أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم الورلق - صرخة ثكلى، لموءود الأحلام المثلى















المزيد.....



صرخة ثكلى، لموءود الأحلام المثلى


إبراهيم الورلق

الحوار المتمدن-العدد: 4598 - 2014 / 10 / 9 - 20:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إلى حسادي أوجه خطابي المفعم بملامح فكر يغرد على فنن المعاناة، فأقول: ماذا يضيركم من هنات تعولون بها بين مسارح الأخبار التائهة، وقد انعدم النصير في بؤرة الصراع الفكري المتعارك بالنيات الفاسدة.؟ هل كوني إماما يؤم الناس في زمن الرداءة.؟ أم كوني أقتات على بلل الصدقات الممنونة، والهبات المكروهة.؟ أم كوني أعيش فوق ألوان بشريتي بغش مطالب ذاتي، وهي صرخة مكتومة في رغبة تلطيف المسافات النفسية بيني وبين أناس متنافرين في الطبائع الحزينة.؟ أم كوني أداري أوهاما لا نهاية لها بين أسحار المنكوبين بأوهام فاترة.؟ أم كوني مهدورا في حق الوجود بين طبيعة سُخرت لي لكي أكون معها متجاوبا بنسب متعادلة.؟ أم ماذا جعلكم تزعمون أن من وراء جبة بشرية رجل الدين ملاكا يستلهم الوحي من عالم السماء المديد النفحات، والنسمات.؟ لو رأيتم كيف تقيحت بطوننا بدسم أوساخ صدقات الأوغاد المترنحين بشطحاتنا الممقوتة، لعلمتم كيف ضاعت دائرة الانتساب إلى محيط العلم حين صار نواله فقرا مدقعا، وغبنا مُهجعا، قد يزف إلينا بشارة اللعنة النكداء، والسمعة السوداء. فماذا يعتب مني حسادي الأوفياء لمزاعمهم المخنوقة، وهم يرونني في منأى عن اللفيف المحتشد حول نغم يسبي العقول بحطام الملاعب الهجينة.؟ لو رأيتم كيف استحالت لغة الباطن وخزا يدمي أعماقنا بحيرة كسيرة، لاطمأن منكم الوجل إلى ما نعيشه من بؤس نداري تعاسته بموالاة وعود ضجيعة، قد تمنحنا وجودا لا محيد عنه في زمن اختلطت بين خزيه لغة المفاهيم، وغدت فيه كل الأضراس المتفحمة متفيهقة بما نحن قائمون به عينا، لا وضعا. لكن داء الجهالة قد استمنت به عقول رأت الزلفى من قساة القلوب مكسبا، ومسربا. كلا، لولا ما تقدمه ألوية الطهرانية من صكوك المغفرة لأناس خالونا ملائكة في الظاهر، وآلهة في الباطن، لاستنجد مجمع الأوغاد بحيل الشياطين في درك حلاوة المطاعم، وشطارة المغانم. فلم الحسد إذن في بلل وليمة لا شرف فيها لدعي رقيع، ولا لأصيل رفيع، وأنا في جهد جَدي غريب بألم يرشح به باطني منذ أدركت قيمة التجارة في الأديان، ومتعة اللعبة بالأبدان.؟ لو كنت بالخيار في أمر الرزق المباح الجولات، والجائز الصولات، لما اخترت هذا الطريق الموحش في بحر نهاره، والمدنف في نهر ليله. لكنني مكره على منازلة هذه الهاوية التي وقعت بين سدفها طريد سنوات قضيتها متوترا من حمأة سعار مدينة أنكرتني أفراحها، وأنهكتني أتراحها، ونازلتني عضاتها بصنوف بلاء يجرده من نبله رجال هدموا أطناب خيمتي، وأشجار ضيعتي، ثم رموني بكل ريبة تشل مني مقدار القوة المكنونة بين كياني، وجعلوني مأدبة دسمة تلعقها ألسن تسلقني عنوة بأنيابها الخشنة، ومخالبها الوسخة. فماذا يظن الحساد أنني قد نلته من فضلات عراك لا يستقيم في جلبه إلا صوت الإشاعة المغرضة، والإذاعة المرجفة.؟ لم أنل من ركام الأقدار سوى هذا الحزن الذي استوطنني كلية، واستوعبني ببلية، واستفردني بفقد وصال لذات الغوامض المنثورة بين حواشي الأعداد، والأضداد. وهل لي غير نشوة الحزن حتى أجابه بها ما نالته أقزام جاءوا البيوت من خلفها خلسة، فأوهموا الأوغاد بأنهم سدنة هيكل الحقيقة خلقة.؟ لو نلت شيئا غير هذا الألم المختلف مزاجه بين الليل، والنهار، لأيقنت بأنني عاركت فضلاء الأقران بين أتون ميدان يعز به الرصيد، والحصيد. لا، لم أنل سوى ما حنكتني به التجربة، ودبرتني به المكيدة، وصار معها ما كان ثابتا متحولا، وما كان راكدا متحركا. وأي فضل مترنح لسريرة الزمن سوى ما ألهمتني الأوصاب من أقلام، وأعلام، وأثلام. فلا عليكم إذا ظننتم متاع لذاتي شيئا مذكورا، ونوعا مهجورا. فما أكلتموه في جشع الاغترار بخوضة الباطل الفتانة، لم يكن مرغوبا عندي انتعاشه بين لوامع المكاسب البراقة. ولو كان ذلك المأخوذ منه كمية هزيلة في نظر من عرف ما قصد، وتألم بما وجد. وإن أنكرتم ما أقول من زهدي في حصة بائسة، فحسبي أن أقارن بين حالي، وحالكم، وأفارق بين ذاتي، وذاتكم. فمن الأغنى منا بكسرة خبز طازجة.؟ ومن الأفقر منا بلوعة خبر حارقة.؟ فالاسم قد شهرتموه بما ولغتم في عرضه من سباب فاجر، وبما أوغلتم في شرفه من فرق حاسر، والعقل قد حيرتموه بما تناقضتم فيه مع صريح ما تدعون إليه من فسائل الفضائل المغتصبة، ودواعي المكارم المفتعلة، ونزوال المناقب المنتحلة. فهل ستقولون (كما زعم العظيم): إنني قد خرجت عن الملة الهادية، وصرت باعتقادي زنديق النحلة الظاهرة، وغدوت بأفعالي فاسق الخلقة العارضة.؟ لو قلتم هذا بأمثل العبارات المتلفة العنان، فماذا يفيدكم التعريض بشخصي بين الأعيان.؟ لو كنت كما تزعمون في هيولي الاعتقاد، لنالني ما نالكم من فرح، ووجد. لكنني لم أك سوى ذلك المخزون في جحر داخلي، وهو يخاطب عقولا قد تعي تنافر كلامه، وقد لا تعيها لغموض القول بين التصريح، والتلويح، وربما قد يعوزها التفسير للظاهر، فتهرع إلى التأويل للباطن، وربما يعاندها التأويل، فلتجئ إلى شن الإغارة على قواعد التفكير، وهي تبحث عن سبة تلحق جبيني بين أعين الدهماء، وأنفس الجهلاء. فهب أنكم قد بلغتم المنى، فما الذي زادكم التفاف الحشود حول دائرتكم الموشومة عهرا بالهدى.؟ لو احتشدوا حولي بالآلاف المتألفة، لاعتبرت نفسي ظلا سيزول، وطلا سيحول، لكنني لم أك ذكرا عاهرا بين المجالس، ولا رأيا ناشزا بين المغارس، لكي تصيبني بركات الأيدي السخية بما تجود به رغبة في لبس قميص الطهارة، وركوب صهوة النزاهة. فكونوا أطهارا، وأخيارا، ودعوني وحالي، واتركوني وشأني، ولا تبحثوا عن ضميري المستتر بين تنافر لغة روحي، فهو في عمق العمق نارتتلظى، وفي طور النار نور تشتكي، وإن اشتعلت النار في حطيم البيوت المزينة بالغرور، والحبور، فلا أرى لها حكما سوى البقاء، أو الفناء. فدعوني مبعثرا بين كلماتي الغائرة، ففيها لم شتاتي، وفيها وقاء ذاتي، وحسبي أنني أحترق بها دهرا، وسأبقى متعنتا معها طورا، ما دمت موقنا بأنها هي حياتي المثلى، وهي أملي في التواصل مع كوني الأعلى. فلا عليكم، فتهمكم تتدافع، ونكثكم تترافع، وفي كل مورد أرده ذئاب، وعلى كل نهر ثعالب، وما بينهما مكر يوحى بعضه إلى بعض شدة بأس أمنيات الإنسان المفترس، وهو زخرف غرورٍ من القول الألحن بالبينة، والألكن بالحجة. فماذا يفيدني أن أبقى بينكم منعما، وفي حصون ذاتي محطما.؟ لو كانت النعمى في سيادة أوباش الدهماء، لكانت البؤسى في اقتفاء آثار أسوياء العظماء. لا، بل سيادتنا لا تبتغي كرسيا وفيرا، ولا منبرا وثيرا، ولا خوانا وكيرا، فهي في الحضيض المرسوم لها كُلُّ أناي الحقيقي، وبيننا علاقة اتصال، ووصال، ولا انفصام في حلقات الفصل حتى تطلب مواجيدي بالخداع بين ألسن السفهاء، وأسحار الغوغاء. فلا تلمزوا عرضي، ولا تهمزوا شرفي، فما توارى وراء هذا الجسد من عناوين صعبة الصحبة، لو كانت كلاما يقرأ بين المغازل، لاحترقت، ولو كان فعلا بين المناكب، لانتُهكت، لكنه شيء وقر عندي في صدر تناسلت فيه عناكب الأحزان، ولا يساويه ما نلته من بلالة مسمومة، أو ما نلتموه من علالة مغلولة، وسواء رأيتم ما أنا فيه من هوان عزا، أو رأيتم ما فاتكم من شرف الانتساب ذلا. فهو الأصل في القضية، والعنوان في الرزية. وما ادعيتم من دعوى الوصول إلى نبل الهدف الأجلى، فهو الظل المستقر وهمه بين أعينكم العمياء، وما بقي من تمام القصة المحرمة ديارها إلا على الحواريين من أصحاب الرهافة، مما لم يقل من مقول نزف عند جبل الطور الأشم الصراحة، فهو مؤقت بميقات زماني، ومكاني، وحين ينشط الجسد للإحرام الجامع للذات الطيبة، ويتحرر العقل بالتلبية العلية، وتزكو الروح بالوقوف على العتبة البهية، سيكون كما أنا طائفا، وساعيا، لا كما وصفتم للسوقة من جثوم الجِرم عند حدود الرغبة العرجاء، والنوبة الخرقاء. فدعوا التهم خلف قلوبكم عاملة، ناصبة، فما كان تهمة في مستقر الكلام الفاقد للبيان، قد يكون مع مرور الزمن نقمة أكيدة عند زوال دواعي النسيان، وطفرة لازبة للعب من زلال صولة التبيان. لا، بل سيكون صوتا في لجة من لججه، وفوتا في خفق من خفقانه. فمن أنتم.؟ ومن أنا.؟ فتعريفي قد عرفتموه بالحدود التي رسمتوها لدائرتي، وتعريفكم لا يهمني في سياسة شأن أمري. فأنا كيت، وكيت، وأنتم الأطهار، وأنتم الأبرار. أجل، قد أسوق نوقي في مناخكم بتؤدة المظلوم، وأغرد على غصن هش بين طوالع المكلوم، فأقول لكم: أنا الجاسوس المتجسس على لحن العقول حقيقة، لا ذلك الجاسوس الذي ألصقتموه بي طبيعة، وربما قد يحكيه كبيركم لصغيركم، وحقيركم لوضيعكم، فيغدو مع الزمن جزءا لا رد له، وفرعا لا صد عنه.! وإن قدر لي أن تناقلت الركبان السيارة من معاصر خزيكم هذا الوصب، فليس لي سوى اللجأ إلى مَن مكلوت الأكوان بين يديه بلا تعب. أجل، لو كنت جاسوسا كما عن لمن رآني نزيفا على العتبات، ولو كنت عميلا كما ظن من جعلني مخاطا بين القمامات، فلمن سأنقل أخبار صنائعكم المكتومة اللعنات.؟ لو كنت جاسوسا في صديد النفوس المتبرمة من العرض الشريف، والعنف اللطيف، لنالني شيء مما نالكم من متع تتلذذون بها بولع، وتتقلبون معها بوجع. وأي وجع أعظم من جبن الخائف على سلب أُعطِيه من يد سادته العظام، وأكابره الجسام.؟ وأي خوف أفدح في النفس من لوعة قُدر لها أن تكون حضنا للنفوس الأوابة إلى عرين الحذاق المنحاشة إليهم مسائل القرار، والفرار.! لو نالني شيء مما تتوهمون ثباته بين الأنظار الآفنة، لكان فقدا لصوت موجوء في صدر لم يطلب فتات الاستلاب إلا لترسيخ نازلة الافتقار إلى عقول آمنة. ربما قد أكون في اعتبار طهاة الإشاعات جاسوسا صغيرا، (كما يقول سيدكم الذي يدعي أن من أنقل إليهم وشاياتي يستهزءون من تفاهة ما أنقل إليهم من مخازي لعينة، وبغيضة، أو كما يقول من يجامل القطيع، وهو يرى وقفته معي مكروهة، ومنبوذة) أو ربما لا أطيق أن أصل إلى حقيقتكم المغلقة الأبعاد عن عيون العيون المستوفزة أحاسيسهم لاختبار سريرتكم، ثم افترضت حقارتي أن أصنع لكم طبيعة غير طبيعتكم، وسيرة غير سيرتكم. فيا قوم، لو كنت جاسوسا في المثل الأسمى، لكنت ابن زنا، ولو كنت ابن زنا، لكنت جاسوسا. (وابن الزنا لا يكون إلا خبيثا) ولو كنت جاسوسا، لكنت مقربا، ولو كنت جاسوسا، لكنت مبعدا. فأنا مقرب لدى أفئدة استشعرت طلباتي في واقع رامني بسنان التجريح، ومبعد عند أناس أخافتهم الأحداث المختمرة في ذاكرة الوطن العربي الجريح، وهم يرون الربيع قبل أن يكون خريفا نارا تهدد الكيان، وتبدد المجال، وتدبر المِحال. فلمن سأتجسس بما هو مرعي خبره من لساني لو نزف به ولو لمرة واحدة.؟ وماذا سأنم به إلى هؤلاء الذين ترونهم بعين الخوف الأرعب، الأرحب، وأنا أراهم بعين أخرى، ودموع القلب حسرى، وكلمات الروح ثكلى.؟ لو قلت بأن هؤلاء أطهار الخبيئة، فيجب تنجيسهم بالاستطالة على أعراضهم الرفيعة، لكنت من الكاذبين، ولو قلت بأن هؤلاء يحملون هموما كبيرة، وهم يريدون قلع وتد الوطن بمخالب النفاق الثخينة، لكنت من الساخرين. ولو قلت بأن هؤلاء أهل كرامة عريقة، فيجب تدنيسها بالأرجاس الرقيعة، لكنت من الخاسرين. فبم سأنم إلى هؤلاء الذين يعيشون على حذر، وكدر، وكأن النار تشتعل بين أعينهم الكاسرة.؟ لا أرى بي خسة وضعة حتى أحكي عن شيء تظنونه قيمة لكم عند ولهي، وهو عين الذل في مسائل خلدي. ولو فعلت، فإنني سأكون لعينا في تراث الخلف الذين سيأتون من بعدنا ملتحفين بأثوابنا الخليعة، ولم يعثروا وراء الأكمة إلا على سوءات تضرجت بدماء الخيانة، وعورات رشحت بالعهر المعنوي السيء المقامة. فبم سأنم، حتى أكون جاسوسا محنك القصد، ومدرب العهد.؟ فهؤلاء الذين تستشعرون قربي منهم في المقامات، هم أبعد مني بمسافات لا أمل لي في اجتيازها مهما أعولت بحيازة المقام معهم في المرامات. فمرتبتي قصيرة عن مرتبتهم في قامات عديدة، ودالات كثيرة. ومن أنا حتى أكون ندا لهم في الموضع، والموقع.؟ لست ابنا لعظيم حتى أتعاظم به بين الأسماء المرغوبة، ولست خلفا لأسرة ترنحت بالبركات المنقوعة على التاريخ الأعجف الملامح المنفوخة، ولست ممن يحمل علامة العلم في واقع لا يأبه إلا بالشواهد والدلائل العلمية المزعومة. فأنا ابن فقيه، وابن فقير، ولا أملك سوى شموخ أنف دبرني في كثير من مراحلي بآلام تترى، وأحزان تتلى. ولو حاولت أن أتصالف، أو أن أتحالف، فبأي شيء يمكن لي أن أدعي أنني عظيم، وجسيم.؟ لو كان قربي من إحدى الدوائر مركز قوتي، فأنتم أهل قدرة على بتر ذلك الوريد من صوتي، وحينها ستنزف مني روح الحياة بين كوني. وإذ ذاك أقيموا مأتما لفقدان جاسوس مترَّب الخبيئة، والوقيعة. لو فعلتم ذلك، لأرحتم ذاتا لا تحدث عندها النظرات المحدقة حولها إلا آلاما جائرة، ولأرحتم الذين أحمل إليهم أخباركم الكاذبة. فيا قوم، لو رأيتم عذابي في دائرتي، لدعوتم ربكم بأن يفرج عن كربتي، وأن يزيح عني غمتي، لكن داء الحقد قد استحكم على النفوس الهزيلة، واستحوذ على العقول الضعيفة، وصار المكر لغة تستدرى بها العواطف الهجينة، والطباع اللئيمة. فلمن أشكو حالي.؟ قد شكوته لربي، ولقلة قليلة قريبة من فهم ذوق متنافر عما ترونه سموا، وعلوا، وربما قد شكوته لأناس ظننتهم أصدقاء طريق اللمة، فخانوا الذمة، وأهانوا الهمة، وزعموا ما بي أنين مصدور يجره خراف بين زمن بطين بدسم المظاهر العجفاء. أجل، هو مرض إنسان غريب يحكي عن غربته، ويلوي طيه بين لواء وحدته، ولا سمع يجيد سماع صوغ حكايته، ولا ذوق يتلذذ بقراءة روايته، ولا مرفأ يلجأ إليه في انحباس عجه، وثجه. فلم هذه التهم اللعينة.؟ لو دريتم أن من تظنونهم قوة لي، هم سبب ضعفي، لأدركتم أن القوة لا تنال بمعرفة فلان، أو بمجاملة علان، بل شيء وقر في صدري، واستقر عليه حلمي، ومهما نسيته، أو تناسيته، فهو محفور في العقل، مغروس في الذاكرة، معرور في الوعي، مقرور في الكلمة، ومهما حاولت أن أستبدله بقيم أخرى، فلن يكون إلا عذابا يستقبلني في مشية لا أطيق الجري بها بين وقائع ناعمة، تفسر نوبات حزن المقاطع بسوْرة المادة التائهة، وتراني في امتشاق الهموم قد نلت بعض المتاهات الهازلة، وربما زعمتها في وجْدي مكاسب تليدة، وحسبتها في غِرتي مغانم عظيمة، وهي عندي سبب الشقاء، وعلة العناء. فيا قوم، إنني لم أخلق لكي أكون متوسلا عباب الراحات، ولا مستخذيا حطام اللذات، ولكنها اللعنة التي لحقت عقلا حط رحله بأرض ظننت جدرانها السميكة حماية، ومناعة، ثم مرت أيام قلائل، فقدت فيها كل شيء، وضيعت فيها كل شيء، وبدت حياتي فيها ألما، وورما، وبرزت فيها أتواقي شؤما، ولؤما. ومهما تعاليت، وتطاولت، فإنني -والله يشهد- لم يرتح لي بال في مكان لا يحترم إرادتي في الحرية، ولا قدرتي على مزاولة مهامي بدون ضغوطات نفسية، وإكراهات اجتماعية. لكن مر، ما مر، وما خلفي من تاريخ يلجمني، وما هو أمامي من واقع يقيدني، فأنا بين أغلال التاريخ، وأصلال الواقع. فالتاريخ قد رسمني بصورتين منحرفتين، والواقع ينقشني بآلاف الصور التي تلبسني الأيام خزيها بلا هوادة. فماذا يطلب مني من أناس يجرون سفينتي برياح عاتية.؟ ربما لم يعرفوا أن الأيدي التي تداري مجاديف صراع البقاء على صولة الوجود الأجوف المعاني، قد كلت منذ أول يوم حللت فيه طيفا مقبولا، وضيفا مخبولا، ولم يدروا أن السفينة ولو أتت بفنون من التيه على اليبس، فإنها قد غرقت أحلامها، وسفهت آمالها، ولم يبق منها إلا طلل يبدو للعيان شاخص المَجثم، وجاثم المعلم. فارحموني بما في الأغصان من منة الحياة الفاترة، وإن ملكتم باب رحمة السماء فافتحوه لي نبلا، وفضلا، وبعده فغلوا هذا الباب الدنيوي المترع بنزغات الوكد، حتى لا يهيم فيه شبحي، وطربي. فآه، آه، لم تتفتق حروبكم إلا عن آلام شربت عصارة سمها موتا بطيئا، وخبيبا، ومضت السنون فوق تربة الضياع بلا ساعد يقيني فجوات الثغور، والنحور. فأين ما تزعمونه من تهم تلفقونها بين مرابع الأبرار، ثم تلكونها بين مجامع العوام الأشرار، لعلكم تغتصبون صورتي في سواد العقول البريئة.؟ لو دريتم أنني لا أستهدي دليل طريق أحلامي من رضا من تسترضونهم، ولا أستوهب كحل عيون بقائي من الحشود التي تهوى ما يستهويكم، فإنكم ستعرفون أنني لا أنافسكم في القضية، ولا أسابقكم في الرضية، ولا أصارعكم في الدنية، ولكنني أدرأ عن دائرة صبية -كتب الله عليهم أن يكونوا أبناء الفقيه كما أنا ابن الفقيه- ما يمكن أن أدفعه، وأن أنفي عنهم ما أطقت أن أنفيه. وإذا قدر لي أن أهرم رذيلا من أجل نيل ساعة الفرج الأوجب للمنية، وتركتهم ورائي لقلب لم يأبه بأحلامهم الطرية، فإنني لم أتحول عن حياتي بما ترونه هزيمة، أو عقابا إلهيا، أو انتقاما ربانيا، بل سأتحول عنهم مادا عنقي نحو أعواد مشنقة التاريخ المصرور بين الحنايا الندية، والله معهم، وهو وكيلي، ووكيلهم، ووليي، ووليهم. وإن قدر لي أن أعيش على بلل هذا المستنقع الوبيء، ولم يدبر الله في طريقي أمر فرج صدري، فإنني سأنافح عن الدويرة، ومهما كانت الآلام غضة المتاعب، فأنا موجود بالقوة، ولو لم أوجد بالفعل، وحريتي هي عشقي، وأملي أن أكون رضيا بذاتي، لا قويا بغيري، وهمي أن لا أتاجر بدين ربي، وهمتي أن أكون خادما لأمتي. تلك هي ألوان شخصيتي المتعددة، مهما اقشعرت ملامحها، واغبرت معالمها. ومهما استأسد القوم الفدام، وتنمر الأوغاد الجهام، ووصفني مسود الجبين بالكافر، أو بالزنديق، أو بالجاسوس، فإنني سأدبر أمري بما عن لي إلهاما، لا اعتلاء، وسأدون كلامي صدقا، لا التواء. ولا يهمني بعد ما مضى من سؤر عدائكم تشكيكم، ولا تخويفكم، ولا تدبيركم، فافعلوا ما بدا لكم أنه حق شربتم علقه من زقوم التأويل المغرض، فإن قضى الله ودبر، وقدر، ولم أجد قلوبا رحيمة، وعقولا شفيفة، فالأمر بيده سلفا، وخلفا، وإليه الرجعى، والزلفى. وأقول صداقا للذين يريدون معرفة الحقيقة: إن تهمكم لم تعْد معروف التهم التي اتهم بها غيري، وعير بها السواد زمرة المنتجعين نجعتي، وهي تهم قد تكون صحيحة لضعف بشري يهينني كما يهين غيري، وقد تكون كاذبة لكي يدفع تعريضها بصورتي إلى جحيم الارتياب، والاكتئاب. ولكن لو درى هؤلاء أن الفترة العمرية التي قضيتها بين خدع الذئاب، وقمص الثعالب، كانت فترة غرة، وعفلة، وتلقائية، ولو أيقنوا بهذا عرفانا بالحقيقة، لهان عليهم ما رأوا من طباع حادة، وجادة. فأين الخطأ في شيء هو جزء من تركيب ذواتنا الضعيفة في موارد، والقوية في مصادر، وفيه تعبير الطفولة، ووكد المعيشة، ولؤم عيش استطاب الآباء عذابه من أجل حماية دائرة الانتساب إلى أهرام عظيمة في التاريخ.؟ لو كنا كملا كما يتصور العامة، والخاصة، لما احتجنا إلى مجاثم التجربة التي تعلمنا أوجاعنا، وأوضاعنا. وهل في الكون وجود ضروري من غير احتكاك متوازن مع الموجودات الأخرى.؟ وهب أن هؤلاء الذين يتتبعون الهنات، ويقتنصون الزلات، قد أصابوا المحز، والمقتل، وأفروا الودج، والوريد، وذكوا بجزور الذات المعذبة. فهل هم بُعداء عما يتهمون به غيرهم من فواجع، وفظائع.؟ لا أخال في زمن العهر الفكري ذلك دعوى إلا لأدعياء الطهارة، وهم يتعالون عن المجتمع بما يبرزونه من صور منزهة عن معاصي الظاهر المماذق، وهي في عمقها مترعة بمعاصي الباطن المنافق. فأي خطر يهدد الكيان أفدح من خطر معاصي الباطن المعلولة بسوء النِّجار القبيحة.؟ لو كانت المعاصي الظاهرة نقصا في بنية الإنسان المبتلى بالفتن الكؤودة، فكيف تكون معاصي الباطن كمالا في النفوس الغرورة.؟ وهل الحقد والحسد والكراهية أخف عصيانا في القلب الحرون من أمور تطرأ علينا بحكم الضعف البشري.؟ لو ادعيت الطهارة في سبل كثرت فيها ظباء الغواية، فأنا ممتقعُ لون الباطن بالنجاسة. فالطهارة لا يدعيها إلا ملك مقرب، أو رسول مرسل، أو ولي مكرم. وهل نحن في عداد الملائكة، أو الأنبياء، أو الأولياء.؟ لو كنا كما يريدون من أن نكون في غلاف الذات المتبرجة، لكنا أجساما فارغة من العواطف، والأحاسيس، والمشاعر، بل لكنا فوق بشريتنا، وطفولتنا، وشبابنا، وكهولتنا. لكننا لن نكون إلا كما نحن بشرا حقيقة، وطبيعة. أجل، إنها أخطاء ترد، ومعاص تفد، وما بينهما إرادة، وحركة، وأحدوثة. ولولا ذلك النقص الأصلي لا العارض كما يزعم المتعالون عن عنصر الخليقة، لما أصلت الأحكام في الشريعة، ولما تفرعت عنها القواعد بالتبعية، ولما تناولت المحاكم القضايا بأقضية مختلفة. فأي خلل في توازن ذات تعتورها مظاهر النقص، ومفاتن الكمال.؟ قد يكون هناك خلل تفضي إليه قصور ذواتنا بسبب البنية النفسية، أو بحكم التنشئة الاجتماعية، ولكنه كمال في الناقص، وجمال في القبيح، لأن النقص لا يكون كمالا في غيره، ولكنه كمال في ذاته. لكونه وجد ليكون هكذا بلا اعتبار، ولا قيد. فكيف عِيب الأمر ونقيضه على الأنبياء، والأولياء، وهم كُمل بالعصمة، أو بالملكة.؟ لو كانوا في مرتبتهم ملائكة مترنحين على رِيطة البسيطة، لعوتبوا على عدم الالتقاء في الحدود، والقيود. فحد البشرية محدود بعلل المدنس، وحد الملائكية محدود بنسب المقدس. فكيف نُلبس أنفسنا جبة غير مُلاءتنا الفطرية.؟ فأنا، ولو زعم شبيه هذا الوغد ذلك سبة، لن أخرج عن مدار بشريتي، ومهما حاولت خداعا أن أزور معالم شخصيتي، فإني لن تأتى مني تلك المشية إلا تكسرا، وتبخترا. فلم التشهير، والتجريح، وقد نالني حظ من الحقيقة البشرية، ومَد من الطبيعة الآدمية.؟ وهل خالفت ناموس حقيقتي فيما يزعمون من نَجْر مختلف.؟ لا، هذا من جهة التهاب الحلقوم بغصة الإشاعة، ومن جهة ثانية، لم يحالفني الحظ في نيل تلك المراتب التي عوى بها الذئب بين التلاع، والطباع، إما لقصور ذاتي، أو لضمور قدري، وقد أوردني فقدها معرة الانتساب إلى شيء كانت صورته جمالا بين عيني، وأنا في لحظة نشأتها كنت ألتزم بشعائر المقرأة، تنزيلا، وترتيلا. وحين عن لنا النظر في مرسوم اللغة، ومعلوم البلاغة، وأبت الأقدار إلا أن أتجرع من نبعها جرعة قصيرة، وجدتني بعد صبوتها ألثم صخر القلوب بين عسس أطلال رسم دارس المقاصير الغريرة، قد قيل عنها ما قيل من عبارات التبجيل، والتأثيل، ولكنه ومع قفزات الزمن الغائرء المباسم، والمناسم، بدا لي عودا يبسا بعد طراوته، بل من غرابته أنه قد وخزني في ضميري، وفي فكري، وفي أحلامي، وفي أخلاقي. ثم بللته الأحداث ببلل العقول التي زرعت بين الحنطة بذور التخدير، وظروف التقتير. فأين نحن مما كان لنا أملا حانيا، ونحن نداري دَخَل مستقبل غامض بعقول بريئة.؟ لقد تلاشت تلك الأحلام الوردية حين قابلت نيران المكر، والوزر، ولم يبق منها سوى شعرة نمررها على خناجر حادة، وسامة. وما ألطف القدر بنا حين بقيت بقيتها متعبة، ومتضجرة، وكأنها قد تجاوزت عقدا من الزمن دون أن تحدق بها الأقدار، والأخطار. فأين ما كنا نأمله من رياش كُن تنابزته الأوصاب فلذة، فلذة. فلا الزوج سلم من علة الدنف، ولا الولد حبرته الأيام بالإلف، ولا الأب سالمته همزات التلف.؟ لقد تخلف من بعد غضاضة الحلم لفيف من الأعراض المتشنجة المقاطع، والمطالع، وفي دنوها تسامت أجرام فدام مرعوا خيولهم بزهو بين ميدان عز فيه النظير، والنصير. كل ذلك كان حوبا، وشوبا، وأنا ممزق الحشى، ومسود الحجى. فهل عاكسنا القدر بنقيض ما أضمرنا، وعكس ما أسررنا.؟ لم يكن الحلم سليما، فكيف يكون العقل عليما.؟ هذا أمر قد حصل، وفي حمأته تم الوصل، ونز الفكر في الوحل، وغدا قرير العين باكيا، ومقطوع الحشى داعيا، تنتابه حسرات، وتغتاله خطرات. وإذا ما استقام ظله برهة بين دواعي النزاع، غزته جحافل الخداع، وغوائل الصراع، ونازلته آلام شابت منها ناصيته، وتاهت معها نائلته، فلم ير في القرب إلا بعدا، وفي الوصل إلا فقدا. فكيف يُعاتب حفيف حزين يغرد صوته في قُبضة مارد مُكتنز العضلات المفتولة، والمخبولة، وهو يغاير بين طرق مشيه، لعله يسير بين خبايا فَوته.؟ فما أفلح من قاس بين المسافات بمقتضى شدة وهمه.! وما أقبح من غاب عن لذات المقامات بمنتهى زهد صومه.! فيا قوم، لو لم يكن الصدق نائبا عن زهرة اللذات، لكانت المداجاة سرا جامعا بين اللِّدات. بل لولا ما ناجزنا من حماسة مخاطِرة عند الأسباب، لما عدونا على صقيع الذل الذي يدفعنا عن الأبواب، ويردفنا ببلالة عيش نقتات فيه سؤر اللعنات، وجور الطعنات. فلا غرابة إذا نازل الحلم غرائب الأفكار، وفواقم الأقدار، وهو يرى المشي في الأسواق عارا، والأكل على الخوان شنارا. لا، بل بين اللت والعجن رسمت للفقيه صورة ملائكية متعالية، لا إبحار لها في عالم البشرية المتناقضة، ولا إنجاز لها في عالم الإبداعات الإنسانية المتعاندة. فما أشقاني بهذا المرام الذي لم يدخره الإله لنفسه، ولا لملائكته، ولا لأنبيائه، ولا لأوليائه، وهو القادر على إسكات صوت الشرك، ولغة الكفر. فكيف يطالبني غيري بشخصية موضوعة وفق منازل التاريخ المتلاحمة، وهو يرى التجديد غضارة في العقل المسلوب بالصور المتجددة، ونضارة في العلاقة مع الأنماط الوجودية المتعاقبة. لو كنت جامدا بلا طبائع تختلف بامتحانات الأنظار، لكنت أقدر على تطويق العقول عن الظن، وسوء التقدير، والتأويل، والتحوير، وابتغاء العنت، والفتش عن العيب. كل هذا كان عدما في الخليقة، فكيف يكون وجودا في الحقيقة، وهو المستحيل في عالم البشريات المعلولة الطبيعة.؟ ذلك نمط لم يدونه إلا العقل المتعالم بالتهام هياكل الأجساد المستحدثة، وهو يذوب بين كل حديث يدمر ما عرفه من أوجاع الماضي المستبطنة. وهل يستطيع الجسد أن يلبس القناع لغيره في أبهى حلة.؟ لو رضي القلة، لغضب الكثرة، ولولا الاحتكاك في المبرة، لما حصل الإصطلام في المسرة. كلا، بل لم يتطور كل موجود بوجوده، ويراد من الفقيه أن لا يعدوَ مرحلة متخلفة في تفكيره.؟ هل يراد منه أن يكون راكدا، وجامدا، لا تدبره علامات تتلى خلف نفسه، ولا تدونه أمارات تقرأ أمام عينه.؟ قد يكون هذا مستساغا في حدود دنيا من التفكير في المصائر الموعودة، لو تعطلت حركة الحياة المتفاعلة مع أبعادها الوجودية الموجودة. لكن وجود الإنسان في سياقات الذات، ومدارات الآخر، لا يمكن معها أن يكون حدثا متوترا بين سرحان خفقان هذا الفضاء الخالي من العراك. فالمصالح بأرواحها المعنوية تتقاتل، وتتحارب، وتتعاند، وما هو مرأي منها عينا بين الظواهر الناعمة، فهو تجسُّد لما انغرس في عالم البواطن الخافتة. فالوجود تشابك بين علل المنافع المتعاركة، وخلايا الزمان مليئة بأعصاب متوترة، ومن لم يدركه الهم، فلا محالة سيدركه الألم، ومن أدركه الألم، فلا محيد له عن الاختلاط بعلل النفس، والعقل، والروح. هذه حقائق تجددت لدينا بعد انصهارنا في علوم الآخر الأقوى حضورا، وظهورا، وقد تغيرت بها الحياة كلية، وفهم منها الإنسان عوالم النفس جملة. فلم لا يتغير نمط السلوك التاريخي المُبغى بين الفقيه، والعوام.؟ وهب أنه صح مقول أدعياء الطهارة الكاملة في هذا العنصر المفرغ من محتوى الطبيعة، فهل هو القادر على إدراك ما في النفوس من مغالطات، وملاسنات.؟ لا، بل الأجلى في رقي الإحساس عند الأدباء، والنبغاء، أن العلة لن يحكي عنها إلا من تألم بعقابها، ومن حكاها بلا إجادة لجوهرها، فهو المتحدث بلسان الزور في فحواها. ولولا ذلك ما طلب من جهد البشر مواصلة السير نحو علو الأعلى، ومجاهدة السلوك في وكد الأدنى، بل لولا ما في البواطن من علل حاذقة، لما طلب صفاء الصحبة، ونقاء المشيخة. شيء مستقر في الإنسان منذ بداية أُسس تاريخه الغض بالنقائص المتناقضة، لا يجوز لنا أن ننفيه بدعوى هذه المنقبة التي كانت في التاريخ قيمة، وهي في الحاضر استعلاء مستحوذ بالريبة. فلا غرابة إذا تبينت لنا بعد المراحل سبة الاعتداد الكاذب بمظاهر جوفاء، لا تثني عزيمة الشر، ولا تحني رأس الخير. وإن لم يكن كلامنا صريحا في محل الصدق الأمثل، والأجل، فأين تأثير هذه المظاهر الخرقاء على انحرفات الإنسان في العقد، والوجد.؟ قد يكون من اللائق بالفقيه أن يكون تكوينه المعرفي متميزا في علم النفس، وعلم الاجتماع، حتى يعرف طرق تكوين الشخصيات، وأعراضها الباطنية، وتأثيراتها الخارجية. وحينها سيقر لديه القرار على تعلم كل حكمة تربطه بالمعاني، لا بالمباني. وإن ظن أن التجربة قد علمته شيئا من ذلك المجهول، فهو في عمقه أقرب إلى النفاق من المداراة في الأمر المقبول. وهل المداراة طبع لازم للإنسان حتى تكون قيمة اعتبارية.؟ بل، أين ما نزعمه من قول الحق، والأمر، والنهي، لو كانت المدارة ترياقا لكل السموم.؟ لن نكون صادقين إذا كانت كلمتنا ضعيفة، ووقفتنا هزيلة. بل أي دور لكلام خانع في مقام يكون اللين فيه هزالا، وعضالا.؟ فلربتما احتاج إلى المرونة في كثير من مواردها رجل خالط مشاعب السياسة المتوغلة في صناعة المستحيل، لكن رجل الدين لا يحتاج إليها في كل مواقعه التي يزعم أنها معبدة المسيل، وإلا كان كلامه نفاقا يخدع به النفوس حتى تستكين، وتستلين. وذلك مأتى كثير ممن جعل دائرة الالتهام للدسم بالوعظ المتلف للعقول تجارة نافقة، ورائجة. وربما لا يلتجئ إلى ذلك إلا حقير، صغير. وإذا كانت تجربة الفقيه تقاس بهذا المقياس الخادع الاستهلال، فهو قياس مع عدم وجود حواضن الاستدلال. فكيف يطلب من فقير يقتات بلالة عيشه من رضى العوام أن يكون موجها لمن يراهم أرباب نعمة وجوده، ومحركا لقلوب تهتف في صدورها أوجاع المنكوب في وعوده.؟ لو كانت ملكة العلم عند الفقيه قوية، ولغته الخطابية تواصلية، فهل ستستقيم له العقول حتى يكون محل إجماع للأحلام المخضرمة.؟ لو تحقق الإجماع على شيء وجودي، لتحقق لخالق الأكوان، وقد كفر به من كفر، وأشرك في حقه من أشرك. لكن الإجماع حكم أغلبي، ومتى كان الإجماع استظهارا لكل المكامن المخيفة في باطن الإنسان المجهول العوالم. لو طالبنا فقيرا لا يملك إلا سلطة السماع بأن يحد من فاعلية غلواء الانتظار لزمن الخلاص، لكي لا يكون لتقدير العاطفة الممتحنة سبيل إلى الانتقاص، والانتقال، والانتفاض، فإننا نخاطبه بأن يصد الأسماع بعد سماع الكلمة الأولى، وتصور التصور الأول المستحوذ على صورته الآدمية. فلا غرابة إذا تحجر الفكر الوعظي على العواطف المستلبة، وبقي الخطاب العقلاني منكورا في أسماع الأكثرية التي وصفها الإله بأنها لا تعقل، وبأنها تجادل، وبأنها لا تطاع، وبأنها في إيمانها مشركة، وفي كثرتها مذمومة. أشياء متداخلة في هذا الصراع القائم بين الأفكار، والنيات، والمصالح، فالديني والتراثي والتاريخي والسياسي متاهات تتصارع، وتتدافع، ولمن ستكون الغلبة في نهاية الإنسان.؟ لو غالينا في دور الفقيه، ومدى قدرته على التأثير، فإن ذلك لن يكون إلا منزعا نفسيا تكتنفه غوامض التقدير، والتدبير. وإلا، فإن مصلحة العوام في دور الفقيه المُباشر لقصة الوجود الأنكد، لا تتجاوز تلك المسكنات التي تخفف من غلواء الحياة، وانبعاجاتها، وإسقاطاتها. وهل يملك سوى هذه المرهمات الروحية التي تزيل الألم لبضع دقائق، ثم تمور، وتحور، وتدور.؟ وهب أن للفقيه سلطة الدين كما يزعم من لم يعرف تاريخ البشرية، فهل يمتلك بكلتا يديه مصالح الناس التي بها قوام العيش المحبر بأطياف الكرامة. لاسيما والناس بين أطراف الكون المديدة، لا تبحث إلا عن لحظة الكرامة الإنسانية الحنيذة.؟ فواها، واها، لقد دونت هذه العلل بقلم حذق يفقه بمساعدة التاريخ أن قوة الفقيه تستوجب أن تكون بمقدار الملح في الطعام، وإذا ما تعدى الطور، وتجاوز السور، كانت الكلمة الأسمى لمن تتدفق منه منابع المشارب بميزان، ومكيال، ومعيار. وإلا غدا الهرج والمرج غصة في أطايب الاستقرار، وعاد المجرور علامة على الرفع بين مراتب الاقتدار. فهل كنا عارفين بما يروج خلف البيوت من أسرار، وأخبار.؟ لذلك سر لا يدركه إلا قلة، ومن أدرك سر الأشياء، وقيمة روحها، وعلة وجودها، تعبت به رواحله، ونصبت به عوائده، وعاندته الأقلام المحبرة للمصير، والمسير. فنحن لسنا مخدوعين بالظواهر حتى لا نستكشف البواطن. وهذا سر الاختلاف فيما بيننا وبين من رآنا نعادي المألوف من أوهام الخلاص. لا، بل للقيم المعنوية عندنا مجال وافر، وغائر، فلسنا ممن يرفض الخصوصية، ولا ممن يقبل بالمظاهر الوافدة، ولا ممن يرغب في بناء المجد بمعرة نسيان التاريخ، والحضارة، وذلك يعرفه الخاص، والعام. لكننا ضد الأدعياء الذين يعادون الخصوصية بالخصوصية، وينادون بالشعارات المعطلة الأسماء، والصفات. فأين المسمى، لو كان الاسم في التقدير حقيقيا، ولفظيا.؟ وأين الموصوف إذا كانت الصفة ذاتية، ووجودية.؟ لو خبرنا الأسامي، لوجدنا نزوعها المعلول يستهوي الإتكاء إلى الادعاء، ولو خبرنا الصفات، لأيقنا بأن ما يوصف بالأوصاف الخارجية، ما هو إلا شيء متناه في التماهي، والتناهي. فلو كان كل ما يقال حقيقة، لكان لفيف الحق أقوى من زمرة الباطل جبلة، وطبيعة. لكن الشعار يرفع، وبين ظلاله أناس تتدافع، والفائز في الاعتبار الأدنى، هو ذلك المشعل لفتيل الشعار بلا ورع، فنال من خِطة الدين حظوة لا تنزع. فأين التلاقي بين خطاب الزهد، وخطاب التمكين.؟ تلك حقيقة عذبتنا إدراكاتها الغامضة، ونحن نكايس زمنا أغرانا بأوجاعه، وأوصابه، ومزقنا طرائق قددا، وفرقنا شذر، مذر، وغدونا معه حيارى مما سيؤول إليه أمرنا. فهل هو النهاية كما تبشر بها مستقبليات فلسفة العلوم.؟ أم هو المعنى المبحوث عنه بين غاب موحشة الألفاظ الحوشية.؟ ليست هذه الأفكار مثار النقع في غربتنا إلا عند من يعرف سر سريرتنا، وغور طبيعتنا. لكن من رأى السمو في منصبنا، فلا محالة، سيخالنا نتلاعب بالدين، والوطن، والأمة. لا، بعض السكوت، أو بعض التلقائية، هو الدواء الذي نداوي به جراحنا، وربما قد نلج بعض المهامه رغبة في حياطة دائرة العقل بسياج النسيان. فبعض النسيان عذاب، ولكنه سكون، وكمون، ومتى هبت رياح عاصفة، كان للمكنون عشق، وللمجهول شوق. فكيف نُرمى بالتهم الحقيرة، ونحن لو سعينا وراء ما يظن فينا من لين المواقف الصلبة، لقبلنا الأيدي، ولصافحنا الأرجل، ولأحصينا بعد سنوات رصيدنا بالنواطق لا بالصوامت من النقير، والقطمير. لكن بؤس الزمن الرديء، ندبره بما تقرر عندنا من فريضة المسؤولية على أسرة دهمها المرض من كل جهة، ولكمها الألم من كل ناحية، وصارت بعد تضرجها بدماء الألسن الطعان موقنة بأنها تعيش خارج الزمان، وداخل المكان. وإلا، فلم الشقاء، وقد نالني بعض الجاه، والمنصب.؟ لو كنت مدبرا لمكيدة، لدبرت سبل وصولي إلى لعاب المأدبة. وحينها سأحلق بين الأقزام بريش الطاووس، ثم أكون دعي النسب بين تواريخ الفوانيس. فيا قوم، شيء في العمق، هو الضمير، وتاريخ القبيلة، وشرف المرتبة، وقيمة العلم، هو الألم، هو العناء، وحين لم أجد إلا طريق الحسرة عما انصرم من عقد الصفاء، غزوت أقوالي إلى عقول ممرعة بالوفاء، وهي تعاني أوجاع العالم، وتتألم بالدماء التي فجرتها صراعات العقائد فوق بسط دحاها الأزل لكي تكون أمنا، لا خوفا. فلا يضيرني بعدما أفصحت عن رأيي أن يكون مصيري نهاية مؤلمة، أو بداية مُغربة. فلو ازداد الألم، لازداد العطاء. ولولا ساعات الألم، لما انخضع لنا القلم، ولما انسكب على مرآتنا صفي المعاني بالورم. فيا قوم، لو كان التجسس قيمة لرجل الدين الراغب في حظوة الأعيان، لكان البغاء أشرف مهنة يمتهنها الإنسان في حياة الأكوان. وهل احتاج هؤلاء الأشخاص إلى وشاياتي حتى يستقيم أمر الناس على الملة، والنحلة.؟ لو احتاجوا إلى نقلي، وقولي، لكانت خبرتهم في رص الصوف أضعف عندي. فهم لم يطالبوني بأخبار منذ أن قدرت فيهم شرف الانتساب إلى وليِّ بيعتي، ومن طالبني منهم بخبر، فهو يعلم مقدار جوابي بلا وجر، ومن أدرك جوابي بلا حور، علم أن طينتي لا تقبل نبتة غير نبتة غرسها أبي بلا وضر. وهي هديتي لوطني، وأجلى ما عندي لأمتي. ولكل دوره، ومن لم يعرف دوره في سبل الفتن المتعاقبة، ضاع منه الضمير، وتاه منه الخلق. وهل الخلق، هو ما نبديه من نفاق.؟ لو كان هذا خلقا عندي، لما سايرني فيه غيري. ولكن الخلق في نيتي البسيطة الملامح، هو استنكاف الضمير عن شراء الذمم، وبيع القيم. وهل تأذى بنا أحد مما يشاع عنا من أوزار.؟ لو تأذى منا أحد ما نزلت هنا نزل الأليم، لكان بيننا وبينه يوم الفصل، وفيه حكم محكمة أحكم الحاكمين. وهل رفعت هامتي على غيري،.؟ لو رفعت مقامي، لما تواضعت خفضا لجناحي، ولولا تواضعي بمقدور طاقتي، لما جالست من نعتقد سر مكرهم، وخبثهم. ولولا تواضعي بما كان لي فعلا، لا قوة، لما نابزني أهل الثراء برديء الأقوال. فلا غرابة. فالمِلح في باطني لا يرى لأهل الغنى فضلا، ولا لأهل الغباء حولا، لا، بل أم الفضائل عندي، هو تلك القيمة التي يضيفها الإنسان إلى مرتبته الموقوف على جددها قدرا، لا مكرا. أجل، ليس كل من يملك مرتبة بأقدر على أن يملك وعيا بها، أو ضميرا نقيا موجها لها. فأهل المراتب أحترمهم لمرتبتهم المعنوية، لا لخوف يضمره الحرف حين ينحاش إلى سوي الكلام. وهذا سر احترامي لمن تظنون أنهم يحترمونني لما أقدمه إليهم من تقدمة الفري بأعراض بريئة. واحترامي لأهل المراتب المختلفة، ليس نقصا في شخصي، ولا عيبا في فكري، بل أشفق على كبر مسؤوليتهم، وعظم وظيفتهم، ويعلم الله أنني كثر ما أجعل نفسي كبش فداء حتى لا يتهم أحد منهم بأنه يناصرني، أو يؤازرني. وهل أحتاج إلى نصرة نابعة عن خارجي. فانتصاري في عمقي، ومن ربط حبل وجوده بحبال غيره، قضي عليه في حينه. فاسألوهم، وأنتم تعرفون منهم السابقين، واللاحقين، فإن أقر أحد منهم بأنني حملت إليه غير هموم الناس، شفاعة لهم بوجهي، فأنا وبكل الأيمان المغلظة قادر على الاعتراف أمام العالم بأنني زنيم. فالذين عاشروني عن قرب المسافة، يعلمون أنني أحترم وطني، وملكي، وديني. وهذا عقدي، وهو مكتوب في كتبي، ولا أتاجر بذلك، ما دمت أقدم خدمة إنسانية للسياسات الخاصة، والعامة، حماية لعرض الإنسان، وشرف البشر.
وأخيرا: أقول لهؤلاء المتطاولين على دائرتي بالمين المبين: ماذا يرضيكم مني.؟ هل تودون تغيير منكر أنا جرمه، وعينه.؟ لو قصدتم ذلك في عزم النيات، فأي طريق تسلكونه في تعبيركم.؟ لو أتيموني بأمركم، لاستجبت لنهيكم. لكنكم أقمتم الدنيا بالضجيج، والعجيج، وجرحتموني أمام جلاسكم بلا هوادة، وأفريتم ودج روح حياتي بكل ما طاب لكم من سمج الأفعال، والأقوال. فأي منكر ترونه في شخص تدفعه تعلات الحياة إلى موارد الزلل، ومواطن الخلل.؟ لو كنت منكرا مبدو السريرة، لما كنت موجودا في فضاء تزعمون أنه طاهر من فتن الدهور، والعصور. لكن المنكر بدا لكم بعين التسويغ، وأنتم تحردون نحو البقاء الذي تبددكم عقدته عند كل التلاع، والقلاع، فاختلط عليكم الأمر، فرأيتم سيادتكم في نفيي وطردي من دائرة ضيقة، لا أرى الحياة فيها إلا عذابا أليما. فلو كان نفيي من منفاي إلى محل حريتي هدية الكمال، فأنا أبارك مسعاكم، ومرعاكم، بل سأعلن معكم إلى قلب كل لطيف يعشق الجمال: أن ألطفوا على إنسان يفتت المرض كبده، فلا هو ناج، ولا زوجه، ولا أبناءه. بل أدعو كل القلوب الخيرة إلى انتشالي من أزمة تفتك بجسدي، وحلمي، وتدفعني إلى صراع لا أراه إلا قذرا، ووسخا.



#إبراهيم_الورلق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن
- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...
- المقاومة الإسلامية تستهدف تحركات الاحتلال في موقعي المالكية ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: جرائم الكراهية ضد اليهود تضاعفت ثل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم الورلق - صرخة ثكلى، لموءود الأحلام المثلى