جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 4633 - 2014 / 11 / 14 - 19:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فجأة وبدون سابق إنذار أدركتُ أنني غريبٌ في هذا العالم , وفجأة وبدون سابق إنذار أحسستُ بالجوع في هذا العالم المُتخم من كثرة الشبع , وفجأة وبدون سابق إنذار أدركتُ أنني وحيدٌ في هذا العالم المحيط بي من كل الجوانب, لا أخ ولا صديق ولا نور يضيء لي الطريق , فجأة شعرتُ بالوحدة وفجأة شعرتُ بخسارة كل شيء, فجأة نظرتُ إلى نفسي وإذ بي إنسانٌ منطوي على نفسه, أعيش غريبا وأعيش وحيدا وأعيش سجينا في منزلي الريفي المُطل على أشجار الزيتون الممتدة بعروقها هنا وهناك, أنا في عالمٍ تحكمه الرغبات والنزوات الفكرية, عالمٌ مختلفٌ عن الناس في أساليب التفكير والتطوير, والسبب كثرة القراءة والكتابة, بدأت اللعبة معي عندما كنتُ هاويا للشعر وللأدب وللفلسفة وتحولتُ فجأة من هاوي ومن غِر إلى رجلٍ أصبحت كل حياته عبارة عن كُتب وأشعار وفلاسفة يملئون بيتي, امتلأ بيتي بالكُتب وامتلأ عقلي بالأفكار, كنتُ أردد ما يقوله المستشرقون وأحبذه وأفضله على ما يقوله العربُ المسلمون, امتلأت خزانة ملابسي بالكُتب بدل أن تمتلئ بالأقمشة الزاهية اللون, صرتُ في كل مكان في البيت أضع فيه الكُتب وفي النهاية صار عندي مكتبة كبيرة لا أعرف ماذا أصنع فيها غير التفاخر بمحتوياتها أمام الأصحاب والأهل والجيران, الناس هنا يفتخرون بالسيارات أمام منازلهم وأنا لا أملك النقود لكي أقتني سيارة لأن كل نقودي أنفقتها على شراء الكُتب والموسوعات التاريخية والفلسفية, حتى أدركتُ أخيرا أنني إنسان مفلس لا يملك ثمن رغيف الخبز إلا بعض الكُتب التي أشعرُ بأنها هي سبب وحدتي وهي سبب ما أصابني من فقرٍ في عالمٍ أو في نظامٍ بيئي يقدس الجهل ويفتخر بالخرافات, حياتي كلها عبارة عن مجلات ودوريات وسلسلة معارف وكُتب تبحثُ في الفن والفلسفة, ولو عرضتُ كل ما عندي من كُتب على الجيران بدون مقابل ما ادخروا منها صفحة واحدة , الناس هنا تدخر النقود وأنا أدخرُ الأفكار والكُتب, بيتي يعج بمئات الفلاسفة وبعشرات من المذاهب الفكرية, وبعد هذا العمر الطويل يا ترى ماذا أصنع بكتبي الكثيرة والكبيرة, حاولتُ أن أعرضها للبيع ولكن لا أحد يرغب فيها, حاولتُ أن ألقيها طعاما للنار ولكن أبت عليّ نفسي, الكُتب في العالم المتقدم والمتطور تكون سبب ثراء أصحابها إلا نحن الكُتب عندنا سبب تعاسة من يقتنيها, وها أنا أعيش كئيبا حزينا على ما أصابني من فقر ومن جوع بسبب الكُتب التي هدمت حياتي وحولتها إلى جحيم, ها أنا أعيش وحيدا تقول الناس عني بأنني كافرٌ وزنديق ولا أستحق أن يُرد السلامُ عليّ, ها أنا بين أربعة حيطان أموت من شدة العطش وكتبي لم تروِ لي ظمئ السنين , ها أنا أتفنن في فن البقاء وحيدا على قطعة من السجاد فوقها كنبة خضراء اللون منقوشٌ عليها بنقاط سوداء وفي منتصف الغرفة مزهرية ورد حمراء لا أعرفُ بالضبط متى جاءت إلى هنا! هل جاءت مثلا مع أول كتاب اشتريته؟ أم...لا أدري.
الآن لا أعرفُ كيف أعيد ترتيب نفسي من جديد! فأنا الآن لا أستطيع أن أعيد الكتب للذين اشتريتها من محلاتهم, ولا أستطيع أن أعيد ما تعلمته من فلسفات إلى أصحاب تلك الفلسفات فكلهم الآن في عداد الموتى , ولا أحد من الناس يستطيع التصديق بأنني تراجعتُ عن كل أفكاري التي كونتها عن الدين والحياة والتاريخ, لا أحد يستطيع أن يصدق بأنني كرهت الفلاسفة أو كرهتُ نفسي, لا أحد يصدقُ بأن هذا الفيلسوف يريد أن يعود إلى دائرة الجهل والتخلف التي تعيش فيها معظم الناس من حولي , أدركُ أنني رقصتُ على برميلٍ من البارود وقد انفجر بي هذا البرميل , أُدركُ أنني أُغردُ خارج السرب, أدركُ أن لي في هذا الطريق ضيقٌ كبير , أدركُ أنني أكبر منفذ لأكبر عملية انتحار عبر التاريخ, فلم يسبق أن عشق أحدٌ مثلي معارضة أهله وبيئته الاجتماعية مثلما عارضتها أنا, فأفكاري ليست كأفكارهم وطعامي ليس من طعامهم, الاختلاف في الرأي بمجتمعنا جريمة كبرى يعاقبُ عليها القانون والناس المحيطون بي من كل الجوانب ينفذون أكبر عملية قصاص مني, فالكل ضدي ولا أنسجم مع أحد ولا أحد ينسجمُ معي ولا أحد يتفقُ معي في الرأي, حتى أولادي يتعلمون في المدارس على أفكار تجعلهم في المستقبل القريب من ألد أعدائي, الكل لا يرحمني وأنا لم أرحم نفسي حين بدأت أمسك بالقلم وأكتب للناس كي أخرجهم من الظُلمات إلى النور, النور الذي خرجتُ إليه أنا مللتُ منه والآن أريد أن أعود إلى الجهل الذي نشأت وترعرعت في كنفه, الناس هنا جهلاء في كل شيء, يصابون بالزكام من كلمة(تنوير) يصابون بالإحباط من كلمة(تفكير) يصابون بحالة من التسمم حين يسمعون بكلمة(الحرية) يصابون بالاكتئاب حين تقول له( الرأي والرأي الآخر) الناس هنا أعداء للعلم وللفلسفة وللفلاسفة, الناس هنا اعتادوا على الجهل ويدر الجهلُ عليهم أرباحا كثيرة, كنتُ أعتقدُ أنني سأكون نبيا بين هؤلاء الناس وأنا أعلمُ أنه لا كرامة لنبيٍ في وطنه.
ماذا أفعل بكتبي ومكتبتي! ماذا أصنع بغربتي! ماذا أفعلُ بالفلاسفة الذين سكنوا مخيلتي! من سيشتري مني مكتبتي ويعطيني نقودي التي أنفقتها عليها ولو كان ذلك بنصف السعر؟ من يعيد لي توازني البيئي! من يشتري مني أفكاري التنويرية ويعطيني بدلا عنها حقيبة سفر يدوية! عشتُ في خيالي مع شخصيات من الكُتب التي قرأتها, كانوا طيبون جدا وبسطاء جدا أثرت بي طيبتهم وبساطتهم وبقيتُ متأثرا بالإنسانية وبأنسنة الوجود كله حتى صرتُ أو حتى وقعتُ في النهاية ضحية لطيبة قلبي, وضحية لمشاعري وأحاسيسي الزائدة وبكيت مع الباكين على أنفسهم وحين شعرتُ بالحزن لم أجد من يبكي عليّ, رثيتُ لحال كل الناس وحين بدأتُ أشعرُ أنني بحاجة إلى رثاء أحدهم لم أجد من يرثِ لي حالي, وها أنا طريدٌ وغريبٌ وأعيش في وسط عالم يفتخر بعذاب المتنورين والمثقفين ويتفنن بقهر الأدباء والشعراء.
أنا أعيش في وسط عالمٍ تنقصه كلمة المحبة ولا يعرف لا الرحمة ولا الإنسانية عالم يمشي للوراء بكل فخر, عالمٌ تنقصه المعرفة في كل الفنون وفي كل العلوم, عالمٌ لا يعرف شيئا عن الكُتب أو صناعة الكِتاب, نمشي في الأسواق ليل نهار دون أن نلمح دارا للنشر والتوزيع, والمثقفون مراقبون وعليهم دائرة السوء وكل من يفكر أو ينوي التفكير يُزج به في السجن أو في المصحات العقلية,ويعتقدون بالشيء بخلاف ما هو عليه,والحقائق أمامهم مغيبة ومحجوبة والأغنياء لا ينفقون أموالهم إلا على العاهرات,ولذلك يفضلون هنا العُهر والخلاعة على الثقافة.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟