاغرا ..هنا اقترحت عليها سلوى ان ترافقها الى بيتها تسيتريح الى العشية وتعود معها الى المحطة او هكذا قدرت سلوى - فاحد معارفهم كانت تعرف انه سيتجه الى بلدة رجاء في العشية اياها مع ولديه التي تقع في طريق عبوره الى بلدته وقد تتدبر لها سعيدة سفرة معه تريحها من عناء الانتظار ..لم يكن امام رجاء غير الموافقة او البقاء على الرصيف قبالة الشارع المختنق المكتظ ..ولكن رحلة العودة لم تكن سهلة فهما ستقطعانها مشيا على الاقدام ولم تجرؤ احداهما على اقتراح ايقاف تاكسي فكلتاهما كانت تدرك أن ما في جيب الاخرى لم يكن يكفي لتمويل ترف كهذا .....بادراكهما لهذه الحقيقة أخذتا الطريق في اتجاه المرتفع الترابي وقد عزمتا على ان تخففا عن نفسيهما تعب الرحلة بتبادل الحديث حول أكثر ما يمكن من الموضوعات التي تشغل بال كل واحدة
- انقطعت بعد وقت قصير ..وها نحن نلحق بك ...
- يبدو ان شهيدة قد تحقق لها ما تصبو بأسرع مما تصورت وقدرت ...قالت سلوى ضاحكة
- اتظنين انها ستتزوج حقا هذه الصائفة او ان رجلها سيكون قادرا على ذلك ؟؟
- انها واهمة ...فمن كان مثلها ومثله يعتزم دائما الزواج في صائفته ولا ينجحان في تحقيق ذلك الا بعد خمس او ست سنوات ان لم يفترقا ....
- انت يا رجاء ليس في حياتك احد ؟؟
- لا أحد في حياتي ..ردت رجاء بسرعة ...عدا مرة واحدة قال لي ونحن بالكاد تعارفنا : على المرأة ان تركع لزوجها ...هكذا أوصانا ديننا ...من البداية أفهمني موقعي معه ...
- أن تكوني راكعة ..؟؟هذا رجل صريح على الاقل ..
- قلت له : ما عظمة حقك علي لاركع لك ؟؟فرد : هكذا يقول ديننا فأجبته : أو لو كان الدين لايعقل ولا يفهم ...فحكم علي بأني فاجرة وتركني ومضى لسبيله ...
- اذا أرادوا نبذ الرجل حكموا عليه بالكفر ..واذا أرادوا نبذ المرأة حكموا عليها بالفجور ..يحسنون اللعب على عقول الناس
- هؤلاء ليسوا أقلية يا سلوى ...انهم الأكثرية تتخبط في عقدها ونوازعها الذكورية ..
- ما عدى ذلك ليس امامنا سوى الفقر ..اننا حسمت امري يا رجاء على نسيان امر الزواج وعدم التفكير فيه مطلقا فالفقر ينهش الشبان والحديث عن الزواج بالنسبة لهم يثير السخرية ..فالواحد منهم بالكاد يتدبر امر مصروفه اليومي ...
- انت التي بدأت بالسؤال يا سلوى وكأني بك في اعماق نفسك لا ترين أمانا للمرأة الا في احضان زوج ...
- الحق ...وسكتت مترددة ...انني ارى الأمر كذلك ...فلا يمكن للمرأة ان تظل وحيدة .ولكننا نعيش واقعا كريها يملي علينا ان نغير تفكيرنا
- أن تتدبر المرأة امورها بمفردها ؟؟
- بل ان تعتبر نفسها وقضيتها جزء من قضية شعب كادح محروم ..كانتا قد حاذتا جدارا مرتفعا يسيج احد المنشئات من جهة ومن جهة اخرى تقوم البيوت التي يقيم فيها الشعب الكادح المحروم ..صف طويل من التلفيقات والترقيعات جعلت منه مساكن قابلة للعيش فيها وامام الابواب يمكنك أن ترى رجلا مسنا قد اقتعد قطعة اجر وهو يتجادل مع زوجته التي تطل براسها من الداخل ووجهها سحنته منقلبة تعكس قبحا ووجلا ..او امرأة بوجه متنافر الملامح في برقع متسخ من اطرافه وبيدها مكنسة تدفع بها الاتربة الى جانب السور وتجيل نظراتها بين الفينة والفينة على المارة محاولة ان تتجنب ذر الاتربة في اتجاههم فالطقس لم يكن هادئا ...تحت السور ثلاثة شبان يجلسون على قطعة حديدية غليظة قد امسك كل واحد منهم بورقة بروموسبور وهم بين فرضية وتخمين في اي الخانات يضعون العلامة المناسبة ..اخيرا عندما أوشكت سلوى ورجاء على الخروج من ذلك الحي فالسور قد اوشك ان ينتهي قرءتا مكتوبا عليه بخط بدائي معوج ولكن واضح ما يمكن ان نسميه مختصر مشاغل سكان ذلك الحي الكبرى ومحور اهتماماتهم وردت في ايجاز معبر لا يكاد يصدق ...كانت الجملة مكتوبة على الحائط هكذا:
- برا اشري بريكية ويزي من هات نشعل ...كان قولا بليغا توقفت امامه الفتاتان وهما اللتان كانتا تحاولان الاسراع قدر الامكان - مبهوتتان منبهرتان بعبقرية الكاتب وقدرته الفذة على التعبيربايجاز مبهر عن اهم ما يشغل الاهالي ويؤرقهم ...
برا أشري بريكية ويزي من هات نشعل
فعلا ..فعلا ...انه لأمر يصدع الرأس وينهك الاعصاب ويمثل معضلة كبرى ان لا تتوقف طوال اليوم عن اخراج ولاعتك واعطاءها لكل من يرغب في اشعال سيجارته ... برا اشري بريكية ويزي من هات نشعل تصف المشكل العضال وتقترح الحل الجذري.....فماذا بعد الحق الا الضلال ؟؟ ...وأغربت رجاء في الضحك وهي وسلوى قد بلغتا الخلاء الذي يتوسط الاطراف والتجمع السكني الحقير حيث تعيش هذه الاخيرة ...وتذكرت اهتمام المراهقين في بلدتها بمصاص الدماء الاخضر الذي لا يكف هؤلاء عن كتابة اسمه على مختلف الجدران ..وقطع عنها حديثها عن مصاص الدماء الاخضر ازيز سيارة خلفها وهي تتعثر في المطبات والحفر التي ملئت المسلك ثم توقفت اذ تعرف راكبوها على سلوى ..كانت سيارة عمر ..وقد استقلها الى جانبه شكري وفي المقعد الخلفي سعيدة وولدي عمر وخلفهما كيس ممتلئ بما يشبه الاحذية ..تبادلت سلوى التحية مع ركاب السيارة وعرفت بصديقتها بايجاز
- هذه رجاء يا خالتي ..عملت معي سابقا في الفريقو
- وكم عملت انت لتقولي عملت ..؟؟وضحكت سعيدة وتعابير وجهها يبدو عليها انشراح غير مألوف ..فهي قد اعتادت الضيق الشديد حتى غدت ايامها سلسلة متصلة من العذابات المتتابعة فلا تراها سلوى الا مقطبة واجمة مكروبة
- مرحبا بك يا رجاء ..يمكنك قضاء الليلة معنا ..ان ساعدك ذلك ..سكتت رجاء مترددة ثم ردت ممتنة
- شكرا لك ..ولكن قد أحتاج الى العودة قريبا ...أشار عمر الى سلوى ان السيارة ممتلئة ولا مكان لهما ..وعلاوة على ذلك فهما قد اوشكتا على الوصول ...فعادت السيارة تسير متعثرة وأسرعت الفتاتان بارتقاء المرتفع الترابي ومرتا بجوارنار قدر شكري الخامدة فذلك ليس وقت تليين دوارته وبشكل لا شعوري تمتمت سلوى
- اتكون حقا احشاء حمار ؟؟
....................¬..........
46
توقفت السيارة امام الحوش وسارعت سعيدة الى انزال الحمولة التي كانت تخصها وما اسرع ما كانت سلوى ورجاء تلحقان بها وتعينانها على ادخالها ..فتركت سعيدة باقي المهمة لسلوى وشكري وتفرغت للترحيب بالضيفة الجديدة :
- اهلا بك ..الف اهلا ..منذ امد طويل لم يشرفني احد بالزيارة غير شكري وعمر ..هذين المنكودين ...وضحك شكري ضحكة مجلجلة وأطلت ريم برأسها من باب حوشها وعندما رأت رجاء تذكرتها في الحال فقد رأتها ذلك اليوم فقدمت مسلمة فالتفتت اليها رجاء فملامح وجهها هي الاخرى علقت بذاكرتها ...
- كان وغدا معك ذلك الرجل ذلك اليوم ...
- لا فرق بين الواحد منهم والاخر ..تدخلت سلوى ...
- وهاهو قد أطردنا كلنا اليوم دون ان يتكلف حتى اعلامنا ..توقفت سعيدة متفاجأة من الخبر الذي أفضت به رجاء ...
- طردكم كلكم ؟؟
- نعم ..وجدنا الباب مغلقا وبعد ساعة جاء احد العمال ليخبرنا ان العمل انتهى وعلينا المغادرة ...
- والمناضد التي قالوا أنه اتى بها لتحسين ظروف العمل ؟
- يفعل ما يحلو له ...ثم انها مجموعة من المناضد المهشمة وبعضها ينقصها ساق ..جلبها ربما ليتخلص منها
- اذن لا عمل لك الان ؟ قالت سعيدة وهي تتنهد وتجلس قبالة ضيفتها بعد ان دعتها الى الجلوس ...
كان عمرقد انتهى من مهمة ايصال حمولة سعيدة وتبادل كلمات مع سلوى ثم استدار عائدا بسيارته من حيث اتى وسلوى تابعت السيارة حتى غابت وراء المرتفع الترابي ثم عادت وكلها لهفة وفضول لمعرفة سبب الانشراح غير المألوف الذي شاهدته على وجه خالتها ..
- ماذا في هذا الكيس ؟؟
- ضربة العمر يا سلوى وفرصة لا تتكرر ..وعقدت ما بين سبابتها وابهامها للتاكيد على شدة اهمية المسألة ..دون ان ترد سلوى مدت يدها الى الكيس الذي كان مفتوحا وأخرجت شيئا مما فيه : كان عبارة عن مجموعة من الاحذية المنفصلة عن نعالها ..كانت جديدة لامعة متينة الى درجة ان شكري عبر عن لهفته في الحصول على واحد منها ولكن خيبته كانت شديدة عندما رأى ان الحذاء كان عبارة عن قسمين منفصلين غيرمخاطين : النعال على حدة وبقية الحذاء في جانب اخر وفي اطراف الاحذية ثقوب كثيرة دقيقة وكذلك النعال ..قالت سعيدة موضحة ومفسرة
- هذه ليست لي ولا لك ولا لاحد منا كلها للتصدير ...
- وماذا تفعلين بها انت .؟؟سألتها سلوى
- هذا جوهر المسألة ...وأخرجت من علبة في الكيس مجموعة من الخيوط السميكة وأباري مختلفة الاحجام وأشارت الى الثقوب التي في طرف النعال والاحذية
- أخيط هذه وهذه بطريقة علموها لي وتصير حذاءا مكتملا صالحا وجاهزا للتصدير ...انظروا الى متانة الجلد
- ومن اعطاك اياه ؟؟سألتنها رجاء وعيناها قد امتلئتا شكا
- انتظرا حتى التقط انفاسي ...ظللت لاسابيع عديدة اتابع تلك المرأة والاحقها حتى التقيتها اليوم وأقنعتها بأشراكي في العمل معها
- هي صاحبة معمل التصدير ؟؟
- بل وسيطة تقوم بالتفاهم مع النساء اللواتي تعرفهن وتثق بهن على ان تعطيهن مجموعة من الاحذية ليخطنها لحساب المعمل في بيوتهن بمقابل مادي ..وقبل ان تسأل رجاء عن المقابل المادي - فسؤال لذاك عدته قلة لياقة من قبلها - طرحت سؤالا مختلفا
- من يأتي بالاحذية الى الدار ؟؟
- لا احد ..انا اذهب وأجلبها
- بعيدة ؟؟
- نعم بعيدة وفي سبيل تحصيل المال يهون التعب ..
- وكم هو المقابل .؟؟ سألت سلوى اخيرا
ولكن سعيدة ظلت منتشية ورفضت ان تستمع الى السؤال .. عيناها اوشكتا ان تلتهما الاحذية الغالية التي امامها من فرط الاعجاب وبجمال تفصيلها وشطارتها هي في تدبير هذه الصفقة المربحة فتركتها سلوى تستمتع بانتشاءها وهي تتابعها بعينين تمتلان حبا ..فهي قلما شاهدتها فرحة او مزهوة...بعد ان خرج شكري الى داره عادت سعيدة
- كل خذاء اخيطه ب مائتين وخمسين مليما ..فزمت سلوى شفتيها مفكرة ثم سألت
- وكم تقدرين انك تخيطين من حذاء في اليوم الواحد ؟؟
- ليس اقل من عشرين او ثلاثين ..وأنت عددا مماثلا وكذلك أمك وريم ...كان العدد الجملي الذي جلبته خمسون نعلا وهي قدرت ان تنهيها في العشية كلها وتترك نصيبا لحليمة وريم ولكن قدوم رجاء وواجب ضيافتها جعلها تؤجل الشروع في الخياطة الى اليوم الموالي
....................¬............
47
شارف الوقت على العاشرة وسعيدة لما تنتهي بالكاد من خياطة الحذاء الاول وبدأت تشعر بالانهاك يتسرب الى مفاصل اصابعها ..كانت قد قاربت على اكمال خياطة ثلثي الحذاء وتلاشت الحماسة التي كانت تعتمل في نفسها بفعل العدد الذي لا يحصى من الثقوب التي عليها ان تغرس فيها الابرة لتدخل الخيط ثم تخرجها من ثقب النعل وهي تجر الخيط وراءها ثم تشده مليا ليظل متماسكا مشدودا وتعيد ادخال الابرة مجددا في الثقب الموالي في الحذاء لتخرجه من ثقب النعل متقاطعا مع الخيط الذي سبقه ...بدا لها بعد كل هذا البطء الذي اعترى عملها ان سببه قد يكون الطريقة التي اتخذتها في الجلوس فهي كانت في منتهى الحماسة ولم تسمح لسلوى ولا لغيرها بلمس حذاء واحد حتى تنتهي هي منه وهي تقدر في نفسها ان ما يحتاجه من وقت لا يزيد على عشرة دقائق ..كانت تجلس متربعة فغيرت طريقتها وجلست على ركبتيها ليتيح لها ذلك ان تسلط ضغطا اكبر على الابرة تسرع من عملية دخولها وخروجها ...ولكن العدد اللامتناهي للثقوب جعل هذا التغيير غير ذي جدوى فلم تلمس ربحا للوقت فهي قد قضت اكثر من ساعتين - بدأت في الثامنة - وبدأت مفاصل اصابعها تنهك وها هي الساعة العاشرة قد داهمتها والحذاء الاول لا يزال مفككا بين يديها ...ادارت الحذاء بأكمله على الجانب الاخر الذي اعتقدت انها أكملته فرأت شيئا مريعا ..أكثر الخيوط مشتبكة في حالة فوضوية افسدت منظر الحذاء وشوهته ...لا ريب ان الوسيطة ستكتشف كل اخطاءها وستطالبها باصلاحها والا فلن تنقدها أجرها ..وكم كان هذا الاجر ؟؟مئتان وخمسون مليما للحذاء الواحد وهي التي قدرت ان تنتهي من عشرين مع منتصف النهار اتضح لها ان ذلك كان اضغاث أحلام ..غضت سلوى نظراتها مشفقة على خالتها وندت من والدتها المتكئة على الحائط أنة مكروبة ثم قالت لسعيدة
- لماذا لا تحاولي الوقوف قرب النافذة والحذاء موضوع فوقها وبين يديك فقد يكون العمل وأنت واقفة هو الوضعية الصحيحة والاسلوب الناجع لتسريع وتيرة العمل .فامتثلت سعيدة بفتور حاولت اخفاؤه فهي تكابر وترفض الاقرار بهزيمتها وتؤكد ان المشكل ليس في الجلوس او الوقوف بل في قلة التعود وغياب التدرب ..هكذا طمأنت نفسها ودارت فزعها وخيبتها ...وهكذا جارتها سلوى التي كانت تعلم ما يعتمل في نفس خالتها ونفس امها وعدم قدرتهما على احتمال مزيد من خيبات الامل ..وبهذا الاستخلاص الذي توصلت اليه سعيدة :ان تعتبر البطء نتيجة لقلة التدرب والتعود حسمت امرها على ان لاتأخذ بعين الاعتبار مستوى انتاجيتها في يومها ذاك وتعده مجرد تمرين على عمل يدوي جديد على اصابعها ثم تركت سلوى وأمها تمتد يداهما الى حذائين وتمسكان ابرتين تجران خلفهما خيوطا سوداء سميكة وتشرعان في محاولة تقليد معلمتهما سعيدة ..لم تكد الام تصل الى الثقب السابع حتى ألقت الابرة من يدها وشرعت بدلك اصبعها الذي أوشك ان يسري فيه الشلل
- ذلك أمر طبيعي ..كابرت سعيدة ووافقتها سلوى بهزة رأس ..فأنت تعانين منه أصلا
- لنرى ما ستفعلين انت السليمة المعافاة ..ردت الام بصوت ضعيف ..احست سلوى بضميرها يؤنبها لانها استرسلت وراء خالتها التي في غمرة اصرارها على رفض الهزيمة نسيت مراعاة مشاعر شقيقتها المنكوبة فعادت كالمعتذرة
- دعيك من خياطة بقية الحذاء..سنقف عليه انا وسلوى نيابة عنك ...ولكن سلوى بدورها شرعت بعد فترة تتأوه للصعوبة التي وجدتها وهي تدفع الابرة داخل الثقب ..رغم انه كان مفتوحا وسالكا فان سماكة الجلد جعلت تمرير الابرة من خلاله اشبه بعملية ثقب لمادة بلاستيكية .ونظرت الى الثقوب التي لا عد لها وتنتظر ان تمرر من خلالها الابرة والخيط وقررت التحلي بالصبر حفاظا على معنويات خالتها وانقاذ امها من اطلاق انة اخرى مكروبة لا قدرة لها هي على احتمال سماعها ...فهي قد قرأت فيها رسالة ادانة لها هي بالذات ..سلوى التي كبلها العجز ولا قدرة لها على فعل شئ للخروج من ذلك الواقع المضني اعتبرت عجزها دليل ادانة لها لا عامل تبرئة .... لماذا هي عاجزة ؟؟ وعادت تدفع الابرة بقوة اشد نحو الثقب غير مبالية بشئ ..وبعد لحظات كانت خالتها تمسك بها من يدها التي انغرست فيها الابرة من ناحيتها الخشنة وسال منها الدم
....................¬..........

48
بيد ان سلوى ظلت لامبالية لمشهد قطرات الدم السائلة من اصبعها كأنها فجأة فقدت القدرة على الاحساس بالالم او كان ما يعتمل داخل نفسها من اوجاع قد ألهاها وصرفها عن الالتفات والاحساس بوخز الابرة المنغرسة في لحمها ..كانت الاما هائلة مضنية تتناوب على لسعها بحدة اين منها تلك الوخزة ولا دماء تسيل بل نفس تتلاشى وتموت على مراحل كل يوم ..ألم يكن حريا بسعيدة ان تحذر قبل الدخول الى حجرة الافعى ..هكذا تشكلت لها تلك الصفقة وهكذا تجسمت لعينيها تلك المرأة ومن وراءها ...وسيطة ..أي متربحة من وراء عذابهن هذا وأي عذاب ...هذا الذي يحطم الاصابع ويسل البصر ...قدرت بعد أقل من ساعتين قضتهما تتابع ادخال الابرة في الثقوب بعد أن كف الدم عن النزف ان استمرار خالتها في هذا العمل لمدة اسبوع واحد كفيل بسلبها قدرتها على الابصار وأصابعها على الحركة ..والوسيطة - تحدثت عنها سعيدة -اخبرتها انه عمل مريح لا تعب فيه ما عدى انه يحتاج الى وسع بال وعلاوة على ذلك - اضافت الوسيطة مادحة - فأنت لن تحتاجي الى ان تغادري دارك بل كل شئ سيأتيك وأنت مقيمة فيها ..اي انك ستقومين بما يشبه العمل المنزلي .ولم تقل لها الحقيقة : اننا سنلاحقك في منزلك ونقوض حياتك ونسلبك ما بقي لك من اسباب الراحة فيه ..سنقتحم بيتك من نافذة حاجتك الماسة الى المال لتعولي عائلتك ونشتري جهدك وعرقك بأبخس الاثمان ..والوسيطة لا تكل ولا تمل في مدح تلك الطريقة في العمل وتصفها بالمبتكرة ..تأخذين المنتوج الى بيتك ...كلا سيغتصبونك في بيتك بأسلوب مبتكر ..كم يلزمك من وقت لاكمال حذاء واحد .... مر يوم ...يومان ....ثلاثة ولم تلحظ سعيدة ولا سلوى تحسنا في الاداء بفعل المران والدربة بل ظل مستوى الانتاج عند حدود حذاء واحد كل ساعتين رغم المجهودات المستميتة التي بذلتها سعيدة لانزال الوقت الى حدود الساعة او الساعة والنصف ..وهكذا بعد ثمانية ساعات من ملئ الثقوب بالخيوط وشد الحذاء الى نعله أنهت كل واحدة أربعة احذية ولم تنجح الام في انهاء واحد رغم محاولتها اعادة الكرة ...اربعة احذية مقابل مائتين وخمسين للحذاء الواحد ..ما يعني دينار لكل واحدة في اليوم .ويتعين عليها ان تاخذ في حسابها ان مقر الوسيطة يقع في مكان بعيد..كلمترين ونصف في اقصى الناحية الشمالية من المدينة ولقاءها بعمر ذاك وقيامه بنقل حمولتها لم يكن اكثر من معروف أداه لها لروابط الصداقة التي جمعتهم به منذ سنوات ..فعندما تنهي خياطة الاحذية فعليها دفع ثمن التاكسي ووقتها ستدفع من جيبها وتدرك انها قضت ثلاثة ايام في مطاردة الاوهام ..بحثت عن خبزة شريفة فلقموها حجرا ...وأرادت كرامة فداهموها في عقر دارها وانتزعوا منها ما بقي لها من اسباب الراحة ..حولوا البيت الى جحيم ..نسيت سعيدة في غمرة انشغالها بالاحذية اعداد الفطور والغداء وصرفها الانهاك عن اعداد العشاء فتعشوا ببقية طعام أمس ويد أمين تمتد محاذرة لتجس الحذاء اللامع المتين الرابض بجواره ..جرب ان يضع فيه قدمه فبدت فيه مثل ساق عصفور في سطل ..كان ضخما عاليا متمنعا متغطرسا معتدا بجلده المتين ورقعته الصحيحة .ب...250مليم للواحد .؟؟وبكم سيباع عندما يسوق في الخارج لحساب تلك الشركة ؟؟..تأكدت سلوى وهي تنظر الى أمين ساهمة ويد امه تمتد بفتور لتخرج قدمه من الحذاء ان دائرة مفرغة لعينة قد أطبقت عليهم وأن امين عندما وضع قدمه في الحذاء خيل اليها انه يضعهما بين فكين مفترسين سرعان ما سيطبقان عليه ...دفعت كدس الاحذية المفككة التي مازال الكيس ممتلئا بها وأسرعت الى الخارج تحاول استنشاق الهواء ...
....................¬........
49
وحليمة وابنتها كانتا هما ايضا في جحيم لا تقل حرارة اتونه عن الاتون الذي تكابده سعيدة وسلوى والطفل الصغير والام المقعدة ..أكداس الفلفل التي امتلأ بها الحوش الصغير لم تعد دليلا على وفرة العمل ومعه وفرة المال الذي يطرد غائلة الاحتياج بقدر ما غدا وعدا بعذاب أليم لا ينتهي جرعهما اياه ذلك السمسار المستثري على اقساط يجلبها في شاحنته كل أسبوع ..كانت حرارة الفلفل تجعل يدي حليمة تلتهبان وتحمران ثم تؤلمانها أشد الالم وأنفها الذي غطته بخرقة قماش لكي لا تصله الرائحة الحادة للفلفل يتهيج سريعا وتداهمها نوبة من العطاس فتسارع بيدها الملتهبة الى ازالة الخرقة لتسمح لأنفها بنفث الرذاذ فتلامسه فيزداد تهيجا وتتحول نوبة العطاس الى أنف يسيل وعينين تدمعان وفم مفتوح على أخره بفعل نوبة العطاس التي تتوالى دون توقف .حبوب الفلفل البيضاء التي امتلأت بها الساحة الصغيرة نشرت جوا خانقا في الحوش الصغير وتسربت الرائحة الى داخل الدار التي كانت تتكون من بيتين أحدهما يحتله زوجها بمفرده ولا يكف صوته عن ارسال اللعنات دون توقف وهو في الداخل لا يرغب في الخروج ولا في الكلام مع زوجته او احد من اولاده ...ولكنه - ويا للمفارقة - كلما جاء السمسار بحمولة تتغير تعابير وجهه من الشراسة الى الوداعة ويكاد يأخذ الرجل بالأحضان .كانت روح تمكن منها الطمع وملأتها الخساسة قد صورت له انه بابداء المودة للسمسار وفوزي وأمثالهما من اصحاب الاموال الوفيرة والصفقات الكثيرة واحناء الرأس امامهما وابداء الخضوع لهما يمثل خير طريقة للبقاء طافيا على سطح محيط الأزمات الذي كانت حليمة وريم تتخبطان في قاعه .ولكن هذين لم يكونا يحفلان به ولا يعبأن بمودته ولا يلقيان بالا لترحيبه بل يردان عليه بسخرية مغلفة بتجاوب كاذب مفضوح ثم يوليان بوجهيهما عنه وهكذا لم يكسب الرجل من انبطاحه غير المزيد من المهانة ..اما عندما يكون في منزله وحليمة وريم منشغلتان بتنظيف الفلفل ونوبات العطاس تتوالى عليهما فهو سيكون وبالا اضافيا عليهما ...- لا يهمه من عناءهما غير مقدار المال الذي تجنيانه من ذلك العمل والسمسار أتقن لعبته معه ومع حليمة فأوهمه بأنه يدفع لها مبلغا كبيرا لا يدفع لها في الواقع حتى نصفه ...ويدرك انها ساذجة ولا قبل لها بمواجهة اطماع زوجها واتهاماته لها بكنز المال فهو لا يكف عن طلب المال منها حتى يسلبها أخر فلس وفرته ..وهكذا وقعت المسكينة في كماشة الاثنين : سمسار لئيم وزوج دنئ ...وريم لا نهاية لتشوهاتها التي أصابت مختلف أنحاء جسدها : فهي حولاء وعيناها سريعتا التأذي وأحيانا لا تبصران شيئا عدا ضباب كثيف أمامها فكانت تقول لأمها في الحوش متشفية من نفسها :
- خير لي أن ذلك الرجل طردني قبل أن يدعني أعمل وألا لكنت جلبت الكوارث على سلوى ...لم تكن سلوى بعيدة الان ...كانت الاتصالات لا تكاد تنقطع بين الدارين وحمل ذلك لهم تعزية جزئية عما تكابده كل عائلة من عناء ..رغبت حليمة في تمكين سعيدة من قسط من الفلفل تنطفه معها في حوشها الا ان سعيدة اعتقدت انها بحصولها على صفقة الاحذية قد اغنت نفسها وأغنت معها حليمة وأبنتها عن مشقة احتمال حرارة الفلفل وها انها تكاد تصاب بالشلل في أصابعها وانهارت أمالها في تغيير الحال والاستغناء عن العودة الى السواني ...تلك العودة التي مع تفاقم الحال نحو الاسوأ تبدو لا محيص عنها ولا مهرب ..لا مفر من العودة الى السواني والعمل في محيط قريب من حقول المنصف وحتى في حقوله هو بالذات فالاحتياج قد قهرها ...ولعنة تلك الأكمة لا تزال تطاردها والنظرات الهازئة تعترضها أينما توجهت
- اليس لهم في حياتهم ما ينشغلون به غير تتبع سقطات الناس ؟؟ هؤلاء الذين يوجهون لها نظرات الاتهام والشماتة لا يفوتونها كثيرا في سوء الحال وضنك المعيشة ولهذا عجبت سعيدة من تمسكهم بلوك تلك الحكاية دون كلل ونهش عرض سلوى بدلا من البحث عن سبيل لخلاصهم من ضنك المعيشة ذاك ...لا ريب أنهم اعتادوها عفونة فلا يمكنهم تصورها على غير تلك الشاكلة ولكن ما افرحها قليلا ان ريم وحليمة لا تكفان عن الدفاع عنها وتبرئتها فريم هي الاخرى لم تكن بعيدةعن متناول الالسنة ومرمى السهام ..وهكذا اقتنعت بأن كلتاهما في دائرة واحدة وعرضة لاستهداف واحد : ان مرور ريم المستمر بقرب دمجة السكارى لم يكن اختياريا ولا رغبة منها في لفت انتباههم فهي لم يكن لها ممر للعبور الى اطراف المدينة لقضاء حاجياتها غير تلك الساحة التي كثيرا ما يرتادها اولئك الماجنين ..واحقاقا للحق فان لا احد منهم كلمها ولا هي اقتربت منهم او كلمت واحدا منهم ...بعد أن تخففت من أثقال عداوتها مع سعيدة وسلوى وانفتح مجال رؤيتها على جوانب اخرى من واقعها ان لها أن تجيل النظر في تفاصيل حياتها وترى كيف ينظر اليها الناس وبأي ميزان يزنونها ...
- أنت عفشة ...
كانت الصدمة مروعة لها ...سمعت احداهن تقول لها في لحظة مصارحة دامية استفاقت فيها على حقيقتها وتطلعت الى صورتها كما رسمها لها الناس في اذهانهم ..وقد يقولون انها ليست عذراء وأنها مفتضة البكارة حتى ...وعلى اي حال فمن يفكر في الزواج منها بل من يصدق انها أنثى اصلا وهي خلو من كل تكويرة أنثوية مثيرة لشبق الذكور لكي تحرص على تلك العذرية ؟؟ ..هكذا استرسل محيط ريم في قذفها باحكامه واستنتاجاته وغرز سهامه في جسدها وروحها ..وخارت قواها في النهاية ..وشعرت بضباب كثيف يملأ عينيها وحرارة الفلفل تلهب أنفها وتخضب وجهها بالابتلال السائل من أنفها وعينيها وفمها ...
....................¬......
50
اقتربت سيارة عمر من بلدة رجاء وتأهبت هي للنزول فهي لا تود أن يراها أحد من معارفها تمتطي سيارة مع أحد الغرباء رغم أن عمر كان مصحوبا بولديه ..وهكذا في أول مفترق أنزلها وهي تجزل له تشكراتها على معروفه وهو يلح عليها في ان ينزلها في أقرب مكان من منزلها ..أشفقت على حال السيارة أكثر مما خشيت أن يراها معه أحد من أهلها فالطريق المؤدي الى منزلها وهو على مسافة كلم ونصف من التجمع السكني الذي يسمى بلدة كان ثنية محفرة تملئها الاخاديد ومن غير المرجح أن تفلح سيارة بقوة سيارة عمر في اجتيازها دون أن تتهشم ..تابعت السيارة تعاود الانطلاق مجددا ثم استدارت لتأخذ لتأخذ الثنية المتفرعة مباشرة عن المعبد تاركة أمامها البلدة فهي لم تكن ترغب في دخولها ...ولكنها ما أن خطت خطوات في ذلك الاتجاه حتى شاهدت احدى زميلاتها السابقات في الكلية متجهة الى وسط البلدة وهي ترتدي نظارة شمسية تحجب اتجاه نظراتها ..كان يبدو عليها انها لم تر رجاء او هكذا تصنعت ان تتعامى عن رؤيتها ..لم تستغرب رجاء منها ذلك التجاهل فهي تعرفها متعجرفة كثيرة الادعاء والافتعال الذي يخفي وراءه حقيقة ترغب في طمسها ....تراجعت رجاء خطوات ونادت زميلتها فالتفتت هذه وحالما وقعت عيناها عليها تظاهرت بالدهشة ثم عز عليها أن تتقدم خطوات وتسلم تاركة لرجاء المتواضعة أن تقوم بتلك المهمة وهذه لم تتردد في التنازل فمشت حتى وقفت قربها ومدت يدها فناولتها أماني يدا باردة وظلت محافظة على وجهها مقطبا وفمها منطبقا ونظراتها لا تدري رجاء الى أين كانت تسددها ...وما لبثت ان اطلقت لسانها بالتذمر من كل شئ دون تمييز
- ملا دنيا وملا جو وملا ناس ....لو أن أماني اقتصرت في تذمرها على الدنيا والجو لكان ذلك مدعاة لاستبشار رجاء ولتوقعت منها أن تأتي في حديثها على نقد ومهاجمة السيستام والخيارات الكبرى التي خلقت هذه الدنيا وهذا الجو ...الا أن توسيع أماني لدائرة نقدها لتشمل الناس اعطى رجاء فكرة على ما ترمي اليه أماني والى أين تنوي أن تصوب سهامها ...
- لا يوجد غير البهامة والتخلف
- ألا ترين أنه يوجد كذلك الفقر والحرمان ؟؟
- فقر وحرمان ؟؟من تحت ايديهم ...يتلهفون على معرفة ثمن نظاراتي ...
- لا تعطي مسألة النظارات أكثر من حجمها ..فأكثرهم بالكاد يجدون ثمن الخبز ...
- لا اريد المكوث هنا مدة اطول ...لا أريد الغرق في مستنقعات التخلف هذه ...تطلعت اليها رجاء باستياء ..
- تريدين النجاة بجلدك ؟لن تكوني ناجية ابدا ..الان صوبت أماني نظرتها في اتجاه رجاء وهذه احست بنظرة اماني تلفح وجهها ...
- عندي معارف كثيرين في الساحل الغني بالفرص والشركات ...وأحد معارفي أكد لي أن حصولي على عمل في شركة خاصة أصبح مسألة وقت
- هنا أم في الساحل ؟؟
- هنا ؟؟ ردت أماني هازئة ...عندما افقد عقلي أقبل البقاء والعيش هنا
- ولكن والدك يعمل ويعيش هنا وحاله كحال غيره ...
- ووالدتي أصولها ساحلية ...وليست من هذه الارياف ولا تنتمي الى هؤلاء العربان ..فتحت رجاء فمها وثبتت عينيها على زميلتها وقد أذهلها ما يطفح من كلامها من كره عدوانية مقيتة ثم رأت أن تسألها عن مزيد من التفاصيل حول العمل الذي اضحي تسلمها له مسألة وقت فسألتها
- ما نوع هذا العمل ؟؟
- انه عمل في شركة خاصة ...يقوم على عقد أهداف وهذا الشكل من أشكال التشغيل يسمح للعامل بتفتيق مواهبه فكلما نجح في تحقيق هدف من الاهداف المرسومة يرتقي درجة في سلم الوظيفة ويزداد مرتبه ...
- ومن هو الذي يحدد الاهداف ؟؟؟
- طبعا الشركة ...اه... تماسكت رجاء لكي لا ترسل ضحكة ساخرة...ان ذلك - عقد اهداف - صورة اخرى من صور احراق المشتغلين ومص دماءهم وهذه البلهاء المتعجرفة التي أمامها لا تدرك ما وراء أكمة عقد الاهداف من سخرة واستعباد ..تعجبت أن تكون أماني قد أنهت فعلا اربع سنوات جامعية وتمتلك وعيا بهذه الضحالة ..ان من كان مثلها كان جديرا به أن يكون في طليعة القوى التي تعمل من أجل اسقاط ذلك السيستام المتوحش وهاهي تحدثها بسعادة متناهية عن صيرورتها احدى أدوت ذلك السيستام ...
- لن تتحملي شروطهم ...ولن يقبلوك أكثر من أداة فما يهمهم هو الربح ولا شئ غيره ...
- أنت بكلامك هذا ترددين الكلام النضالي الفارغ ...ترفضون كل شئ ...وتلفظت بكلمة نضالي بشكل هازئ ...وتريدون اسقاط كل شئ ... كل شئ ..
- كلا ..بل الخوصصة داء فتاك ...وبوابة واسعة لاستعباد الناس ورهن قوتهم لمشيئة أصحاب الأموال
- بل الخوصصة قاطرة الاستثمار ومحرك النمو ..قالت أماني ذلك بلهجة المعلم الذي يملي املاءاته على تلميذ جاهل ... تلفتت رجاء حولها لترى أثر عمل تلك القاطرة والطرقات التي شقتها واتساع دائرة ذلك النمو وشموله البادي على ملامح الوجوه ومعالم الحياة فلم تر شيئا سوى التعاسة تخيم على مختلف مناحيها.....
- أين هو هذا النمو والحال أن الخوصصة خيار اعتمده الحاكم بأمره منذ عشرات السنين ولم يؤد الى أكثر من زيادة تفقير الناس وضياع أكثر مؤسسات القطاع العام حامي أرزاق العباد ..
- كان قطاعا بيروقراطيا متكلسا ...ذلك القطاع العام
- بل الحاكم بأمره تركه لللاهمال عمدا تمهيدا للخلاص منه ....ثمة تعليمات تمليها أطراف متنفذة لها مصالح متشعبة ..
- اذا كانت تعليمات فما ذنب الحاكم ؟؟
- ذنبه انه رضخ لتلك التعليمات والحال انه كان مكلفا باعتماد خيار الذي يلائم حاجيات البلاد وواقعها ...
- على مدى اعوام طويلة كانت نسبة النمو لا تنزل تحت خمسة بالمائة
- تلك أرقام خادعة لا علاقة لها بالواقع المعيشي ...فقد تكون النسبة حتى 6 او 7 بالمائة ويظل الشعب في حضيض الفقر ...كان نموا بلا تنمية .. مراكمة للاموال في يد القلة المحظوظة ولا عدالة في توزيعها ..
- ولكن هل يستوي الذي يعمل والذي لا يعمل ؟؟..
- وفي أي اطار وفي ظل أي ظروف هيأت لهذا أن يعمل ويبادر والاخر أن يظل محكوما عليه بالشلل ..
- الظروف لا تؤثر ...بل العزيمة الفردية وقوة الارادة ...
- قوة الارادة توصلك ان توفرت الى اقامة أسوار عالية تفصلك عن الاخرين ثم ان هذا الكلام يردده المتنفذون - وهم أصلا لصوص - للايهام بتوفرهم على قدرات خارقة لا تتوفر لغيرهم ..
- المتخلف متخلف ...ضجرت رجاء من اتهامات أماني ووجدت انه من العبث ان توضح لها حقيقة البؤس والدائرة المفرغة التي يتخبط فيها الناس ... فأماني تعيش بقربهم منذ ولادتها ولا تعرف الساحل الا خيالا يمتلئ به رأسها ووالدها ابن المنطقة ومع ذلك فان شوفينية والدتها وتبرؤها الدائم من تلك الجهة وتحاملها عليها قد أثمرغسيلا تاما لدماغ أماني ملئها استعلاءا وغرورا ... هذه التي كان بوسعها ان تشكل معها نواة لتحرك نضالي يدفع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية لهذا الكم المهول من المنسيين الى دائرة الضوء ويحولها الى قضية ذات اولوية مطلقة لارتباطها بكرامة الانسان ....غاب عنها هذا البعد في خصوص مسألة التشغيل وصار مرتبطا بمجهود فردي قد يفلح وقد لا يفلح ...وشعرت رجاء بوحشية وفظاعة هذا الخيار وهي ترى الاقوياء يدوسون على رقاب الضعفاء
- أن خيارك هذا سيحولها الى غابة ...
- هي غابة سلفا فالناس حيوانات وجهلة
- ليس سلفا ...بل هذا الخيار هو ما جعلها كذلك ....والسلطة ابقتهم في قبضته ليظلوا منقادين لها ومستسلمين لمشيئتها ولم تعمل على اخراجهم من الدائرة المفرغة التي هم واقعون فيها ..فلا ماء ولا طرقات ولا مستوصفات ولا منشاات صناعية ولا مشروعات فلاحية ولا أشغال كبرى تساهم في تغيير وجه الحياة هنا ...هل تريدين من الناس أن يشقوا بأيديهم العارية الطرقات ويبنوا الجسور ويقيموا المعامل ؟؟لا شئ من ذلك يوجد عندنا ..فالسلطة قد تركتنا نسيا منسيا ..
- اقصد العقليات ...
- العقليات أيضا تتغير بتغير شروط الحياة المادية فهي ليست قدرا ولا طبعا متأصلا ..ولكنها من صنع واقع شكلته قوى مهيمنة على الناس
- وماذا فعل الناس ؟؟
- لقد ثاروا أخيرا واستيقظوا من غفوتهم ..وهم مستميتون في البحث عن غد مختلف ..علينا أن نسأل السلطة فبيدها الامكانيات ان كانت وفرت للناس شيئا من مقومات الحياة الكريمة يزرع في نفوسهم الامل ويحرك فيهم ارادة التغيير ..
- ترمين كل شئ على الدولة ؟؟
- نعم فمسؤوليتها كسر الحلقة التي يدور فيها الناس ولكنها تحولت الى حامية للصوص وتجمع لمافيات المال والاعمال ..لم يسعف أماني ذكاءها لتواصل الجدال ولا كانت راغبة في استمراره فهي تدرك أن رجاء ستدعوها الى النضال والنضال وحده من أجل كسر السيستام وهذا تنفر منه وتعتقد بدلا من ذلك أن بأمكانها الحصول على مكان في ذلك السيستام .- وعقد أهداف - أو المحرقة - كما أسمته رجاء سيكون مدخلها الذهبي للطيران بأجنحة وتحقيق مختلف أحلامها وأوهامها ...
- أنت مثلي من هذه المنطقة فلماذا لا تفكرين في البقاء والمساهمة في انقاذها ...
- لا شئ سينقذها ..فالكل يبغي الفرار والنجاة بجلده ..
- لعلك تتحدثين عن نفسك ؟ وتبررين ميلك للفرار برميك تلك التهمة على غيرك ...تحول وجه أماني الى التصلب بفعل الحقد الذي اضطرم في نفسها ..رجاء تكلمها بتلك اللهجة وتفضحها بتلك الطريقة ..هي الضعيفة التي لا سند لها ولا حليف ولا معارف ..
- لدي علاقات كثيرة ..أما أنت فستندفنين قريبا مع جهتك المحتضرة ..وأدارت وجهها في حركة تفيض غطرسة وولت هاربة أو كالهاربة ...بينما رجاء ظلت متوقفة في مكانها لحظات ثم انتبهت الى الظلال التي شرعت تخيم على المكان.... كانت الشمس قد أوشكت على المغيب فتحركت في اتجاه الثنية المؤدية الى دارها وفي ذهنها وهي تراجع ما قالته أماني ارتسمت صورة حمارامتطاه شخص خبيث ومد بين أذنيه عصا في طرفها المتدلي أمام عيني الحمار حزمة من الحشائش التي يحبها هذا الاخير فالحمار يغذ السير متطلعا الى ادراك تلك الحزمة وأكلها وهي دائما أمام عينيه وبعيدة عن متناوله ولا يصلها أبدا وتساءلت متذكرة حكاية قدر شكري :
- أتكون حقا أحشاء حمار؟؟
....................¬..........
51
وصل عمر الى دار اهله بعد رحلة بطيئة وطويلة امتدت الى حدود ساعة المغرب ... وولج ساحة الدار تحت خليط من نظرات الهزء والشفقة والرثاء تنبعث من عيون من كانوا هناك من أقاربه فهو لم يزر عائلته منذ أكثر من سنة وهم لا فكرة لديهم عما صنعه بنفسه خلال هذه الفترة ...شقيقه عبد الستار علم بشراءه سيارة ولكن لم تكن له فكرة عنها ..وعندما رءاها - وكان هو ايضا متواجدا في مرة من المرات القليلة التي يرتاح فيها من عناء التنقل بين الارياف ويفكر في زيارة والديه - لم يستطع مغالبة ضحكة ساخرة لما رءاه من حال السيارة .وسرعان ما كتم ضحكته فأولاد عمه وبقية أقاربه كانوا هناك تلك العشية ومن غير المستحسن أن يسخر من أخيه في حضورهم - هو نفسه اشترى قبل فترة لا تزيد عن سنة ونصف شاحنة قديمة - باشي - استعملها في تجارة الاغنام .فكان ينتقل من ريف الى ريف يشتري الماشية من الفلاحين ويحملها الى الاسواق ليبيعها بفائدة قليلة أو كثيرة حسب أسعار السوق وحسب شطارته هو في تسويق سلعته وقد يحدث احيانا أن يشتري الماشية ويبيعها في نفس السوق الذي اشتراها منه ...وذلك كان منتهى ما يمكن أن يصل اليه دهاء وشطارة عبد الستار فهو بذلك قد أراح نفسه من عناء التنقل ودفع تكلفة المازوت .ولم يكن عبد الستار الوحيد الذي يمارس هذا الشكل من أشكال السمسرة فأكثر الفلاحين في جهته الى تجار أكثر منهم منتجين ..فالتجارة مربحة ولا تكلف صاحبها وممارسها أكثر من شاحنة قد تكون مكتراة وشبكة أتصالات موثوقة ترصد له واقع الاسعار في مختلف الاسواق لكي يقصد أكثرها رخصا بغرض الشراء وأكثرها غلاءا بغرض البيع ...والحق أن شبكة اتصالات عبد الستار كانت في منتهى النجاعة ففي ظرف أقل من سنة كان يشار اليه بالبنان باعتباره صاحب مال وأعمال والفلاحون الذين أعيتهم الحيلة وغلاء سعر الأعلاف وانتشار اللصوصية ورغبتهم في الكسب السريع ينهي ما يعانونه من شقاء متصل اعجزهم عن الاحتفاظ بماشيتهم وجدوا فيه خير من يريحهم من عناء بيعها اذ الكثيرين رغبوا في الخلاص من قطعانهم والتحول الى تجار وسماسرة يبيعون ويشترون ويضاربون ولا يحتفظون بالماشية لأكثر من يوم واحد وعندما تسأل الواحد منهم عن سبب تحوله من مربي الى تاجر يجيبك بسرعة
- ومن أين لي بتحمل تكاليف تربية الماشية ...صارت قطعة من العذاب ..
أما كان خيرا لهم من وجهة نظر مستقبلية بعيدة المدى أن يتكتلوا ويعملوا على اجبار من بيدهم الحل والربط على تخفيض سعر الاعلاف ؟؟..بعد هذه الموجة التي حولت المربي الى تاجر ندرت الماشية وألتهبت الأسعار وغاب المشتري ...وقد تنزل الأسعار الى الحضيض بعد فترة بفعل الانفلاتات الحاصلة في السوق التي لا يحكمها منطق ولا يحتويها مخطط ..لم يكن عبد الستار وأمثاله من أهل النظر الى بعيد ..كان ما يهم الجميع هو تحقيق الربح في أسرع وقت وتركها خرابا يبابا ان لزم الأمر فيما بعد ...كل شئ بالفلوس وما تمشي كان بالفلوس ...قال عبد الستار موجها الكلام الى شقيقه
- اذا أردت أن تكسب فدعك من الانتاج ...واعتمد على الشطارة ..ولم يكن عمر بحاجة الى هذه النصيحة أو قل هو كان بحاجة الى نصفها الثاني : فهو قد ترك الانتاج منذ أن تخلص من حرفته المنتجة بعد أن أفلست وكسدت سوقها وتوجه الى تجارة الملابس المستعملة ولكن ما يعوزه كان الشطارة التيب يتمتع بها عبد الستار ...وتهئ له أن أها البلاد كلهم صاروا شاطرين بارعين في الكسب وجلب الأموال دون أن يتعبوا أنفسهم قيد أنملة
- التجارة يلزمها مخ ... حبذا لو تحول الجميع الى تجار فوقتها ما أكثر ما سنتاجر فيه ...سنتاجر بكل شئ كل شئ ..كل شئ سيتبضع ..
- ولكن هل تعرف أين حدود هذا المخ والى أين سيوصلنا في نهاية المطاف سأل عمر مرتابا ...لشد ما كان عبد الستار يكره تلك الكلمة : نهاية المطاف ..انها تحتاج منه الى رؤية تغطي مساحات شاسعة لا قبل له بالاحاطة بها ...
- دعك من نهاية المطاف ...فنهايتها موت ...وعش ليومك فأنت تخسره في سبيل غد لا تتحكم فيه ...
- ألا ترى أن ضياع الغد نتيجة لفساد تدابير اليوم....؟؟
- كل نهار ونهارو ...هكذا حسم عبد الستار ..فلا وجود لبناء تراكمي وتسلسل سببي في ذهنه
- أنت تأخذ الأشياء منفصلة عن أسبابها ...أنت من ضمن قلة معدودة صارت تملك المال والبقية تتصارع فالسوق ضيقة وقدرة الناس على الشراء والاستهلاك ضعيفة وتزداد ضعفا يوما بعد يوم ..
- أتعامل مع مختلف الأوضاع ..كل حاجة وما يلزمها من تدبير ...
- ولكنك لا تساهم في تغيير شئ أو تحسين شئ بل ما يهمك هو الاستفادة من مختلف الظروف ..
- هكذا نحن كلنا ..نبحث عن انتهاز الفرص واستغلال الظروف ...
- تبا لكم جميعا ..هل يعلمون من هو صانع تلك الظروف التي يسبحون في مستنقعاتها الاسنة؟؟رفع عبد الستار اصبعه الى السماء ...وعرف عمر ما يقصده باشارته تلك وما تحمله من معاني مخاتلة ...فاستبد به الضيق وضجر من حديث شقيقه ثم ما لبث أن انشغل عن عبد الستار بالسلام على شقيقه الاخر سالم ..لم يره بادئ الامر ...لانشغاله وتورطه سريعا في حديث مطول مع عبد الستار ثم انتبه له فغقبله بحرارة فهما لم يتقابلا منذ عشرة أشهر ...كانت الحرقة متمكنة من قلب سالم لعجزه عن التحول الى تاجر مثل شقيقه لما سمعه من خير عميم تدره التجارة على ممارسيها ولكن من أين له برأسمال يبدأ به ؟؟لم يتح له حظه ولا شطارته أكثر من أن يصبح بستانيا يعمل بصورة متقطعة في حدائق الموسرين في مدينة الحمامات ....ورغم تقطع العمل فقد اختار الاقامة بشكل دائم هناك بعد أن اكترى دارا بمعية عدد من الأشخاص الذين يشاطرونه نفس الحياة ونفس الظروف
- ان عملي هناك لمدة عشرة أيام يدر علي أكثر مما يدره علي العمل شهرا كاملا هنا ...
- والكراء يمتص الفارق ..
- المهم أن العمل متوفر دائما وأصحاب البساتين لا يضنون علي بالاكل والشرب طوال أيام العمل ..رفع عمر رأسه ونفخ بقوة ليطرد من ذهنه أو ليبعد عنه عبء ادراك أن شقيقه يعيش على الاحسان ما يقربه الى صفة المتسول ...
- ولكنك تظل مسكينا ذليلا ...
- أنا ذليل مسكين في الحالتين فماذا أصنع ؟؟
- عملك في الحمامات ورضاك بتلك النوعية من الحياة تعني قبولك بالمسكنة واعتمادها منهاجا في حياتك ..فلا خلاص لك ولا أمل في الخلاص ...أما هنا ....
- ماذا هنا غير الجدب والفيافي المقفرة ؟؟
- بالله عليك يا سالم هل سألت نفسك مرة كيف صارت أو تحولت الى فيافي مقفرة ؟؟ وهل سألت نفسك ان كان هذا الجدب قدرا مقدورا أم أنه بفعل فاعل ...؟؟لم يسعف سالم وعيه ولا ذكاءه للاجابة ..فرفع اصبعه الى السماء كما فعل عبد الستار من قبله وعندها أدرك عمر أنه كان ينفخ في قربة مقطوعة فأخويه يداريان عجزهما عن الفهم وفشلهما في الفعل برمي كل مسؤولية في فساد الواقع وسوءه على ما وراء السحاب ..من سيلاحق ما وراء السحاب ؟تذكر كلبا نابحا على سحابة وخطر بباله أنه في ظل تمكن اعتقاد أحمق كهذا من نفوس من حوله فجهوده لافهامهم أن هذا الواقع من صنع سيستام لعين يتعين عليهم فهمه ومعرفة اليات عمله لتفكيكها وتعطيلها ستصطدم سريعا بنفوس خانعة خاضعة لمشيئة تتوهمها أتية من وراء السحاب وهو لن يكون أكثر من كلب نابح على تلك السحابة ...هكذا سيراه الناس... دخل الى الدار مداريا ما ساوره من زهق وضيق ليلتقي أمه فوجدها متمددة على فراشها تشكو من وعكة صحية امتدت لأكثر من أسبوعين سبقا قدومه..... نظر اليها قبل أن يبتدرها بالكلام فرأى على عينيها أثر دموع كانت تحاول مغالبتها ولكن عمر رءاها وما أسرع ما كان يحني عليها مقبلا وسائلا اياها عن سر تلك الدموع....
- لا تعرف ما صنع المال بأخيك ؟؟
- ماذا صنع به ؟؟
- صار يحب نفسه فقط ..
- ومتى كان هو أو أحد من الناس يحب غير نفسه ؟؟
- ما حدث أخيرا تجاوز ما حسبت ...
- ماالذي حدث أخيرا ؟؟
- تعرف أنه تزوج بعد أن كثر ماله وزوجته رفضت الاقامة معنا أو السماح له ببناء منزل بجوارنا وهكذا وجدت نفسي وحيدة ..بعد أن غادرتموني كلكم
- أليس عبد الستار يعيش هنا ؟؟
- كلا انتقل منذ زواجه الى المدينة وصار لا يأتي هنا الا نادرا وأنت كذلك وسالم أيضا... كلكم انشغل بنفسه
- ماذا تريدين أن نصنع تجاه ظروف الحياة القاسية ؟؟
- لوالدكم عشرون هكتارا ...لماذا قررتم تركها بورا ؟؟
- عشرون هكتار ؟؟خيالك واسع يا أمي... من أين نأتي بالماء ؟؟لا بئر لدينا ..ولا فكرة لنا عن الفلاحة فنحن لم نمارسها أبدا ...
- كثيرون ينتحلون صفة فلاح ليتحصلوا على بعض الامتيازات ...والفلاحون الحقيقيون أمثالكم - نعم أمثالكم فهي خياركم الذي هربتم منه - زاهدون في فلاحتهم ..
- لست فلاحا ولم أكن ...
- اذن ما معنى أن تمتلك أنت واخوتك عشرين هكتارا ؟؟تدعونها بورا دون أن تحاولوا شيئا من أجلها وتعيش انت وسالم على مشارف البؤس ويتحول أخوكما الثالث الى سمسار..؟؟ ضحك عمر ورد ساخرا:
- انه النظام العالمي الجديد يحولنا الى غرباء في عالمنا ويقوضه ويستخدمنا لرفاهية عالمه ...بدا على أمه عدم الفهم فحدقت فيه واجمة
- أنتم من صنعتم هذا النظام ولا أحد غيركم وما كان من الشيطان غير أن دعاكم فاستجبتم ...
- لا خيار أمامي يا أمي ..يجب أن أعيش ..
- الان صرت تتحدث عن نفسك فحسب ...كلكم اذا أصبحتم فرادي صرتم ضعفاء ولن تستطيعوا العيش ..سيأكل بعضكم بعضا ...
- بالله عليك يا أمي ...انني افكر أحيانا مثلك وترعبني هذه الدوامة ...ولكن من يصغي الي ؟؟انني مثل كلب ينبح على سحابة لهذا قررت أن أعيش وأهتم بنفسي وعائلتي فحسب ...
- لن تهتم بها ولن تكون قادرا على شئ من ذلك فالازمات ستطوقك ...
- ما أشبهك بسلوى ورجاء ...
- من سلوى ورجاء ؟؟
- اثنتان أعرفهما تتكلمان مثلك
- اذا عليك بأن تصغي اليهما جيدا ففي ثنايا كلامهما قد ياتي انقاذك ...
- ولكنهما لا تقدران على فعل ..
- ذلك لأنهما وحيدتان ...أتمنى لو أتعرف عليهما فقد أحببتهما دون أن أدري ..
شعر عمر بالارهاق ...فتمدد بجانب أمه ..وذراعه على جبينه محاولا بحركته تلك تنظيم عمل اليات دماغه وترتيب مختلف التفاصيل الجديدة والقديمة في تلافيف ذلك الدماغ ولكن سرعان ما تداخلت خيوطها ولاحت له الاحاطة بمختلف زوايا الصورة عملا في منتهى الصعوبة فنحى يده عن جبينه وفعل مثل ما فعل أخويه : أي رفع أصبعه الى السماء فتابعته والدته فترة ثم لم تلبث أن استدارت واستلقت على جانبها الاخر عندها أدرك عمر أن لا رغبة لها في مزيد من الحديث ..فنهض متجها الى خارج الدار ووقف في الساحة وأجال نظره في الجهات الاربع محاولا الاحاطة بتفاصيل وحدود تلك الهكتارات العشرين التي مثلت مربعا تقبع الدار في وسطه ..لا يذكر أن والده اهتم أو عني مرة بأمرها منذ انفتحت عيناه على هذه الدنيا ..فضل تركها دوما أرضا جرداء يحرثها سنة ويهملها سنوات ويوكل أمر استنباتها في السنة التي يزرعها فيها الى مشيئة الأمطار - ولا يذكر أن والده اعتبر نفسه مرة فلاحا أو امتدح الفلاحة بل كان يعد تلك الصفة وبالا عليه ونقمة ويعمل على الخلاص منها بكل أسلوب يستطيعه ويحرض أولاده على أقامة أسس مستقبلهم بعيدا عنها وعن فلاحة الارض وعناءها ويضحك هازئا من كلام شقيقه وهو يتحدث بصوت واهن عن الخطأ الفادح في ترك الأرض مهملة والأولاد بطالون ضائعون...
- انهم لن يعملوا فيها ولن يهتموا بها أبدا فلا امكانيات لهم لاحياءها ولا رغبة ...فعيونهم واهتماماتهم منصبة على المهن المريحة والاقامة في المدن وارتياد المقاهي
- وهل تحصلوا على ما يبغون وهل استراحوا ؟؟ ولم يتغير الوضع ابدا ...أبدا ظل الجميع يدورون في الدائرة المفرغة اياها ..وظل الدولاب دائرا يطحن الارواح والأجساد ....
....................¬..........
52
بعد دهور عديدة تحدث احد النادمين فقال :تفرقنا فى شبه الجزيرة هذه - هذه الرقعة الضيقة من الارض - شذر مذر لا نتفق على شىء ولا تجتمع لنا كلمة .حتى صرنا اذا رغب الواحد منا فى قضاء شان من شؤونه اما ان يحتال لاستثمار جهد غيره ويفتك الثمرة وحده واما يقيم حيطانا تفصله عن غيره لقلة ثقة الواحد بالاخر وفي الفجوات التي قامت بيننا وجدت بعض الديدان تربة خصبة ملائمة لنموها فترعرعت وتضاعف جرمها وغدت غولا هائلا عملاقا نتن الرائحة يفرز لزوجة من فمه تشل من يقع فيها ولسانه يتفرع اكثر من عشرين شعبة تتيح له عشرين صيدا فى الوقت عينه ثم نمت له قواطع وانياب حادة اتاحت له التهام وطحن كل ما صادفه من اخضر ويابس ومع ذلك ففكرة مواجهته لم تخطر على بال احد منا ..اذ ما ان رأيناه على تلك الحال من الضخامة والهول حتى سارعنا الى مهادنته فقد أجمع عقلاؤنا ان لا قبل لنا بمواجهته ولا بمصارعته مجتمعين كما لو ان الفكرة قد خطرت اساسا على اذهانهم ...فصار الواحد منا كل همه الوشاية بغيره والايقاع به لدى الغول لعله ينال عنده حظوة ولم يكن الغول يبالي بنا فكان كل ليلة يقتنص واحدا منا او اكثر فيمسكه ويدخل سيخا محمى في دبره ويخرجه من فمه ثم يشويه على نار حامية ويتخذه عشاءا ونحن الذين مازلنا احياءا او هكذا شبه لنا ننتظر مصيرنا المحتوم او الذي صوره لنا عجزنا محتوما ولاتقاء رعب النهاية نلوذ بكل ركن نعتقد فيه نجاتنا ..حتى كدنا ندخل في الحيطان خوفا وهلعا فلا يزيد الغول على ان يمد يده كما في كل مرة ليمسك ببعضنا ويفعل بهم كما فعل بالذين قبلهم حتى اوشكنا ان ندفن انفسنا في الارض ونهيل عليها التراب وتسلق بعضنا الاعمدة وما بقي قائما من اشجار وظل مرابطا فوقها حتى اهلكه الجوع والعطش فسقط كعود يابس على الارض ..اما الذين بباطن الارض فغدوا بعد فترة حشرات زاحفة على بطونها وانوفها ملتصقة دوما بالرغام وانا لنسمع صرخات الغول ترج الارض فوقنا وقد تحول الى دولاب هائل يجتذب نحوه كل شىء ويبتلعه فنندس عميقا فى التراب حتى فقدت عيوننا القدرة على الابصار وصرنا مخلوقات ظلامية لا ترى النور ولا تعيه ..بعضنا لاذ بالمستنقعات واخفى جسده او ما بقي منه في الطين فتحول الى ضفدعة قبيحة لا تتقن غير النقيق فتستجلب بصوتها الكريه الغول فيخوض في المستنقع ويمسكها ويحولها الى شرائح يلتهمها بعد العشاء او يحملها الى حيث لم نكن نعلم ..حتى اجتمع قلة ممن قيض لهم بؤس الجغرافيا ان يعيشوا منسيين في الدواخل القاصية المنبوذة وقد هالهم ان شاهدوا اغلب قومهم تحولوا الى كائنات مشوهة فاعتزموا ان يحموا سيخا من الحديد ويستخدموا كل ما لديهم من قوة وجهد ويدفعوا بالسيخ في عين الغول فيفقؤوها ويستريحوا منه ويعيدوا جمع تعساء بلادهم ويدعوهم يسترجعون بشريتهم الضائعة ولكن ضربة السيخ - التي كان اجدر بهم واحرى ان يوجهوها الى قلبه - أخطات العين ومرت جانبية بعد ان أحدثت خدشا عميقا فى ناحية الصدغ فترنح الغول ولم يسقط فعاود الجمع الغاضب وقد استعرت فيهم الحماسة لرؤية الغول يتاوه ويترنح احماء السيخ وفي نيتهم اصابة القلب هذه المرة ويا لسذاجتهم اذ ظنوا أنه مازال لدى البقية حس بانسانيتهم وحمية على كرامتهم يجعلهم يسارعون بالانضمام اليهم في مسعاهم لاصابة قلب الغول ..فقد اتضح ان هذا الاخير كان اكثر دهاءا وخبثا مما اعتقدوا ..لقد اعتقدوه ماكينة فاذا بهم يصطدمون بان وراءها عقل من اشد العقول حيلة ومكرا ..لقد استبقى الكثير من تلك الكائنات ليتخذهم خدما واعوانا سمنهم وعشعشهم ورباهم على طاعته فصاروا لا يرون لانفسهم وجودا ولا حياة مستقلة عن وجوده وحياته فما ان أعاد الجمع الثائر احماء السيخ وأهابوا بمن حولهم ان يسارعوا بمساعدتهم على دفعها في قلب الغول حتى خرجت تلك الكائنات من جحورها بأشكالها المشوهة وأصواتها المفزعة مثل اولاد البوللو السوداء التي كانت متكدسة فوق ظهره واندفعت في كل اتجاه وأعملت فكوكها ومخالبها في لحمتهم الطرية فالحقت بهم ابشع التشويهات وملئت اجسادهم ندوبا تحتاج دهرا لتعالج وان الواحد ليئن ويتلوى ألما لما لحقه من جروح وما نزف من جسده من دماء والطعنات يتوالى انغراسها في أجسادهم دون توقف..كان انتقاما مسعورا وتشفيا داميا مارسه أتباع ذلك الغول في حق الطائفة التي تمردت على سلطانه وما زاد في لؤم ذلك الانتقام وقذارته أن من كان المتمردون يعتقدونهم شركاءهم في كراهيته ومتضررين من سطوته ويشاركونهم الرغبة في القضاء عليه اتضح أنهم لم يكونوا أكثر من حلفاء مخلصين له وبين تعاليمه وتعاليمهم وشائج قربى وصلات لا تخفى ...أولاد البوللو انتشروا بأشكالهم السوداء القبيحة في كل ركن من البلاد وأمعنوا في اللسع والنهش ونظرات الدهشة الساذجة والذهول الغامر تطفح من عيون من اثروا مقارعة الغول حتى النهاية...... نهايته أو نهايتهم ..الدهشة لمشهد الضحية والجلاد وقد تحالفا ليشكلا غولا اخرا قبيحا ثنائي الرأس متعدد الاطراف تولد من الغول الاول كأن هذا كان بصدد تغيير قشرته باخرى أكثر سماكة وقبحا جعلت أسياخ الجموع الناقمة ترتد على أصحابها كل مرة كأنهم كانوا يسددونها في أتجاه صخر أصم ...
....................¬.............
53
أطل رأس كمال من فتحة الباب الصغير المجاور للبوابة الضخمة للسجن التي لم تكن تفتح لغير دخول سيارات السجن وقد أمسك بيده كيسا متوسط الحجم احتوى أغراضه التي رافقته طوال مدة اقامته التي امتدت زهاء الاربعة أشهر...كان ذلك تخفيفا من القاضي فمدة المحكومية كما ينص عليها القانون في جرئم السرقة كانت ستة أشهر ..بالنسبة لكمال ..سواء قضى اربع أو سته فقد لحقه تشويه جسيم قد يستغرق دهرا في معالجته والخلاص من اثاره ..لم يكن في اتنظاره احدا عند خروجه فبقية العائلة كانت في شغل شاغل بالوعكة الجديدة التي طرأت على زوجته ولا مال لديهم للذهاب لاستقباله حال خروجه علاوة على أن لا أحدا منهم كان يعلم يقينا بموعد عودته وهكذا تعين عليه في تلك العشية من أواخر الربيع أن يخترق الممشى الطويل نسبيا الرابط بين السجن المدني ب...والطريق الرئيسي ليصل الى المحطة ويتدبر لنفسه وسيلة تقله للعودة الى مدينته فلا هاتف معه ليخبرهم بخروجه ولا كان يعلم عندما زارته سعيدة وشكري اخر مرة قبل شهر متى سيفرج عنه ..وقف ضائعا حائرا على حافة الطريق ..فلا مال معه للتوجه الى المدينة الساحلية المجاورة ومن ثم ركوب سيارة أجرة الى مدينته على مسافة ستين كلمترا أو استقلال حافلة مارة من مكانه ذاك ...فالحافلة كان من عادتها التوقف في تلك النقطة ..داعبت وجهه نسمات الحرية وأحس رغم دوامة المشاعر المتناقضة التي هاجمته وخجله المتصل من غباوته التي أدت الى ايقاعه في ذلك المستنقع بروعة التحرروقدرته على المضي الى الامام المسافة التي يشتهيها بعد أن كانت حركاته مقيدة بحدود جدران عالية لا قبل له بتخطيها ..رغم ضياعه وادراكه بامكانية قضاءه الليلة في العراء فلم يتطرق الى قلبه الفزع ولا الرهبة . شمس الاصيل أمامه مباشرة ينظر اليها ويتابع ميلانها التدريجي نحو الغرب وقد استعرت حرارتها في ذلك اليوم من بدايات الصيف ..بين جانبي الطابية التي تحاذي الممشى الضيق المفضي الى الطريق المعبد مشى منتشيا يتابع بحبور حركات قدميه وهما تتقدمان بوحي من ارادته الحرة الى حيث يريد هو ثم لم يلبث بدافع من الضيق الذي اكتنف جانبي الممشى أن بدأ يزايله الحبور تدريجيا وهو يتذكر -فجأة - الحياة التي سيعود اليها بعد قليل كأن صورتها كانت غائبة عن ذهنه كل هذه المدة ..عندما أوشك أن يصل الى المعبد الفسيح والسيارات تمرق سريعة نحو الشريط الساحلي تلاشى احساس الحرية من رأسه بشكل كلي وتهيأ له أنه غادر سجنا صغيرا ليلج سجنا كبيرا ...أجل سيعود الى حياته البائسة السابقة ومعها احساس المهانة والعار ..عار أنه في نظر من يعرفونه لم يعد أكثر من لص وقضى عقوبة جراءها امتدت لاربعة أشهر...هل سيجد من يقبل بتشغيل لص ؟؟بل هل سيجد من سيقبل بمخاطبته أصلا ؟ كان يدرك أن الضربة التي سددها له فوزي كانت قاصمة وكم كان غبيا عندما أتاح له أن يسددها له على راحته
....................¬.......
54
أشار بيده الى احدى السيارات فرد عليه سائقها بأنه لن يبتعد كثيرا...وخفضت شاحنة سرعتها عند اشارته ثم استأنفت سيرها ...مرت الحافلة مكتظة بالركاب فلم يبال بمرورها ولا اهتم بأمرها في قليل أو في كثيرفلا مال لديه ليدفعه ثمنا للتذكرة وأمله معلق على أن يتطوع أحد أصحاب السيارات أو الشاحنات بنقله ..أخيرا توقفت بعد أن تجاوزته بمسافة شاحنة صغيرة قديمة عاد صاحبها القهقرى وعند معرفته بوجهة كمال بدا على وجهه التردد قليلا ثم عاود التفرس في سحنة السجين الخارج لتوه فرءاه هزيل البنية وفي عينيه ما يشير الى بقاءه طويلا في العتمة ..أخافته تلك النظرة الجائعة الى النور فللسجن تأثيرات لا تمحى سريعا على وجوه ضحاياه لا يعسر على خبير من أمثال سائق الشاحنة أن يتلمسها ..لم يتطلب منه وقتا طويلا ليدرك ان الرجل المتوقف على قارعة الطريق كان سجينا خارج لتوه ..فالسجن كان على مسافة قريبة ووجه كمال الاشعث الممتقع المصفرولحيته المحلوقة بشكل اخرق وشعر رأسه الذي بالكاد يلحظ كانت تفصح عن حقيقته بجلاء ..وكان جديرا بقناعة كهذه أن تزيل من رأسه كل تفكيرفي امكانية اركابه معه...ظل ممسكا بمقبض الباب من الداخل وهو بين اقدام على أن يفتحه ويسمح للغريب بالركوب واحجام عن فتحه لما اثاره فيه منظر كمال وادراكه لحقيقته من مخاوف ..انه سجين ...ودون الخوض في التفصيلات هو مجرم ...وكيفما كانت جريمته فأحرى بالجميع أن يخشوه ويتجنبوه ...ان السجن في هذه البلاد اذا أوقع بأحدهم في زنازينه فسيظل ذلك الواحد ملاحقا من تلك الزنزانة أينما توجه وحيثما حل ..سيراها في نظرات الناس وفي تعليقاتهم التي لا ترحم وفي معاملاتهم المقتضبة معه وفي رفض الكثيرين التعامل معه أصلا وهكذا صارت قاعدة أن الواحد اذا دخل السجن فلن يغادره أبدا...... سيظل سجين أفكار الناس واحكامهم المسبقة المليئة بالتوجس والحذر منه ..ففي منطق الناس وشرعهم ..السارق يظل سارقا والمجرم يظل مجرما والدنيئ دنيئ ولا امكانية لان يتغير الانسان ويصلح أخطاءه ولا أحد مستعد لأن يتقبله في غير الصورة التي اعتاد حشره فيها ..الحجرة ما تذوب والمجرم ما يتوب ...هكذا اعتاد الناس تمرير احكامهم حادة قاطعة كشفرة سكين مرهفة النصل ...يبدو أن صاحب الشاحنة قد حسم أمره أخيرا فدفع الباب وخاطب الرجل الواقف قائلا
- اصعد بسرعة ودعنا نتمنى السلامة بقية الرحلة ...صعد كمال متعثرا في قدمه اليمنى التي ما كان يجب أن يقدمها على اليسرى فاشتبكت معها وهو يهم بالصعود على عجل وصدمت جبهته أعلى الباب ثم انشغل بلفلفة كيسه في حضنه فالمساحة كانت ضيقة ليضعها بجانبه ..كانت من تلك الشاحنات التي لا تتحمل غير مقعدين وبينهما عصا تبديل السرعة تمزق غلافها الواقي وتكسر رأسها الكروي الذي يمسكها منه وشرعت تهتز بشكل عنيف والشاحنة قد عاودت سيرها
- انت ذاهب الى مدينة ...
فعلا الى ....فهناك عائلتي ..سكت الرجل مدة ثم عاد
- الوقت متأخر على عودتك من هذا الطريق ...الا ترى الحافلات كلها ممتلئة ولن تتوقف وسيارات الاجرة لا تمر من هنا ...
- تعطلت لاسباب قاهرة ...ولولا مرورك لقضيت الليلة على قارعة الطريق ... أشار الرجل وراءه في اتجاه السجن الذي كان يبتعد
- هل كنت تزور أحدا ؟؟كان سؤالا مخاتلا فصاحب الشاحنة أدرك من نظرة اولى من أين كمال كان قادما ...الا أنه فضل أن يقترب منه على حذر ...تحير كمال في الاجابة فالاحساس المهين الذي غمره وهو في المسلك الضيق لا زال يلازمه ..ثم اعتزم أخيرا أن يقول الحقيقة ..بل وأكثر من الحقيقة
- لم أكن أزور أحدا بل أنا نفسي كنت هناك ...
- تقصد أنك كنت سجينا ؟؟
- يمكنك أن تقول ذلك ..سجين... ضحية مكيدة ..كان يحس بأن صاحب الشاحنة لن يصدق كلمته الاخيرة لو قال بأنه لم يسرق القطعة بل غريماه تامرا عليه ..فأكثر من يغادرون السجن يؤكدون أنهم لم يقوموا بما سجنوا من أجله ..وما كانت اجابة من يستمع اليهم أكثر من عبارة تطفح بالشماتة
- يستأهل ...على عمايلو....تردد صاحب الشاحنة وهو يضع يده على عصا تبديل السرعة لتخفيضها
- لديك عائلة فمنذ متى تركتها ؟؟كانت تلك طريقة ملتوية لمعرفة نوع الجريمة التي ارتكبها كمال من خلال معرفة المدة التي قضاها في السجن وسريعا ما شعر كمال بالفخ الذي نصبه له الرجل ...انه لو قال له أربع أشهر فسيعرف سريعا أنها جنحة ..سرقة... دناءة.... لصوصية فعلة دنيئة لايستأهل صاحبها غير الاحتقار وذلك لم يكن أمرا بمقدور كمال أن يطيقه :
- اربع سنوات ونصف وخرجت بموجب عفو ...
- أربع سنوات ونصف ...يا لطيف ؟؟ أدار الرجل وجهه نحو كمال بغتة
- ماذا فعلت ليسجنوك كل هذه المدة احتار كمال بين أن يخبره بأنه كان سجين رأي : من أجل موقف لم يرق لأهل النفوذ أو أن يخبره بأنه ارتكب جريمة قتل على وجه الخطأ ..وفي الأخير حسم أمره على الخيار الثاني ..خشي أن اخبره أنه سجين رأي أن يسأله عن نوع الرأي الذي سجن من أجله وكمال لا باع له في اتخاذ المواقف ولا في الرأي ولا في السياسة وان يكن دائم النقمة على أهلها ويعدهم أكبر نكبة ابتليت بها البلاد ...
- كانت خصومة تافهة حاولت اجتنابها ولكنها تطورت سريعا ...وراح في ذهنه يرسم سيناريو قيامه بقتل فوزي واحراق قاراجه ...الان عثر على سبب نبيل يبرر به سنوات سجنه الاربع المزعومة ..
- لم تتحكم في نفسك ؟؟قال الرجل بلهجة تنضح تعاطفا ...دون أن يدرك أن كمال يمضي به في اتجاه التصريح له بأنه ارتكب جريمة قتل فعلا ولم يخض خصومة وحسب ...
- ولكن دخولك في خصومة مع شخص لا يكفي ولا يبرر القاءك في السجن كل هذه المدة ...بلع كمال ريقه وحدق في الطريق مليا محاولا أن يستجمع أطراف شجاعته قبل أن يلقي بقنبلته في وجه السائق
- أدركت بعدها أنه قصدني أنا شخصيا ...بعد خروجي من القاراج
- وعدت لتستأنف الشجار معه ؟؟
- كان يتحدث في قاراجه عن علاقة خنائية بين أرملة اخيه وزوج أختها المقعدة ولم أجد صعوبة في معرفة أنه قصدني أنا فأنا زوج شقيقة أرملة شقيقه وزوجتي مقعدة ...
- عيب عليك أن تتفوه بكل هذا الكلام الواطئ يا رجل ..عيب عليك أن تتهمني وتتهم أرملة شقيقك بتهمة معيبة كهذه ...تهمة معيبة ؟؟؟ضحك مني حتى استلقى ...ثم قال وهو يدير سبحته ...- سبحة الدجل والخديعة - بين أصابعه
- أنتم الكفرة الملاحدة الذين لا يؤدون ركعة واحدة في حياتهم لا يعسر عليكم ارتكاب كل فحش واتيان كل موبقة
- أتعني كل هذا يا رجل ؟؟
- سيماكم على وجوهكم .... الفجور يطفح منها ... هل تصلي ؟؟
- ما علاقتك بصلاتي ؟؟وماذا يهمك من أمري ؟؟أشار الي مهددا بالسبابة
- يا فاسق تستدرج أرملة أخي الى الرذيلة وهي بدورها ...متى كانت كارهة لها
- لادليل لديك على ما تقول ....فلدي ابنة عمرها خمسة وعشرون عاما ...أي انني أوشكت أن أتجاوز سن الكهولة وذلك السافل يرميني بالفجور على راحته ..أنا الذي بالكاد أجد عملا يوما أو يومين في الشهر ...كان صاحب الشاحنة يصغي مأخوذا بالقصة وهو يقلب عينيه بين وجه كمال والطريق أمامه ويده لا تكف عن المراوحة بين سرعة وأخرى فالطريق كان مزدحما ثم ما لبث أن تجاوز مناطق العمران وشرع الطريق يمتد أمامهما وقد خف ازدحامه بالسيارات وعلى جانبيه الخلاء الاجرد القاحل.... علامة الانتقال من عالم الى اخر ..هكذا عالمان متجاوران متضادان في كل شئ وكل ما بينهما مسافة لا تزيد على خمسين كلمترا
- أنا الذي بالكاد أجد عملا أعول به زوجتي المقعدة وأبنتي العاطلة وهذا السافل ابن السافل يرميني بتهمة كهذه .... قلت هذا ما كان ينقص الكارثة لكي تكتمل ...ثم ماذا ان كان ذلك الرجل الذي اتهمني هو كارثة الكوارث
- يرميك بالاتهامات دون دليل ليبقيك في موقع دفاعي ضعيف ...هكذا استنتج السائق ...أحس كمال في لهجة السائق بنغمة منافقة وتلجلج واضح يفصح عن خوف بدأ يتسرب الى نفسه وندم كمال على اختراعه لتلك القصة فما كان يجدر به أن يسئ أو يبعث الخوف في نفس من أحسن اليه
- وخرجت مغضبا من عنده وأشعلت النار في قاراجه ؟؟؟قال صاحب الشاحنة محاولا اختراع خاتمة للحكاية لا تنتهي بالقتل بيد أن كمال عاد يقول
- أتقول أنني ...
- اقول أنك تمارس الر ذيلة معها وما الذي يمنعك ؟؟ فلا يفصلك عنها غير باب ...سيفعل أكثر وأكثر ..فكر كمال فلا نهاية للتشويهات التي سيلحقها به فوزي ..فكر في أن فوزي قد يتهمه بكل ما اختلقه للسائق لاعطاء سنوات سجنه سببا يبعث على الاحترام وها هو علاوة على زرعه الرعب في نفس السائق يتورط في امكانية تصديق حدوث ما اختلقه ..بان خوف السائق من جفاف ريقه وامتقاع نظرته ...
- لاسوابق لي في القتل ولست من أصحاب الطباع السيئة ...أنت ترى جسمي هزيلا جدا ..
- أربع سنوات تفعل فعلها في نفس الانسان وجسده قال صاحب الشاحنة متعاطفا ومتشككا في الوقت ذاته ...
- كان يجلس متبجحا وهو يشعر بلذة بالغة في كيل الاتهامات الحقيرة لي فلم أشعر الا ويدي قد امتدت الى كليمونات ضخمة كانت موضوعة بجانبه ..لوحت بالكليمونات في وجهه وأنا أطالبه بالكف عن هراءه
- اذا لم تتوقف عن هذا فانني ...توقف عن رشقي بالاتهامات والا فانني ...ولم يتركني اكمل ..لوح بأصبعه الوسطى في وجهي ...
- ان كنت رجلا وتستطيع ان تفعل شيئا ...توقفت عند تلك الكلمة وبدا لي أن هناك تناقضا بين كلام فوزي في البداية وكلامه في النهاية
- ولكنك تقول انني أفعلها مع أرملة شقيقك فكيف أكون كذلك وأنت لا تعتبرني رجلا ؟؟
- من فمك أدينك ...أجاب اللعين وقد برقت عيناه كمن وقع على شئ طال به أمد البحث عنه ...
- اكثر من اللازم ..هذا ...قال صاحب الشاحنة وقد خفض سرعته فجأة أمام مجموعة من النساء يعبرن الطريق وعلى أكتافهن أوعية ممتلئة بالماء ..ثم عاد الى سرعته السابقة وهو يجيل نظراته بين الطريق وبين كمال الذي تعمد تشويقه بأن التزم الصمت طويلا
- ماذا فعلت ب الكليمونات ؟؟
- فككت بها لولبا ...وضحك ..وضحك معه السائق
- لا تقل لي أنك هشمت بها رأسه ...
- لم يكن الأمر كذلك ولست نادما البته فهو كان يستأهل أكثر مما فعلت به
- هل مات ؟؟عاد السائق يسأل لاهثا
- فقط الضربة انحرفت عن مسارها قليلا ...وبدلا من أن تصيبه في أم رأسه أصابت كتفه ..
-اه...ردد السائق وقد تنفس الصعداء ضربة بالكليمونات على أعلى ذراعه تحتاج الى شهرين في الجبس ويعود بعدها سليما معافى
- كم تأسفت على خطل يدي التي قلما تصيب ...كنت أنوي تسديدها الى رأسه ولكنه أماله في اللحظة المناسبة فأصبت كتفه الضخم وحالت الشحوم التي اكتظ بها ذلك الكتف دون أن تكون الاصابة بليغة اي أنني لم افلح حتى في تكسير عظمه
- أي أنك أحدثت له تمزقا عضليا لا أكثر
- ولكنهم عدوها محاولة لقتله ..وحاكموني على هذا الاساس
- لم يفلح محاميك في اعتبارها شجارا ؟؟
- لا محامي لدي أدنت من المحاكمة الاولى ولم تكن لدي امكانيات ولا لعائلتي لللاستئناف وهكذا سقت الى السجن حيث حوكمت بست سنوات قضيت منها اربع ونيف
- ضربة خطلاء في لحظة غضب كلفتك أربع سنوات من عمرك فماذا لو كانت الضربة موفقة ؟؟
- لم تكن لتكلفني ندما ولا أسفا ..كنت استرحت منه ولا يهمني بعدها الى أين أذهب ..
لا شك أنك عرفت أهوال السجن لمدة أربع سنوات.... يعاملونك مثل الكلب في كل الحالات ولا يتوقفوا حتى ينتزعوا منك كرامتك - ان السجن في هذه البلاد لا يمثل اعطاء فرصة للشخص لبداية مختلفة بعد أن أدى ما برقبته من دين بل يمثل مكانا لتحطيمه التحطيم النهائي فمن يدخل السجن في هذه البلاد هيهات أن يغادره - ان السجن يتحول الى حالة في ذهنك ..أربع جدران قائمة في لاوعيك تتخبط في عتمتها وتصدمك اينما توجهت ...
- حديثك يدل على أن لك تجربة سابقة في هذا الامر ...وفعلا فذلك ما كان يبحث عنه سائق الشاحنة ...أن يبادله تخويفا بتخويف وأن يدع كمال يدرك أنه ليس أقل منه تورطا وليداري خوفه من مصاحبة قاتل بادعاء أنه هو الاخر ارتكب جريمة لا تقل شناعة عن جريمة رفيقه .الحق ان الرجل كانت له تجربة في السجن ولكن من أجل شجار تطور الى معركة مع احد أجواره لم يعرف فيها لحد الان من كان منهما على حق ومن كان على باطل وليس من أجل اعتداء او سرقة الا أنه في ساعته تلك كان مجبرا على الوقوف بندية في وجه كمال : فليقل له أن دخوله الى السجن كان بسبب قيامه بالحاق أفدح الاضرار بلص تفطن له ليلا وهو يحاول سرقة منزله
- كان دنيئا سافلا مستعدا لسرقة أي شئ حتى الملابس المعلقة على الحبل أو الحذاء البالي الذي أتركه أمام الباب..
الان اخترقا البلدة وقد خيم على أرجاءها الهدوء في ساعة الاصيل هذه بعد أن كانت تضج صباحا بالخلائق الاتية من كل حدب وصوب على متن شاحناتها التي امتلأت بالماشية لبيعها فاليوم كان يوم السوق الأسبوعية للمواشي واثارها ورائحتها كانت واضحة جلية على الأرض وفي الهواء العطن فلم يكن هناك من يقوم بازالة ما خلفته من أوساخ وبقايا تبن تناثرت هنا وهناك ...
- تابعته وهو يفتش في الحوش هنا وهناك ...ثم اعتلى الدرج الصاعد الى دار شقيقي فوقي ...
- ونبهت شقيقك ؟؟
- لا كنت أدرك أنه بصعوده الدرج قد أوقع نفسه كالفأر في مصيدة ...كل ما كان علي فعله أن أنتظره في أسفل الدرج فلا مكان له للعبور خارجا غيره وكذلك فعلت ...
- ولكن ماذا لو كان أقوى منك بدنيا ؟؟
- لقد حسبتها من الاول ...وتأكدت من قدرتي على التغلب عليه وعلى ثلاثة من أمثاله في نفس الوقت ..ولوح بقبضته وهو يضغط على الفرامل ليفسح الطريق لعربة يجرها حمار لتجتازه ..وعاد يوالي السرعة والمحرك يصدر صوتا شبيها بالقرقعة فالشاحنة قديمة ايسوزو 37 ....الطراز الذي يلائم تماما حال مدينته التي يقصدها ..ان هذا الرجل لا يختلف عنه في شئ هكذا فكر كمال فمن لحظة وقعت عليه عيناه واستمع الى كلامه أدرك أنه من جهته
- انتظرته متأكدا من عودته ...وحالما رأيته نازلا انتفضت من مكاني وفي نيتي امساكه سريعا
- ماذا كنت تنوي أن تفعل به ؟؟
- أشبعه ضربا ...ثم ..ولم يكن يبدو أن البقية كانت واضحة في ذهنه
- تسلمه الى الشرطة ؟؟
- اللعنة على الشرطة تلك لا تحمي أحدا بل نطلب منها الحماية ...كنت أنوي أن أخذ حقي واسترجع أدباشي بيدي هاتين لا بيدي الحاكم
- وأعطيته طريحة ؟؟
- كان أخبث مما كنت أتصور ...ما أن راني وهو نازل للدرج وكان هذا مفتوحا من جانبيه حتى قفز الى أسفل ..الى حوشي أنا من مرتفع مترين أو ثلاثة ولم تسعفني لياقتي لاقفز مثله وأعترضه قبل أن يثب فوق الجدار المنخفض ويدرك الشارع ويفلت ..كان علي ان أنزل الدرج وأفتح بابه الذي أحكمت غلقه وأنا أنتظره وعندما وصلت الى الشارع شاهدته يجري فأدركته بضربة من العصا التي كانت معي ...
- كانت معك عصا ؟؟...
- طبعا كان يجب أن أكون مسلحا بشئ فهو الاخر قد يتسلح بشئ
- ولكنك قلت أنك كنت قادرا على صرع ثلاثة من أمثاله... .وابتسم كمال
- يا ولدي لابد من الاحتياط ..كمنت منتظرا اياه وبيدي عصاتي ولم أنل منها غير أنني أصبته اصابة قوية في عموده الفقري
- وفر رغم ذلك ؟؟...كيف تحولت من ضحية الى فاعل ؟؟
- كلا لم يفر ...انقض علي اثنان من رفاقه واتهماني بالاعتداء على رفيقهما ظلما وعدوانا ...
- كان معه شركاء ..لهث كمال ..
- أجل كانت لهما طريقة في التخلص دوختني ..كانا بصدد تبديل عجلة شاحنة صغيرة في ذلك الوقت وزعما أمام باحث البداية أنني أصبت صاحبهما عمدا واصرارا وهم قد تعطبت شاحنتهم واستدلوا على عطبها بان احدى عجلاتها انفلقت وأروها للباحث وهي مرفوعة على الكريك
- هل تعتقد أن اشخاصا جاؤوا لسرقتك يتعمدون تعطيب سيارتهم وأداة فرارهم ؟؟لغط في وجهي المحقق.... لماذا أتيت الى هنا ؟؟ أنت أقوى منه..فلو أنه دخل الى حوشك فعلا لكان سهلا عليك أن تمسكه ...وهكذا خرج ذلك الدنيئ كالشعرة من العجين ونلت أنا شهورا مديدة في السجن ...
ظل كمال صامتا ساهما وهو ينظر بطرف عينيه الى صاحبه ويحاول البحث عن مقدار ما في قصته من منطق وانسجام.... وفي النهاية لم يستغرب شيئا ...لاحق الافعى الى جحرها فانقلبت عليه ولدغته ..ألم يحدث له هو نفس الشئ تلك العشية مع فوزي
- وكيف قضيت هذه السنوات الاربع ؟؟سأله صاحبه
- اه ..أجاب كمال ..بدأ الرعب من ليلة الايقاف وقبل أن أحاكم ...
- عذبوك لينتزعوا منك اعترافا ..لا شك أن خصمك شخصا نافذا ...
- ليس بالضبط فلهم اساليب عديدة لتحطيم معنويات الموقوف قبل تحطيم جسده ..وما هو السجن في هذه البلاد ان لم يكن أداة تحطيم لللانسان فالسجين في نظر سجانه يتردى الى ما دون مرتبة الحيوان ...
- شكرا لك على ربع ساعة حرية التي اتحتها لي ...ولكني أريد قضاء حاجتي ...
- قضاء حاجتك ...؟؟أنظر الى جانبك هناك جدار واطئ به مرحاض أو ما يشبه المرحاض في نفس الغرفة أو الزنزانة التي أنت سجينها وبرفقتك خمسة او ستة أشخاص يمكنك الذهاب الى هناك وقضاء حاجتك.... أجابني العون بوجه متجهم ...كان خيط من الماء يسيل دون انقطاع فلم يكن يسمح للاوضار أن تظل عالقة ومع ذلك فان رائحة نتنة كانت تنبعث من كل شئ في تلك الغرفة القفص ..الحشايا المتاكلة التي نمنا عليها والاغطية التي فقدت العديد من أجزاءها وصولا الى حرماننا من كل أدواتنا فلا هاتف ولا ولاعة ولا حزام تمسك به سروالك فترى مؤخرات بعضنا بارزة وهم يدارونها قدر جهدهم بسبب سقوط السراويل...واه نسيت أن أقول لك كلما رغب أحدنا في التدخين ...تلك الليلة ...الليلة الاولى قبل المحاكمة فلا مفر أن ينادي الحارس لكي يشعل له سيجارته وهذا قد يجيب وقد لا يجيب ...
- افهم من تجريدكم من ادواتكم أنهم يخشون أن تستعملوها في الاعتداء على بعضكم ...
- ولكن الاحساس بانتهاكنا جسدا وكرامة كان يطبق علينا ويملئنا ضعة ومهانة
- وهل نمت ليلتها قبل يوم محاكمتك ؟؟
- كلا ولا دقيقة واحدة ...رفاقي استسلموا للنوم منذ الحادية عشرة فبينهم اثنان ممدمنا خمر لم يجدا خيرا من النوم لكبت حاجتهما الجامحة لمزة تروي غلتهما وتطفئ نارهما المشتعلة ..والاخر خاض معركة طاحنة مع غريمه خلفت في جسده جروحا كثيرة فنام متأوها بعد أم ضمدوها تضميدا أخرقا ...أما أنا فظللت مستيقظا طوال الليل فتلك كانت المرة الاولى التي أساق فيها الى مثل ذلك المكان ..لفحتني البرودة في بدايات الفجر فالوقت كان شتاءا ..ورغم جفاف العام واستمرار السخونة لافحة فان برودة الفجر دفعتني الى جذب الغطاء على رأسي دون نوم وأنا أهم بادارة ظهري الى الباب عندما سمعت صوتا ورأيت شخصا داخلا الى الساحة الطويلة التي تحتل غرف الايقاف جهة منها
- موقوف جديد ؟؟سأل السائق ...كيف يتركونه يدخل بمفرده ؟؟
- كلا ليس موقوفا جديدا بل ضابط شرطة ..قبل دخوله بربع ساعة أدخلوا فتاة ..تجرأ أحد الموقوفين على سؤال الحارس عن سبب جلبها فزعم له أنها تخاصمت مع جارتها وطبعا لم يصدقه أحد ..صاحبنا الذي جسده امتلأ بالجراح اشار بأصبعه اشارة الخبير العارف الى السبب الذي القى بالفتاة هنا
- وهل وضعوها معكم ؟؟
- كلا سيقت الى حجرة اخرى شاطرتها فيها فتاة أو أكثر ..لا أعلم ..
- وماذا كان من ذلك الرجل الداخل ..؟؟
- اه ..كان نحيل الجسم أو قل رشيق الجسم ومع ذلك كان في سلوكه كالثور الهائج...توجه الى الحارس بكلمتين وسرعان ما كان هذا أمامه يدله على احدى الزنازين التي قصدها وفتح له بابها ..سمعت صريرا ثقيلا والقفل يفتح ثم صرت ثانية والقفل يغلق ووقع خطوات سجين او موقوف تتحرك خارج الغرفة في اتجاه قلب الساحة من حيث يمكننا جميع الموقوفين أن نرى بوضوح ما كان يحدث ...
- كأنك تحدثني عن عملية اعدام وشيك ..أخفتني ..قال السائق مبتسما ومداريا وجله ...
- ما حدث بعدها لم يكن بعيدا عن عملية اعدام ...كان اعداما معنويا رهيبا لذلك البائس الذي أوقعه حظه التعيس في قبضة ذلك الضابط الوحش- في ثيابه المهلهلة وقميصه الصيفي الخفيف في برد الليل الصاقع أوقفه الضابط ازاءه وعلى وجهه لحية كثة شائكة لم يخالجني شك في أنها لحية بؤس وشقاء لا لحية تدين وورع ...كانت منعقدة شعثاء تملأ وجهه وقد نبت فوقها شاربان متهدلان وأعلى صدغيه قد استقرت عينان محمرتان تطرفان ضراعة لم تجد مستجيبا ..أداره الضابط على جانبه كأنه يدير شيئا جامدا فقرا على قميصه رقم 1 من الخلف فخاطبه قائلا :
- أنت رقم واحد في الدونية ...ودون أن يتم كلامه أهوى على وجهه بلطمة عنيفة جعلت التعيس يميل بوجهه كله ليتفادى انفصال راسه عن عنقه ..فعاود الضابط تقويم اتجاه راسه وأداره مجددا على جانبه وهو يقول هازئا من الرقم المرسوم على القميص :
- انت رقم واحد في البلادة ...وأهوى على وجهه ثانية بلطمة أعنف من الاولى التوى معها عنق الشاب دون ارادته فأعاده الضابط ثم اداره مرة للمرة الثالثة فوقعت عيناه على الرقم المرسوم فعاد يقول هازئا :
- انت رقم واحد في السفالة ...ولطمه بيد كالمطرقة وهكذا لما يزيد على ساعة الا ربع حسبت كم من لطمة تلقاها ذلك الشقي قبل ان يحاكم فوجدتها اثنتان وثلاثون لطمة ...اثنتان وثلاثون لطمة نفس بها ذلك الضابط عن نوازعه السادية المتمكنة منه ..وسكت كمال ليلتقط أنفاسه .فانزل السائق النافذة وترك الريح الساخنة قليلا تقتحم داخل الشاحنة وتنفس ملئ رئتيه ..ثم عاد يسأل
- وماذا حدث بعد ذلك ؟؟
- أنقذتنا من بطشه رشوة دفعها احدنا في تلك الزنزانة الى الحارس فبعد أن أنهى حصة تعذيبه لذلك المسكين جاء يخطر أمام الزنازين ويتفرس في نزلائها فوقعت عيناه علي وأنا أنظر اليه مباشرة فضرب باب الزنزانة برجليه بكل قوته وطلب من الحارس فتحها فسرعان ما سارع هذا الى التدخل فصاحبنا الخامس الذي معنا في الزنزانة قد اعطاه نصف علبة سجائره التي جلبها له شقيقه مع المغرب دون أن يتمكن من ان يراه والمحجوزة عنده مؤكدا على التزامنا الهدوء وان جنحنا خفيفة فهو قد اعتقد أن من رشاه هو المستهدف..... وأخيرا رن هاتف الضابط فأسرع خارجا حاملا معه كابوسه ونفوسنا قد امتلأت رعبا من فظاعة ما شاهدناه ...لا يتيح لك السجن امكانية العودة الى الوراء ويمنحك فرصة ثانية بل هو عتبة اذا خطوت داخلها ابتلعتك ظلماتها الى الابد ..نفخ الرجل بقوة وهو يدير المقود اذ بلغا المفترق المؤدي الى الطريق الحزامي الذي على مسافة كلمترين منه يوجد التجمع السكني الحفير الذي تعيش فيه عائلة كمال وسعيدة وطفلها ..كانت مصادفة لطيفة اغنته عن كل عناء فالرجل سيوصله مباشرة الى داره أو قريبا منها ...
- أربع سنوات ونصف وليس هناك أحد ينتظرك عند خروجك ؟؟استدرك السائق كمن تفطن الى حقيقة غابت عنه
- لا أحد يرغب في أن يتلوث بملاقاتي فذلك الرجل الذي ضربته ب الكليمونات قد اشاع حكايتي التي اختلقها مع أرملة شقيقه وليس أسرع من الكلام المغرض نفادا الى الاذهان ...فالكثيرون صدقوه أو اشتهوا أن يكون صادقا لما في الحكاية من اثارة لا تخفى
- وعند عودتك الى أهلك ستعاني المزيد ...
- اعاني المزيد ..ربما ولكن فيما يتعلق بذلك الرجل فلن يصعب علي العثور على كليمونات ولن اخطئ هذه المرة
....................¬........
54
ارتقى المرتفع الترابي مع ساعة المغرب وهو يشعر بقدميه ثقيلتان بالكاد تستطيعان تسلق تلك الربوة الصغيرة ..وقف على اعلى المرتفع ونظر تجاه التجمع السكني الحقير وعندما لم يلحظ تفصيلا خارجا عن المألوف ووجد كل التفاصيل على الارض كما كانت مرتسمة من قبل في ذهنه حول بصره في اتجاه مجموعة من الاطفال متحلقين قرب الثنية المؤدية الى الريف الاجرد القاحل خلف التجمع. بحث عن أمين بينهم فلم يجده ولكن دخانا من الناحية الاخرى لفت انتباهه ..كان قدر شكري المعهود ولكن شكري لم يكن قربه بل شاهد امين جالسا على الأرض وقد عقد ذراعيه على ركبتيه وهو ينظر ساهما في اتجاه المدينة التي غيب أكثر معالمها المرتفع الفاصل ..نزل كمال من الناحية الاخرى ووقعت عينا أمين عليه فنهض خجلا متثاقلا فقد عرفه في الحال رغم رأسه الحليق ونحافته التي ازدادت .جاهد كمال لكي يبتسم في وجه أمين فملامح هذا الأخير كانت تفصح عن كابة سلبت كمال كل قدرة على اظهار الابتهاج ولو افتعالا ...وعندما دنا كل منهما من الاخر شاهد أمين وقد انفجرت عيناه بالدموع ..أسرع اليه واحتضنه وأشبعه تقبيلا فدفن أمين رأسه في صدر كمال وظل ينشج لفترة غير قصيرة
- أمين الصغير ..ماذا يبكيك ؟؟لقد عدت سالما ...
- كنت أعرف أنك ستعود يا عمي ...ولكن ...
- ولكن ماذا يا أمين ؟؟
- عمتي ربيعة ...وعجز عن الاسترسال في كلامه ...أحس كمال بالرجفة تسري في اوصاله فهو يعرف أنه قد ترك ربيعة في حالة يرثى لها
- هل عاودتها الجلطة وهل هي في المستشفى ؟؟
- انتفخ وجهها حتى صار في حجم ذاك ...وأشار أمين الى قدر شكري
- هل هي في المستشفى ؟؟وجر أمين من ذراعه ومضى جاريا في اتجاه داره فلم يجد أحدا في ساحة الدار فدخل ونظر الى حيث اعتادت زوجته التمدد كلما أعيتها تأثيرات الجلطة فلاح له الفراش خاليا ..بل لم يكن ثمة فراش اصلا ...كان كل شئ مرفوعا معلقا والارضية نظيفة وعليها اثار الابتلال دلالة على أنها غسلت قبل وقت قريب ...
- أين الجميع ؟؟التفت كمال وهو يسأل أمين لاهثا
- لم تعودا بعد يا عمي ..سعيدة وسلوى تعملان الى حدود المغرب كل يوم ولن تعودا قبل ساعة أخرى
- وربيعة أين هي ؟؟تلجلج أمين كمن يحس بنفسه حيال امتحان عسير مواجها التصريح بحقيقة رهيبة يعجز لسانه عن الافضاء بها ...
- لم تعد من المستشفى ...
- هل مازالت هناك ؟؟
- كلا ياعمي لقد قلت لك أن وجهها انتفخ حتى تضاعف حجمه والطبيب قال بان لا حيلة له تجاه الامر ...جلس كمال خائر القوى على الأرض وعيناه تحدقان في وجه أمين ولا يكاد يفهم شيئا من الكلام المتقطع الذي خرج من فم هذا الأخير ...ثم أطرق الى الأرض وقد فهم من ملامح أمين ونظرته المحزونة أكثر مما فهم من كلامه
- ماتت ...؟؟طأطأ أمين رأسه الى الأرض ثم رد بصعوبة
- لقد قلت لك انها لم تعد ...الان صار بوسع كمال أن يستوعب نكبته الجديدة ..فانجلى الفزع من نظراته وأمسك عودا وشرع ينكث به الأرض ...ثم التفت الى أمين وقد أحس بمقدار ما أثاره في نفسه الصغيرة سرد هذه الحكاية من ارتباك واضطراب
- مازلت تدرس يا أمين ؟؟
- كلا يا عمي أنا مع شكري ...وفي الحال تذكر كمال أنه راى أمين أول ما رءاه قرب قدر شكري ..
- أقف على القدر وأساعده على افراغ الدوارة
- ودراستك ؟؟سأل كمال والغثيان يطفح من عينيه
- قالت أمي أن لا قدرة لها على تكاليفها ...وخير لي أن اعمل وأوفر معهما المال ...هي وسلوى
- ولكن الحال كانت دائما هكذا ...كانوا دائما يشكون من ضنك المعيشة ومع ذلك استمر أمين في دراسته فما الذي حدث لها ودفعها الى تغيير رأيها أخيرا ؟؟ وكيف ساندتها سلوى في قرارها المتعلق بقطع أمين عن المدرسة ؟؟تزاحمت الاسئلة في رأس كمال ولم يعثر في اجابات أمين على ما يشفي غليله فنهض مجددا ودخل الى الغرفة التي اعتادت ربيعة أن تنام فيها فجلس تماما في موضع فراشها متلذذا البرودة التي بعثها في الغرفة الابتلال الذي غمر الارضية ...أدار رأسه شمالا ونظر من خلال النافذة الصغيرة المطلة على الريف الممتد وراءها ..وتذكر كيف أن ربيعة كانت - قبل أن تصاب بجلطتها - لا تكل ولا تمل من العمل في تلك الحقول كيفما كان العمل وسواء نقدها صاحب الارض أجرا أم لا ولا تعود الى البيت قبل مغيب الشمس .نظر الى الحقول كانه ينتظر أن يرى ربيعة وقد أنهت عملها في سانية أحدهم التي قلما تجود بشئ وفير على صاحبها ..ومفضت عن ثيابها التراب العالق بها ورفعت حزمة الحشائش القليلة التي جمعتها عشاءا للعنزة الصغيرة التي كانا يربيانها في الحوش ...كان كمال في نظرته تلك وسرحان أفكاره يشعر بعالمه يتلاشى ويضمحل ..وفي نفس الوقت لا مؤشر على ولادة عالم جديد ..بل يحس بدخوله الى عتمة زاد كثافتها في عينيه ونفسه تكاثف الظلام في تلك الساعة من بداية الليل ..ظل شاخصا بنظره في الحقول الجرداء وأمين كعادته قعد هادئا برهة ثم لم يلبث أن تذكر شيئا فأسرع خارجا ..كان مكلفا بحراسة قدر شكري وقدر أنه غفل عنه وقتا قد يكلفه عقابا منه ..وهكذا لبث كمال منفردا في مكان نوم ربيعة وقد داهمته أحاسيس مريرة تجاه امراةلم تعش فرحة واحدة في حياتها المليئة بالالام ...عدا فرحتها بسلوى التي لم تطل فبعث ولادتها بسنوات قليلة داهمتها تلك الجلطة ..كانت سلوى سلوتها الوحيدة ...
- ترى أين سلوى يا أمين ؟؟
- مع سعيدة ..تعملان ..رد أمين من مكانه قرب القدر ثم دنا منه وقد خنقت أنفاسه الرائحة النتنة المنبعثة من داخله ..واذا بشكري يهل من فوق المرتفع الترابي على متن دراجته المتهالكة ويوقفها حذو القدر ويجيل نظره على ما بداخله ثم يتوجه الى أمين بنظرة حادة ويقرعه بصوته
- أحرقتها مرة أخرى ...
....................¬..........
55
لم يهنأ فوزي طويلا بانتصاره ...فكل نطاح له يوما نطوح ..وكان لابد أن يأتي حوت أكبر منه ويبتلعه ..وهكذا لم يعد كمال يشعر بضغط الحاجة الى أن يحول ذلك السيناريو الذي اختلقه لصاحب الشاحنة وهما في الطريق الى مدينته الى واقع مجسم ...استمع الى حكاية فوزي وقد كانت اول ما بدا به شكري حالما التقاه ففي ظنه أن كمال يعلم بوفاة ربيعة منذ ما يزيد عن عشرين يوما فلم يهتم كثيرا بسرد تفاصيل وفاتها بل ركز على ان يروي ما حدث لفوزي وهو يقدر أن في كل كلمة ينطقها يفرج عن كربة ملئت نفس كمال ويشفي غليله للانتقام من عدوه الكريه
- ماذا حدث لربيعة ؟ وماذا حدث لفوزي ؟أضاف وقد غلبته نفسه
- ربيعة توفيت عليها رحمة الله ..وفوزي صار جلدا على عظم مؤخرا لا رحم له عظما ..ولا علاقة بين ما حدث للاثنين ...
- ربيعة ماتت بعد أن ظلت تكابد مضاعفات الجلطة التي اصابتها مجددا لمدة سبعة أيام في المستشفى وفي لحظة جنونية يائسة قررت سعيدة وسلوى نقلها الى مصحة خاصة وتعهدتا بتسديد مبلغ الاقامة والعلاج ...
-هه هه عيادة خاصة ؟؟؟؟ شهق كمال وقد دهمه الخبروأنساه فضوله لمعرفة ما حدث لفوزي ...
انتظر يا كمال ...ربيعة ماتت واستراحت أما فوزي فيموت بالتقسيط وسيستغرق موته سنوات طويلة يذوق فيها العذاب الوانا على يد حوت أضخم منه ...
- أخبرني عن ربيعة أولا ...
- عندما تأتي سلوى ستخبرك بكل التفاصيل فأنا لا أعرف عنها الكثير
- هل حقا نقلوها الى عيادة خاصة ؟؟
- هذا صحيح ..
- كم يوما لبثت هناك ؟؟أحس شكري أن رأس كمال يضج بالحسابات ..
- ثلاثة ..اربعة أيام ورفضوا تسليم جثمانها الا بعد امضاء سعيدة على التزام بالتسديد خلال مدة لا تتجاوز الشهرين بضمانة مشغلهما الحالي ...
- من مشغلهما الحالي ؟؟
- سانية فلفل شاسعة وشتلات بطيخ وتحمير وتنظيف اسطبل دواجن ..ذلك مشغلهما ..أي شقاء لا ينتهي ..أحس كمال بخيبة عميقة وصهرت وجهه نار حامية ..لم يعد ثمة من أثر للبرودة التي بعثها الابتلال ..بل شرعت ألسنة القيظ تتناوب على شيه رغم أنهما كانا في الليل
- ما يزيد على مليون ونصف عليهما أن يدفعاها في شهرين وقد يحسن اليهما رب عملهما فيدفع معهما على أن يسددا ما عليهما عملا مضنيا طوال الصيف وهكذا باعا العنز ليسددا قسطا صغيرا ..فالمستشفى أهملها رغم انتفاخ وجهها كالكرة ..والطبيب ظل لامباليا ورفض تحويلها الى الانعاش وأين هو الانعاش في مستشفى عمومي ؟؟وضحك شكري بمرارة ..
- كانت سعيدة وسلوى بين أن تدعاها تموت في ظل عذاب أليم أو تجازفا بنقلها الى مصحة خاصة سمعتا الكثير عن شدة حرصها على مرضاها وعنايتها بهم فاختارت الحل الثاني وقيدت نفسها بالتزام مدمر ...وعمر لم يتأخر في اعانتها ولكن ماذا كان في وسعه ؟وهو نفسه قد فكك سيارته واحتاج الى تركيب محرك جديد لها ..ساعدها بمائة دينار هي كل ما كان معه ...وهكذا ظل متخلدا بذمتها بعد مساعدة عمر وبيع العنزة ...مليون و250دينار تسددانها في شهرين
- وعمل أمين معك كيف طاوعتك نفسك عليه ؟؟
- ان هذا العمل يدر مرابيح ...اعترف شكري الا أنه عمل نتن : من أين لسعيدة أن تتدبر مصاريف دراسة أمين وهي التي قررت أن تقترض من مشغلها لقاء التزام اخر تمضيه له بالبقاء على ذمته الى حين تسديد ما عليها من دين ..وأخرجت جثمان زوجتك أخيرا ولم تفد عناية المصحة الشهيرة في قليل أو في كثير ...الطبيب الذي عالجها طوال مدة احتضارها لخص لها المسألة كالاتي :
- تلك ارادة الله العلي القدير ..نحن نقدم الدواء وعلى الله الشفاء ...ورضيت سعيدة وسلوى بهذا وسلمتا أمرهما للمقادير ولم تقبل ادارة المصحة بالتنازل عن مليم واحد من أموالها التي قالت أنها مستحقة ...لم تفكرا في التوجه الى فوزي حتى ...أضاف شكري ونظرة كمال صارت جامدة كأن عيناه دائرتان مفرغتان لاماء فيهما ولا حياة ....
- مليون و250دينارا ...؟؟ردد بصورة لاواعية ...وربيعة ماتت ...رغب شكري في تبديل الموضوع فعاد الى حكاية فوزي وكمال لم يجد في نفسه مقاومة كبيرة للانخراط في سماع تفاصيل الكوارث التي نزلت بغريمه
- تعرف أن تفكيره اللصوصي لم يتغير البتة ..كان لصا في روحه ..وما أن تعافى من سحر سعيدة حتى دهمه أحدهم بسحر اخر لاسبيل له الى مقاومته ..ان فوزي اعتاد على تمرير مختلف السلع من الخارج بفواتير دون القيمة الحقيقية للسلع بكثير وهكذا لم يكن يدفع اداءا كبيرا لقاء دخولها وأحيانا كثيرة لا يدفع شيئا دون تصاريح أو فواتير مستفيدا من علاقة وطيدة ربطته بأحد المتنفذين في الميناء ....فكان يمرر له ما يشتهي وفوزي نائم على حرير اخلاص صديقه وتسهيلاته التي لا تنتهي حتى جاء يوم أسفر فيه ذلك الصديق عن أنيابه فاذا بها قد امتلات سما زعافا ...حكاية فوزي سلسلة من اعمال الغدر لا تنتهي ...لقد غدر هو وصاحبه بصاحب حمولة الفريب وغدر فوزي بصاحبه وشريكه في الاستيلاء عليها وغدر به صديقه أخيرا ..قال لفوزي وقد دهمه بما لم يتوقعه هذا
-منذ ثلاث سنوات وأنا أمرر لك ما تشاء من سلع دون أن تدفع مليما واحدا ..ومع ذلك فلا تكونن من الغافلين فمعي كل الوثائق التي بوسعها لو كشفتها أن تتسبب في افلاسك وتقضي عليك القضاء المبرم ..ومن يومها وفوزي يدفع أتاوة لصديقه تقصم الظهر تقارب أو تزيد على نصف ما يربحه من تجارته لذلك الصديق لقاء استمرار تستره عنه ..كان ابتزازه في النهاية على قدر جشعه ..أراه الوثائق وأكد له أنه منخرط في منظومة فساد واحدة : ديوانيين واداريين وأمنيين وقضاة ولن تتمكن من الافلات من هذه الشبكة ..أما حكاية الصداقة فهل تعتقد أنها كلها تصب في صالحك ؟؟هل فكرت في المسألة من الناحية الاخرى ..؟؟ناحية ما عليك أن تدفعه ...فلكل شئ مقابل ..يا لك من غبي ...واتضح أن ما دفعه وسيدفعه فوزي سيكون ثقيلا شديد الوطأة على نفسه الطماعة اللئيمة ..سيظل تحت رحمة الابتزاز الى ما شاء الله وشاء له لؤمه ...فذلك الصديق اتضح أنه يفوقه بأشواط في امتلاك مختلف تلك الصفات القذرة وما كانت تسهيلاته له وفرشه البساط الاحمر أمامه الا فخاخا محكمة نصبها لضحيته لكي يظل رهينته مدى الحياة ...
- يمكنني أن أتوجه الى أحد القضاة فأستصدر منه حكما فوريا بالعقل على كافة أملاكك فالكثير منهم في الجيب ...وينضاف الى هذا ملفاتك القديمة التي بوسعي تحريكها هي الاخرى وعندها تداس تماما مثل الحشرة ...ادفع ما أطلب منك تسلم ...
- واخوانه الذين صار واحدا منهم بعد أن أطال لحيته ماذا فعلوا لانقاذه ؟؟سأل كمال مستهزءا
- ظل الامر سرا بين الاثنين فلا مصلحة لكليهما في اذاعته ..ولكن تلك العلاقة مع اخوانه كما سميتهم كانت في حقيقتها علاقة يحكمها المال فما أن أدرك هؤلاء أن فوزي وقع في شبكة ونضبت أو تكاد موارده المالية حتى تخلى عنه الجميع ولم تعد لحيته بعد أن كانت محل اشادة منهم أكثر من لحية منافق أبدل ثوبا بثوب فمال فوزي لم يعد ملكه ..وأكثر من صادقهم بعد عودته المظفرة من ايطاليا اتضح أنهم كانوا أطرافا مشاركة أو متربحة من تلك الشبكة الفاسدة ...فلا مشكلة لديهم ان سقط فوزي فهم رابحون منه في الحالتين ..ضرب كمال بقبضته الواهنة على الحائط كأنه أحس فعلا بسقوط تدابيره الانتقامية التي اعتزم تنفيذها وهو عائد على متن الشاحنة القديمة ونظر شكري اليه وخمن ما في رأسه
- أكان في نيتك أن تقتله بعد خروجك ؟؟
- وهل كنت سأتردد ؟؟هو يموت بالتقسيط كما قلت أما أنت فالسيستام جاثم على صدرك وصدري وصدر سعيدة وصدر سلوى وأمين ضحية في الطريق ....ثم أضاف بعزم
- لن يواصل أمين أكثر في هذا العمل ...يالها من جريمة شنيعة ؟؟ولكن أوان الامتحان قد فات وليس في وسع أمين التدارك وهكذا فاذا اتضح أن شكري قد ندم على تشغيل أمين وحرمانه من عامه ذاك واعتزم أن يعيده الى مدرسته فعليه انتظار السنة القادمة حيث يتعين عليه أن يعيد سنته هذه وعض على شفتيه وقد ملأ نفسه حزن عميق ..أما كمال فاختلطت الأمور في ذهنه : انه لم يعد قادرا على الامساك بأطراف مصيبته بله كيفية الخروج منها ...موت زوجته ورفيقة حياته ..المبلغ المالي الضخم المتخلد بذمته ..الشقاء الذي تكابده سعيدة وسلوى اللتان لم تعودا بعد من العمل والليل قد خيم ولا شئ ليأكله أمين ..كان في جيب هذا بضع قطع نقدية تسلمها من شكري لقاء حراسته للقدر تلك العشية فانحدر يدفعه احساسه بالجوع الى أطراف المدينة يجر صنداله الممزق حتى ولج الدكان فخاطب صاحبه قائلا :
- ربع خبزة وكعبة ياغرت ...
....................¬...........
56
بعد ان أنهت سلوى وسعيدة وحليمة وريم تتعثر في بنوارها عملهم تلك العشية في زرع شتلات الفلفل تحت أنظار صاحب السانية وهو يتنقل بينهن بمشيته العرجاء وفمه المعوج كلما هم بفتحه ليتكلم ويده معقودة خلف ظهره للدلالة على امساكه بزمام الامور ..وابناه الكبيران يتحركان هنا وهناك حولهن يزودانهن بالشتلات كلما نفد ما لديهن منها وطفله الصغير يقفز بين صفوف الفلفل المغروسة حديثا ويتعثر بين الحين والاخر في احداها فتسارع سعيدة الى تأنيبه واقتلاع الشتلة المنكسرة وتعويضها باخرى جديدة فلا يزيد صاحب العمل على أن يربت على كتف ابنه المدلل وعيناه مصوبتان على الشتلة الجديدة كأنه يتأكد أن المرأة أعادت غرسها بطريقة سليمة ..أخيرا شارف الوقت على الساعة الثانية بعد الظهر وتعبت الظهور وكلت الايدي وتصبب العرق غزيرا من الجباه ..فرفعت سعيدة قامتها ثم ما لبثت أن تبعتها بقية النسوة فوقت العمل قد انتهى رغم أن صاحب السانية يترجاهن أن يضفن ساعة أخرى ..ولكن هناك عمل أخر سيمارسنه الى حدود المغرب في سانية غير بعيدة عن تلك ...ففي رقبة سعيدة دين ثقيل يتعين عليها أن تسدده لا مفر ...
حال بلوغهن الحد الفاصل بين سانية الفلفل والسانية المجاورة سمعن صاحب السانية الاولى يتمخط بقوة ويحمد الله ويشكره على ما أنعم به عليه وعليهن ..الجميع يحمد الله ويشكره في السراء والضراء ...يهب الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ...ولا مشكلة ان كانت المذلة قد حطت وأناخت بكلكلها على غيره وشغل محرك الشاحنة متأهبا للذهاب الى صلاة الظهر
- ان ما يقوله هذا الرجل يطرح مشكلة عويصة ..قالت سلوى وقد خرجن من السانية ..كيف يمكن للواحد أن يثبت أن معزة هذا واذلال ذاك قدر قدره الله على الاثنين وهل بوسع المتنعم أن يأتي بما يفيد بأن الله قد اثره على غيره بانعامه وقضى على غيره بالبؤس ؟؟ردت سعيدة ضجرة :
- تعبت من هذا الكلام يا سلوى لقد قلت لي مرارا وتكرارا أن الله برئ من أكاذيبهم ومظالمهم ولكن كيف نفضحها وننهي هذا العذاب الاليم ؟؟ الله لن ينزل وينهيه بيديه ...
- لدينا أيدينا....قالت سلوى وصرت على أسنانها ...كن قد بلغن الان الاسطبل الذي سيقضين فيه وقتهن الى حدود الليل جهرا وتنظيفا بعد استراحة لم تتجاوزساعة واحدة من عناء العمل السابق ..كان اسطبلا لتربية الدواجن داخله يغلي برائحة خانقة ..في هذه البلاد العاهرة النساء يعملن ويختنقن الى حد الموت والرجال يتفرجون ..قالت سعيدة مبتسمة وهي توجه خطابها الى سلوى وفي نغمتها سخرية مريرة مشيرة الى رفش متكئ على جدار الاسطبل:
- لديك يديك فاستعمليها الان ...فشخصت فيها سلوى بعينيها وامتلأت عينا ريم بضباب كثيف ....



#عادل_الحامدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الحامدي - - احزان سعيدة - رواية حول عمل ومعاناة النساء في االارياف التونسية