أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - سلام ابراهيم عطوف كبة - عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 11















المزيد.....



عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 11


سلام ابراهيم عطوف كبة

الحوار المتمدن-العدد: 4593 - 2014 / 10 / 4 - 10:06
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


في 26/10/2014 يكون قد مضى عقد كامل على رحيل الدكتور ابراهيم كبة،العالم الاقتصادي المعروف والباحث الاكاديمي والمربي الاجتماعي والوزير السابق في اول حكومة بعد ثورة 14 تموز 1958.ولاطلاع الرأي العام العراقي على دوره السياسي والاقتصادي والاكاديمي في بلادنا نلقي الاضواء على جوانب هامة من نشاطاته ومؤلفاته!


-;- قصة الفساد في العراق
-;- حوار يوسف محسن مع الدكتور عبدالحسين شعبان
-;- البراغماتية
-;- "الحياة الحزبية في العراق"مخطوطة غير منشورة وغير مؤرخة

-;- في"قصة الفساد في العراق"الصادر عن دار الشجرة للنشر والتوزيع كانون الثاني 2013 / دمشق،كتب موسى فرج ص 474 (حول قضية البنك المركزي واحباط جهود مكافحة الفساد في العراق...):".. بعد نجاح واستقرار حكومة ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق عمدت حكومة عبد الكريم قاسم الى تحرير الدينار العراقي من كتلة الاسترليني ، لكنه وضع على رأس الاقتصاد العراقي ابراهيم كبة وزملاءه فعمد هذا الى خطة محنكة لتجنيب الدينار العراقي السقم الذي رافق الجنيه المصري في اعقاب الثورة المصرية عام 1952 واستمر لغاية هذا اليوم ، الخطة التي اعتمدها ابراهيم كبة هي : انه طلب من شركات النفط الأجنبية والتي كانت تسيطر على النفط العراقي يوم ذاك بأن تسدد قيمة عائدات النفط للحكومة العراقية بالدينار العراقي!ووسط سخريتهم من مضمون الطلب باعتبار أن العملة العراقية ضعيفة والشائع ان تطلب الحكومات عوائدها بالعملات القوية فقد سددت الشركات تلك العوائد بالدينار العراقي،وفي الشهر الثاني طلب نفس الطلب من الشركات فواجهت الشركات شحة بالدينار العراقي وصعوبة في جمعه لكنها جمعت الموجود منه في البنوك الأجنبية،وفي الشهر الثالث كرر نفس الطلب فكانت الشركات الأجنبية تبحث عن الدينار العراقي في مصارف وخزائن العالم حتى استنفذته .. في الشهر الرابع وبعد ان جمع كل الدنانير العراقية من بنوك العالم وصارت تحت تصرفه فاجأ الشركات الأجنبية بان طلب منهم تسديد عوائد النفط بالعملات الأجنبية ولم يطلبها بالدينار العراقي...
نتائج تلك الخطة ان الدينار العراقي بات في طليعة العملات القوية في العالم .. فكان سعر الصرف للدينار العراقي هو : دينار عراقي مقابل 3.333 دولار امريكي .. بمعنى ان العراقي يدفع 100 دينار عراقي فيحصل مقابلها على 333 دولار امريكي.. واستمر هذا الحال الى منتصف الثمانينات فكان العراقي يجوب الجزء الشرقي من أوربا بمئة دينار .. حتى ان عقد السبعينات شهد حركة سفر سياحية من قبل العراقيين خصوصا الى بلغاريا ورومانيا وقبرص.."
وكتب موسى فرج ص 14 :"....من حيث الرؤية: حقبة ما قبل عام 1958 كان التوجه الاقتصادي معروفا فهو اقتصاد سوق ذو طبيعة اقطاعية .. بعد عام 1958 كان التوجه العام في الفكر والممارسة الاقتصادية تنحُ باتجاه الاقتصاد الاشتراكي .. اليوم .. الاقتصاد العراقي عديم اللون والطعم والرائحة لا رؤية ولا نمط ولا استراتيجية ، اسألوا رئيس الجمهورية واسألوا رئيس الحكومة ان تمكن اي منهما ان يحدد بالضبط ووفق شواهد ملموسة فيما اذا كان الاقتصاد العراقي اقتصاد اشتراكي او اقتصاد سوق... لكم عندي عزومة مسموطه ريحتها يشمها المستطرق في رابع شارع .. اقتصاد العراق اقتصاد ريعي يعتمد على صادرات النفط فقط وان انفجر لغم بحري في الخليج الذي مازال اسمه غير متفق عليه البعض يسميه فارسي والآخر يسميه عربي تحل المصيبة بالاقتصاد العراقي .. .
من حيث الاشراف: كان يتولى الاشراف على المشاريع تخطيطا وتنفيذا مجلس الأعمار- هذا في الحقبة التي سبقت عام 1958، وفي حقبة حكومة عبد الكريم قاسم كانت للاقتصاد العراقي خطة ويديره افذاذاً مثل ابراهيم كبة ومحمد سلمان حسن فأنتجت تلك الحقبة التي لم تزد عن الأربع سنوات تحولات جذرية في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العراق معالمها ماثلة حتى الساعة.. اما الذين يقودون اقتصادكم اليوم فوداعتكم آنا في احد الأيام كنت في زيارة عمل لأحدهم وكنت في حديث بشأن أمر ما فقال: دعني استخير ..! قلت له : ياويلتي ..تستخير..؟ ثكلتك أمك لو كنت اجلس محلك لأصدرت قرارات بقوة قرارات مجلس الأمن..وذاك ليس غمزا لقناة صاحبي لأن الذين غيره ليسوا أفضل حالا .. وسبق لي ان ناديت لتأسيس مجلس اقتصادي اعلى من خبراء لا يخضعون لسطوة المقربين من رئاسة الحكومة (فيستبدلون المصفوفات وجداول المستخدم المنتج بالاستخارة ..) يضعون استراتيجية اقتصادية اجتماعية لتعظيم الافادة من الامكانات الهائلة للاقتصاد العراقي وتحقيق النهوض في كل الميادين .. ".

-;- في حوار يوسف محسن مع الدكتور عبدالحسين شعبان بجريدة الزمان الدولية العدد 4232 في 23/6/2012 يذكر الدكتور شعبان نصا:".. واذا اردنا استعراض بعض المفكرين الماركسيين،فيمكن ذكر عبد الفتاح ابراهيم احد ابرز مؤسسي جماعة الأهالي عام 1932 وكاتب منهجها الشعبية وصاحب كتاب على طريق الهند الصادر عام 1935 والعديد من المؤلفات،وكذلك د. ابراهيم كبة ود. محمد سلمان حسن المفكران الماركسيان الرياديان والأكاديميان من الطراز الاول،ولهما عشرات الكتب والمؤلفات والترجمات وقد حافظا على استقلاليتهما،وقدّما اطروحات في غاية الأهمية وفي ظروف لم تسمح بالنشر او الكتابة او حرية التعبير،لكنهما تركا تأثيراتهما الكبيرة على الفكر الماركسي العراقي والى حدود معينة العربي،وعلى الوسط الجامعي والأكاديمي،وان كان هناك جحوداً عاماً ازاء التعامل مع المفكرين والمثقفين،لاسيما اذا كانوا من مواقع مستقلة او انتقدوا التيار الحزبي السائد وقياداته،وهو الامر الذي ظل مشتركاً لجميع القيادات في الاحزاب الشمولية،مهما كانت تسميتها..".


-;- البراغماتية

نستعرض الفصل الثاني من كتاب موريس كورنفورث"البراغماتية والفلسفة العلمية"/ترجمة:ابراهيم كبة/منشورات الثقافة الجديدة/1960/مطبعة الرابطة/بغداد.وقد ضمنت كتاب"ابراهيم كبة غني عن التعريف"الصادر عن دار الرواد المزدهرة،هذا الفصل.
اهدى د.كبة الكتاب الى الجماهير ، صانعة التاريخ ، ومنفذة سنن المجتمع ، وجوهر الديمقراطية الحقة ، وبانية عالم الغد ، عالم الحرية والاشتراكية والسلام!

كلمة عن الكتاب
" يضم هذا الكتيب فصل مهم تضمنه الكتاب الرئيسي الذي كرسه الفيلسوف البريطاني التقدمي المعروف موريس كورنفورث لنقد وتعرية البراغماتية ومدارس الفلسفة الوضعية المعاصرة،بعنوان(العلم ضد المثالية)- لندن،1954.
ولست اشك في ان استيعاب هذا الفصل القيم،سوف يساعد القراء على اكتشاف الجذور الآيديولوجية لكثير من المناقشات الدائرة في الوقت الحاضر،وعلى اضافة سلاح آيديولوجي جديد لأسلحتهم في معركتهم الظافرة ضد الاستعمار والرجعية،في سبيل تثبيت وتطوير مكاسب الشعب "

ابراهيم كبة



1. البراغماتية كنوع من المثالية الذاتية
2. "المنطق التجريبي"و"منطق البحث"
3. النظرة الطبيعية للفكر
4. المعرفة والحقيقة
5. وجود العالم المادي
6. مشروع العلم
7. (مثالية العمل)كفلسفة للامبريالية الامريكية

آيديولوجيتان فقط!

" ان القضية موضوعة بهذا الشكل فقط: آيديولوجية بورجوازية او آيديولوجية اشتراكية. وليس هناك من حل وسطى – لأن الانسانية لم تأت بآيديولوجية ثالثة - ،ثم انه من جهة اخرى ، في مجتمع تمزقه التناقضات الطبقية ، لا يمكن البتة ان توجد آيديولوجية خارجا عن الطبقات او فوق الطبقات – ولذلك فان كل انتقاص من الآيديولوجية الاشتراكية ، وكل ابتعاد عنها يفترضان حتما تعزيز للآيديولوجية البورجوازية..."

لينين

1. البراغماتية كنوع من المثالية الذاتية

البراغماتية هي اتجاه امريكي خاص من الفكر الوضعي.ولقد كان لها ممثلوها الخاصون في بلدان اخرى امثال ف.ج.شيلر في بريطانيا ولروا في فرنسا وبابيني في ايطاليا- لكنها لم تكن لها جذور عميقة خارج الولايات المتحدة الامريكية.
لقد ايد وليم جيمس في كتابه(البراغماتية)نسبة صياغة تعبير البراغماتية كاتجاه فلسفي الى جارلس بيرس وذلك بقوله: (ان الاصطلاح مشتق من نفس الكلمة الاغريقية – براغما – التي تعني العمل،والتي اشتقت منها كلماتنا- براكتس – و – براكتيكال - ،اي عمل وعملي.ولقد ادخلت لاول مرة في الفلسفة من قبل السيد جارلس بيرس في عام 1870،اذ قال السيد بيرس في مقاله: (كيف نجعل افكارنا واضحة؟)بعد اشارته الى ان اعتقاداتنا هي قواعد حقيقية لافعالنا،بانه لاجل تطوير معنى فكرة ما،لا نحتاج الا الى تقرير ما عسى ان يكون نوع السلوك الذي تنتجه الفكرة،وان السلوك هو في نظرنا يمثل معناها الوحيد..وللحصول على الوضوح التام في فكرتنا عن شئ ما لا نحتاج الا الى اعتبار ماهية الآثار العملية المتصورة التي يحتمل ان ينطوي عليها،وما نوع الاحساسات المتوقعة منه،وما هي ردود الفعل التي يجب ان يهيئ لها.ان مفهومنا لهذه الآثار يمثل بالنسبة الينا كامل مفهومنا عن الشئ المذكور)(1).
وهكذا قال جيمس: (بأن الاسلوب البراغماتي يتضمن تفسير كل حركة،بتعقب نتائجها العملية الخاصة)(2)،ثم اوضح ذلك،مستعملا تعبيرا رمزيا شائعا في التجارة العملية: (اذا كنت تتبع اسلوبا براغماتيا فيجب ان تأخذ من كل كلمة قيمتها النقدية العملية،وتحركها ضمن تيار تجربتك.ولذلك يظهر هذا الاسلوب،كمنهاج لمواصلة العمل اكثر منه كحل للمسائل،وعلى الخصوص يظهر كاشارة الى الطرق التي يمكن بواسطتها تغيير الحقائق القائمة.وهكذا تصبح النظريات ادوات،وليست اجوبة على الالغاز يمكن الاطمئنان اليها.اننا لا نجمد عليها بل نتقدم،وبالمناسبة نستعين بها على مراجعة الطبيعة باستمرار)(3).وقد لاحظ جيمس بعد ذلك: (ان التزامنا بالتفتيش عن الحقيقة هو جزء من التزامنا العام للعمل على ما يعود علينا بالربح.ان الارباح التي تعود بها الافكار الحقيقية هي الاسباب الوحيدة التي تجعل من واجبنا متابعتها)(4).
وقد طور جيمس(مفسرا)الافكار والنظريات،بمقاييس(نتائجها العملية).وبهذه الطريقة باحثا عن(قيمتها النقدية العملية)كمفهوم متميز بطبيعة الحقيقة باعتبارها(خصيصة من خصائص بعض الافكار).او كما يقول جيمس: (ان الحقيقة تحدث لفكرة من الافكار،انها تصبح حقيقة،بواسطة الحوادث.ان حقيقتها هي في الواقع حدث،عملية تطورية،اقصد عملية تحقيق نفسها،تحقيقها،كما ان صحتها هي عملية تصحيحها)(5).
ان هذه(العملية التحقيقية)هي شئ نقوم به نحن تجاه افكارنا،مستخدمين اياها،حسب تعبير بيرس(كقواعد لعملنا).وهكذا فان الحقيقة لا تنطوي على(اتفاق)افكارنا مع حقيقة(واقع)سابقة ومستقلة،اي مع العالم الموضوعي المادي،او مع المركب(المعني)من حواسنا،بل انما الافكار والنظريات تصبح حقيقية بنسبة خدمتها لنا(كأدوات)في الحياة العملية.
يمكن ان يرى الانسان مما جاء اعلاه بأن البراغماتية كسائر الانواع الاخرى من المثالية الذاتية،تقدم (اسلوبا لتفسير)افكارنا ونظرياتنا.ان هدف البراغماتية لا يزال منحصرا في تفسير(ما نقصده)باحساساتنا المختلفة،واظهار ان(ما نقصده)هو ليس ما يقوله في ذلك الماديون او ما يوحي به العقل السليم.ان افكارنا ونظرياتنا لا تشير الى العالم المادي الموضوعي القائم مستقلا عن تجربتنا الخاصة.ان صحتها او خطأها لا يتوقفان على انطباقها مع الحقيقة الموضوعية،بل بالعكس انها تشير فقط الى ما يجري في داخل نطاق تجربتنا الذاتية،وان خطأها او صوابها يتوقفان على كيفية عملها(في داخل تيار التجربة).ان هذا هو المذهب التقليدي للمثالية الذاتية الذي تكون البراغماتية اذن مجرد احد انواعه.ولهذا السبب،انتهى لينين الى انه من وجهة النظر المادية،يكون الفرق بين البراغماتية والانواع الاخرى من المثالية الذاتية(تافها وعديم الاهمية)(6).
ويتميز النوع البراغماتي عن الانواع الاخرى من المثالية الذاتية بتأكيده على(العمل).ان التجربة بالنسبة للبراغماتية تجربة(عملية)اي انها ليست مجرد تيار من الانطباعات الحسية،بل تيار من النتائج المجربة للافعال،ان الافكار لا تقتصر على فسخ او اعادة انتاج عناصر التجربة،وان وظيفتها لا تقتصر على مجرد ربط المعطيات الحسية او تسجيل الملاحظات او التنبؤ بنتائجها،ان الافكار انما(تحرك في داخل تيار التجربة)،وان ما تعنيه،هي ان تفسر وان توصف حقيقتها بمقاييس النتائج المجربة للعمل عليها.
وهكذا فقد فسر بيركلي عبارة(هناك طاولة في مكتبي)بانها تعني(لو كنت في مكتبي لربما ادركتها).اما النوع البراغماتي من البيركلية فيود ان يغير هذا التفسير بحيث يجعله يحمل ليس فقط ادراكي،بل مجموع تيار(القيم النقدية العملية)التي يمكن ان ترتبط بالادراك المذكور.ان البراغماتي،وهو اكثر عملية من بيركلي،يود ان يقول: (لو كنت في مكتبي لما ادركت فقط طاولتي،بل لجلست اليها،وكتبت بحثا في الفلسفة من شأنه ان يكسب لي منصب الاستاذية،وعقدا لاذاعة جملة احاديث اذاعية ودخلا ثابتا).ان الفرق هو مجرد في فرق التأكيد،ان البراغماتيين يتفقون مع بيركلي في انكار(ان الاشياء لها وجود ومستقل عن كونها قابلة للادراك).ان ما يؤكدون عليه،هو ان افكارنا عن الاشياء لا تشير فقط الى مدركات معينة،بل لمجموع تيار النتائج المجربة لافعالنا.ان الفلسفة البراغماتية تمثل اعادة صياغة الافكار الذاتية التقليدية،في الظروف الخاصة المتميزة للحياة الامريكية،في الجزء الاخير من القرن الماضي والجزء الاول من قرننا الحاضر.انها على الاخص لا تحتمل اي نوع من النظريات العامة،او اي نوع من انواع التفلسف النظري الذاتي او المريح،انها مقتنعة بثبات ان مشكلة الانسانية العظمى هي (انجاز التزامها لفعل ما هو مربح)وانها مطمئنة الى انه بالامكان انجاز هذا الالتزام،بل واكثر من انجازه،من قبل الناس المغامرين.انها تحاول ان تفسر وتقيم جميع الافكار بالمقياس المذكور.
ومما هو جدير بالذكر،ان وليام جيمس روج لفوائد فلسفته لمعاصريه من الامريكان تماما على طريقة التاجر الواقع تحت ضغط شديد.ان الاقتباسات التالية كان يمكن ان يحصل عليها الانسان تماما من احدى روايات أ.و.هنري:
(والآن ما هو نوع الفلسفة المعروضة عليك لسد حاجتك؟تجد الآن فلسفة تجريبية ليست دينية بما فيه الكفاية وفلسفة دينية ليست تجريبية بما يكفي لغرضك.اما انا فاعض عليك الشئ الذي يسمى بغرابة ونفور(البراغماتية)كفلسفة يمكن ان تسد كلا النوعين من الطلب،فيمكن ان تبقى دينية كالعقلانية،ولكنها بنفس الوقت كالفلسفات التجريبية يمكن ان تبقى على تماسها الغني بالحقائق.اني آمل ان تجد هذه الفلسفة لدى الكثير منكم نفس التأييد الذي تجده لدي..وحسب المبادئ البراغماتية،اذا كانت فرضية الله تفعل مفعولها بشكل مرض بالمعنى الواسع للكلمة،فهي اذن صحيحة..وعندما اقول لك بانني كتبت كتابا حول تجربة البشر الدينية اعنبر بوجه عام مؤيدا لحقيقة الله،ربما اقلعت عن اتهام براغماتيتي بتهمة كونها نظاما الحاديا..ان نوع الدين الجماعي والاخلاقي الذي عرضته،هو تركيب ديني لا يقل نفعا عما كان من المحتمل ان تجده بنفسك)(7).
ان هذه الجمل تظهر البراغماتية،كسائر اشكال المثالية الذاتية،هي الاخرى تقدم توفيقا بين وجهتي النظر الدينية والعلمية.وكما لاحظ لينين: (ان البراغماتية تستنتج الخالق للاغراض العملية وللاغراض العملية وحدها)(8).انها تعتبر كلا العلم والدين كمؤشرين للعمل اكثر من اعتبارهما نظريتين عن طبيعة العالم،وان لكل منهما مكانه الخاص في توجيه السلوك الانساني.
ان هذا الجانب من جوانب البراغماتية،جذب اليها انتباه اناتول فرانس الذي لاحظ ما يلي بهذا الصدد: (لقد اخترعت في المدة الاخيرة البراغماتية بالضبط للغرض المكشوف لتثبيت صحة الآراء الغيبية في اذهان العقليين)(9).
وفي الواقع،كان للبراغماتية تأثير مهم في الثيولوجيا البروتستانتية والليبرالية المتجددة في الولايات المتحدة وغيرها،على ان البراغماتية هي اكثر من اسلوب لتبرير الغيبية.ان هذه هي احدى مهامها فقط.انها تؤدي اكثر من اي شكل آخر للمثالية،الى مجموعة كاملة من التبريرات الرأسمالية،تشمل جميع ميادين النشاط الاجتماعي،منتجة مختلف النظريات المرشدة الى طريق(القيم النقدية العملية)في التاريخ والقانون وعلم النفس والتربية والتجارة والسياسة.وبمقارنة البراغماتية كنظرية للتفسير واسلوب(لتوضيح)معنى الافكار،مع الانواع الاخرى من المثالية الذاتية الاوربية،نلاحظ لاول وهلة بعض الفروق الصارخة كما يلي: فحسب رأي الانواع الاوربية،يجب تفسير الافكار والنظريات والآراء،كقواعد للتنبؤ بنظام ترتيب الاحساسات.اما البراغماتية فترى انها(قواعد للعمل)و(ادوات)لمساعدتنا (على التقدم الى امام،وبالمناسبة مراجعة الطبيعة بين حين وآخر).
وحسب الوضعيين الاداريين يجب ايضاح فكرتنا عن شئ ما ببيان(ماهية الاحساسات التي تتوقعها منه).اما البراغماتية فتضيف الى ذلك(ماهية ردود الفعل التي يجب ان تتهيأ لها).ان البراغماتي لا يجد اية(قيمة نقدية)بمجرد ملاحظة الاشياء،بل يجدها بالاحرى في(عمل ما هو مربح)وهو يهتم فقط(بالارباح التي تعود بها الافكار الحقة).وحسب الوضعيين الاوربيين ينطوي(التحقيق)على مقارنة نماذج الآراء بنماذجها المتبعة في الخبرة.اما بالنسبة للبراغماتية فانه ينطوي على(تحريك افكارنا في العمل).ان البراغماتيين لا يهتمون بمقارنة الافكار بالوقائع،بل بايجاد (الطرق التي تمكن من تغيير الوقائع القائمة).
ان البراغماتية تستبدل مفهوم هيوم الذاتي والفردي الخالص في الوقائع،باعتبار ان الانسان ما هو الا(حزمة من الاحساسات)،ذلك المفهوم الذي خيم على الفلسفة الاوربية مدة طويلة،تستبدله بمفهوم الانسان باعتباره فاعلا في تبادل التأثير مع محيطه،دائبا على العمل وعلى انجاز النتائج،مغيرا الاشياء المحيطة به.ومهما تبدو هذه التعديلات في الموقف التقليدي المثالي الذاتي،لاولئك الذين يعلقون قيمة على ظواهر الكلمات،متضمنة الكثير مما يصلح للموافقة عليه،الا ان ما تعبر عنه التعديلات المذكورة هي فلسفة فقط اكثر عدوانية من الاشكال التقليدية للفلسفة البورجوازية من ناحية اخضاع جميع الاعتبارات المبدئية والمتصلة بالحقيقة لكسب (القيم النقدية)،بل هي ايضا اكثر اضطرابا وتناقضا ذاتيا في نظريتها للمعرفة.
ويمكن التعبير عن الصعوبة النظرية الرئيسية والمركزية التي تعتور البراغماتية،بطرقة اولية،بالشكل التالي:
من الصحيح اننا نحتاج الى صياغة الافكار والنظريات لا لتنسيق معطياتنا الحسية بل لتوجيه سلوكنا،وارشادنا،اي(مراجعة الطبيعة بين الحين والآخر)و(تغيير الوقائع القائمة)،الا ان تغيير الوقائع بصورة واعية يفترض وجود الوقائع المذكورة المطلوب تغييرها،ومعرفة خواصها وارتباطاتها وقوانين حركتها.ولقد كتب بحق – وان لم يكن ذلك من قبل احد البراغماتيين – بأن (الحرية هي معرفة الضرورة)،اي اننا نستطيع ان نتوجه بصورة مباشرة الى النتائج المقصودة بقدر معرفتنا بالخصائص الموضوعية وقوانين الاشياء والعمليات التطورية التي يجب علينا معالجتها.ان افكارنا التي نعالجها،لاجل ان تؤدي غرضها (كقواعد للعمل)،يجب ان تجعل متفقة مع الاشياء الحقيقية وخصائصها،ويجب ان تعيد تمثيل،وان(تنسخ)ارتباطات وقوانين العالم الموضوعي.وكما عبر لينين: (يمكن ان تكون المعرفة مفيدة بيولوجيا،مفيدة في العمل،مفيدة في حفظ الحياة وحفظ النوع،فقط عندما تعكس حقيقة موضوعية مستقلة عن الانسان.وبالنسبة للمادي،يبرهن نجاح العمل على الاتفاق بين افكارنا والطبيعة الموضوعية للاشياء التي ندركها)(10).
والبراغماتية من الجهة الاخرى ترى كامل اهمية الافكار في وظيفتها البراغماتية(كقواعد للعمل)،والانطباق الوحيد الذي تقترن به مع الحقيقة،هو الانطباق بين خطة معينة للعمل وبين الانجاز الناجح للخطة المذكورة.وكما ان الوضعية الاوربية فسرت الافكار كقواعد للتنبؤ بترتيب الاحساسات،فان نفس البراغماتية تفسر الافكار كقواعد للسلوك.وعليه فبالرغم من بعض الفروق انهما يتفقان في القاء الضباب في تفسيراتهما على حقيقة اننا نقوم فعلا باكتشاف قوانين عمليات التطور المادية الموضوعية،واننا انما نبني المعرفة على اساس العالم المادي الموضوعي.وفي قضية وليام جيمس،ادى به هذا في كتاباته الاخيرة لصياغة فلسفة(للتجربة الخالصة)اطلق عليها اسم(التجريبية الراديكالية).
لقد كتب وليام جيمس: (ان نظريتي هي اننا لو انطلقنا من الافتراض بأن هناك مادة اولية واحدة في العالم،مادة ينطوي عليها كل شئ،واذا اسمينا هذه المادة- التجربة الخالصة-،عندئذ يمكن تفسير المعرفة بسهولة كنوع خاص من العلائق المتبادلة بين اجزاء مختلفة من التجربة الخالصة.ان العلاقة نفسها هي جزء من التجربة الخالصة.ان احد طرفيها يصبح الذات – اي حامل المعرفة او العارف - ،ويصبح الطرف الآخر موضوع المعرفة.ان هذا بحاجة الى الكثير من الايضاح قبل ان يتم فهمه)(11).
ولاشك ان الجملة الاخيرة صحيحة.الا ان ما يبدو انه قابل تماما للتفسير،هو ان جيمس بانكاره اية اشارة الى العالم المادي الموضوعي كان ملزما ان ينتهي الى الاتفاق مع بيركلي وماخ وكثير من الميتافيزيين المثاليين الذاتيين الآخرين،من ان الشئ الوحيد الموجود وهو(التجربة الخالصة).انه يذهب الى حد تأكيد ما سبق ان اكده ايضا الفينومولوجي الالماني هسرل،بأن هذه(التجربة الخالصة)(مكتفية بذاتها)اطلاقا،(وان كان كل جزء من اجزاء تجربتنا يستند على الجزء الآخر..الا ان التجربة كمجموع،تكون مكتفية بذاتها ولا تستند على اي شئ)(12).
وبهذه (التجريبية الراديكالية)يكون المفهوم البراغماتي لمعنى الافكار قد ارجع في النهاية من قبل وليام جيمس الى نفس المفهوم التقليدي الذاتي تماما،وان(القيمة النقدية)للافكار اصبحت تدفع بعملة (التجربة الخالصة).

2. "المنطق التجريبي"و"منطق البحث"

يجادل جون ديوي،اغزر كاتب بين الفلاسفة البراغماتيين في كتابه(مقالات في المنطق التجريبي)ضد المثاليين الذين يفصلون الفكر البشري عن العمل.انه يقول بأن التفكير لا يبدأ من(حقيقة وجود عقل في كل كائن بشري،مهمته مجرد المعرفة)(13).على العكس: (ان التفكير هو ادارة للسيطرة على المحيط،السيطرة التي تتم باعمال لا يمكن ان تقوم من دون سابق حل للموقف المعقد الى عناصره الاولية الاكيدة،وبنفس الوقت تحقيق الامكانيات الناتجة عن ذلك.ان التفكير هو اسم للحوادث والاعمال التي تنطوي عليها عمليات الفحص التحليلي والاختراع والاختبار..الخ.ان هذه الحوادث والاعمال طبيعية تماما.ان التفكير هو ما تفعله بعض الكائنات القائمة)(14).وهكذا فان التفكير،في رأي ديوي،هو نشاط للعضويات البشرية المحددة في تبادل تأثيرها مع محيطها،وهو(اداة للسيطرة على المحيط).بل ان ديوي يؤكد بعد ذلك(على ان الايدي والاقدام والاجهزة والادوات من جميع الانواع،هي اجزاء من التفكير بشكل لا يقل عن التغيرات الطارئة على الدماغ)(15).
وفي كتابه(المنطق – نظرية البحث)يواصل ديوي توسيع رأيه(الطبيعي)عن التفكير: (ان الخصائص التي تميز البحث الموجه،تتطور عن النشاطات البيولوجية التي لا تتميز بالخصائص المذكورة.فاذا انكر الانسان ما فوق الطبيعة وجب عليه تحمل المسؤولية الفكرية للاشارة الى كيفية امكان ربط المنطقي بالبيولوجي في عملية تتسم بالتطور المستمر)(16).ومن وجهة النظر هذه،يجادل ديوي ايضا ضد كامل المفهوم الذي يجده مميزا لجميع(المنطق الشكلي)من ان التفكير يجد منطلقه في جملة وقائع(معطاة)- ادراكات حسية،احساسات،معطيات حسية،او اي شئ مماثل.
انه يقول بأن المنطق الشكلي(صاغ مشكلة المنطق لربط الفكر المنطقي بمواد الاحساس).الا انه بقيامه بذلك(اهمل سمته الاساسية:السيطرة على المحيط بأسم التقدم الانساني والرفاه)(17).انه يقول بأن التفكير لا ينبعث من حدوث نوع خاص من الوعي او المعرفة(المباشرة)يطلق عليها اسم(الانطباع الحسي)،انه بالاحرى (كامل الموقف) – اي مجموع مركب العلاقات المعقدة بين الانسان ومحيطه – الذي يثير التفكير.(ان مفهوم التفكير كنشاط مستقل،يحدث بشكل ما،بعد سابقة مستقلة،ويؤدي في النهاية الى نتيجة مستقلة،لا يقدم لنا الا معجزة جديدة مستعصية على الفهم)(18).
ان افتراض ان التفكير يعالج وقائع حسية(معطياته)كما يقول في كتابه(المنطق)،هو(خرافة فظيعة)(19).ان الوقائع الملاحظة ذات الاهمية لكل عملية تفكير او بحث حقيقية،هي دائما(مختارة)،ويجب ان يجري عليها(الاختيار).ان الوقائع،كما يقول ديوي في كتابه(البحث عن اليقين)ليست(معطاة)بل(منتزعة)(20).كذلك يعارض ديوي فكرة ان (الاشكال المنطقية)المعبر عنها في الفكر – اشكال الحكم واساليب الاستقراء- هي بشكل ما سمات خالدة وضرورية وكامنة في صلب التفكير،وكنشاط عقلي او روحي خالص ومستقل.ان هذه الاشكال بالاحرى قد تطورت في التاريخ الطبيعي للفكر البشري،كمشروع لغرض السيطرة على المحيط.لقد كتب جون ديوي: (ان جميع الاشكال المنطقية بخصائصها،تنشأ من عمليات البحث نفسه،وهي تعني بالسيطرة على البحث لامكان اصداره التأكيدات اليقينية.ان الاشكال المذكورة تمد جذورها في اعمال البحث.ان البحث يمكن ان يطور خلال مجراه الدائب الاشكال وخلال المقاييس المنطقية التي ستخضع لها البحوث المستمرة)(21).
يقول ديوي: (من المدهش انه في وجه تقدم الاسلوب التطوري في علم الطبيعة،يمكن لاي عالم منطقي ان يصر على التأكيد بوجود فارق جامد بين مشكلتي الاصل والطبيعة،مشكلتي النشوء والتحليل،مشكلتي التاريخ والحقيقة..).ومع ذلك فان الفلاسفة والمناطقة يصرون على اعتبار التفكير(كشئ قائم بذاته،له بذاته بعض الخصائص والعناصر والقوانين المعينة)(22).انهم يترددون بين اعتبار(الخصائص المنطقية)كشئ(كائن في العقل)،وبين اعتباره كخصائص لازمة للتركيب الاونتولوجي – اي الوجودي – للعالم(23).ان كلا الرأيين بعيدان عن الصواب.ان الاشكال المنطقية ليست (جاهزة)بأي معنى من المعاني،ولكن (مختلف اشكال الآراء تميز مراحل مختلفة في تقدم سير البحث)(24).
والآن لنلخص جوهر هذه الاقتباسات المختلفة.ان جون ديوي في كتاباته عن المنطق يقدم رأيا عن التفكير يتميز بما يلي:
1. ان التفكير ليس نشاط(العقول)التي تنحصر مهمتها في التأمل والمعرفة،بل انه نشاط العضويات البشرية المحددة،الناشئة عن تبادل التأثير مع المحيط كأداة للسيطرة عليه.
2. ان عمليات التفكير لا تستند على حدوث معطيات الحس،التي يمكن النظر اليها باعتبارها(معطيات)نهائية- اي كما يقول الكانتيون،يجب تنظيمها في وحدة الادراكات وتحليلها وتنسيقها بالطرق المقدمة من قبل مختلف الوضعيين،الكانتيين الجدد(نيو كانتيين)والكانتيين المتأخرين(البوست كانتيين).ان التفكير لا ينشأ من حدوث مثل هذه الوقائع بشكل معجز،بل من التفاعلات مع المحيط،والمجهود للسيطرة عليه واعادة تشكيله.ويجب اكتساب واختيار وفحص نفس وقائع الملاحظة المستخدمة في عمليات البحث.
3. ان الاشكال المنطقية وطرق الاستقراء المعبر عنها في عمليات التفكير،ليست اشكال تفكيرية جاهزة،او ابدية،بل انها تتطور في عملية التاريخ الطبيعي للتفكير.
ان ديوي يبدأ بهذه الآراء حول طبيعة التفكير وكأنه يجادل ضد المثالية.ان التفكير ليس نشاطا(للعقول)في(تأملها)لوقائع حسية(معطاة)بل انه نتاج التفاعل بين الانسان ومحيطه.ولكنه من هذا الجدل الظاهر ضد المثالية،ينطلق لصياغة استنتاجات حول قوانين الفكر او المنطق موجهة مباشرة ضد المادية.فليس هناك في نظره اي منطق يعبر عن القواعد الضرورية للتعبير الصحيح عن انعكاس الحقيقة الموضوعية في الفكر.ان مهمة التفكير ليست عكس الحقيقة الموضوعية بصورة اكثر امانة وشمولا،بل تطوير الافكار والاساليب النافعة والملائمة للاغراض العملية وحسب.وهكذا فان جدال ديوي ضد بعض المبادئ التقليدية للمثالية،ماهو الا الخطوة الاولى في جدله ضد فكرة كون الفكر يمكن او يجب ان يعكس الحقيقة الموضوعية،وعليه فما هو الا حجة تنتهي الى اعادة التأكيد على المضمون الجوهري لنفس النظرة المثالية التي ادعى مهاجمتها.
وهنا يظهر طابع التحايل الذي يميز الفلسفة البراغماتية بصورة عامة.فتحت ستار الجدل ضد المثالية توجه البراغماتية دائما جدلها الرئيسي ضد المادية لاعادة الموقف المثالي بتعابير مختلفة.ان هذا الطابع التحايلي(للاسلوب)البراغماتي،سبق ان اشار اليه الفيلسوف الامريكي هاري ويلز،وسبق ان سماه(حجة الثلاث خطوات): (الخطوة الاولى – مهاجمة المثالية،الخطوة الثانية – التأكيد على المفهوم البراغماتي للحقيقة باعتبارها(ما يثبت نفعه)،بدل مفهوم عكس التفكير للحقيقة الموضوعية بأمانة،والخطوة الثالثة – اعادة المثالية بكلمات مختلفة.

3. النظرة الطبيعية للفكر

ان رأي ديوي البراغماتي عن الفكر،اطلق عليه اسم(الطبيعي).ومن وجهة النظر المادية ايضا،يتعين على الانسان ان يتخذ رأيا(طبيعيا)في الفكر،بمعنى اعتباره(طبيعيا بصورة كلية)(كما تفعل بعض الموجودات القائمة)،وليس كوظيفة(معجزة)(للعقل الذي تنحصر مهمته في المعرفة).
الا ان المادية لا تعتبر التفكير كمجرد نشاط للعضويات البشرية المعينة،ناشئة(بصورة طبيعية)عن التفاعل مع المحيط كأداة للسيطرة عليه..الخ.ان التفكير،بالنسبة للمادية،هو انعكاس للواقع،للعالم المادي الموجود بالفعل،مهما اتخذ هذا الانعكاس من الاشكال الوهمية.ان المادة بالنسبة للمادية هي العنصر الاول،اما الفكر فهو عنصر ثانوي،مشتق.ان الفكر هو اعلى اشكال حركة المادة،ينتج عندما تكون المادة قد بلغت الشكل الاعلى لتنظيم الدماغ البشري...كما ان العالم المادي الموضوعي هو مصدر الفكر الذي ما هو الا انعكاس للمادة،وللحقيقة الموضوعية الموجودة بشكل مستقل عن انعكاسها في الفكر.
ان تفسير ديوي(الطبيعي)للتفكير،يناقض صراحة ويرفض الموقف المادي لانه يجمع بين رأيه(الطبيعي)الذي يرى بأن الفكر هو نشاط العضوية البشرية،وبين انكار كون الحقيقة الموضوعية هي مصدر ومنشأ الافكار،وانكار كون الفكر يعكس العالم المادي الموضوعي.
ان ديوي يستعمل كواجهة،انكار ان(العقل)او(الوعي)يمكن ان يوجد كشئ(بذاته)،انه يحاول اظهار ان الفكر(طبيعي بصورة كاملة)وان(المنطقي)يسير مع(البيولوجي)على الدوام،وان الفكر هو نوع من النشاط العملي يستخدم كأداة للسيطرة على المحيط..الخ.على انه يظهر بأنه يوجه بكل ذلك ضربة مميتة ضد اخطاء المثالية،الا ان هجومه في الحقيقة ليس موجها ضد المثالية بل ضد المادية،ضد الرأي القائل بأن جميع الفكر هو انعكاس للحقيقة المادية،الذي يكون جوهر المادية بالذات.وتحت ستار مهاجمة مذاهب بعض المدارس المثالية،يوجه هجومه الحقيقي الى قلب المادية.
وعليه فانه بالرغم من جميع(طبيعيتها)،تكون فلسفة ديوي نفسها مثالية،لانه بانكاره كون الافكار تعكس الحقيقة الموضوعية وان هذه الحقيقة هي مصدر افكارنا،انما يؤكد على العكس بأن كل شئ يفترض وجوده في العالم الموضوعي،انما هو يتكون ويتقرر بعملية الفكر.انه بانكاره كون صحة افكارنا انما يكمن في انطباقها على الحقيقة الموضوعية،انما يؤكد على العكس عدم انطباق اية حقيقة موضوعية على افكارنا.
وهكذا فان فلسفة ديوي،التي يعرفها باعتبارها(طبيعية)معارضا بها المثالية،ماهي في الواقع الا شكل دقيق ومبرقع للمثالية الذاتية.انها مثالية ذاتية في لباس جديد(للطبيعية)محاك من مختلف المبادئ حول العضوية ومحيطها،وحول الدافع والاستجابة،وحول استمرار المنطقي مع البيولوجي،وحول الافكار كأدوات للعمل،وحول الحقيقة باعتبارها ما يعود عمليا بالنفع.
ان جميع هذه المبادئ البراغماتية،التي بدت للكثيرين وكأنها تدشن طريقا جديدا في الفلسفة لا تؤدي في الواقع الا لسلوك طريق المثالية المطروق جيدا،ولا تؤدي لاي طريق جديد،بل لنفس الطريق القديم.ووراء جميع هذا الخلط اللفظي لطبيعة ديوي،يبرز بوضوح شئ واحد هو المثالية.وبين جميع تناقضات البراغماتية يبرز شئ واحد متماسك كل التماسك هو معارضتها للمادية.
الفكر"كاستجابة""لدافع ما"
يرى ديوي باننا لو اخذنا بمفهوم طبيعي عن الفكر ورفضنا اعتباره كشئ(بذاته)(فلا يبقى امامنا اي خيار عدا..ادراك الفكر كاستجابة لدافع خاص..)(25)ثم يطور ديوي فيما بعد رأيه عن الفكر(كاستجابة لدافع)بصورة اكثر تفصيلا.ان ديوي يصر على ان التفكير ليس(حالة من حالات الوعي)،ولا(عملا وظيفيا)(لكائن خاص)يسمى(الوعي)(26).ان(حالات الوعي)كما يقول ديوي،سابقا بذلك وجهة نظر علم النفس السلوكي فيما بعد،يجب استبدالها(بالسلوك).ويجب اعتبار التفكير كحدث(عضوي داخلي)يسير على الدوام مع(الحوادث خارج العضويات).كما انه يستمر قائلا بأن الفكر يجب ان يخدم(كوسيلة لتطوير استجابة متأخرة ولكنها اكثر ملائمة)(27).ان هذا يعني بأنه اذا كانت خصائص المحيط تثير عملية التفكير(الداخلية)،فان الاستجابة للدوافع موضوعة البحث تتأخر فيما يستمر(الحدث العضوي الداخلي).وهذه العملية الفكرية تنتج وتطور(استجابة اكثر ملائمة).
مثال ذلك انني بينما اسير في الطريق افاجأ بوجود مفترق للطرق.ان هذا يثير في عملية تفكيرية اقف خلالها ساكنا.وبنتيجة هذه العملية التفكيرية استجيب في النهاية للموقف الذي احدثه المفترق بسلوك احد الطرق القائمة.وهكذا فانني استطيع بذلك القيام (باستجابة اكثر ملائمة)للموقف من وجهة نظر بلوغي الوجهة المقصودة.ومن الطبيعي ان عملية التفكير ليست مجرد عملية (داخلية)،انها ليست حسب تعبير ديوي مجرد عملية(دماغية)،بل انها تتضمن اشكالا مختلفة للسلوك المكشوف الهادف للحصول على (معطيات)تساعد عملية التفكير.مثال ذلك انني احاول البحث في لوحة العلامات القائمة،او استشير خريطتي،او اميز طريقي بعلائم متميزة..الخ.ان التفكير يجب اعتباره من حيث الجوهر(كحدث عضوي داخلي)ينشأ كاستجابة(لدافع خاص).ولكن هذا لا يتضمن بأن عملية التفكير لا تنطوي في سيرها على مختلف اشكال السلوك المكشوف.ومع ذلك فان مهمة عملية التفكير،هي انها بنشوئها كاستجابة(لدافع معين)تخدم(كوسيلة لتطوير اجابة متأخرة ولكنها اكثر ملائمة)للدافع.
ما هو اذن نوع الموقف او (الدافع الخاص)الذي يثير التفكير؟لان من الواضح ان ليس كل دافع مثيرا للتفكير.
يقول ديوي بأن التفكير(ينشأ لظهور عوامل غير منسجمة مع بعضها في داخل الموقف التجريبي)،اي انه ينشأ(عندما يكون في القضية امر خطير بسبب عدم الانسجام الفعال..عندما يصبح الموقف توتريا)(28).
ان الفكر ينشأ(من الجهد للتغلب على صعوبة ما حقيقة او مهددة)(29).ان التفكير الناجح ينتهي بالمعرفة،و(لوضع المعرفة حال نشوئها في التطبيق،يجب معرفة انها حالما تنشأ بسبب صعوبات الانسان،انما تتوطد وتتعزز في اعادتها لبناء الشروط التي انتجت الصعوبات)(30).
ان مغزى هذه الملاحظات سوف يتضح،اذا استشهد الانسان بالمثل الذي ضربناه سابقا حول عملية التفكير التي اثارها بلوغ مفترق الطرق اثناء السير في الطريق.هنا نجد اذن(عوامل غير قابلة للانسجام)- طريقين لا يمكن الا ان يكون احدهما هو الصحيح – هناك ايضا (عدم انسجام فعال)و(الموقف يصبح ثوريا) – لا استطيع السير في كلا الطرقين بل يجب ان اسلك احدهما فقط.وعلي تحت ضغط(الدافع الخاص)لهذا الموقف التوتري،ان افكر في اي الطريقين يجب ان اسلك،وما تفكيري الا الجهد المبذول من قبلي لايجاد كيفية(التغلب على الصعوبة)التي اجد نفسي متورطا فيها.ان ديوي نفسه يعطي مثالا مشابها – سوف اشير اليه فيما بعد – لرجل ملزم بأن يفكر تفكيرا شاقا بسبب فقدان طريقه في الغابة(31)وباعتباره التفكير كحدث(عضوي داخلي)يثيره دافع لموقف توتري معين ويؤدي الى استجابة متأخرة ولكنها اكثر ملائمة للموقف،لا يستطيع ديوي ان يعترف بأية ارتباطات بين الافكار كحوادث عضوية داخلية وبين العالم الخارجي خارج العضوية عدا ما يلي:أ- الارتباطات بين الدافع الخاص والاستجابة التي يثيرها. ب – الارتباطات بين الموقف التوتري ونوع السلوك النهائي الذي يطور لحل التوتر.
وهذا يعني بأن ديوي تحت ستار الجدل الظاهر ضد المثالية واستعمال عبارات ذات مظهر علمي مزيف حول(الدافع)و(الاستجابة)و(العضوي الداخلي)و(خارج العضوية)تآمر لقطع الطريق على اي رأي مادي علمي حول الطبيعة وتطور الفكر وصلة الافكار بالاشياء،كما حاول ان يضع الاساس لاعادة المثالية.
منشأ التفكير في الانتاج الاجتماعي
أ – يؤكد ديوي بتكرار،على ان التفكير ينشأ (عندما يصبح الموقف توتريا)(بسبب ظهور عوامل غير قابلة للانسجام في داخل الموقف التجريبي).ومن الطبيعي اننا يجب فعلا ممارسة التفكير في مثل هذه الظروف،ولكن هل تقدم هذه التأكيدات اي شئ مقارب بصورة ملائمة عن منشأ التفكير؟ان جميع الحيوانات ملزمة على الدوام بالاستجابة(لواقف توترية)نوالقسم الباقي على قيد الحياة منها ينجح في ايجاد نماذج من السلوك تحل التوترات بمقدار متفاوت من النجاح؟ولكن هذه الحيوانات جميعها لا تفكر بالمعنى العلمي للتفكير.ان التفكير او تكوين المفاهيم هو نشاط مميز للبشر وحدهم،وان منشأه وطبيعته مرتبطان بما هو مميز للبشر ايضا.
يتكلم ديوي في كتابه(المنطق – نظرية البحث)عن (الرحم البيولوجي)للتفكير،ويقول بأن (المنطقي)اي عمليات التفكير المفاهيمي(مرتبط بالبيولوجي في عملية تطور مستمرة).انه يفكر بطريقة تطور وظيفة التفكير من الارتباطات (الطبيعية)للعضوية البشرية بمحيطها.انه يلح على ان(العضوية لا تعيش في محيط ما بل انها تعيش بواسطة المحيط)(32).وعليه فأن التفكير ينشأ في الطريقة التي نعيش فيها(بواسطة محيطنا)،وتخدمنا في ايجاد طريقة للتغلب على (المصاعب)الناشئة في مثل هذه الحياة.
الى هنا والامر حسن.الا ان العضوية البشرية التي تفكر هي عضوية طورت بعض خصائص بيولوجية هامة(اي الدماغ البشري والايدي)تطورت من دماغ وايدي القرود العليا التي تقع ادنى منا وبعدنا مباشرة في سلم التطور،ولكنها تعود للانسان فقط.وبدون ايدينا ما كان لادمغتنا ان تكون ذات نفع كبير لنا،وبدون ادمغتنا ما كنا نستطيع التفكير،اذن فان المنطقي تطور من البيولوجي بفضل الدماغ والايدي.الا ان طريقة استعمال الانسان للدماغ والايدي في الانتاج الاجتماعي التعاوني،تؤدي مباشرة الى وضع تكف فيه الحياة البشرية عن ان تكون مجرد حياة(بيولوجية).فالانسان لا يعيش فقط بموجب القوانين البيولوجية وحدها،بل بموجب قوانين اجتماعية،وان التفكير ينشأ ويتطور في حياة الانسان الاجتماعية التي تقوم قاعدتها على عملية الانتاج الاجتماعي.لذلك فمفهوم (الرحم البيولوجي)للفكر،كما لو كان التفكير نشأ وتطور من مجرد صلة العضوية البيولوجية بالمحيط،هو تغاض عن الحقيقة الهامة من ان النشاط البشري للتفكير انما ينشأ بالضبط عندما يخرج الانسان من النطاق البيولوجي ويبدأ وجوده وتطوره الاجتماعيين.
وبهذه الطريقة،فان(طبيعية)ديوي،التي تؤدي به الى الكلام عن(الرحم الاجتماعي)للتفكير،تؤدي به ايضا الى القاء الضباب على الرحم الاجتماعي الحقيقي للتفكير،والى معالجة النشاط الاجتماعي والعلائق الاجتماعية كنشاط علائق بيولوجية.وباظهار هذه الظلامية(كطبيعية)يحاول ديوي اعطاءها مظهرا(علميا)و(تقدميا)،ولكنها في الواقع ظلامية وليست علمية ومغرقة في الرجعية بدل ان تكون تقدمية.
ان نفس هذا النموذج من(الطبيعية)اي النظرة(البيولوجية)للانسان والنشاطات والعلائق الانسانية،يظهر ايضا في مناسبات اخرى في العنصرية وفي المذاهب الاجتماعية لعلم التناسل(يوجنيك):فهناك حلقة مباشرة – وكونها غير واضحة لا يقلل من طبيعتها المباشرة – بين (طبيعية)ديوي الفلسفية وبين تلك الاشكال الرجعية القائمة على كراهية الانسان والاضطهاد العنصري السائد في الولايات المتحدة،سيادة الفلسفة(الطبيعية)هناك.
وبعد ان يعالج ديوي(الرحم البيولوجي)للتفكير،يكرس فصلا كاملا(للرحم الثقافي)ومن الطبيعي انه يعلم جيدا بأن(الانسان حيوان اجتماعي)،وهو يعبر عن ذلك بالقول بأن محيط الانسان ليس مجرد محيط مادي،بل هو محيط ثقافي،اجتماعي،وان النشاطات البشرية تتغير ثقافيا.انه يكتب: (بأن التحويل من السلوك العضوي الى السلوك الذهني المتميز بالخصائص المنطقية،هو نتاج لحقيقة ان الافراد انما يعيشون في محيط ثقافي)(33).ان البشر الذين وهبوا ايدي وادمغة،ولكنهم من جهات مختلفة اخرى اقل استعدادا من الوجهة البيولوجية من كثير من الحيوانات الاخرى،استطاعوا ان يتعلموا كيف يصنعون ويستعملون مختلف الادوات للدفاع ضد الاعداء ولانتزاع الطعام والحصول على الدفء،اي لانتاج وساءل معيشتهم،وما الادوات الا منتجات اجتماعية ينطوي صنعها واستعمالها على تعاون اجتماعي بين الافراد،وتؤدي بدورها الى انواع جديدة خاصة بالانسان من التنظيم والتطور الاجتماعيين.وفي هذا التعلم لاستعمال الادوات لانتاج وسائل المعيشة استطاع الانسان خلق الثقافة والمجتمعات البشرية.كما ان التفكير نشأ وتطور خلال نفس العملية.لقد اصبحنا نستعمل ادمغتنا للتفكير كجزء من نفس عملية التطور التي اصبحنا فيها نستعمل ايدينا لصنع الادوات.
لقد عالج ماركس وانجلز الموضوع منذ زمن بعيد باستعمال كلمة(العمل)للاشارة الى الصناعة اليدوية واستعمال الادوات من قبل الانسان.مثال ذلك ان انجلز كتب في الفصل المعنون(دور العمل في تحويل القرد الى انسان)من كتابه(ديالكتيك الطبيعة)ما يلي: (ان العمل هو الشرط الاساسي الاولي لمجموع الكيان البشري،الى درجة اننا،وبمعنى من المعاني،يمكننا ان نقول بأن العمل هو الذي خلق الانسان نفسه)(34).ان هذا هو تكرار لما قاله ماركس وانجلز قبل ذلك في كتابهما المشترك(الآيديولوجيا الالمانية): (ان البشر .. يبدأون في تمييز انفسهم عن الحيوانات،حالما يبدأون في انتاج وسائل معيشتهم،وهي خطوة كان يقررها تركيبهم الجسمي،وبانتاج وسائل معيشتهم ينتج البشر بصورة غير مباشرة حياتهم المادية الفعلية)(35).
ثم استمر انجلز في الاشارة الى ان العمل – اي صنع واستعمال الادوات اجتماعيا لانتاج وسائل المعيشة – هو الذي (وسع افق الانسان مع كل تقدم جديد.انه كان يكتشف على الدوام خصائص جديدة غير معروفة حتى ذلك الوقت للاشياء الطبيعية.ومن جهة اخرى ساعد تطور العمل بصورة حتمية على تقريب افراد المجتمع من بعضهم،بمضاعفة ظروف العون المتبادل والنشاط المشترك،وباظهار فائدة النشاط المذكور لجميع الافراد.وبالاختصار فان البشر الذين كانوا في حالة تكون،بلغوا نقطة اصبح من اللازم عليهم ان يقولوا شيئا ما لبعضهم البعض..ان هذا التفسير لنشوء اللغة من العمل ومن عملية العمل هو التفسير الوحيد الصحيح)(36).لهذا لاحظ ديوي نفسه بأن التطور(الطبيعي)للتفكير،لا يمكن فصله عن تطور اللغة كوسيلة للتفاهم.الا ان ما يتستر عليه هو ان(رحم)المجتمع البشري والثقافة،حسب تعبيره،ورحم اللغة والتفكير،يجب اكتشافه في حقيقة تعاون البشر لانتاج وسائل المعيشة بالعمل الاجتماعي وصنع واستعمال الادوات.
ان ديوي يقول بأننا رفضنا اعتبار التفكير كشئ قائم(بذاته)،(فلا خيار لنا)غير اعتباره(استجابة لدافع خاص)،كنوع من السلوك يثار(عندما يصبح الموقف توتريا).الا ان هذا التعارض خاطئ.فنحن وان لم ننظر الى التفكير(كشئ قائم بذاته)لسنا ملزمين باعتباره(استجابة)لموقف ما مثير للصعوبات،ومهيئ لاتخاذ انواع السلوك الملائمة(للتغلب على الصعوبات).ان اعتبار التفكير(كاستجابة)لشروط معينة في المحيط،هو عجز عن ادراك جوهر التفكير كجزء من النشاط الانساني،لان البشر بسبب العمل الانساني لا يقتصرون على مجرد ردود الفعل لمحيط معين،بل انهم يغيرون المحيط عن وعي،وفي احوال كثيرة،ينتجون عن وعي محيطهم الخاص.وينشأ التفكير لا من مجرد الظروف الخارجية بوجود(عوامل غير قابلة للانسجام)تستلزم الاستجابة،بل لان العمل الانساني ونمو وتطور التنظيم الاجتماعي،تطرح على البشر مشاكل ذهنية،وهذا ما يقرر نشوء التفكير والاشكال التي يتخذها في تطوره.وعندما يعتبر ديوي التفكير كمجرد(استجابة)(لدوافع)ومؤثرات خاصة تنشأ عن المحيط،فانه ينكر الاساس المادي الحقيقي للتفكير،كما يفعل ذلك تماما(الرأي المثالي)الذي يهاجمه ديوي والذي يعتبر التفكير من عمل(العقل الذي تقتصر مهمته على المعرفة).
الفكر كانعكاس للواقع
ب – ان ديوي باعتباره عمليات الفكر تحدث كمجرد استجابة(لدوافع خاصة)،ولتأدية مهمة تطوير نماذج السلوك الملائمة لمعالجة الدوافع المذكورة،ينكر بأن الفكر يعكس ويصور الحقيقة الخارجية.ان(طبيعيته)ترى في الفكر مجرد وسيلة لتطوير نوع من السلوك،نوع من(الاستجابة المتأخرة ولكنها اكثر ملائمة)للدافع الخاص.
ان الكلام عن الافكار،حسب هذه النظرة،باعتبارها تقدم صورة عن الواقع،او الكلام عن انعكاس العالم في الفكر،هو سقوط في الخطأ(المثالي)الذي يعتبر الفكر(كشئ قائم في ذاته).ولكن الواقع،على العكس،هو ان هذه النظرة نفسها تتفق مع المثالية في انكار الصلة الحقيقية للفكر بالعالم المادي الموضوعي المنعكس في الفكر المذكور.
ان الفكر المفاهيمي(اي عملية خلق المفاهيم – المعرب)ينشأ ويتطور على قاعدة الانتاج البشري الاجتماعي،وهذه الحقيقة تقرر طابع الفكر المفاهيمي،الذي لا يخدم فقط تطوير بعض نماذج السلوك،بل انه ليفعل ذلك باعادة تمثيل العالم الخارجي،اي الاشياء المادية(العلائق البشرية)في اقيسة مفاهيمية،اي بتطوير تمثيل نموذجي او مفاهيمي للحقيقة.ان ديوي يقول بأننا يجب ان نستبدل(الوعي)(بالسلوك)،واننا يجب ان لا نعتبر التفكير مطورا انعكاس العالم الموضوعي في الوعي البشري،بل مطورا فقط لنماذج سلوكية.على ان هذا يتناقض مع الحقيقة الاساسية في السلوك الاجتماعي البشري،اي مع عملية العمل التي تنطوي بطبيعتها على انتاج نوع معين من الوعي،اي تطوير انعكاس العالم في اقيسة الفكر.
ان الطابع الواعي لعملية العمل،قد اكد عليه ماركس في العبارة الآتية التي كثيرا ما اقتبست من(الرأسمال): (نحن نفترض العمل بشكل يضفي عليه طابعا انسانيا صرفا.ان الخفاش يقوم بعمليات تشبه عمل الحائك،كما ان النحلة تخجل الكثير من المهندسين في دقة بناء خلاياها،الا ان ما يميز اسوأ المهندسين عن اسوأ النحل،هو ان المهندس يتصور بناءه في خياله قبل ان يرفعه في عالم الواقع.وفي نهاية كل عملية عمل،نحصل على نتيجة سبق وان تمثلها خيال العامل في بداية العملية)(37).ان عملية العمل تتضمن انتاج الافكار التي تعكس الاشياء والعمليات التطورية التي يعالجها الناس في نشاطهم الانتاجي الاجتماعي،والنتائج التي يقصدون اليها والعلائق التي يدخلون فيها مع بعضهم البعض في عملية الانتاج.
ان هذا لا يعني بأن الناس وهبوا(بشكل معجز)(كما يعبر ديوي)وعيا يمثل شيئا ما (بحد ذاته).ان الوعي المفاهيمي ينشأ بصورة (طبيعية)من النشاط الاجتماعي لعضويات حية كالبشر مجهزين بأدمغة وايدي،ومتعاونين سوية في استعمال الادوات لانتاج وسائل معيشتهم.ومن استعمال الايدي في الانتاج الاجتماعي،طور دماغ الانسان ما سماه بافلوف(بنظام اللغة القائم على الاشارات)والذي يستطيع فيه الانسان بممارسة ليس فقط العلم بالاشياء وبعلائقها بواسطة الحواس،كسائر الحيوانات الاخرى،بل تطوير مفاهيم معينة عن الاشياء والعمليات التطورية(خواصها وعلائقها ببعضها)التي يعنى بها الانسان في مختلف نشاطاته العملية.وهنا يبدأ تطوير المفاهيم والتصوير المفاهيمي للعالم.ان البشر يبدأون في التفكير.وتفكيرهم لا يمثل بالمرة مجرد آلية لتطوير الاستجابات المتأخرة والاكثر ملائمة للدوافع الخاصة،بل هو يمثل نوعا من الوعي للعلائق المعقدة بين الانسان والعالم الخارجي – يمثل انعكاسا او اعادة تصوير او تمثيلا للعالم تقوم به الادمغة العاملة تحت ظروف الانتاج البشري الاجتماعي.ان الناس لا يخترعون الافكار بمجرد الاستجابة لسلسلة من الدوافع الخاصة الناشئة عن الظروف الخارجية.ان التفكير المفاهيمي له جذوره في العمل الاجتماعي،وان صياغة المفاهيم هي بدورها مشروطة ومحددة بمجموع العلائق الاجتماعية التي يدخل فيها البشر فيما بينهم في عملية الانتاج.وهكذا تتكون ليس بضعة مفاهيم منعزلة عن هذا الشئ او ذاك،بل طرائق للتفكير ونظم للافكار،اي آيديولوجيات تتفق مع المراحل المختلفة لتطور علائق الانتاج في المجتمع،والتي تمثل طرق انعكاس العالم المادي في تفكير البشر الذين يتصرفون بقوى انتاج معينة،والذين يدخلون فيما بينهم في علائق انتاج اجتماعية معينة.
ان قوانين انتاج وتطور الوعي الاجتماعي معقدة غاية التعقيد.الا ان كامل العملية المذكورة لها اساسها المادي المذكور،واذا نظرت كمجموع،من وجهة نظر الفرد المفكر،ومن وجهة نظر انتاج الافكار والآيديولوجيات فانها تتميز بالطابع الاساسي وهي كونها،(حسب عبارة اخرى يجدر بنا اعادتها هنا من ماركس): (العالم المادي منعكسا في الفكر البشري ومترجما في اشكال التفكير)(38).
وعليه فان نظرة ديوي(الطبيعية)،التي تبدأ تحت ستار المهاجمة(العلمية)للآراء المثالية عن التفكير،ما هي في الجوهر الا اعادة للنظرة المثالية التي تنكر ان الفكر يعكس العالم المادي الموجود بصورة مستقلة عن اي فكر كان.ان ديوي اذ يبدأ بانكار كون الفكر هو(شئ في ذاته)،ويعتبره(استجابة لدافع خاص)،يستمر في اعتبار الفكر(كشئ في ذاته)طالما انه يفكر ان افكار الانسان هي انعكاس للعالم الموضوعي ولظروف الحياة المادية الحقيقية للانسان.

4. المعرفة والحقيقة

يقول جون ديوي في الفصل الاول من كتابه(البحث عن اليقين)بأنه كان من الاخطاء الاساسية لنظريات المعرفة،فصل المعرفة البشرية عن التطبيق(العمل)البشري.ثم يواصل القول بأن العمل محفوف دائما بالخطر وعدم اليقين،ولكن البشر حاولوا البحث في المعرفة عن شئ يتعين بصورة مطلقة،غير محفوف بأي مجازفة من مجازفات الحياة العملية،ولهذا السبب فهم حاولوا ان يجدوا كموضوع للمعرفة بعض الاشياء الخالدة الثابتة.الا ان هذا بحث مبني على الوهم.ان الواجب هو بالاحرى قبول مخاطر الحياة العملية،والتقليل منها عن طريق المعرفة التي من شأنها ان تمنحنا سيطرة اكبر عليها بشكل فعال.(ان البحث عن اليقين يصبح بحثا عن اساليب السيطرة)(39).ان اليقين الذي تملكه المعرفة ليس يقينا(مطلقا)يتوهمه المثاليون،بل هو(يقين عملي)يجب اكتسابه بالاساليب التجريبية(بالبحث).
ان ديوي يدخل بحق في النظريات التي تفترض المعرفة(المطلقة)،ليس فقط النظريات العلوية(تراتسندنتالية)التي ترى اننا نملك اساليب غير تجريبية للمعرفة،بل ايضا نظريات اولئك الوضعيين(كبرتراند رسل)التي تفترض بأننا نملك معرفة تجريبية يقينية بصورة مطلقة،اي معرفة(مباشرة)للمعطيات الحسية(ما يسميه رسل: المعرفة بالتماس)(40).ويكتب ديوي معارضا هذه الآراء ما يلي: (ان كل قضية خاصة من قضايا المعرفة تتكون بنتيجة بعض الابحاث الخاصة.ان المعرفة هي اسم لنتائج البحوث الكفوءة.ان دخول الشئ في نطاق المعرفة يعني انه تقرر اعتباره تحت التصرف كمصدر لبحوث جديدة،ولا يعني انه منزه عن اخضاعه لاعادة النظر في البحوث الجديدة)(41).
المعرفة كقدرة مضمونة على التأكيد
يرى ديوي بأن اساليب البحث(الكفؤ)التي تنتج ما يمكن ان نضمه الى المعرفة،قد امكن اكتشافها ولا تزال تكتشف في مجرى التطور الاجتماعي.(نحن نعلم بأن بعض اساليب البحث هي خير من الاساليب الاخرى،بنفس الطريقة التي نعلم بها ان بعض اساليب الجراحة والفلاحة وفتح الطرق والملاحة..الخ هي خير من الاساليب الاخرى.انها الاساليب التي اثبتت التجربة حتى اليوم انها خيرة الاساليب المتوفرة لتحقيق بعض النتائج المطلوبة)(42).ان امكانية الثقة بمثل هذه الاساليب قد جربت على احسن ما يكون،وانها تنتج نتائج تعطي ضمانة عملية نعبر عنها باطلاق كلمة(المعرفة).ان هذا يعني حسب ديوي بأن اساليب(البحث الكفوء)قد نشأت على مجرد اساس(للتجربة والخطأ).فبتجربتنا لجميع الاساليب،نعثر على بعض الاساليب المفيدة لاغراضنا اكثر من الاخرى – اي التي تؤدي الى النتائج المرجوة – ولذلك فنحن نتخذها مؤقتا.انها مجرد تجارب ناجحة،وليست اساليب اتبعت لانها تستند الى اساس عقلي.وهكذا فان ديوي ينكر منذ البداية ان اساليب اكتساب المعرفة لها اي اساس عقلي،كأساليب تعكس الحقيقة الموضوعية في افكار الناس بصورة صحيحة.
ويقارن ديوي رأيه الخاص بالمعرفة(بالمذهب القائل بأن المعرفة هي تناول مشاهدة الحقيقة من دون عمل اي شئ لتغيير حالتها السابقة.ان المعرفة هي ليست عمل متفرج خارجي،بل عمل مشترك في داخل المسرح الطبيعي والاجتماعي)(43).اننا نملك المعرفة بقدر ما نملك الافكار – نتاج البحث – التي تعلمنا التجربة ان نثق بها بمعنى عملي.ان الخصيصة الاساسية للمعرفة حسب ديوي،هي ان تملك المعرفة يؤدي الى العمل الناجح.ان التفكير يمهد لنماذج من السلوك.انه ينتج المعرفة عندما يتبع بعض الاساليب المجربة جيدا،فيكتسب بذلك اقصى حد من امكانية الثقة العملية.ان هذه الامكانية للثقة العملية هي التي تكون في نظر ديوي الطابع الاساسي للمعرفة،وليس اي انطباق للافكار على الاشياء المنعكسة في الفكر.
وربما افترض المرء بأن امكانية الثقة العملية قد تكون نفسها نتيجة لانطباق الفكر على الحقيقة،تماما كما ان انطباق الفكر على الحقيقة يمكن ان يختبر في امكانية الثقة به في العمل.ان ديوي يعارض رأيه في امكانية الثقة العملية باعتبارها خصيصة المعرفة،بأي رأي آخر يذهب الى ان المعرفة هي انطباق لفكرنا على الحقيقة الموضوعية.انه يلح كل الالحاح على انه،كما ان المعرفة هي ليست (مشاهدة الحقيقة)من قبل (المتفرج)،فهي كذلك ليس لها اي موضوع يتمتع بحقيقة مستقلة عن فعل المعرفة نفسه.(ان الافتراض بأن موضوع المعرفة الحقيقي والصحيح يتمتع بكيان سابق على عمليات المعرفة ومستقل عنها)هو حسب رأي ديوي خطأ اساسي.(ان موضوع المعرفة الحقيقي يكمن في نتائج الفعل المباشر.ان الحقيقة السابقة النموذجية لا يمكن ان تكون نموذجا يجب ان تنطبق عليه نتائج البحث.ان مواد المعرفة توجد كنتائج للافعال المباشرة،وليس بسبب انطباق الفكر او الملاحظات على شئ ما،سابق الوجود)(44).
ان ديوي يلخص ما يعتبره الطابع الاساسي للمعرفة،في عبارة ان المعرفة انما هي(قابلية التأكيد المضمونة)(45).اي اننا انما نعرف الشئ عندما تكون لدينا ضمانة على تأكيده،اي على العمل عليه.وهذه الضمانة لا تتضمن كون الشئ موضوع المعرفة منطبقا على المواد التي نعالجها والتي يسميها ديوي(الحقيقة النموذجية)،بل تتضمن فقط انها نتاج لبحث يستخدم الاساليب الكفوءة،ولذلك فيمكن الثقة به للاغراض العملية.اما(موضوع المعرفة)او(ما نعرفه)فهو ليس الحقيقة المادية،بل بالاحرى(نتائج العمل المباشر).
وهكذا فأن معرفتنا حسب ديوي لا تكشف عن صورة تقترب اكثر فاكثر من الكمال والصحة للعالم المادي ومكاننا فيه،وللقوانين الموضوعية لحركة الطبيعة والمجتمع،بل هي بالاحرى تقدم جهازا يزداد كفاءة وتعقيدا،لقياس نتائج العمل.وبهذه الطريقة يتبع ديوي بيرس وجيمس في تعديل الوضعية التقليدية التي كانت تقول بأن النظريات والمعتقدات والمعرفة هي قواعد للتنبؤ بالاحساسات،بالقول بأنها بالاحرى(قواعد للعمل).
ان هذه النظرية للمعرفة(كقدرة مضمونة على التأكيد)،قد كلفت تلامذة ديوي جهدا كبيرا للعمل،في محاولاتهم تفسير المعنى المقصود من ذلك.الا ان الاسلوب المكشوف للطلب الى ديوي لتفسير نفسه بوضوح،لم يثبت جدواه في العمل،فليس هناك اي بحث من بحوثه واضحا وخاليا من الغموض،بل قد يبدو ان الغموض والابهام هو جزء من جوهر نظرية المعرفة لديوي بالذات.
الحقيقة كأتفاق بين "الخطة وتنفيذها"
وخلال ذلك،يمكن ان يلاحظ بأن تقدير ديوي للمعرفة مرتبط تمام الارتباط بآرائه عن الحقيقة- ذلك لأن من البداهة ان ما هو موضوع للمعرفة لابد ان يكون حقيقيا.وسأنتقل الآن الى ما يقوله ديوي حول هذا الموضوع المشترك.يقول ديوي في(المقالات في المنطق التجريبي)بأن الشخص العلمي يعتبر الحقيقة هي(ما يمكن قبوله بالدليل المناسب)(46).ويظهر انه يعتقد بأن هذا القول يجب ان يكون مقبولا لدى جميع رجال العلم،حتى من دون دليل اطلاقا.الا ان هذا الرأي قابل للمناقشة وان المسائل التي يطرحها من شأنها ان تساعد على الوصول لتثمين سليم لنظرة ديوي للمعرفة والحقيقة.
من الصحيح دون شك،ان الرجل العلمي سوف يقبل كشئ حقيقي(ما هو مقبول بالدليل المناسب).اما ما يفتقر الى البرهان،فانه سوف يكف عن اعطاء حكمه عليه.الا ان هذا يختلف عن القول بأن ما هو حقيقي،بأن الحقيقة بالنسبة للعلم لا تختلف عما هو مقبول بالبرهان المناسب.لاحظ مثلا جملة كالآتية: (هناك حياة على كوكب المريخ)،فبالنظر لعدم وجود دليل يؤيد او يفند هذه الجملة،سوف يكف الرجل العلمي بالتأكيد عن توريط نفسه بالقول ايجابا او سلبا بأن هذه الجملة صحيحة او خاطئة.ولكنه سوف يسمح لنفسه بالتأكيد على القول باحتمال صحة الجملة،باحتمال صحتها الآن،بالرغم من عدم وجود الدليل عليها.فاذا اوجد احد الفلكيين الدليل على صحة ذلك فسوف تدخل الجملة عندئذ في قائمة الآراء التي يعتبرها العلم حقيقية.الا ان قليلا من رجال العلم سوف يقولون بأن الآراء لم تكن حقيقية الا بعد دخولها القائمة المذكورة.
وهكذا يمكن ان يكون حقيقيا(ان هناك حياة في المريخ)،حتى ولو كنا لا نملك حتى الآن الدليل الكافي على هذه الحقيقة.ان العبارة تكون حقيقية اذا كان هناك فعلا حياة على المريخ،اي اذا كانت هذه(الحقيقة النموذجية)المريخ – حسب تعبير ديوي – قد ادت الى تكون عضويات حية فعلا،(قبل)اي بحث من قبلنا.ان الحقيقة شئ والدليل شئ آخر تماما.الا ان ديوي يرفض بثبات،ويمكن القول بالحاح،هذا التمييز.
ويضع ديوي المسألة بالشكل التالي عند الكلام على(الانطباق او الاتفاق)بين الجملة والواقعة،وهو الامر الذي يفترض ان يكون جوهر الحقيقة: (ان الانطباق او الاتفاق المذكور يشبه الانطباق او الاتفاق بين اختراع ما والشروط التي قصد الاختراع تلبيتها)(47).ان العلم هو كاشف وحسب.مثال ذلك ان الراديو اختراع يقصد به تيسير الاتصالات وهو يساعد فعلا على ذلك،اي يتفق مع الضرورة التي قصد ان يلبيها،وبنفس الطريقة يفترض ان تكون الآراء حول امواج الراديو مقصود منها مساعدتنا على انشاء اجهزة الراديو،ولهذا فيقول ديوي بأن حقيقة تلك الامواج تكمن في حقيقة كونها تساعدنا على القيام بذلك.يجب عدم القول انها تصف لنا عمليات فيزيائية موضوعية،يمكن ان نتعلم استعمالها لاغراض الاتصال.ان الآراء الصحيحة،ولو انها تقبل(بالدليل المناسب)،فهي مع ذلك(اختراعات)،اي انها اختراعات لفظية تكيف لتوجيه سلوكنا نحو اهداف معينة،وتكمن حقيقتها في حقيقة كونها تساعد على بلوغ الاهداف المذكورة.
ولأجل ان لا يحصل اي خطأ حول ذلك،يكرس ديوي فصلا كاملا لموضوع(ضبط الافكار بالحقيقة)(48).ان هذا الفصل يشير الى الحادثة التي سبق ان اشرت اليها سابقا حول ضياع شخص ما في الغابة.ومن حسن الحظ ان لهذا الشخص(فكرة ما عن طريقه الى الدار)،وبالعمل على هذه الفكرة ينجح فعلا الى الوصول الى الدار في آخر الفصل.ان فكرته عن الطريق الى الدار عبر الغابة،كما يقول ديوي،قد ضبطها الرجل بالحقائق.فهل يجب هنا القول،بأن الفكرة التي وضع الرجل بناء عليها خطته في الرجوع الى الدار كانت تتفق مع المحيط الحقيقي الموضوعي للغابة؟
يجيب ديوي بالسلب اطلاقا:لأن هذا معناه افتراض الغابة (كحقيقة نموذجية سابقة الوجود)،و(النموذج الذي يجب ان تتفق معه نتائج البحث).ان الاتفاق بين فكرة الرجل والواقع،لم تكن الا(الاتفاق بين خطة ما وتنفيذها).وبنفس الطريقة،يجب ان لا يعتبر المسافر في لندن او نيويورك او موسكو الذي يدرس خارطة نظام(المترو)للوصول الى وجهة معينة،يجب ان لا يعتبر الخارطة المذكورة متفقة مع اي انفاق(نموذجية)وموجودة(بصورة مسبقة)تحت اقدامه.انه يجب اعتبارها فقط كخطة للعمل،وجدها كثير من المواطنين نافعة،وسوف يجدها هو الآخر جديرة بالثقة والاطمئنان.
ومن الطبيعي ان الخارطة تخدم فعلا،ومقصود منها ان تخدم كخطة للعمل.الا ان النجاحات المستمرة في السفرات المصممة بصورة صحيحة على اساس مثل هذه الخارطة،مرجعها من دون شك طبيعة كونها تتفق – وكان مقصودا من رسمها ان تتفق – مع (حقيقة نموذجية سابقة الوجود)اعني المترو.وبملاحظة مثل هذه الامثلة،يبدو ان الرجال العلميين والعمليين الذين يتحدث عنهم جون ديوي،يتجولون في غابات،ويسافرون في قطارات ارضية تفتقر الى اي(حقيقة سابقة الوجود).انهم يختلفون عن الكائنات التي تحفل بها كتابات المثاليين الذاتيين الآخرين،فقط لأنهم يتجاوزون نطاق(الملاحظة)،ويستجيبون للدوافع،ويرسمون الخطط وينفذونها.انهم ينصرفون الى اعمالهم الدنيوية،الا ان العالم الذي يسكنونه،لا يقل مطاطية ووهما،عن عالم(المعطيات الحسية)او(التجربة الخالصة).فليس من الغريب اذن ان يكون تقدير ديوي لكلا المعرفة والحقيقة،قد جاء بالضرورة في غاية الاضطراب.
ان ديوي في كتابه(المنطق)يخطو بآرائه عن الحقيقة مرحلة اخرى،بانكاره صراحة ان (الآراء)يمكن ان يقال عنها انها صحيحة او خاطئة.ان الآراء كما يقول يجب اعتبارها مجرد(وسائل)،و(قد كانت الوسائل بذاتها ليست صحيحة او خاطئة،لا يكون الصواب او الخطأ صفة من صفات الآراء.ان الوسائل اما ان تكون فعالة او غير فعالة،ذات اهمية في الموضوع او عديمة الاهمية،تؤدي الى التوفير او التبذير..)(49).ويمكن الاستنتاج من ذلك،بانه ليس الرأي،بل تأكيده هو الذي يمكن وصفه بالحقيقة او الخطأ.انه حقيقة عندما يكون نتاجا لبحث كفوء،ويؤدي الى انجاز الاهداف التي وجه البحث اليها.
ان المغزى الحقيقي لهذا الرأي في الحقيقة،يمكن ادراكه بملاحظة مثل بسيط.خذ مثلا هذه الجملة: (ان المصير الظاهر للولايات المتحدة هو السيطرة على العالم).ومنذ ان اقترح هذا الرأي من قبل المؤرخ البراغماتي جون فيسك،فقد اكد الرأي المذكور في كثير من الاحيان.ان(المنطق)البراغماتي يعلن بأنه لا يمكن ان تثار هنا مسألة(حقيقة)هذا الرأي،بمعنى استناده او عدم استناده الى اي اساس في الحقيقة الموضوعية،اذ انه مجرد وسيلة فعالة او غير فعالة،ذات اهمية او عديمة الاهمية،للحصول على هدف مرغوب فيه – هو السيادة العالمية في هذا الافتراض.فهل ان(البحث الكفوء)- اي عملية تجربة الرأي في العمل – يدل على انه وسيلة فعالة للهدف المذكور؟نعم انه يدل على ذلك،لأن التأكيد المكرر للرأي المذكور،مصحوبا باجراءات اخرى(فعالة)و(ذات اهمية)،قد احدث بعض النتائج الايجابية في اماكن كثيرة.وعليه فان تأكيد هذا الرأي هو تأكيد حقيقي(صحيح).ان المنطق البراغماتي ونظرية الحقيقة البراغماتية يبرران مثل هذه التأكيدات،وهذا بالطبع هو الاساس الحقيقي للتأكيد،وللتأكيد المستمر،للمنطق ونظرية الحقيقة البراغماتيتين.

5. وجود العالم المادي

ان ديوي يتكلم عن عمليات التفكير والمعرفة،اثناء كلامه عن العمليات الطبيعية للانسان،كنوع معين من الكائنات الحية،سكن كوكب الارض.انه يتكلم كما لو كان الناس والارض ومجموع العالم المادي لها وجود حقيقي،وكما لو انه كان يعطي صورة تتصف بكل ما يستطيعه من موضوعية عن بعض الاشياء كما هي حادثة فعلا في الواقع.
او بكلمات اخرى،انه يتكلم كما لو ان اوصافه تنطبق تقريبا على ما هو حادث بالفعل بصورة مستقلة عن تفكيره عنه وبحثه فيه.ولكنه بعد لحظة يقول بأن نتائج البحوث – التي يجب ان تتضمن بحثه عن التفكير ايضا – لا تنطبق ولا يمكن ان تنطبق مع(الواقع السابق الوجود)،بل ان (الاشياء موضوع المعرفة)انما(توجد)كنتائج للعمليات المباشرة.
واذا ما قال الانسان بأن ما اعتقده هو صحيح تماما،وان التفكير والمعرفة من شأنها ان تسمح لافكارنا بأن تعكس الحقيقة الموضوعية،ولبحوثنا بأن تنتج المعرفة،التي هي معرفة بالحقيقة الموضوعية.الا ان ديوي لا يقدم لنا مثل هذه الصورة المادية،والنتيجة هي المثالية الذاتية – الا انها مثالية ذاتية موضوعة بأقصى ما يمكن من الغموض في الصياغة.
ان هذا الغموض هو بدرجة يترك قراء مؤلفات ديوي الكثيرة جدا في حالة اضطراب تام حول ما اذا كان ديوي يفترض وجود او عدم وجود العالم المادي الذي نسكنه.ففي عبارة معينة يتكلم ديوي كما لو كان العالم المذكور موجودا،ولكنه عندئذ يواصل وصف الموجود المذكور ومعرفتنا به بسيل من الجمل لا يمكن ان تؤدي الا الى نتيجة واحدة واضحة،هي ان العالم في نظره غير موجود اطلاقا.انه يتكلم في(المقالات في المنطق التجريبي)عن العالم(كمشكلة منطقية)(50).ثم يواصل القول: (ان ما هو مشكوك فيه هو ليس وجود العالم،بل صحة بعض الاعتقادات التقليدية الاستنتاجية حول الاشياء في العالم.ان الشك لا يحوم حول عالم الحس السليم،بل حول الحس السليم،المنطوي على جملة معقدة من الاعتقادات حول بعض الاشياء في العالم.وعليه فاننا لا نثير الشك حول وجود العالم في اي اجراء من اجراءات بحوثنا الحالية،ولا يمكننا ان نفعل ذلك من دون وقوعنا في التناقض الذاتي.اننا نشك في بعض اجزاء – المعرفة – التي تلقيناها حول بعض الاشياء الخاصة في العالم،وعندئذ ننصرف لتصحيحها بأحسن ما يمكننا)(51).
وحسب هذا الاقتباس،ان العالم موجود ولا مجال للشك فيه.ولكنه حالما يصل الامر الى الكلام عن(صحة بعض الاعتقادات التقليدية الاستنتاجية حول الاشياء في العالم)فهناك قصة اخرى.ويواصل ديوي وصف(اعتقادات الحس السليم حول بعض الاشياء)في العالم،بالشكل الذي لا يكتفي فيه بوضع(عالم الحس السليم)موضع الشك،بل يتجاوز ذلك الى انكاره بصورة جازمة.
تحديد اللامحدود
ان النقطة الاولى التي يجب ملاحظتها عما يقوله ديوي حول وجود العالم المادي،هي ان العالم حسب رأيه،عالم(غير محدود).ومهما يكن نوع وجود العالم فهو وجود(غير محدود).ان ارجاع وجود الاشياء الحقيقية الى حالة من عدم التحديد الذي لا شكل له،يرتبط برأي ديوي من ان(مواد المعرفة)(منشأة)بطريقة ما،بعمليات المعرفة.ان ديوي يتكلم في عدة عبارات في كتابه(المنطق)كما لو كان هذا(الانشاء)لمواد المعرفة،عملية صياغة بعض المواد الغامضة الموجودة سابقا في اشياء جديدة،وبصورة اكثر تحديدا،كما لو كان الامر يتعلق بتحويل شئ ما كان سابقا عديم الشكل وغير محدد،الى شئ جديد محدد.ان الاشياء وخصائصها تصبح داخلة في المعرفة،حسب رأي ديوي،بنتيجة ممارسة طريقة(البحث).وهو يقول عن هذه الطريقة في البحث ما يلي: (ان البحث يمارس تحويلا وجوديا واعادة بناء المواد التي يعالجها،ان نتيجة هذا التحويل..هي التحول من موقف صعب غير محدود الى موقف محلول ومحدود).ثم يقول بعده: (ان الحكم هو التحول من موقف سابق غير محدد وجوديا او غير محلول،الى موقف محدد)(52).
انه يلح على(ان البحث يمارس تحويلا وجوديا).انني اعتقد ان هناك معنى واضحا تكون فيه العبارة المذكورة صحيحة بالنسبة مثلا لتلك الآراء التي ينقدها ديوي،والتي ترى بأن اكتساب المعرفة يكمن في مجرد(المشاهدة السلبية).
ان(التحويل الوجودي)يجري اولا في البحث،بقدر ما يحدث تحول في العلائق القائمة بيننا وبين الاشياء الخارجية.فعندما نصل لاكتساب المعرفة بشئ ما،يتحول ذلك الشئ الذي كان مجهولا لدينا الى شئ معلوم.ان طبيعته وخصائصه التي كانت سابقا غير محددة ومشكلة بقدر ما يتصل الامر بنا،حددت الآن من قبلنا،وبهذه الطريقة،كما عبر عن ذلك انجلز في احدى المرات،يتحول(الشئ بذاته)الى(شئ لنا).
وثانيا يتضمن التحويل المذكور فعل شئ بموضوع البحث.مثال ذلك خذ بحثنا في عناصر الماء،الذي ينطوي على فصل عنصريه المكونين: الاوكسجين والهايدروجين.وبهذه الطريقة نكون قد غيرنا الماء وقمنا بتحطيمه في الواقع،وبقى لدينا بدله الاوكسجين والهايدروجين.خذ مثلا آخر: البحث في النجوم بواسطة الادوات الفلكية.ففي هذه الحالة نحن لا نقوم بتغيير النجوم،ولكننا نقوم فعلا بعدة عمليات على الضوء المنبعث منها.
وفي جميع هذه الاحوال وما يماثلها،يجري هناك(تحول وجودي)بالفعل،وهذا التحول هو ذو طابع يمكننا من احداث بعض النتائج التي تجعل ما كان سابقا غير محدد بالنسبة لنا،شيئا محددا.مثال ذلك لقد حددنا ان الماء مكون من الاوكسجين والهايدروجين او ان كوكبا معينا هو ذو حجم كذا وبعد كذا..الخ.
وعليه فان(التحول الوجودي)الذي ينطوي عليه البحث يتضمن الخصائص التالية:
1. نحن نقوم ببعض الاشياء بموضوعات البحث،ونحدث فيها بعض التغيرات وبعض النتائج.
2. وبنتيجة ذلك،تقوم بعض العلاقة الجديدة بيننا وبين الاشياء الخارجية،نزيد بواسطتها معرفتنا بها.ان الفكرة غير المحددة تتحول الى فكرة اكثر تحديدا،وعلى طول ذلك يتحول عجزنا وترددنا بالنسبة لبعض الاشياء،الى مزيد من الثقة ومعرفة ما العمل وما هو المتوقع.
ومع ذلك فان ديوي يكتب كما لو كنا،عندما تحدث بعض النتائج باعمالنا خلال عملية البحث،نخلق شيئا او موضوعا للمعرفة ذا صفات محددة،لم يكن موجودا في السابق.انه يكتب كما لو كنا عندما نفصل الماء الى اوكسجين وهايدروجين،نخلق وضعا يكون فيه الماء مكونا من الاوكسجين والهايدروجين،بينما لم يكن في السابق الا ماء غير محدد بالنسبة لتركيبه.الا ان الماء كان دائما مركبا من الاوكسجين والهايدروجين.ان ما خلقناه هو بالاحرى الموقف الذي مكننا نحن من القيام بعملية فصل عنصريه،والوصول الى معرفة ماهية تركيب الماء.
وهكذا فان ديوي يخلط مسألة تحويل العلاقة بيننا وبين الشئ الذي يجري خلال قيامنا بعمل ما على الشئ المذكور،والذي ينتهي بتحديد فكرتنا عنه معبرا عنها بمقاييس نتائج عملياتنا فيه،وبين مسألة خلق نوع جديد من الشئ،خلق(موضوع للمعرفة).ان التحول الى شئ معلوم يتضمن،كما يبدو في تفكير ديوي،خلق شئ جديد.ان التحديد الذي نقوم به بالنسبة لخصائص الشئ،يتضمن في رأيه خلق شئ جديد بالتحديدات المذكورة،وهذه التحديدات لم تكن موجودة سابقا على الاطلاق في الموقف(السابق)الذي كان(غير محدد وجوديا).
وهكذا فعندما يتكلم ديوي عن(وجود العالم)الذي يقول عنه انه لا يحوم حوله الشك،انما هو يشير الى مجرد عالم(غير محدود)تماما.ان التحديد والتمييز والتركيب،انما ندخلها نحن بانفسنا في العالم.والواقع اننا نواجه هنا شيئا مشابها لصورة جديدة من مثالية كانت.
الوجود الخام
ان العالم غير المحدد اذن،يتحدد حسب رأي ديوي من قبلنا في عملية البحث،عندما نخلق مواد المعرفة المحددة.ويضيف الى ذلك ان ما نبدأ به،قبل ان يخلق البحث مواد المعرفة،هو مجرد(وجود خام).انه يكتب: (بأن بعض الكيانات الخام،التي يغيرها او ينتزعها التفكير،الا انها غير متكونة بأي شكل كان من الفكر او اية عملية ذهنية،تثير عدة مشاكل للتأمل،وبهذا تضع امام الاختبار نتائجها التي كانت تبقى تأملية لو لم توضع تحت الاختبار).ثم يواصل ديوي كلامه: (في الواقع يجب الالحاح على ان هذه الكيانات الخام،لا تشبه من جهة المحتوى الموضوعي للمواقف التكنولوجية او الفنية او الاجتماعية التي يمد الفكر جذوره فيها،ولا تشبه من جهة اخرى الاشياء التي يجب معرفتها،اي مواد المعرفة)(53).
ان ما يلح عليه ديوي حول هذه(الكيانات الخام)،هو انها بينما تكون نقطة الابتداء في المعرفة،الا انها ليست مواد للمعرفة،لأن مواد المعرفة تخلق اثناء البحث.ثم يواصل بأن هذه(الكيانات الخام)،يمكن مقارنتها(بالحديد الخام)الذي يطرق لصنع بضاعة مصنوعة.انها مجرد(وسائل)لصنع البضاعة الجاهزة النافعة – مادة المعرفة.والاهم من ذلك،هو انها تملك وجودها فقط(في بعض الكيانات الخاصة في الموقف الذي ينشأ وتعمل فيه).انها،كالمعادن الخام(تستخرج)لاستعمالها من قبلنا لبعض الاغراض المعينة،الا انها تختلف عن الخامات،في انها لا تظهر للوجود الا اثناء عملية الاستخراج او الاستعمال(54).
ان ديوي يميز هنا في هذا الكلام المبهم عن(الكيانات الخام)بين مادة المعرفة الجاهزة ونصف الجاهزة،اي التي تنشأ وتخلق من قبلنا في عملية البحث – وبين نقطة الابتداء الخام او الفجة للمعرفة،التي مهما كانت فانها ليست مادة محددة للمعرفة.
ان ديوي واتباعه يودون اعتبار هذا كنظرية(تطورية)للمعرفة.لقد قال ديوي بأن هناك(استمرارية في التطور)من(البيولوجي)الى(المنطقي).وهذه التغيرات(التي تنتهي بمواد التجربة البشرية،تكون تاريخا او مجموعة من التغيرات المتميزة بالتطور او النمو)(55).ولكن ما هو هذا (التاريخ)(للتطور)؟انه حسب رأي ديوي العملية التي ننطلق بها – ابتداء من استخراج المادة الفجة او الخام التي هي مجرد (وسيلة) او (اداة)للمعرفة – لانشاء مواد المعرفة بشكل او بآخر.
ومهما يحاول ديوي تزيين هذه النظرية(التطورية)بعبارات مختلفة حول التفاعل بين العضوية والمحيط،وحول التطور من البيولوجي الى المنطقي،فأنها باقية مجرد شكل من اشكال المثالية الذاتية.لقد كتب بيركلي: (ان جميع جوقات السماء واثاث الارض،او بعبارة اخرى ان جميع الاجسام التي تكون الاطار الجبار للعالم،ليس لها اي وجود بدون العقل).ويتفق معه ديوي قائلا: (ان وجودها يكمن في ادراكها او معرفتها).انه يقول بأن مواد التجربة البشرية توجد فقط كنهاية لعملية تطور ونمو،تنشأ خلال مجراها من مواد خام فجة.ان ديوي يعطي مثالية بيركلي الذاتية لونا كانتيا نموذجيا.ان مواد المعرفة ليست مجرد معطيات حسية فجة،تستخرج وتكتسب فقط كأدوات للمعرفة.وانطلاقا من هذه(الكيانات الخام)تنشأ مواد المعرفة في مجرى عملية التطور والنمو،وتنتهي في(مواد التجربة البشرية).انه يزعم بأن(الموقف الذي اتخذه في المقالات موقف واقعي بصراحة)استنادا الى رأيه في ان(بعض الكيانات الخام)تكون نقطة الابتداء في كل بحث.
الا ان هذا الزعم يجب ان لا يخدع احدا.واذا كان يقصد (بالواقعية)الاعتراف بالوجود الموضوعي للعالم المادي الحقيقي،مستقلا عن كونه دخل نطاق المعرفة(ومثل هذه الواقعية هي عنصر لا غنى عنه في الموقف المادي وهي خطوة في طريق المادية)كان ما يقوله ديوي ليس(واقعيا)بالتأكيد.انه يقول بأن المعرفة تأخذ نقطة انطلاقها من بعض (الكيانات الخام)التي(تستخلص)في عملية المعرفة،ولا توجد الا(كوسيلة)في تلك العملية،وان المعرفة تنتج في صياغة مواد المعرفة من مواد تلك الكيانات الخام،بحيث لا توجد مواد المعرفة تلك(بصورة مستقلة)بل هي تخلق في عملية المعرفة.ان هذا(الموقف)ليس واقعيا.انه مجرد مثالية صرفة خالصة،مهما تبرقع بالاصطلاحات البراغماتية او البيولوجية او السلوكية.
ان نظرية ديوي التطورية هي مجرد مشروع خيلي مثالي لتطور الوعي،منفصل عن قاعدته المادية.لقد بحث ماركس وانجلز عن التطور الحقيقي للوعي والمعرفة كما يلي: (ان الافتراضات التي نبتدئ منها..هي افتراضات حقيقية،لا يمكن ان تجرد عن محيطها الا في الخيال.انهم الافراد الحقيقيون،بنشاطهم وظروفهم المادية التي يعيشون في كنفها،سواء اكانت الظروف التي يجدونها موجودة قبلهم،او الظروف التي يخلقونها هم بنشاطهم الخاص)(56).
ان ما يفعله ديوي بالضبط هو تجريد(الافتراضات الحقيقية)في الخيال.فبدل الافراد الحقيقييين بنشاطهم وظروفهم المادية التي يعيشونها،نجد امامنا مجرد(كيانات خام)،وتحولها الى (مواد للمعرفة).ان الكيانات الخام يفترض انها(مستخرجة)،بينما يفترض ان مواد المعرفة(مصنوعة).ان مجموع هذه الصورة المجردة لعملية التجريد والصنع المثالية المزعومة،ترجع العالم المادي الحقيقي الذي تعود اليه جميع النشاطات في الواقع،وتشير اليه جميع المعرفة،الى مجرد حالة من(عدم التحديد الوجودي).
ان ديوي يفصل تطور الوعي عن افتراضاته المادية الحقيقية،كما انه يفصل ايضا بين فكرتنا عن الشئ باعتبارها تعبر عن معرفتنا المكتسبة له،وبين الشئ المادي الحقيقي الموجود خارج العقل والتي تمثل فكرتنا عنه انعكاسا جزئيا وغير كامل.
اننا نقوم بانفسنا بانشاء فكرتنا عن الشئ،الا اننا ننشئها كصورة للشئ الموجود مستقلا عنا.ان جميع ما يتضمنه وينطوي عليه وجود الاشياء المادية،يتجاوز في جميع مراحل تطور المعرفة ما استطعنا معرفته عنها،والتعبير عنه في افكارنا.ان موضوع المعرفة الحقيقية احفل بما لا يحد مما نستطيع استيعابه في معرفتنا.اما بالنسبة لديوي،فانه يضيق على نطاق المعرفة،انه يرى ان الموضوع الحقيقي للمعرفة،الموجود بصورة مستقلة عن معرفتنا به،لا يمثل اي شئ،انه مجرد حالة من عدم التحديد،وكل ما يعترف به هو عملية انشاء فكرتنا عن الموضوع.انه يعترف باننا نستطيع باستمرار،مواصلة اضافة مزيد من التحديد لفكرتنا عن الشئ،الا انه لا يعترف بأن هذه التحديدات لا تكون المعرفة الا بقدر ماهي تعكس الخصائص الحقيقية وغير القابلة للاستنفاد للشئ الحقيقي الموجود بصورة مستقلة عن فكرتنا عنه.
لقد كتب لينين: (بأن الطبيعة لا نهائية،الا انها توجد ايضا بصورة لانهائية.وهذا الاعتراف،الوحيد،القاطع،وغير المشروط،بوجود الطبيعة خارج فكر الانسان ومداركه،هو الذي يميز المادية الديالكتيكية عن اللاارادية النسبية وعن المثالية)(57).على ان عدم الاعتراف بوجود الطبيعة،هو الذي يكون جوهر فلسفة ديوي والبراغماتية بوجه عام،كنظام فلسفي مثالي.
عدم امكان معرفة العالم الحقيقي
اما فيما يخص (الكيانات الخام)التي يقول عنها ديوي،بانها(تطرح مختلف المشاكل للتأمل،وبالتالي تخدم اختبار نتائجها،التي كانت تبقى مثالية من دون الاختبار المذكور)،والتي تكون المادة الخام التي تصنع منها(مواد المعرفة)فانه لا يقول ولا يستطيع ان يقول اي شئ عن المنجم الخفي الذي(تستخرج)منه الخامة المذكورة لاستعمالها(كأداة)للمعرفة.انه يعقد – كسائر المثاليين الآخرين في هذا الصدد – جميع مواد المعرفة وجميع (مواد التجربة البشرية)كانشاءات من صنع العقل.اما العالم الحقيقي فيبقى مجهولا لديه وغير قابل للمعرفة اطلاقا.انه ينطبع في ادراكنا فقط(كوجود خام)نصوغ منه المواد التي نبتدعها نحن ابتداعا.اما وراء مادة المعرفة المصنوعة والمادة الخام المستخرجة لصنعها،فيمتد الشئ ذاته،المجهول والغير قابل للمعرفة،وقد قال ديوي بأن(الكيانات الخام)التي تكون نقطة الابتداء لكل بحث،ومحكه بنفس الوقت،(لا تنطبق مع المحتوى الموضوعي للموقف الذي تنشأ فيه عملية التفكير او البحث بل انها مجرد اشياء نستخرجها نحن من الموقف المذكور لاغراضنا الخاصة).
وهكذا فان ديوي يقول باننا نجد انفسنا في موقف معين(تكنولوجي او فني او اجتماعي)،له مضمونه الموضوعي الخاص،واننا نستخرج منه(بعض الكيانات الخام)التي تخدم كادوات لنا لانشاء(مواد المعرفة)واننا بانشاء مواد المعرفة المذكورة من الكيانات الخام،نقوم في الواقع بتغيير الموقف الاصلي،وان مواد المعرفة المذكورة تخدم كوسائل لزيادة تغييره بطريقة منظمة وطبقا لرغباتنا.وهو يسمي جميع ذلك(بموقف واقعي امين).
الا اننا لو تأملنا الامر مليا،وتساءلنا ما هو(المضمون الموضوعي)لاي موقف ينشأ فيه التفكير،ولو بدأنا البحث في هذا الاتجاه لغرض اكتشاف المضمون الموضوعي للموقف المذكور،لوجب علينا طبعا ان نحدد طريقة البحث اللازمة لتقرير المضمون الموضوعي المطلوب.وعندما نكون قد حددنا المضمون المذكور،اصبح(موضوعا للمعرفة)،واصبح بالنسبة لديوي لا يمثل اي شئ(له وجود سابق)بل مجرد شئ انشئ في مجرى عملية البحث.وعليه فان الكلام بالنسبة اليه عن المضمون الموضوعي للموقف الذي ينشأ فيه التفكير والذي تستخرج منه الكيانات الخام التي تطرح المشاكل للتأمل،هو مجرد عبارة فارغة.ان هذا المضمون الموضوعي،كما يرى ديوي،هو مجهول وغير قابل للمعرفة،وقد تستطيع ان تستخرج منه الكيانات الخام وتقيم منها اي عدد من مواد المعرفة،الا ان الموقف الموضوعي(السابق)الذي استخرجت منه الكيانات الخام،والذي نشأت عنه عملية البحث،يبقى غير قابل للمعرفة ولا يمكن التعبير عنه.
ان آراء ديوي عن وجود العالم المادي هي نسيج من الآراء المثالية المتناقضة من البداية الى النهاية.انه يقول: (اننا لا نلقي الشك على العالم اطلاقا)،الا انه يذهب مباشرة بعد ذلك الى تفسير كل مادة للمعرفة باعتبارها مجرد نتاج لنشاطنا الفكري حول الشئ موضوع المعرفة.انه يتكلم عن التفكير والمعرفة كعملية من عمليات الطبيعة،ولكنه يعود فيفسر هذه العملية الطبيعية باعتبارها مجرد عملية صنع واعية لمواد الطبيعة نفسها.
وبقدر ما يسمح ديوي بوجود الاشياء مستقلة عن كونها مواد للفكر،يعمل لاعتبارها غير قابلة للمعرفة،او كمجرد مادة غير محددة تنتظر التحديد،وكل شئ معروف هو في نظره مجرد مادة من انشائنا وتحديدات المعرفة هي من صنع العقل البشري.ان هذه الانشاءات او الصناعات – كما يقول – انما صنعت لغرض التطبيق فقط،اي كأدوات لاغناء الحياة البشرية والسيطرة على المحيط وعلى العالم الخارجي،ولكنه ينكر كون محك العمل والتطبيق انما يختبر الانطباق بين افكارنا وبين الحقيقة الموضوعية.
وفي جميع هذا التفلسف،ليست هناك فكرة واحدة واضحة ولا عبارة واحدة تحمل معنى خاليا من الغموض والابهام.ذلك لان فلسفة ديوي هي فلسفة من فلسفات المثالية الذاتية،التي ترى ان العالم الذي نعرفه هو من نتاج عقولنا،وليس له وجود موضوعي مستقل عن كونه محلا للادراك والتفكير.وهذه هي فلسفة النسبية المثالية او اللاعقلية،التي ترى بانه بينما هناك عملية لصياغة الافكار واعادة صياغتها باستمرار حسب الظروف والمستلزمات العملية المتغيرة،فان الافكار المذكورة لا تعكس الحقيقة الموضوعية،وليس هناك محك لاختبار انطباقها على الحقيقة الموضوعية.


6. مشروع العلم

يبقى علينا ان نذكر باختصار ما يقوله ديوي في موضوع العلم،ثم نلخص بعد ذلك الاستنتاجات العامة حول فلسفته كمجموع.انه يعتبر العلم(كفن عملي).انه حينما يقول عنه انه(محاولة،مشروع..(58)،فانه يصفه بكونه(صناعة تخصصية عالية)..وانه تطبيق على درجة من التخصص بحيث انه لا يبدو اسلوبا للعمل والتطبيق بالمرة)(59)وهو يلح على ان العلم لا تنحصر مهمته في العناية بصياغة التعميمات،واننا لا نستطيع فصل العلم(الخالص)عن العلم(التطبيقي)اي العلم المعني بالتعميمات،عن العلم كما هو مطبق في الاغراض العملية الخاصة(60).ان(القوانين)التي يصوغها العلم والتي(يفترض انها تحكم الظواهر)المختلفة،ما هي في الواقع الا(طريقة عقد صفقات فعالة مع الموجودات الحسية،وطريقة تنظيم علائقنا معها)(61).
واذا عارضنا هذا الرأي عن العلم بالرأي الوضعي القديم من ان العلم انما يعني بالتنبؤ بنظام ترتيب المعطيات الحسية،او ان العلم انما يعني بالتعميمات القائمة على الموضوعات المقبولة تقليديا،فقد يبدو لاول وهلة بان هناك كثيرا من الحق في رأي ديوي.فمن الحق بكل تأكيد ان العلم ليس مجرد(نظرية خالصة)وانه يستند الى التكنيك(العالي في التخصص)وانه يصبح(طريقة تنظيم)معاملاتنا(بالموجودات الحسية).الا انه مع ذلك،فان هذه الحقيقة انما تعبر عن وجهة نظر خاصة جدا.ان تسمية العلم بكونه(مشروعا)او(صناعة عالية التخصص)او(طريقة لعقد الصفقات الفعالة)هو كلام في العلم يعبر بكل وضوح عن وجهة نظر رجل الاعمال(العملي)الحديث.ووجهة النظر هذه تضفي على ما يقوله ديوي في العلم طابعا مميزا يؤدي به الى الزوغان والانحراف.
ان ديوي بتأكيده على ان العلم هو(اسلوب العمل)،يستمر في اعتبار النتائج العلمية مجرد دلالات على(الاعمال الواجب انجازها)لتحقيق اهداف خاصة واستجابة لقضايا خاصة مطروحة – وليس باعتبارها تكون اية معرفة علمية(بالموجودات الحسية)الموضوعية.ان القوانين العلمية في نظر ديوي،لا(تحكم الظواهر الا على سبيل الافتراض): انها في الواقع(طريقة لعقد الصفقات بصورة فعالة).ان ديوي يسلم باستمرار،كسائر الوضعيين الآخرين الذين يحاولون معارضة آرائهم بآرائه الخاصة،على ان العلم لا يقدم اية معرفة عن العالم الموضوعي(الذي له وجود سابق ومستقل عن عمليات المعرفة).
ان هذا ظاهر مثلا من العبارات الآتية – على غموضها واضطرابها – التي يتحدث فيها عن السببية وقوانينها.ان(مقولة السببية)كما يقول(ليست مجرد افتراض منطقي كيفي)،انها ليست تعسفية،لانها انما تطورت واحتيجت لاغراض عملية محددة.الا ان(المقولة المذكورة هي مقولة منطقية وليست وجودية).(ان مقولة السببية تضفي على الموضوع،الشكل المنطقي،عندما تثور مشاكل معينة محددة حول المادة موضوعة البحث)(62).ومعنى ذلك اننا نحن الذين ندخل(المقولة المنطقية)للسببية في(المادة الوجودية موضوعة البحث).نحن الذين ندخلها دون ان نكتشفها في(موضوع البحث الوجودي)بالذات ذلك لان الطبيعة لا تتفق(داخليا)مع قوانين السببية.ان الدهشة من سبب انطباقها على القوانين المذكورة لا تختلف عن الدهشة من وجود الانهار بجانب المدن:اننا نجد المدن على الانهار لاننا نحن الذين نبنيها هناك،وكذلك فنحن نجد نتائج بحوثنا العلمية معبرا عنها بالقوانين السببية،لان تلك هي الطريقة التي نعبر بها عن نتائج ابحاثنا.ان القوانين السببية هي(ذات طابع مفاهيمي بطبيعتها)(63).
ان مفهوم ديوي عن العلم،بصورة عامة،يتلخص في ان هناك صفقات للتعاقد،وان هناك مشروعا للقيام بها وذلك لاكتشاف احسن السبل لعقد الصفقات المذكورة.ان ديوي يلح على معالجة تطور العلم،كما لو كان منطويا على سلسلة من الابحاث،يستجيب كل منها لاحد دوافع مشاكل خاصة معينة،ويؤدي الى نتائج عملية،في الطريق لايجاد حل للمشاكل المذكورة.
ومع ذلك،فبينما يكون من الصحيح ان مجموع تطور العلم تحدده المشاكل العملية،فليس من الصحيح ان العلم تطور او يستطيع ان يتطور بمجرد تعاقب الحلول للمشاكل العملية الخاصة.ان العلم هو تطور معرفة الارتباطات المتقابلة وقوانين حركة الحقيقة الخارجية.ان مشروع العلم ليس مجرد مشروع لاكتشاف كيفية(عقد الصفقات بصورة فعالة)بصدد سلسلة من المواقف تدعو لاستجابة من نوع تجاري،بل هو مشروع لتوسيع وتوحيد معرفتنا بالعالم المحيط بنا.ان تحديدات مفاهيم ديوي عن العلم تظهر بشكل صارخ بمعارضة مفهومه بالمفهوم الذي طورته المادية الديالكتيكية عن العلم والذي يقود التطوير المبرمج للعلم في الاتحاد السوفياتي.مثال ذلك انه بالنسبة لخطة الخمس سنوات 1946 – 1950 لاكاديمية العلوم في الاتحاد السوفياتي،كتب س.أ.بافلوف مايلي:
(ان العلم الذي ينشأ من حاجات العمل والتطبيق والذي يبرر وجوده بالاكتشافات التي يمكن ان تجد تطبيقها بالعمل،له بنفس الوقت منطقه الخاص للتطور.وقد تمر احيانا عشرات السنين قبل امكان القيام بتثمين صحيح لنظرية علمية معينة،وقبل امكان تحقيقها في التطبيقات العملية.مثال ذلك ان نظرية ماكسويل عن الامواج الكهربائية المغناطيسية،بالرغم من انها صيغت في ستينيات القرن الماضي،الا ان جهاز الراديو لم يوجد الا في نهاية القرن المذكور.وكذلك فان فكرة النواة الذرية كان قد تقدم بها نيوتن،الا ان الانفلاق الذري لم يكتشف من قبل بيكريل الا منذ خمسين عاما فقط.اما كامل اهمية الطاقة الذرية فلم نبدأ بادراكها الا في هذه السنوات.ان هذا يفسر لماذا كانت خطتنا تتحدد بمقتضيات تطور العلم النظري،بمقدار تحددها بالمشاكل العملية التي تطرحها الدولة السوفياتية.ان عمل الاكاديمية لا يمكن فصله عن التطبيق،وانه ليمد جذوره في التطبيق،الا انه بنفس الوقت يطمح الى نتائج ابعد مدى بكثير من تطبيق يومنا هذا)(64).
اما مفهوم ديوي للعلم من الجهة الاخرى،فهو ببساطة ان هناك اعمالا للمباشرة ومشروعا علميا لاظهار كيفية مباشرتها.انه يقول،بانه نتيجة للعمل العلمي(يمكن الابقاء على الثمار،وهذه الثمار هي ثمار تقدم العلم)(65).
ان العلم هو مشروع فكري للقيام ببضعة اعمال وللحصول على بضعة نتائج معينة ولاختطاف بضعة(ثمار)محدودة.ان تقدمه يكمن في سلسلة من الصفقات الناجمة،وما تقدم المعرفة الا نجاح الصفقات المذكورة.ان مصدر هذا المفهوم المتناهي في الضيق،ليس بعيدا عن الادراك.
ان مفهوم ديوي للعلم يعكس الوضع الحالي الحقيقي للبحث العلمي في الولايات المتحدة،حيث تقوده في الوقت الحاضر لحد كبير معاهد البحث(بما في ذلك الجامعات)التي تسيطر عليها الشركات الصناعية الضخمة،وفي المدة الاخيرة السلطات العسكرية،التي تفرض عليه مهمات معينة لادائها ونتائج معينة لتحقيقها.واحسن مثال على هذا الشكل من المشروع العلمي هو مشروع القنبلة الذرية.الا ان جميع العلم في الولايات المتحدة وفي انكلترة ايضا يميل بصورة متزايدة للقولبة في هذا القالب.
ان الاحتكارات التي تمول وتسيطر على الجزء الاكبر من العلم مباشرة او بواسطة الدولة،ليس لها مصلحة في تعميق وتوسيع نطاق المعرفة بالطبيعة،مما يؤدي الى تمكين البشرية من السيطرة عليها واغناء الحياة البشرية.انها تهتم فقط بما يمكن ان تجنيه هي من العلم بشكل ارباحها الحدية الخاصة من القنابل الضخمة والغازات السامة والبكتيريا الفتاكة،بالدفاع عن توسيع امبراطوريتها الخاصة،وما تعود بها عليها هذه الاعمال التدميرية.ولهذا كانت حصيلة العلم من خضوعه الى هذه المصالح الاحتكارية هي مسخه وعسكرته،وشل البحث العلمي المفيد،وتغليب السرية عليه،وخدمة مصالح الامن،واخضاع العلماء للضغط العسكري،وتقويض حريتهم الفكرية والعملية.وهذا النوع من التنظيم العلمي هو الذي نراه منعكسا في نظرة ديوي للعلم باعتباره فنا عمليا،لا تكمن(ثماره)في معرفة الحقيقة الموضوعية،بل في الاكتشاف الناجح لطرق عقد الصفقات التجارية.

7. "مثالية العمل"وفلسفة الامبريالية الامريكية

يسمي ديوي البراغماتية(مثالية العمل).ان البراغماتية في نظره تؤدي الى(مثالية للعمل مكرسة لخلق المستقبل بدل الجمود على الآراء المتعلقة بالماضي)،ويضيف الى ذلك بأن هذه المثالية(لا تقهر)(66).كذلك ينبؤنا بأن(مثاليته حقيقية واكثر انسجاما مع العلم،لانها تنبثق حالما تسلم الفلسفة برأي العلم في ان الافكار هي بيانات ليس عن الحاضر او الماضي،بل عن الاعمال واجبة الانجاز في المستقبل.لان الانسانية سوف تتعلم بأن الافكار لا قيمة لها الا اذا تحولت الى اعمال من شأنها ان تعيد ترتيب وانشاء العالم الذي نعيش فيه،بشكل ما،ومهما يكن ذلك ضئيلا)(67).
وهكذا فأن ديوي يعلن بأن البراغماتية هي(مثالية للعمل)تعتبر نفسها(لا تقهر)،وانها تنصرف(لاعادة ترتيب وانشاء العالم)و(لخلق المستقبل)،من دون عناء البحث عن اية معرفة صحيحة(للحاضر او الماضي)،مع انكار(الجمود على الافكار المتعلقة بالماضي).ويمكن ملاحظة بعض السمات البارزة من هذه(المثالية للعمل)على الفور كما يلي:
1. انها تتصف بوجهة النظر الرئيسية التي يعبر عنها وليام جيمس بالقول بأن(قيمة)اية فكرة يجب الحكم عليها(بالارباح)التي تعود بها.
لقد شكى جيمس في كتابه(البراغماتية)من النقاد الذين شوهوا المبدأ البراغماتي القائل بأن(الحقيقي هو الناجح)بتفسيره(بأننا اناس نفكر بأن الانسان يستطيع ان يقول ما يشاء ويسمي ذلك حقيقة دون ان يخرج عن المقتضيات البراغماتية).ثم تساءل جيمس متعجبا بغضب(انني اترك لكم لتحكموا عما اذا لم تكن هذه التهمة الا مجرد قذف عديم الحياء)(68).
طبعا ان هذا مجرد قذف،لان جيمس والبراغماتيين لم يقترحوا بأن كل ما يشاؤه الانسان يمكن ان يعتبر صحيحا.انهم قالوا فقط بأن كل ما يعتقد انه مربح يمكن ان يعتبر صحيحا.ان النتائج المحسوسة هي التي لها الوزن والاعتبار،انها النتائج التي لها(قيمة نقدية).وهكذا فأن (مثالية العمل)تتضمن ما سماه جيمس(التزامنا العام لفعل ما هو مربح).
2. ان البراغماتية بتأكيدها على هذا الالتزام،لا يبدو انها تدرك ان ما هو مربح لفئة من الناس قد لا يكون مربحا للفئة الاخرى.مثال ذلك ان الرأسمال منجزا(التزامه العام لفعل ما هو مربح)قد ينصب ماكنة جديدة،من شأنها ان تؤدي الى بطالة عدد من العمال.ان هذا يعود بالربح على الرأسمالي،ولكنه لا يعود الا بالخسران على العمال،لان كل ما يعود عليهم من هذه الصفقة،هو في الواقع خسارة الاجور.
كذلك اذا حكمنا على(قيمة)الافكار،بمقياس(تحولها الى اعمال تعيد ترتيب وانشاء العالم)،نجد ان الناس مختلفي المصالح،كالرأسماليين والعمال،يجب ان يحكموا على قيمتها غالبا بشكل مختلف،لان مسألة اعادة انشاء العالم بصورة(صغيرة)تختلف في الواقع حسب المصالح الطبقية،وهي تختلف اكثر بكثير بالطبع،في قضايا اعادة انشاء العالم،بالمقاييس(الكبيرة).
الا ان هذا الاعتبار لا يظهر انه خطر ببال البراغماتيين على الاطلاق.ان الفلسفة البراغماتية تتحدث دائما من وجهة نظر تفترض فيها اتقان الآراء حول ما هو مربح وما هو غير مربح.وعندما تقول بأن(الحقيقي هو الناجح)تفترض ايضا الاتفاق حول مفهوم (الناجح).
3. ان البراغماتية،باعتبارها كل فكرة كوسيلة او اداة للحصول على الارباح،وللحكم عليها بمقياس نجاحها في تحقيق الاغراض المطلوبة،تبرهن على تفاؤلها الزائد بصدد آفاق الحصول على الارباح،وباستمرارية ضمان الارباح المطلقة،طالما سار الانسان في الطريق الصحيح للحصول عليها.وفي هذه النقطة،تتعارض البراغماتية تمام التعارض مع جميع انواع الفلسفة الاخرى،التي تدعو الى عقم الجهود البشرية،او التي تصور الانسان وكأنه يواجه عالما لا يستطيع ان يأمل السيطرة على قواه الجبارة.
الا ان هذا التفاؤل هو من نوع غريب وغير عقلي.فهو يتميز من جهة بالثقة(باننا)نستطيع ان نعيد ترتيب وانشاء العالم بأي شكل يلائم(مصالحنا)الخاصة،وبهذا نستطيع الحصول على الارباح التي(لنا)مصلحة فيها،ولكنه من الجهة الاخرى يتميز بنفس التأكيد القاطع على ان تحقيق كل هذا لا يتطلب اي عناء كبير(حول الحاضر وحول الماضي).
وهكذا فان هذا التفاؤل لا يستند الى اي اعتبار سليم للحقيقة الموضوعية،او دراسة لقوانين التطور التاريخي.انها تنظر للعالم الموضوعي كشئ(غير محدد)بالمرة،تماما كالمادة الخام التي تنتظر تحويلها الى قيم نقدية.
لا تتشبث بآراء حول الماضي لان الماضي لا وجود له!ولا تهتم بما هو كائن وبما كان وانصرف كليا للارباح المستقبلة خالقا لنفسك مستلزمات الحصول عليها،وعندئذ سوف لا تقهر!هذه هي رسالة(مثالية العمل).
ان هذه الفلسفة كانت منذ البداية فلسفة امريكية على الاخص.لقد ولدت في فترة من تاريخ الولايات المتحدة اعقبت انتصار الشمال على الجنوب في الحرب الاهلية.وقد تمت في الدور الاخير من تطور اسلوب الانتاج الراسمالي،عندما كان التكنيك قد تقدم تقدما كبيرا،وتمت تهيئة الانتقال الى المرحلة الاحتكارية.لقد عبرت هذه الفلسفة تعبيرا جيدا عن مطامح(مثالية العمل)للطبقة الرأسمالية الامريكية لتلك الفترة،ببحثها النهم وراء اقصى الارباح ورغبتها العارمة في اقصاء المنافسين،وفي فتح الاقاليم البكر،وفي احداث ثورة مستمرة في التكنيك الانتاجي وفي اللحاق والتفوق على(العالم القديم).
لقد كانت تعبر عن روح المبادرة الفردية والمشروع الفردي.لقد كانت تعبر عن التفاؤل الصارخ لفترة كان يفترض فيها ان كل مواطن(عدا الزنوج طبعا)هو حر ومساو للمواطنين الآخرين،وان له نفس الفرص المتساوية للنجاح واقامة اعماله الخاصة.
ان هذه هي الشروط التي مكنت البراغماتيين من الكلام عن(الارباح)وعن(الافكار الناجحة)من دون اية صعوبة من قبلهم او من قبل مستمعيهم،حول تحديد معنى كل ذلك.ان العامل والمليونير معا،افترض ان لهما نفس المفهوم عن مضمون العمل الناجح هو مفهوم المليونير طبعا.واذا ذهب ابن العامل للجامعة،كان يؤمل انه سيتعلم هناك نفس الآراء التي ساعدت على نجاح المليونير.
لقد علمت البراغماتية ان مثل تلك الافكار هي افكار(صحيحة)،وان جميع الافكار الاخرى(تفتقر الى اليقين).بل هي علمت اكثر من ذلك ان كلمة(الصحيح)لا تعني اي شئ عدا الخصيصة التي تقود الى النجاح،وان اعطاءها اي معنى آخر،معناه ان الانسان غير عملي،اي انه يتبنى فلسفة تأملية بدل الفلسفة العملية.
وهكذا كان وليام جيمس في محاضراته عن (البراغماتية)قد صب سخريته على كامل فكرة كون الحقيقي يكمن في الانطباق على الواقع وان الافكار الحقيقية بمعنى من المعاني حقائق(منسوخة).
(انني استطيع في الواقع ان اتخيل ماذا يعني النسخ ولكني لا اجد اي سبب يدفعني لذلك)هكذا يقول جيمس،الذي يتساءل: ما هو الفرق بين هذا وبين(نسخ)الحقيقة؟وهو يجيب على تساؤله هذا بالسلب المطلق.انه يقول: (عندما قاد المعجبون،الشخص الايرلندي،الى وليمة الطعام على كرسي وثير خال من المقعد،علق على ذلك قائلا:لو لم يكن الامر متعلقا بالشرف،لسعيت للوليمة على الاقدام).وهكذا(فيمكن للحقيقة هي الاخرى الا تنسخ)(لو لم يكن الامر متعلقا بالشرف).
ان ما تراه البراغماتية،هو ليس (نسخ)الحقيقة في الافكار،ليس البحث عن اي معيار موضوعي للحكم على حقيقة الافكار،بل كل ما تؤكد عليه هو الاطمئنان الى اي شئ يخدم الاغراض العملية.ان الافكار يجب الحكم عليها من وجهة نظر النجاح العملي.
لقد لعبت الفلسفة البراغماتية دورا هاما في التربية الامريكية.ان ديوي اشتهر في كتبه في نظرية التربية،شهرته في كتبه الفلسفية،وقد الح على ان التربية تبدأ مع الولادة،وان هدفها هو اعداد الفرد كمواطن للحياة العملية،وهذا الجانب العملي هو الشئ المهم،وليس ملء دماغ الحدث(بالمعرفة الميتة).كذلك طبق براغماتي آخر،اوليفر وندل هولمز براغماتيته في ميدان القانون زاعما انه لا يمكن اقامة القانون على اي مبدأ من مبادئ الحق،بل يجب صياغته كليا لاغراض المقتضيات الاجتماعية العملية.كذلك يرى المؤرخ البراغماتي جون فيسك،بأن الهدف الاسمى للتاريخ يجب ان يكون المناداة(بالمصير البارز للعرق الانكلوسكسوني)(69).
لقد عبر البروفسور رالف بارتون بري،من جامعة هارفارد ببلاغة عن المغزى الثقافي لفكرة(النجاح)البراغماتية،وذلك في مساهمة له عن المغزى الثقافي لفكرة(النجاح)البراغماتية،وذلك في مساهمة له في موضوع(هل يوجد فلسفة في امريكا الشمالية؟)،وذلك في المؤتمر الفلسفي الثاني للدول الامريكية(كانون الاول 1947).وربما يتصور بعض القراء بأن البروفسور كان يهزل،ولكنه كان في الواقع جادا كل الجدة.لقد عرف مفهوم(النجاح)،ودفع عنه تهمة(المادية)فقال:-
(من الخطأ الافتراض بأن فكرة النجاح الامريكية قاصرة على النجاح المادي.ان ما هو امريكي بصورة متميزة على الاخص،هو ليس استبعاد الفن والادب والعلم والدين،بالركض وراء الثروة،بل هو ان تدخل في الفن والادب والعلم والدين شيئا ما من تلك الروح والموقف،الذي يمثل الركض وراء الثروة ابرز خصائصهما:ليس اغراق الثقافة بضجيج الصناعة،بل فكرة اثارة الضجة حول الثقافة نفسها.ولهذا فليس النجاح المادي فقط هو المقبول،بل اي نجاح كان دون ان يكون ذلك موجها ضد اكتساب الثقافة،بشرط امكان قياس الثقافة نفسها بمقياس النجاح.ان المعيار ليس تجاريا او كالحا من حيث الجوهر،بل انه تنافسي من حيث الاساس،سواء انطوى ذلك على تسجيل ارقام قياسية او دحر المنافسين الآخرين)(70).
لقد كانت ولا تزال لهذه(المثالية البراغماتية للعمل)،لفلسفة النجاح هذه،استجابة قوية في الولايات المتحدة،ولم تكن لها نفس الاستجابة بالمرة في اوربا.لقد وجدها جميع الفلاسفة البورجوازيون الاوربيون،من دون استثناء تقريبا،عسيرة الفهم،غير مقنعة،وحتى ايضا مثيرة.مثال ذلك ان رسل في كتابه(تاريخ الفلسفة الغربية)يجد انها مثيرة على وجه التأكيد.انه يصف موقفها العام من الكون(كألحاد كوني).انه يسميها(فلسفة القوة)،مرتبطة(بعصر الصناعة)،وحتى انه يقول عنها انها تعبر عن(التسمم بالقوة).ويضيف لذلك قائلا: (ومن الطبيعي ان تكون اقوى استجابة لها لدى الامريكان)(71).
على ان اللورد رسل يبدي الاستعداد الكافي الآن بقبول (الزعامة الامريكية)،الا انه مع ذلك يشعر – كسائر افراد الطبقة الحاكمة البريطانية – بأن الامريكان يبالغون في مدى السير وسرعته.ان فلسفتهم (فلسفة القوة)تزعجه وتبدو نتائجها خطرة له،بينما تداعب نظريتها مواطن حساسة من نفسه.انه لا يود التنازل عن منع(التأمل).
اما في انكلترة،فقد مال الرأسماليون الناجحون الى تقليد طرق حياة سادة الارض.وكما عبر عن ذلك انجلز في احدى المرات(كان هناك مساومة بين الطبقة الوسطى الناجحة وبين الملاكين الاقطاعيين في السابق.ماذا عسى ان يكون البورجوازي الانكليزي من دون ارستقراطيته،التي علمته آداب السلوك،وزودت جيشه بالضباط لحفظ نظامه في الداخل،وكذلك بالبحرية التي فتحت له آفاق الممتلكات الكولونيالية والاسواق الجديدة؟)(72).
ومن هنا جاء الطلب الملح الذي لا يزال يجد تعبيره على مستوى عال في الجامعات – في كتابات لود رسل وبعض الفلاسفة الآخرين الاقل المعية،لانشاء فلسفة،تتكيف ونظرة الطبقة المرفهة.ان الثقافة الرأسمالية في انكلترة وباقي البلدان الاوربية تزاوجت مع ثقافة سادة الارض،الا ان مثل هذا الزواج لم يحصل في الولايات المتحدة.ان المثل الاعلى لم يكن هناك التأمل الترفي في الخير والحق والجمال،بل (اثارة الضجة)حول الثقافة.لقد كانت الجامعات تمول من قبل رجال الاعمال وتدار من قبلهم،وتكرس لانتاج رجال اعمال ناجحين.ومن هنا نشأت الجذور لفلسفة رجال اعمال حقيقية،اي للبراغماتية.ان الفلسفة المذكورة هي فلسفة عملية متفائلة،حاضرة للنجاح السريع،ومقياسها الوحيد للقيم هو مقياس النجاح،مقياس الربح.
لقد كانت البراغماتية اذن،النتاج الفكري لاحدث البلدان الرأسمالية،الولايات المتحدة،وللظروف الخاصة والجديدة التي كانت تكتنف تطور المشروع الراسمالي هناك حينذاك.وهذا بالضبط هو الذي يعطيها حقا مظهرها في التقدم والانطلاق،الذي يميزها عن اغلب انواع الفلسفة البورجوازية والادبية.انها اكثر الفلسفات رأسمالية،وانقاها في هذا الصدد،بين جميع فلسفات المجتمع الرأسمالي.لقد حررت نفسها،اكثر من اي نوع آخر من الفلسفات الرأسمالية او البورجوازية،من الاسكولائية(المدرسية)،والصوفية(الغيبية)الموروثة من الظروف التي كانت سائدة قبل عهد الرأسمالية.وبهذا تكون قد حررت نفسها من اي بقايا لأي وازع فيما يتصل بالبحث عن الحقيقة او الامانة للمبادئ.انها تعبر عن انصراف كلي مطلق للحصول على الارباح والفوائد لدحر المنافسين ولفتح ميادين جديدة للحصول لمشاريع الاعمال،ولاخضاع كل شئ اطلاقا للمشاريع المذكورة.
انها فلسفة للعمل وحشية،مستهترة،وقاسية كل القسوة في تعبيرها عن الفردية الرأسمالية.وبنفس الوقت،فهي كما يتبجح ديوي هي(مثالية للعمل).انها تنجح – اكثر من اي فلسفة اخرى – في اخفاء الطابع المثالي على المعمعة الرأسمالية وعلى الحرب في سبيل الارباح والمنافع التنافسية،تحت ستار،المبادئ الطنانة حول المعرفة والحقيقة والرفاه البشري.
انها تشجب(المادية)،وتعامل الدين والاخلاق بأعظم الاحترام،وهي بنفس الوقت تجمع الى هذا،مفهوما(طبيعيا)للقضايا الانسانية،تستند اليه في ادعائها بانها علمية بصورة كاملة وحرة من الاوهام والخيالات المثالية.
واذا ما ادرك الانسان الطابع الرأسمالي للفلسفة البراغماتية،وبصورة محددة كونها تمثل(مثالية العمل)للرأسمالية الامريكية،سقطت عنها جميع التناقضات الظاهرة ومظاهر الاضطراب البادية.انها كنظام منطقي،تفتقر الى التماسك تمام الافتقار،ولكنها كآيديولوجية طبقية،تمثل تماسكا يدعو الى الدهشة.
ان كامل نظرية المعرفة والحقيقة البراغماتية،هي نظرية مثالية،ولا تمثل(طبيعيتها)الا مجرد ستار للتغطية على مثاليتها الذاتية.ان مطلبها بأن النظرية يجب ان تخدم الاغراض العملية،وراء ستار عبارات الصالح العام في الغالب – لان البراغماتيين مقتنعون بأن مشروع العمل الناجح مرادف للنجاح الانساني – ان المطلب المذكور يعني بأن النظرية يجب ان تخدم اغراض التطبيق الرأسمالي،اغراض مشاريع الاعمال.
انها نوع دقيق للمتالية،كان يعبر عن نظرة ومطامح الطبقة الرأسمالية الامريكية و(مثاليتها للعمل)،وبنفس الوقت انها نظام للتهريج والتضليل الاجتماعي.ذلك لأن مجموع الاتجاه نحو انتشار شعبية الفلسفة البراغماتية،كان يقصد به المساعدة على ادخال النظرة الراسمالية في اذهان الشعب الامريكي.لقد مجدت الطرق الرأسمالية امام الشعب،وعلمت هؤلاء الذين يقاسون الاستثمار،روح التسوية بين مصالحهم ومصالح مستثمريهم،وتعليق آمال وهمية بالنسبة لمستقبلهم في نفس اطار النظام الاجتماعي الراسمالي.
لقد نظر مؤسسو الفلسفة البراغماتية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر الى الامام والى الوراء على السواء.وفي نظرتهم الى الوراء لم يستطيعوا الا ان يشعروا بأن النوع القديم من الفلسفة الدينية والآلهية،الذي كان سائدا لحد كبير حينذاك في الولايات المتحدة قد قضى زمانه.وقد كانوا في ذلك على حق،لأن ذلك النوع لم يكن ليتلائم وخدمة الظروف الجديدة للتطور الصناعي الرأسمالي السريع،لا كنظام للافكار يرضي القوى الرأسمالية نفسها،ولا كحصن آيديولوجي ضد الكفاح النامي المنظم للطبقة العاملة.ومن هنا جاء الهجوم على المبادئ المثالية التقليدية،الذي بدأ به البراغماتيون حملتهم الفلسفية.اما في نظرتهم الى الامام،فانهم اخترعوا المبدأ القائل بأن الحقيقة هي النجاح،وان الناس بطرحهم اهدافا عملية امامهم،وبحثهم عن (الثمار)و(الارباح)العملية،لهم الحق في التأكيد بأن الحق هو كل ما يخدم الاهداف المذكورة.لقد كان يجب استبدال الحقيقة،والحقل والمبدأ جميعا بالملاءمة.وهكذا،فبهذه الطريقة،وبينما كانت الرأسمالية الامريكية لا تزال متحركة في الاتجاه المطلوب،انشغل الفلاسفة الامريكان بالفلسفة التي تكون خير تمهيد آيديولوجي لتقبل الواقع الاحتكاري،وما زالت الامبريالية الامريكية في دور المخاض..قامت الامبريالية،وزودت الرأسمالية الامريكية بفلسفتها المطلوبة.
ان البراغماتية الامريكية تعبر خير تعبير عن النظرة العالمية وعن مطامح تلك القوى التي استطاعت ان تكدس لديها وان تحتكر جميع (الثمار والارباح)الناتجة عن التطور الرأسمالي – المشاريع الكبيرة والترستات البليونيرية.ووراء جميع تعميمات ديوي حول النظرية والتطبيق،والمعرفة والحقيقة،حيث يخضع كل شئ الى النجاح المقاس بالنتائج والارباح،يقوم التبرير القاسي للسياسة التوسعية للمشاريع الكبيرة،التي اضفي عليها الطابع المثالي،تحت عبارات (خلق المستقبل)و(اعادة بناء العالم الذي نعيش فيه).ولو اخذ بقيمته الظاهرية كرأي فلسفي،نجد ان المبدأ البراغماتي(الحقيقي هو المربح)مبدأ مضطرب غاية الاضطراب ونظرية غير دقيقة حول الحقيقة،اي انها نظرية غير مفيدة من الوجهة الفلسفية.
الا ان هذه النظرية غدت التعبير الكامل عن وجهة نظر وكلاء ومرتزقة عالم المشاريع الكبيرة للحقيقة.انها(فلسفة)خبير المبيعات،وزعيم الحزب،ورجل السياسة الاستعماري.ان جميع هؤلاء هم حملة افكار،عليها بالدرجة الاولى الحصول على نتائج معينة،والخصيصة الوحيدة التي تهمهم في الافكار هي خصيصة مساعدتهم على الحصول على النتائج المذكورة.وبنفس الوقت تتمتع الفلسفة البراغماتية بلون ديماغوجي ومضلل نموذجي.مثال ذلك ان هذه الديماغوجية بلغت في كتابات جون ديوي مقاييس واسعة.وهذا هو المعنى الحقيقي لقابلية ديوي الخارقة على الكلام،ولقدرته على تغطية اي شئ يريد قوله بستار من العبارات الغامضة المبهمة المطاطة،وهي طريقة في الكتابة كانت تزداد بروزا مع كل كتاب جديد في مسيرة ديوي الطويلة كفيلسوف للامبريالية.لقد كانت فلسفة ديوي مثالية ذاتية ولكنه حاول عرضها كفلسفة(طبيعية).ومع انها لم تقترن بأي شئ يدعى الحقيقة،فقد حاول ديوي عرضها كنظرية للحقيقة.
لقد كانت الامبريالية تلجأ دائما للديماغوجية الاجتماعية.وما كان للامبرياليين الامريكان ان يتعلموا اي شئ في هذا الصدد من شركائهم الكبار البريطانيين،او من الفاشيين الالمان والعسكريين اليابانيين،الذين ضموهم جميعا الآن تحت اجنحتهم.ان للامبريالية الامريكية نوعها الخاص من الديماغوجية،والتي تمثل الفلسفة البراغماتية احد تعبيراتها.انها تسمي احتكارات الرأسمال الكبير(المشروع الحر)،وتسمي حكمها المطلق غير المحدود(الديمقراطية)،وهي تحاول ان توسع سيطرتها على الشعوب الاخرى تحت ستار معارضة المفاهيم العتيقة للقومية والسيادة الوطنية،كما هي تحاول ان تدوس على الحقوق الانسانية تحت الاقدام بأسم الدفاع عن الحرية الفردية.ان ديوي والبراغماتيين هم اساتذة كبار لمثل هذا التضليل في ميدان الفلسفة.
واخيرا فأن هناك حاجة لتقدير اهمية التعاليم البراغماتية حول وجود العالم الموضوعي،وخاصة لهجة التفاؤل التي تسود الفلسفة البراغماتية.ان(مثالية العمل)البراغماتية تقول بأن(الافكار هي ليست عبارات عما هو كائن او عما قد كان،بل هي عبارات عن الاعمال الواجب انجازها)،وانها(مكرسة لخلق المستقبل،بدل الجمود على آرائها حول الماضي).ان هذا هو نفس الموقف الذي عبر عنه هنري فورد بشكل اكثر فجاجة عندما قال(بأن التاريخ هو الافحاش).لقد كان متفائلا حول(عدم غلبة)سيارات موتورز،وان مثل هذا المشروع لن يعاني مصير الكثير من المشاريع الاخرى المختلفة في الماضي.ومع ذلك فقد كان هنري فورد مخطئا،وهكذا ايضا كان البراغماتيون.
ان الوقائع الموضوعية،وقوانين التاريخ،حقائق صلدة لا تقاوم.ان(التقدم)الرأسمالي يؤدي بصورة حتمية الى الازمات والفقر والحروب وتخريب نفس وسائل الانتاج التي يخلقها المشروع الرأسمالي نفسه بخلق شروط تداعيه وسقوطه،وقد سبق ان خلقها بالفعل.ولكن البراغماتية،والحقيقة الموضوعية،هي كما ذكرنا،تعلم باعتبارها فلسفة المشروع الكبير،عدم وجود اية حقيقة موضوعية،وان العالم الموضوعي هو عالم غير محدد ينتظر التحديد من قبل رجال عمليين مغامرين،واننا نستطيع مواصلة السير لخلق المستقبل من دون الاهتمام بالماضي.ان هذا تفاؤل ساذج،الا انه يعبر اكمل تعبير عن المحاولات التوسعية لاصحاب الاعمال الكبار الامريكان.انه يعبر عن التصميم الاعلى(لخلق المستقبل)ولطبع نموذج المستقبل المذكور على اية حقائق موضوعية قد تقف في طريقه.وبنفس الوقت انه يهيئ اذهان الناس لقبول واستحسان طرق الامبريالية الامريكية باعتبارها(مثالية العمل)،والاعتقاد بأن هذه المثالية للعمل(لا تقهر).
ان البراغماتية اذن،خاصة بالشكل الذي اعطاه اياها ديوي،هي فلسفة الامبريالية الامريكية.انها تعبر عن نظرة ومطامح كبار رجال الاعمال الامريكان بشكل فلسفي.هذه هي قاعدتها الاساسية،وذلك هو المضمون الحقيقي لجميع مبادئها.ومن هذا المصدر تستقي البراغماتية مظهرها الانطلاقي،ومعارضتها لجميع اشكال المثالية(التأملية)التي لا تلائم المثالية العملية لاقصى الارباح.ولكن من المستحيل عدم رؤية انها هي نفسها شكل من اشكال المثالية،وان هجومها الحقيقي يوجه رأس حربته لا ضد المثالية بل ضد المادية وضد المادية الماركسية على الخصوص.ان البراغماتيين هم اقل الفلاسفة(برج عاجيين)،انهم انصار جهاديون لمعسكر الامبريالية ضد معسكر الاشتراكية،وهذا هو مغزى معارضتهم لاشكال المثالية(التأملية).
والبراغماتية،بصفتها المعبرة عن وجهة النظر الطبقية الجهادية لأشد اجزاء الرأسمالية الاحتكارية عدوانية ورجعية،للامبرياليين الامريكان،هي بنفس الوقت نظام للديماغوجية والتضليل موجه للشعب الامريكي،محاولة قولبة وجهة نظره في قالب النظرة الامبريالية،وتضليله بشعارات مزيفة عن المشروع الحر والديمقراطية وخلق المستقبل واعادة بناء العالم،فيما هي تحرضه ضد كل ما هو تقدمي ومناهض للامبريالية.

الهوامش

(1) وليم جيمس: (البراغماتية)،ص 46،بالانكليزية.
(2) نفس المرجع،ص 45.
(3) نفس المرجع،ص 53.
(4) نفس المرجع،ص 230.
(5) نفس المرجع،ص 201.
(6) لينين: (المادية والنقد التجريبي)،الفصل السادس،المقطع الرابع،الحاشية،بالانكليزية.
(7) وليم جيمس: (البراغماتية)،ص 15،33،299،301.
(8) لينين: (المادية والنقد التجريبي)،الفصل السادس،المقطع الرابع،الحاشية،بالانكليزية.
(9) اناتول فرانس: (ثورة الملائكة)،الفصل 30،بالانكليزية.
(10) لينين: (المادية والنقد التجريبي)،الفصل الثاني،المقطع السادس.
(11) وليام جيمس: (مقالات في التجريبية الراديكالية)،ص 4،بالانكليزية.
(12) نفس المرجع.
(13) جون ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 23،بالانكليزية.
(14) نفس المرجع،ص 30-31.
(15) نفس المرجع،ص 14.
(16) نفس المرجع،ص 25.
(17) نفس المرجع،ص 21 – 22.
(18) نفس المرجع،ص 175.
(19) جون ديوي: (المنطق)،ص 428،بالانكليزية.
(20) جون ديوي: (البحث عن اليقين)،الفصل الرابع،بالانكليزية.
(21) جون ديوي: (المنطق)،ص 4.
(22) جون ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 93.
(23) نفس المرجع،ص 419.
(24) المنطق،ص 309.
(25) جون ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 93.
(26) نفس المرجع،ص 221.
(27) نفس المرجع،ص 227.
(28) نفس المرجع،ص 10 - 11.
(29) نفس المرجع،ص 23.
(30) نفس المرجع،ص 73.
(31) نفس المرجع، الفصل الثامن.
(32) جون ديوي: (المنطق)،ص 25.
(33) نفس المرجع،ص 45.
(34) انجلز: (دور العمل في تحويل القرد الى انسان).
(35) ماركس وانجلز: (الآيديولوجيا الالمانية).
(36) انجلز: (دور العمل في تحويل القرد الى انسان).
(37) ماركس: (الرأسمال)- الجزء الاول،القسم الثالث،الفصل السابع،المقطع الاول،بالانكليزية.
(38) ماركس: (الرأسمال) ،مقدمة الطبعة الثانية،بالانكليزية.
(39) ديوي: (البحث عن اليقين)،ص 124.
(40) ديوي: (المنطق)،الفصل الثامن.
(41) نفس المرجع،ص 8 - 9.
(42) نفس المرجع،ص 104.
(43) ديوي: (البحث عن اليقين)،ص 188.
(44) نفس المرجع،ص 188.
(45) (المنطق) – ص 9.
(46) ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 63.
(47) نفس المرجع،ص 24.
(48) نفس المرجع،الفصل الثامن.
(49) جون ديوي: (المنطق)،ص 287.
(50) جون ديوي: نفس المرجع،ص 159.
(51) نفس المرجع،ص 105.
(52) نفس المرجع،ص 220.
(53) (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 35.
(54) نفس المرجع،ص 38.
(55) جون ديوي: (مشاكل البشر)،ص 198،بالانكليزية.
(56) ماركس وانجلز: (الآيديولوجيا الالمانية).
(57) لينين: (المادية والنقد التجريبي)،الفصل الخامس،المقطع الثاني.
(58) جون ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 412.
(59) نفس المرجع،ص 436.
(60) (المنطق) – ص 21.
(61) (البحث عن اليقين)،ص 199.
(62) (المنطق) – ص 459.
(63) (البحث عن اليقين)،ص 198 - 201.
(64) مقتبس عن (سوفييت نيوز)،عدد 1542،تاريخ 26 ايلول 1946.
(65) (البحث عن اليقين)،ص 184.
(66) ديوي: (البحث عن اليقين)،ص 289.
(67) ديوي: (البحث عن اليقين)،ص 289.
(68) وليم جيمس: (البراغماتية)،ص 233.
(69) ها.ك.ويلز: (البراغماتية فلسفة الامبريالية).
(70) (الفلسفة والبحث الفينومنيولوجي)،مجلد 9،عدد 3،آذار 1949.
(71) رسل: (تاريخ الفلسفة الغربية)،ص 854 – 856.
(72) انجلز: (الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية)،المقدمة.

-;- الحياة الحزبية في العراق

وجدت مخطوطة في مكتبة ابراهيم كبة،مخطوطة غير منشورة وغير مؤرخة بعنوان"الحياة الحزبية في العراق"،لكنها بخط يده،ويشير مضمونها انها كتبت اربعينيات القرن المنصرم.

كلمة تمهيدية

يتطلب أي بحث عن الحياة الحزبية في أي بلد ما البحث عن الإمكانيات الاجتماعية في ذلك البلد ،من جهة،باعتبار أن الحزبية عمل اجتماعي خالص هدفه تحقيق حاجات اجتماعية معينة لمجموعات اجتماعية معينة بالوسائل الاجتماعية المتوفرة.ويتطلب من جهة ثانية دراسة الظروف الداخلية والخارجية المتصلة بالأمكانيات المذكورة.وبالنظر الى سعة الموضوع وتشعبه ،فأراني مضطرا بطبيعة الحال الى الأكتفاء بذكر النقاط الرئيسية في الموضوع ،مع تأجيل بعض المواضيع الأساسية المتصلة بالحياة الحزبية في العراق الى فرصة أخرى وخاصة " الحياة النقابية " ودراسة " النظام الأقطاعي ".
وسيقسم الموضوع الى ثلاثة أقسام :الأول منها يبحث عن مستلزمات الحزب بوجه عام.والثاني عن الأمكانيات الأجتماعية الحزبية في العراق.والأخير منها عن شروط الحزب المطلوب.... ولم ينجز القسم الاخير لظروف تتعلق بالكاتب .

القسم الأول

مستلزمات الحزب بوجه عام

لابد للحزب لضمان فعاليته ونجاحه من العناصر الأساسية الآتية :

• النظرية العلمية الشاملة

لا يمكن في هذا المجال التكلم في جوهر النظرية العلمية من الوجهة الفكرية الخالصة ، وسأكتفي بذكر أهميتها من الوجهات العملية المتصلة بحياة الحزب الفعلية وفعاليته في الميدان العملي.فهي أولا : تضمن دوام الحزب لأنها تضمن دوام منهاجه، وشمول حلوله التفضيلية.أما إذا خلا الحزب من نظرية علمية شاملة على ضوءها يحدد مبادئه المباشرة وبرامجه العملية ،وبموجبها يفسر الحوادث التفضيلية المحيطة، فتصبح أغراضه محدودة بطبيعة الحال وتنتهي حياته باستنفاذ هذه الأغراض.
وهي ثانيا ؛ تضمن إيجابية أهداف الحزب. لابد لنجاح الحزب وفعاليته من أهداف إيجابية ، أي لابد له من حلول ايجابية للمشاكل الأجتماعية المختلفة بتفاصيلها ، ولن يعيش حزب اقتصرت أهدافه على السلبية.ولنأخذ مثلا على ذلك : حزب الأستقلال الآن ؛ إن نظرة واحدة الى منهاج هذا الحزب توضح انه موضوع لغرضين سلبيين . الأول / محاربة الاستعمار . والثاني / مكافحة التقدمية ، وخاصة الشيوعية ، وليس لدى الحزب فكرة واعية عن ارتباط الهدف الأول بالمشاكل الأجتماعية القائمة في العراق ؛ ولهذا فليست لديه حلول ايجابية محددة للمشاكل المذكورة.مثل هذا الحزب لا يمكن ان يعيش مدة طويلة وان يساير الحياة الأجتماعية المتطورة ، لأنه سلبي في اتجاهاته ، والسلب لا يمكن ان ينتج شيئا.
وهي تضمن ثالثا :الانسجام في القيادة .وهو من أهم العناصر اللازمة لفعالية الحزب ونجاح سيره في ميدان العمل ، خاصة في المراحل الأولى من العمل الحزبي، ولا يمكن للقيادة ان تنسجم انسجاما فكريا حقيقيا ما لم يؤمن عناصرها بنظرية علمية عامة واحدة.ومن المؤكد ان عدم توفر هذا العنصر يؤدي عاجلا أو آجلا الى الانقسامات في القيادة وظهور ما يسمى عادة بالأجنحة في البداية ثم الانفصال التام في النهاية.ولا شك ان عدم توفر هذا العنصر كان السبب الرئيسي لظهور الاختلافات الأساسية في قيادة الحزب الوطني الديمقراطي الى جانب عوامل أخرى سيأتي ذكرها في حينه . وقد بدأت هذه الاختلافات أيضا تظهر في حزب الأستقلال وان كانت لم تخرج لميدان الفعل بعد!
وهي تضمن أخيرا الانسجام وعدم التناقض في المناهج الحزبية وفي الحلول التفضيلية : ان النظرية العامة تكمن وراء حلول الحزب التفضيلية وتوحي بجميع وجهات نظر الحزب في المسائل المختلفة وتملي بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الحزب وسائله في العمل ،ولاشك ان الحزب الذي لا يستند لنظرية اجتماعية شاملة سرعان ما يظهر التناقض واضحا في حلوله العملية وفي نفس مبادئه النظرية.ولنأخذ مثلا على ذلك من حزب الأستقلال .فقد أقر منهاج هذا الحزب في احدى مواده الأولى بصراحة انه لا يعتقد بوجود الكفاح الطبقي وانه يؤمن بالعكس بوحدة الأمة وتضامن طبقاتها.وواضح ان حشر هذه النظرية في صلب المنهج كان المقصود به توجيه الأنظار الى محاربة الحزب لمبادئ الشيوعية.ثم عاد فوضع الحزب في اكثر حلوله التفضيلية لمشاكل العمل والأرض والأقطاع حلولا مستمدة من الأشتراكية الغربية - reformisme - ذاكرا بصراحة ان غرض الحزب القضاء على التناقض الطبقي وتخفيف حدة الكفاح والنزاع بين الطبقات في العراق .وواضح من ذلك ان الحزب يفترض في هذه الحلول وجود التنازع الطبقي ويسلم دون شعوره به ويحاول بالوسائل الأشتراكية الإصلاحية المغلوطة التخفيف من حدته ، مجاريا في ذلك التيار الشعبي اليساري الجديد في العالم.

• طبقية الحزب(استبعاد الآيديولوجية التوفيقية)

ان طبقية الحزب نتيجة طبيعية بديهية لطبقية المجتمع في المجتمعات الطبقية القائمة. ولما كانت وظيفة الحزب تحقيق حاجات اجتماعية معينة (طبقية بالضرورة )كان لابد لسلامة العمل الحزبي تبني مصالح طبقة من الطبقات القائمة والعمل على تحقيق حاجاتها ومصالحها بالوسائل العلمية. هذا وان طبقية الحزب حقيقة واقعة فعلا في جميع الأحزاب ولا يمكن لأي حزب ما أن يكابر ويدعي التحلل من السير ضمن المصالح الطبقية.ومن هنا نفهم تضليل جميع الأحزاب التي تدعي السمو فوق المصالح الطبقية والتعبير عن مصالح الأمة كمجموعة واحدة.وقد ثبت لدينا كما هو معلوم إن الأحزاب التي ادعت هذا الادعاء – ولا تزال تدعيه – سواء أكانت أحزاب اليمين ، أي الأحزاب التي تسمي نفسها القومية على اختلاف اضرابها والوانها وصورها، أو احزاب اليسار التي تدعي انها تقف موقف الوسط بين اتجاهي التطرف لليمين أو لليسار، ثبت لدينا انها جميعا في حقيقة الأمر أحزاب طبقية صرفة : الأولى منها احزاب القوى الرجعية المباشرة ؛ والثانية منها احزاب القوى الرجعية غير المباشرة ، واحيانا احزاب البورجوازية الصغيرة المتعلقة بحكم مصالحها بأذيال الطبقة الحاكمة.وعليه فلابد للحزب اذن من تبني فلسفة طبقية صريحة خالصة . ولكن لا يعني ذلك ان الحزب الطبقي لا يتبنى أحيانا كوسيلة من وسائله العملية أي من وسائله ( التكنيكية ) مصالح بعض الطبقات الأخرى.كما انه لا يعني ذلك ان الحزب يستبعد من أهدافه الرئيسية أحيانا ووسائله المهمة حماية مصالح الطبقات الأخرى في بعض المراحل الاجتماعية التي تتوحد فيها مصالح الطبقات المختلفة في بعض النقاط الهامة .وسنرى ان لهذه النقطة أهمية خاصة في العمل الحزبي في العراق.
ويستلزم هذا العنصر ، أي طبقية الحزب ( القيادة الطبقية أيضا ) ، أي اختيار القيادة من عناصر الطبقة التي يعبر الحزب عن مصالحها ويتبنى فلسفتها.ولكن بالنظر لضرورات خاصة في أدوار اجتماعية خاصة تتصل بالوعي العام الطبقي ، قد تدفع الضرورة الى تسلم عناصر طبقية أخرى لا تنتمي للطبقة المذكورة القيادة الحزبية وعندئذ لابد لهذه القيادة الشاذة في طبيعتها الطبقية ان تتبنى فلسفة الطبقة المذكورة لضمان نجاح العمل الحزبي .وقد مرت جميع الأحزاب الماركسية في هذه المرحلة بالواقع.

• شعبية الحزب (أي اعتماده على الجمهور )

المقصود بهذا العنصر جعل قاعدة الحزب على كل حال وحتى قيادة الحزب بالتدريج ان أمكن من الجمهور وعدم قصر الحزب على عناصر الطبقة المثقفة فقط.ان هذا العنصر هو من أهم مستلزمات فعالية الحزب واهم مقاييس جديته في العمل في الحقيقة. ولا يمكن هنا الا الإشارة لبعض النقاط العامة التي توضح أهميته البالغة. أ – فهو الضمان الوحيد لعدم امكانية القضاء على الحزب أي الضمان الوحيد لأستمراره و دوامه. ان الحزب الذي يعتمد على الجماهير يصعب حله رسميا لمخافة الجماهير من جهة ..كما ان حله رسميا لا يستتبع موت الحزب وشل فعاليته في ميدان العمل ..اذ ما ينتج عن هذا الحل هو انتقال الحزب من ميدان العمل والتنظيم العلني الى ميدان العمل السري. ب – كذلك يضمن هذا العنصر مراقبة القيادة وعدم امكانية انحرافها عن اتجاهات الحزب العامة ، أو الأضرار بالمصالح الطبقية التي تمثلها. وفي تاريخ العراق الحزبي أمثلة على ذلك ! اذ لو كان حزب الإخاء الوطني حزبا شعبيا يستند على قواعد من الجمهور لما أمكن لرئيسه ( ياسين الهاشمي ) ان يعمل على حله رسميا بحجة استنفاذ الحزب أغراضه الأساسية بعقد معاهدة 1930 . كما ان كثيرا من التصرفات الشاذة التي قامت بها قيادة الحزب الوطني الديمقراطي خلال السنتين الأخيرتين خاصة ما بتصل منها بأخراج العناصر اليسارية من الحزب ، لم يكن من الممكن حدوثه لو كانت للحزب قواعد حقيقية من الجمهور. ج _ وهذا العنصر أيضا أهم الضمانات بل هو الضمان الوحيد في الحقيقة لفعالية الحزب في العمل لسببين(1) ان احزاب المثقفين عامة لا يمكنها ان تنشط في ميدان العمل الا بوسائل المثقفين ، وهي وسائل محدودة من الوجهة العملية لا تخرج عن نطاق الإقناع بسائر ضروبه وتعبيراته. ولعل تجربة الأحزاب في وزارة أرشد العمري ووزارة نوري السعيد خير دليل على ذلك. اذ بالرغم من قسوة الانتقادات التي وجهتها الأحزاب ( وخاصة اليسارية منها ) للحكومتين المذكورتين ، وشدة حملاتها عليهما ، لم يكن من نتيجة ذلك الا القضاء على هذه الوسائل ( وهي لا تتعدى الصحف وبعض المطبوعات ) بكل سرعة وشل النشاط الحزبي بالنتيجة الى حين ..وان العامل الأساسي الحقيقي لإسقاط وزارة أرشد العمري كان وسائل الضغط السياسي الشعبي وخاصة المظاهرات الدامية التي قام بها العمال خاصة وبعض الطبقات الشعبية الأخرى في كركوك وبغداد ؛ ..بتوجيه من العناصر المؤمنة بوسائل الكفاح بالعمل كالتحرر الوطني والجماعات السرية..وسنعود الى هذا الموضوع بعد قليل..(2) ان مراكز القوة في جهاز الدولة ، وخاصة الجهاز التنفيذي فيها هو في الواقع بيد الجماهير ، كعمال المؤسسات المختلفة ، الحكومية وشبه الحكومية ،والجيش والشرطة والطبقات العامة من مستخدمين وموظفين وغيرهم. وبالنظر الى ان أهم وسائل العمل الحزبي كما سنرى بعد قليل هي الوسائل الثورية بمعناها العام أي وسائل الضغط والقوة…فان اعتماد الحزب على الجماهير يبقى الوسيلة الوحيدة لفعالية الحزب وبخاصة في العمل. د – ويضمن هذا العنصر كذلك انتصار الحزب في النهاية أي وصوله الى الحكم. فالطبقات الحاكمة لا يمكن ان تتنازل عن شئ من حقوقها وان تخضع ولو نسبيا للأحزاب الطبقية المعارضة الا تحت عوامل الضغط ولا يتحقق ضغط الحزب إذا لم يكن مستندا الى الجمهور.خ _كذلك يمهد هذا العنصر لتدرج الجمهور نحو مراكز القيادة في العمل الحزبي ويهيئهم لاحتلال المراكز اللازمة في الأحزاب القائمة ويعودهم على ممارسة الحياة الحزبية الى جانب التنظيمات الأخرى التي تشترك مع التنظيم الحزبي في بلوغ هذا الهدف وخاصة منها التنظيم النقابي.و _ كذلك تخفف شعبية الحزب من (دوغمائية) المثقفين بربطهم بالواقع وضمان خط الرجعة ضد تأرجح المثقفين واحتمال تحولهم وتقلبهم الفكري .ان طبقة المثقفين (الأنتلجستيا) طبقة ثقافية لها خصائصها بحكم عوامل اجتماعية مختلفة سنعود الى دراستها في العراق على وجه التفصيل في آخر هذه الدراسة.ويكفي ان نذكر الآن ان هذه الطبقة خاصة في العراق غير مستقرة من الوجهة الفكرية ..وهي تمتاز أيضا بالتجريد في اتجاهاتها الفكرية والأبتعاد كثيرا عن الواقع في مناقشاتها السياسية. ان جدلية المثقفين سبب مهم من أسباب اختلافهم في ميدان العمل الحزبي وهي تعلل لنا الى جانب عوامل أخرى سيأتي ذكرها بعد ذلك ، تعدد الأحزاب اليسارية في العراق من دون مبرر اجتماعي متصل بالمرحلة القائمة في العراق …واعتماد الحزب على الجمهور يقلل كثيرا من ( الدوغمائية ) المذكورة وبالتالي يقلل الى حد كبير من الاختلافات العملية التي تستند الى اختلافات فكرية صرفة لا مبرر لها في واقع الأمر. ز _ واخيرا يضمن هذا العنصر دوام مالية الحزب ورفده المستمر بالمال اللازم للاعمال الحزبية.

• وسائل العمل ( التكتيك )

هذا العنصر هو مقياس النجاح الحزبي في الحقيقة وهو الضمان اللازم لنجاح الحزب وفعاليته وسيره في ميدان العمل .والتكتيك _ اختصارا يعني استغلال جميع إمكانيات البلاد في سبيل تحقيق مبادئ الحزب . ويتطلب هذا الاستغلال معرفة شاملة واسعة جدا بظروف البلد الاجتماعية بمعناها العام وتفاصيل الظروف الخارجية المحيطة بالبلد …ودراسة التيارات السياسية السائدة في الموقف المعين المطلوب . واضح من ذلك صعوبة وضع مبادئ عامة تحدد التكتيك وتحكم تفاصيله…ويمكن ملاحظة الأشياء التالية في موضوع التكتيك.
أ – التطور والمرونة : وهذه الصيغة لازمة في التكتيك بحكم اختلاف الظروف الداخلية والخارجية في البلاد وتطورها حسب الزمان والمكان والطبقات الاجتماعية والقوميات السائدة والأديان المتنوعة ..الخ.
ب – الثورية : المقصود هنا السير في الوسائل العملية على اعتبار ان الانتقال الطبقي في المجتمع لن يتم ولا يمكن ان يتم الا بالقوة بمعناها العام ، أي الا بوسائل الضغط على اختلاف ضروبها وألوانها .وينتج عن ذلك لزوم اهتمام الحزب بالوسائل العملية للتأثير على الطبقات الحاكمة وكسب الانتصارات عليها، وعدم امكانية الاعتماد على مجرد وسائل الأقناع في سبيل تحقيق ذلك ! إن وسائل الأقناع ، كما سنرى فيما بعد ، وسائل لازمة لكسب الطبقة المتعلمة خاصة..أما الطبقات الحاكمة فليس مصدر استغلالها وتشبثها بوسائل الحكم وسيطرتها على مصادر القوة العامة هو حسن النية أو الخطأ أو الجهل حتى يمكن أن تحول عن ذلك بوسائل الأقناع وانما مصدر كل ذلك هو مصالحها الطبقية المباشرة التي لا يمكن أن تتخلى عنها الا بوسائل الضغط. كما ينتج عن ذلك لزوم الاهتمام الجدي بكسب عناصر القوة التنفيذية في البلد أي مصادر القوة المادية التي تسند القوى الحاكمة في سيطرتها وحكمها وخاصة كسب عناصر الجيش والشرطة وعمال المؤسسات الحيوية في البلاد كعمال السكك الحديدية وشركات النقل وشركات النفط وعمال الموانئ والمطارات والموظفين والمستخدمين بوجه عام .
ج _ الدولية ( العمل في النطاق الدولي ) : إن الدولية في العمل الحزبي نتيجة طبيعية لدولية الكفاح الاجتماعي .وان المجتمع الطبقي خاصة في مرحلته الحاضرة يسير في تناقضاته الاجتماعية الطبقية في ميدان عام شامل خرج بفضل الصناعة الحديثة عن الميدان الإقليمي أو القومي أو القاري الى الميدان الدولي نفسه ..واصبح الكفاح السياسي كسائر ضروب الكفاح الاجتماعي الأخرى يسير بكل عنف وشدة في ميدان دولي واسع يشمل العالم كله. واصبح من الواضح جدا بل من البديهي جدا ارتباط مصائر الأحزاب الداخلية بكفاح سائر الأحزاب المماثلة الأخرى في الدول الأخرى ..واصبحت الدولية في الكفاح الحزبي ضرورة لازمة في نجاح الأحزاب مكملة للثورية وعنصر من عناصرها . ومن هنا يتضح لدينا خطأ الأحزاب العراقية عامة في عدم اهتمامها بضرورة العمل في النطاق الدولي وخاصة خطأ موقف الحزب الوطني الديمقراطي بعد خطاب رئيسه بمناسبة انشقاق الجناح التقدمي من الحزب وفصل رئيسه كامل قزانجي إذ افترض الخطاب المذكور استقلال العمل الحزبي في العراق عن الأحزاب المماثلة في البلاد الأخرى وشجب سياسة العمل الدولي للجناح المذكور بل اعتبر هذه السياسة نوعا من العبودية للسياسة الأجنبية وخيانة للمصالح الوطنية. كما ان اتجاه حزب الاستقلال ونظرته العامة للكفاح العالمي الدائر الآن توضح افتقاره الى هذا العنصر الأساسي في التكتيك وعدم ادراكه ارتباط مصائر العراق بحكم الضرورة الاجتماعية بمصائر الكفاح المذكور .هذا ويستلزم التكتيك المذكور الاهتمام بالمسائل الآتية في العمل الحزبي في العراق :
1. التعاون مع الأحزاب المماثلة في البلاد المستعمرة (بفتح الميم) والبلاد العربية منها بصورة خاصة بالنظر لتشابه الظروف الاجتماعية من جهة وبالنظر لوحدة العالم الخارجي ( الاستعمار ) وأساليبه من جهة ثانية ، وبالنظر للتشابه الواضح في المقومات القومية ..كوحدة اللغة ، والحياة الاقتصادية ، والثقافة من جهة ثالثة.
2. التعاون الفعلي مع الأحزاب المماثلة في البلاد المستعمرة ( بكسر الميم ) نفسها نظرا لوحدة العدو المشترك أي الأمبرياليزم .
3. العمل كجزء من الحركة الشيوعية الدولية والاشتراك في سياستها العامة والتأثير فيها والتأثر بها حسب ظروف الزمان والمكان.
4. السرية _ ان السرية ضرورة لازمة في جميع المجتمعات الطبقية بسبب عدم التوازن خاصة في المراحل الابتدائية من الكفاح الطبقي بين القوى المستغلة الحاكمة والقوى الشعبية المستغلة ، واحتمال القضاء على النشاط الحزبي الفعلي في كل لحظة بأعلان الدكتاتورية الصريحة أي الفاشية او المستترة بسائر ضروبها والوانها ودرجاتها حسب الظروف. ان السرية ضرورة لازمة لأن حدود سماح الطبقات الحاكمة بالعمل الحزبي لا تتعدى الحدود الشكلية التي لا تمس المصالح الجوهرية لها.وهي مستعدة للسماح بالتمتع بالحقوق الدستورية المرسومة في الديمقراطية البورجوازية ضمن النطاق الاجتماعي الذي ترسمه نظمها الاجتماعية السائدة، وهي لا تسمح ولن تسمح أبدا باجتياز هذا النطاق الاجتماعي الا مضطرة على ذلك . من هنا تتضح ضرورة ولزوم العمل السري دائما في المجتمعات الطبقية.ومما يزيد في أهمية السرية في بلد تنعدم فيه تماما الموازنة في القوى الطبقية بين الطبقة الحاكمة وورائها قوة الاستعمار وبين القوى الشعبية الضعيفة المتأخرة جدا في وعيها الاجتماعي ، هو ان الجهر بالشيوعية وبوسائلها في العمل مستحيل من الوجهة الفعلية ، بل هو جريمة من الجرائم العامة ، الأمر الذي يلزم جميع الأحزاب اليسارية ان تتبنى السرية كجزء أساسي من نشاطها الحزبي حتى في فترة نشاطها العلني فيما لا يمكن الجهر به ، من جهة ، وتمهيدا لأيجاد التنظيمات الكافية الضرورية لمواصلة نشاط الحزب عند احتمال القضاء على نشاطه العلني من جهة أخرى.
هذه خلاصة موجزة لمستلزمات الحزب بوجه عام والحزب الماركسي بوجه خاص في المجتمعات الطبقية .


تاريخ الحركة الحزبية في العراق

يمتد تاريخ الحركة الحزبية الحديثة في العراق بجذوره الى تاريخ الدولة العثمانية في عهدها المتأخر.وبالنظر لسعة الموضوع وتشعبه نكتفي بذكر هذا التاريخ اعتبارا من الحرب العالمية الأولى،مع الاقتصار على الأتجاهات العامة في هذه الحياة.ويمكن تقسيم تاريخ الحياة الحزبية في العراق الى ثلاثة أدوار :

1. دور الثورة العراقية

لم تتأسس خلال القيام بالثورة العراقية أحزاب سياسية بالمعنى الصحيح بل حدثت تكتلات متفرقة في المدن الكبرى تتصف خاصة بالسمات التالية:أ - الطابع الديني / اذ كان العامل الديني اهم المحركات لنشاط الجماعات المذكورة،يظهر ذلك من قيادتها العامة التي لم تخل من اشتراك وقيادة وتوجيه كبار رجال الدين (الخالصي في الكاظمية ،والأزدي في كربلاء ،والصدر في بغداد)..كما يظهر ذلك أيضا من اختيار المحلات والمراكز الكبرى للعمل الحزبي،اذ كان اغلبها متركزا في المدن المقدسة كالنجف وكربلاء وفي المحلات الدينية في المدن الأخرى وخاصة في مسجد الحيدرخانة في بغداد.ويظهر أخيرا الطابع الديني في النضال بالوسائل الدينية للقيام بالثورة العراقية،كاستغلال الاجتماعات الدينية والتعازي والمراسيم الدينية من أعياد وغيرها.والمهم في هذا الطابع الديني أهميته الخاصة من وجهة التكتيك الحزبي،اذ كان الدين بدون ريب من العوامل الأساسية الملائمة في تحريك الجماهير ودفعها للثورة ضد الأنكليز،بالتأكيد على الطابع الديني للثورة وشحذ روح الجهاد في الشعب. ب - ضيق الأهداف وسلبية العمل / اذ لم يكن لتلك التكتلات الحزبية من غاية ابعد من غاية القيام بالثورة وطرد الأنكليز بالقوة.ولهذا كانت التكتلات المذكورة تجمع جميع العناصر الوطنية على اختلاف مصالحها الاجتماعية واتجاهاتها الفكرية،وقد كانت بقيادة وجهاء المدن ورجال الدين،ورجال الإقطاع.

2. الأحزاب في عهد الحكم الوطني حتى اعلان الغائها

تأسست بعد تشكيل الدولة العراقية عدة أحزاب سياسية استمرت في نشاطها الحزبي بصورة متعثرة غير منتظمة(عدا فترة قليلة هي فترة تصديق معاهدة 1930)حتى اعلان الغائها في سنة 1934 .ولا يهمنا من تأريخ هذه الفترة الا الإشارة الى الخصائص العامة لهذه الأحزاب والاستفادة من تجاربها الحزبية في دور العمل.واهم مميزات هذه الأحزاب مايلي: أ - إنها كانت أحزاب أفراد لا أحزاب مناهج ومبادئ عامة،وان نظرة واحدة لمناهج الأحزاب المذكورة يوضح بشكل قاطع عدم اختلافها من حيث الأهداف او الوسائل.فقد كانت جميعا تستهدف تحقيق استقلال العراق السياسي واستكمال مستلزمات كيانه الدولي وانشاء وتدعيم النظام الدستوري في البلد والتعاون مع بريطانيا والدول المجاورة.كما إن نظرة واحدة الى عناصر الأحزاب المذكورة وتكوينها العضوي يوضح بجلاء أنها كانت أحزاب الساسة الطامعين في الحكم والمتوسلين اليه بكل الوسائل الممكنة.فحزب الشعب كان حزب نوري السعيد،وحزب التقدم حزب عبد المحسن السعدون،وحزب الإخاء حزب ياسين الهاشمي الخ. ب - ضيق الأهداف /لم تكن للأحزاب المذكورة برامج شاملة مستمدة من دراسة اجتماعية عامة.ولم تكن لقادتها ومؤسسيها بحكم ثقافتهم الرجعية وبيئاتهم الاجتماعية الضيقة ادراك واعي لأهمية الحلول الاجتماعية الداخلية في العمل السياسي .وقد سبق ان ذكرت انها كانت سلبية الاهداف بعيدة عن الحلول الإيجابية في المشاكل الاجتماعية. ج - انها كانت بعيدة كل البعد عن الشعبية.فلم تكن لتعتمد على الجمهور أو لتثق به،أو لتقصد الاعتماد في وسائلها الفعلية عليه،بل كانت قياداتها بحكم التربية العسكرية الدكتاتورية لأكثر قادتها من جهة(الهاشمي و نوري السعيد)،وبحكم التربية الدينية والأرستقراطية لقادتها الآخرين من جهة ثانية(آل السويدي والسعدون والجرجفجي)،بعيدة كل البعد عن الروح الشعبية وعن الأهتمام بمصالح الجمهور أو التعبير عن حاجاتهم الاجتماعية.ويستثنى من ذلك (الحزب الوطني)الذي كان برئاسة جعفر أبو التمن اذ كان الى حد كبير حزب البورجوازية الصغيرة من أبناء المدن الكبرى وخاصة في بغداد.وكان اكثر اهتمامه من الوجهة الداخلية منصرفة لتحسين أحوال الطبقة المذكورة كما انه كان مدينا في نجاحه في تحريك الجماهير وخاصة في بغداد ضد الحكومات القائمة آنذاك وضد الإنكليز لهذه الطبقة ممثلة في النقابات المهنية المختلفة التي كان الحزب يتبناها رسميا ويرعى مصالحها المختلفة.وقد كان لهذا التمثيل الاجتماعي في الحزب الوطني اثر كبير في قوته الشعبية ونجاحه في الضغط على الحكومات القائمة آنذاك وقيادته لواء المعارضة الى جانب عوامل أخرى تتصل خاصة بتضامنه مع حزب الإخاء الوطني وتوحيد سياستهما في المعارضة.
على ان الحزب الوطني لا يختلف عن الأحزاب الأخرى من حيث الخصائص العامة التي سبق ذكرها،من حيث ضيق الاهداف وعدم الاهتمام بالمشاكل الداخلية،وعدم اتباع الوسائل العلمية في العمل الحزبي،واستبعاده للأساليب الثورية من حيث الأساس،وعدم اهتمامه بالتعاون مع الأحزاب والهيئات المماثلة في البلاد الأخرى،فضلا عن انه كان يجمع شتى التناقضات الفكرية في قيادته:من القومية المتطرفة الممثلة ب(احمد عزت الاعظمي و محمد مهدي كبة)والروح الخيرية العامة الغامضة التي كان يمثلها زعيم الحزب،الى الاتجاه القومي الاسلامي الضيق المعادي للاتجاهات القومية الديمقراطية الحديثة( فهمي المدرس وعبد الغفور البدري وامثالهم).وكان هذا التناقض اهم عوامل انحلال الحزب في النتيجة والغائه رسميا بعد تصديق المعاهدة العراقية – البريطانية سنة 1930.
وقد أدى اختفاء الحياة الحزبية في العراق الى ظهور أسوء مراحل تاريخ العراق السياسي التي سبقت اعلان الحرب العالمية الثانية من سيطرة الروح الدكتاتورية التي كانت مرتبطة في الحقيقة بسيادة المبادئ الفاشية في العالم الى تردي الحياة الديمقراطية الممثلة في ثورات العشائر،واشغال الجيش بالسياسة الفردية وتفشي مظاهر الفساد في جميع أجهزة الدولة،وسيادة الروح القومية الضيقة الشوفينية في سياسة التعليم والثقافة العامة،والاهتمام بالمظاهر دون اللباب في التربية القومية،وتشريع القوانين المعادية للديمقراطية والاتجاهات الشعبية والمثبتة للإقطاع والقوى الرجعية الأخرى( تعديلات قانون العقوبات المتصلة بجرائم الأمن العام،واصدار القوانين المتصلة بالصحافة،وتشريع وتطبيق الأحكام العرفية المختلفة،واصدار قوانين التسوية والقوانين الأخرى المتصلة بمشكلة الأرض الخ).
وقد خلف الاستعمار طبقة جديدة من أبناء المدن من كبار رجال السياسة وابناء العائلات الكبرى فيها،ترتبط مصالحها الاقتصادية مباشرة بمصالحه عن طريق تكوين الشركات المالية الكبرى المرتبطة بروؤس الأموال الأجنبية،والمعتمدة في نشاطها المالي على الأسواق وروؤس الأموال الاستعمارية(عبد الهادي الجلبي وشركة أندووير،السويدي وعلي ممتاز،وتجارة العطاريات مع الشركات الإنكليزية في الهند،المدفعي وعلي كمال وعبد الهادي الدامرجي،وبتجارة الاراضي،صباح نوري السعيد وطارق العسكري وبتجارة الحبوب والمواد الغذائية الأخرى)الخ من مظاهر تردي الحياة العامة في العراق الى اختفاء الحياة الحزبية وعدم تطبيق شروط النظام الديمقراطي.

3. الأحزاب في الفترة الأخيرة

ظهرت الحياة الحزبية من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية نتيجة الظروف الاجتماعية والسياسية الجديدة التي خلفتها الحرب المذكورة في العراق وسائر انحاء العالم .وكان من اثر هذه الحرب ان اشتد الوعي العام في العراق بسبب الضائقة الاقتصادية التي أصابت سائر طبقات الشعب العراقي عدا الفئة القليلة التي استفادت ماديا منها،وبسبب اهتمام الكثير من الطبقات المذكورة بتطور الحرب وتتبع أحداثها المختلفة.كما كان لانتصار الديمقراطيات وخاصة الاتحاد السوفييتي أثره البالغ في نمو الاتجاهات التقدمية في صفوف الطبقة المثقفة وتزايد الشعور العام بضرورة إعادة الحياة الحزبية تمهيدا لتطبيق مستلزمات النظام الدستوري في العراق .وفي وسط هذه الظروف الداخلية والخارجية المؤاتية اضطرت الطبقة الحاكمة في العراق على إعادة الحياة الحزبية.
واتسمت الأحزاب الجديدة الناشئة في العراق،والتي لا حاجة لذكرها أو ذكر مناهجها تفصيلا،بخصائص جديدة ظهرت لأول مرة في تاريخ العراق السياسي.من هذه الخصائص:أ- ظهور الطابع الطبقي لحد ما في الأحزاب الجديدة،فهناك الأحزاب التقدمية وهي تمثل بمجموعها من الوجهة النظرية"الفلسفة الاشتراكية"على اختلاف درجاتها وصورها(الحزب الوطني الديمقراطي تبنى الاشتراكية الإصلاحية)،وحزب الشعب والاتحاد الوطني تبنيا الماركسية مع محاولة تكييفها لظروف العراق الاجتماعية.وتبنى حزب الاستقلال القومية البورجوازية مع محاولة فاشلة لمسايرة التيار التقدمي السائد بعد الحرب بوجه عام.ولم يتبلور هذا الطابع في حزب ما،بشكل محدد،نظرا لعدم ظهور الطبقات الاجتماعية المستقلة في العراق ونظرا لتداخل المصالح الاجتماعية في تلك الفترة. ب - ظهور الشمول والسعة والتفصيل في مناهج الأحزاب الجديدة،والاهتمام النظري على الاقل بمعالجة المشاكل الاجتماعية،وادراك واضح(خاصة في الأحزاب اليسارية) لوحدة الجوانب المختلفة في الكفاح الحزبي،والربط بشكل آلي بين الاصلاح الداخلي والعمل في سبيل الاستقلال الوطني.على ان هذه الاحزاب الجديدة لم تخلو من نواقص جوهرية سواء أكان ذلك في مبادئها أو في تشكيلها أو في وسائلها في العمل،مما كان ولا يزال من أهم أسباب فشلها الى جانب الأسباب الأخرى التي تتصل بحداثة الحياة الحزبية من جهة وبضعف الإمكانيات الاجتماعية الحزبية في العراق من جهة أخرى.ولا يمكن بطبيعة الحال استعراض مناهج الاحزاب الجديدة جميعا واستعراض سياساتها العملية منذ نشوءها حتى الآن،ولذلك سنأخذ على سبيل التمثيل حزبي الاستقلال والوطني الديمقراطي لإظهار بعض النواقص المذكورة.

حزب الاستقلال

اول ما يلاحظ فيما يتصل بمنهاج هذا الحزب انه منهاج غير علمي،أي انه لا يستند الى نظرية علمية صحيحة في المسائل الاجتماعية والمشاكل المختلفة القائمة في العراق،والتي يتوقف على حلها وحسن علاجها مصير الحياة الحزبية جميعا.فهو من جهة يبين وجهة النظر القومية بالمعنى التقليدي،أي انه يتعامى بشكل ساذج عن حقيقة التناقض الاجتماعي القائم في العراق ويفترض وحدة الشعب العراقي ويبني مبادئه وحلوله على هذا الأساس الزائف،ويقع بسبب ذلك في أخطاء فيما يتصل ببعض المشاكل الأساسية في البلد.مثال ذلك الموقف من مسألة العمل؛فهو يحلم بحل مسألة العمل في العراق على أساس (التعاون)بين العمال وأرباب العمل،ويضع أمر حل النزاعات المتصلة بذلك بيد لجنة مؤلفة من الجانبين مع اشتراك الدولة في ذلك بدون ملاحظة طبيعة الدولة في النظام الاجتماعي القائم.وبالجملة فهو يتبنى وجهة النظر الفاشية في المسألة المذكورة،وهي وجهة نظر طبقية صرفة كما نعلم،بعيدة كل البعد عن المصلحة القومية ولا تخدم إلا مصلحة أرباب العمل ولا تعمل قيد شعرة على حل مشكلة العمل،بل تؤجلها الى حين.
ويلاحظ ثانيا في المنهاج المذكور انه منهاج سلبي في اكثر دوافعه وأهدافه،وقد وضع الشيوعية خاصة والتقدمية عامة الى جانب الاستعمار.واعتبر الأولى عنصرا من عناصر تفكيك وحدة الأمة،كما اعتبر الأخير عاملا من عوامل القضاء عليها.وهو في ذلك يمثل مصالح الطبقة الوسطى الناشئة التي تخشى الشعب وحركاته ووعيه بقدر ما تخشى الاستعمار.وكلنا نعرف المغالطة السياسية في منهاج هذا الحزب في هذا الصدد،وهي الخلط عمدا أو جهلا بين واقع التناقض الاجتماعي القائم بسبب العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤدية حتما الى طبقية المجتمع،(وخاصة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج) وبين هدف الشيوعية في القضاء على التناقض المذكور بالوسيلة الوحيدة العلمية التي أثبتها التاريخ وهي الكفاح الاجتماعي الطبقي،اي ان المغالطة قائمة على الخلط بين (وسيلة) الشيوعية في العمل وهي الكفاح الطبقي وبين (هدفها)النيل في القضاء على الكفاح المذكور.وسنرى فيما بعد الأسباب الثقافية والنفسية التي تساعد على انتشار هذه المغالطة بين صفوف الطبقة المتعلمة في العراق.
ويلاحظ ثالثا التناقض البارز في منهاج هذا الحزب بين المقدمات النظرية الفلسفية التي يتبناها الحزب وبين بعض الحلول التفضيلية التي يقترحها.مثال ذلك،انه يؤكد في الكثير من حلول الحزب المتصلة بالنظام الاقطاعي ومشكلة الأراضي في العراق على استغلال الطبقة الإقطاعية القليلة العدد القوية النفوذ للأكثرية الساحقة من الفلاحين.ويستنكر هذا الاستغلال نظريا،ويقترح توزيع بعض أراضى رجال الاقطاع على الفلاحين مما يستلزم مقدما التسليم بالتناقض الاجتماعي بين الفئتين،وبذل المحاولات المختلفة للتخفيف من حدته أو للقضاء عليه.وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل لا أتذكرها تفصيلا.وتعليل هذا التناقض واضح،فهو يعود من جهة الى عدم الانسجام في قيادة الحزب وفي الاتجاهات الفكرية لمؤسسيه،إذ انهم وان كانوا جميعا ينتمون الى الطبقة الوسطى ويمثلون مصالحها الأساسية الا انهم يختلفون في وسائل تبني هذه المصالح،وبالتالي في الاتجاهات الفكربة التي تمثلها.وقد سبق ان ذكرت ان بعضهم يتبنى القومية الضيقة متأثرا تأثرا واضحا بالمبادئ الفاشية ( صديق شنشل – السامرائي)،وبعضهم يميل الى مسايرة الاتجاه الاصلاحي مما يقرب الى حد كبير من الاشتراكية الاصلاحية المعروفة في اوربا الغربية (محمد مهدي كبة،عبد الرزاق الظاهر)،وبعضهم لا يفرق بين الدين والقومية ويحاول حشر الدين الاسلامي في السياسة الوطنية باعتبار الدين المذكور من المقومات الرئيسية للقومية العربية ،متأثرا في ذلك بالفاشية اليابانية (محسن الدوري،عزيز الدوري،ناجي معروف،عبد الرحمن الجليلي).ويتجلى التناقض من جهة ثانية بالشعور الواضح بلزوم مسايرة الاتجاه اليساري السائد في العالم بسبب الظروف الجديدة التي خلفتها الحرب والى عدم امكانية الوقوف في وجه هذا التيار بشكل محدد صريح ومحاولة مسايرته في بعض الحلول التفصيلية التي جاءت لا تتلائم بحال من الاحوال مع المقدمات والافتراضات الفلسفية التي تبناها الحزب.
وقد كان لهذا (الاضطراب في المنهاج) ما يقابله من الاضطراب في (تكوين القيادة).ان قيادة حزب الاستقلال لا تجمعها جامعة فكرية إيجابية بل كل ما تجمعها الى جانب الصلات الشخصية الخاصة والاشتراك المؤقت الطارئ في المعتقلات والسجون أثناء الحرب الأخيرة،الأهداف السلبية المذكورة وهي: كراهيتها للانكليز من جهة وعدائها للتقدمية من جهة أخرى،ويستطيع الانسان ان يلاحظ بضعة اتجاهات واضحة في القيادة المذكورة وفي عناصر الحزب بوجه عام،منها القومية بالمعنى الضيق مع سائر مستلزماتها الاجتماعية والاقتصادية (الوحدة العربية ، سياسة الحماية الكمركية ، اعتبار العمل واجبا مقدسا ، تحديد حرية النقابات ، تدخل الدولة الاقتصادي على الأساليب الفاشية المعروفة ،تفسير التأريخ العام والعربي تفسيرا قوميا محضا ، تشجيع الروح العسكرية،الخ).ومنها الروح الطائفية التي تسود الجانبين والجماعتين في القيادة.ومنها الروح الاسلامية التي اتضحت في بعض مبادئ الحزب وفي منهاجه،كتشجيع الدراسات الاسلامية ، وتقوية الروح الدينية في التعليم ، ووضع التشريع المدني على أساس الفقه الاسلامي ، الى غير ذلك من ظواهر هذه الروح. واخيرا ، الاتجاه الاشتراكي الاصلاحي الذي ظهر أثره- كما ذكرنا- في بعض مبادئ الحزب أيضا كموقفه من مشكلة الاقطاع وبعض الحلول التفصيلية المتصلة بالمسألة المالية كالضرائب التصاعدية وتشجيع التعاونيات الزراعية،الخ.
واذا انتقلنا الى التكوين الاجتماعي لحزب الاستقلال والعناصر المختلفة المنتمية اليه،لوجدنا ( بشكل واضح ) انه حزب مثقفين ولم يعتمد على العناصر الاجتماعية الأخرى ولم يحاول كسبها أو التوسل في أساليبه في العمل معها.وقد استطاع ان يكسب في الواقع عددا كبيرا جدا من الطبقة المتعلمة وخاصة في أوساط المحامين والطلبة لأسباب اجتماعية سيأتي ذكرها بعد ذلك !
والخلاصة في هذا الحزب انه حزب لن يكتب له النجاح في ميدان العمل ، النجاح بالمعنى الواسع ، أي قيادة الجماهير من جهة ومحاولة التأثير على موقف الطبقات الحاكمة وارغامها على التنازل عن بعض الحقوق الشعبية..وذلك لسبين أساسيين : الأول / السبب العام المتصل بطبيعة القومية البورجوازية في عالم اليوم واحتضارها باحتضار النظام البورجوازي نفسه بعد أن أدت الطبقة ومن عبر عن مصالحها الدور الاجتماعي المطلوب في التأريخ أي القضاء على النظام الاقطاعي وعلى جميع مستلزماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية ، ثانيا / أسباب خاصة تتصل بطبيعة الحزب المذكور .وهي الأسباب التي أجملناها قبل قليل.


الحزب الوطني الديمقراطي

لاشك ان منهاج الحزب الوطني الديمقراطي هو احسن منهاج موضوع لحالة العراق الاجتماعية والسياسية في المرحلة الحاضرة في تاريخ العراق حتى الآن.منهاج علمي متناسق منسجم لا يتعارض والنظرية العلمية الماركسية في تطبيقاتها على العراق،وان كان من مآخذه الهينة التأكيد على بعض النقاط الفرعية والتهوين من بعض النقاط الأساسية ،كمسألة النقابات وغيرها.على ان ذلك لا يعني بأن الحزب المذكور يمثل ويتبنى النظرية الماركسية لسببين :
1. لأنه يعتبر المنهاج المذكور منهاجا نهائيا وهدفا أخيرا بجهوده الحزبية،أي انه لا يؤمن بقابلية المنهاج المذكور وبضرورة تطوره حسب تطور العراق الاجتماعي،أي انه لا ينظر الى المرحلة الاجتماعية الحاضرة،النظرة النسبية اللازمة،وقد ثبت ذلك من خطاب رئيسه في الحملة على الجناح التقدمي للحزب.
2. الأهم من ذلك في عدم ماركسية الحزب،و انه لا يتبنى التكتيك العلمي اللازم في النشاط الحزبي،أي الوسائل القائمة على التطور والنسبية والثورية والدولية،بل سار في عمله الحزبي على أساليب الاقناع فقط،واستنكر وندد بجميع وسائل الضغط في داخل الحزب وفي الهيئات والجماعات الخارجة عنه.على ان نقاط الضعف البارزة في هذا الحزب تتصل بناحيتين،الناحية الأولى ناحية عدم الانسجام في القيادة:لقد ولد هذا الحزب وهو لا ينطوي على عناصر الحياة الدائمة أو البناء،ذلك لأن قيادته تجمع عناصر مختلفة في الاتجاهات الفكرية الأساسية،ولا تجمعها الا جامعة الميول التقدمية العامة،والا بعض الاتصالات والتعارفات الشخصية أحيانا.ان بعض عناصر القيادة شيوعية خالصة تؤمن بالشيوعية نظريا وعمليا،وقد انضمت الى الحزب وثبتت منهاجه باعتبار انه خير ما يناسب الامكانيات الحزبية القائمة في المرحلة الاجتماعية الحالية للعراق ولم يدر بخلدها ان الحزب سيشجب الوسائل الماركسية في العمل ويقتصر على طرق الاقناع وعلى النشاط الثقافي فقط .ولكن هذه العناصر(الجناح التقدمي أولا : وطلعت الشيباني وزكي عبد الوهاب ..ثانيا) سرعان ما اصطدمت بالحقيقة،ففصلت أو حملت على الاستقالة .كما ان بعض هذه العناصر تتجه اتجاها اشتراكيا ديمقراطيا،أي تتبنى الاتجاه الاشتراكي الغربي،وهو اتجاه معارض كل المعارضة للاتجاه الماركسي،مخالف له من حيث الأساس سواء أكان ذلك في نظريته الاجتماعية العلمية أو في وسائله لتحقيقها.والاشتراكية الاصلاحية كما نعلم صورة من صور الفلسفة اليمينية ووسيلة من وسائلها لمحاربة الماركسية في بعض المراحل الاجتماعية،ولا يمكن الجمع بينها وبين نقيضها،أي الماركسية،الا على سبيل التكتيك في بعض الظروف الخاصة.والأغرب من كل ذلك ان قيادة هذا الحزب ضمت لها بعض العناصر التي لم يعرف عنها أنها تقدمية الاتجاه( مثلا - البجاري) بل بعض العناصر التي لا تتفق مصالحها وجبرية العمل بهذا الاتجاه(الازري)وبعض العناصر الأخرى التي تقف من التقدمية موقف العطف النظري،وهي بعيدة كل البعد بحكم مصالحها وأحيانا مزاجها الخلقي الخاص عن الكفاح الحزبي بكل ما يستلزمه من خصومات ومضايقات وتضحيات(كمونة و مرجان)والخلاصة ان قيادة الحزب لم يكن يمكنها ان تستمر على الشكل الذي ولدت فيه بل كان مصيرها حتما الانحلال والتصفية.وهكذا كان،حتى أصبحت اليوم خاضعة خضوعا تاما لأتجاه رئيسها في السير على مبادئ وأساليب الأشتراكية الأصلاحية.
على ان قوة الحزب وأساس نجاحه في كسب احترام الطبقة المتعلمة في العراق ترجع في الحقيقة الى عامل أساسي مهم في العمل الحزبي هو ثقافة القيادة وتقسيم العمل بينها واتباعها الأساليب العلمية الشكلية في الميدان الصحفي والخطابي والثقافي بوجه عام.هذه الوسائل العلمية الهادئة في مناقشة المشاكل الوطنية والدولية،ومعالجتها معالجة رصينة بعيدة عن الحماسة والتقليد لازمة كل اللزوم في إقناع وكسب الطبقة المتعلمة،وهي الزم لبلد كبلدنا حيث تتصف الطبقة المتعلمة بصفات خاصة.ولكن الأسلوب المذكور لم يجد نفعا في استمالة الجمهور والطبقات الشعبية والعمال بل بقي الحزب بعيدا عن عطف الجماهير وقاصرا على الطبقة المتعلمة فقط.كما انه لم يستطع أيضا التأثير على سياسة الحكومات القائمة بالرغم من شدة الانتقادات وقسوة الحملات الصحفية التي شنت عليها،بل كان الفضل في حمل تلك الحكومات على تغيير موقفها وحتى الاستقالة أحيانا استجابة للحملات الشعبية التي كانت توجهها الجماعات الحزبية غير المجازة.ولا يخفى أيضا ان الحزب المذكور شجع الحكومات الرجعية على محاربة الشيوعية وتعقب أنصارها بموقفه الخاص من الجناح التقدمي داخل الحزب ومن الشيوعيين عامة خارج الحزب أيضا.والخلاصة ان الحزب الوطني الديمقراطي لا يمكنه بطبيعته ووسائله ان يحقق حاجات العراق الحزبية أو ان يغير جديا من مواقف الحكومات القائمة.

القسم الثاني

امكانيات العراق الحزبية

خلاصة ما تقدم اذن عن الأحزاب القائمة في العراق،إن واحدا منها لا يكفي بمفرده وبشكله الذي عرضناه ان يكون محل الاعتماد والثقة لقيادة الحركة الحزبية في العراق ورفع لواء المعارضة الجدية في سبيل تغيير الوضع الاجتماعي فيه.بل لابد من حزب جديد يجمع بين العناصر الحية في الأحزاب القائمة ويستغل الامكانيات الاجتماعية في العراق.ويستفيد منها جميعا وفق الخطة العلمية العامة والوسائل العلمية الخاصة التي أشرنا اليها.
على إن معرفة إمكانيات الحزب المذكور تتوقف بطبيعة الحال على دراسة امكانيات العراق الاجتماعية أي على دراسة الطبقات الاجتماعية في العراق بمعرفة عناصر القوة وعناصر الضعف في الحياة الحزبية.ولا يمكن في هذه العجالة طبعا الا الاشارة إشارات عامة الى الخطوط الرئيسية في الوضع الاجتماعي من العراق.
يمكن استعراض الطبقات الاجتماعية في العراق فيما يلي:
1) البدو : لا شك إن طبقة البدو الرحل لا يمكن التفكير في الاستفادة منها في أي عمل حزبي آني لعدم استقرارها و لانعدام الوعي العام فيها.ومشكلة الاستقرار في الطبقة المذكورة هي المشكلة الأساسية الممهدة لجميع الامكانيات الاجتماعية الأخرى فيها .
2) الفلاحون : من المعلوم ان هذه الطبقة تكون الأغلبية الساحقة من سكان العراق.ومشكلة المشاكل في هذه الطبقة هي نظام الاقطاع القائم خاصة في الجنوب.ونظام الاقطاع كما هو معلوم،وان كان نظاما اقتصاديا من حيث الأساس،يستند الى ملكية رؤساء الاقطاع للأراضي الخاصة أو الأميرية أو الى التصرف الدائم بها،الا انه نظام له مستلزماته السياسية والقانونية وحتى الفكرية،ولا يمكن دراسة هذا النظام بكلمات.لهذا أجلتها الى فرصة أخرى لأهميتها البالغة في حياة العراق العامة واكتفي بالاشارة الى بعض الخطوط الرئيسية الواجبة الدرس في هذا الصدد..
ان نظام الاقطاع يستند الى أربعة مصادر قوى أساسية. فهو يقوم في قوته الاقتصادية على ملكية الأرض أو التصرف بها،ولذلك يجب دراسة نظام الأرض في العراق على ضوء قوانين الأراضي القديمة وقوانين التسوية والتصرف وهي قوانين وضعت خصيصا لتقوية نظام الاقطاع وتثبيته بعد ان بدأت تدب فيه عوامل الانحلال بفضل التطور الاجتماعي.
كما انه يقوم على قوة بشرية هائلة هي قوة جماهير الفلاحين الخاضعة لمشايخ العشائر ورؤسائها(أي لرجال الاقطاع)بحكم تبعيتها الاقتصادية من جهة،وبحكم نظامها الأخلاقي والثقافي القائم على الطاعة والايمان بالقدر والاستسلام للعصبية القبلية وسيادة الخرافات الدينية.ومصدر القوة الثالثة هو النظام التشريعي السائد في العراق والمكرس في اغلب نواحيه وتفاصيله لتثبيت الاقطاع وخدمة رجاله.فقوانين العشائر والاختصاصات الادارية القضائية الواسعة واكثر قوانين الأرض والزراعة- خاصة قانون حقوق و واجبات الزراع- وأكثر نظم ولوائح الري والسداد،كل ذلك مكرس لخدمتهم ولتثبيت مصالحهم.بل يمكن القول بدون مبالغة بان الجهاز الحكومي و بسائر فروعه موجه في الأرياف لخدمة النظام الاقطاعي واخضاع جماهير الفلاحين لنيره.
ولا ننسى طبعا القوة الخارجية التي تكمن وراء جميع هذه الأنظمة وتعمل على ادامتها وتثبيتها والمتمثلة في الاستعمار الخارجي وطبقة كبار الموظفين التي تعيش الآن على رجال الاقطاع ومنحهم ورشواتهم،وخاصة رؤساء الوحدات الادارية ورجال القضاء،ورجال الأمن،والقائمين على مشاكل التموين .
ومع ذلك فان التطور الاجتماعي الاخير في العراق،وخاصة التطور الاقتصادي،بدأ يعمل على انحلال هذا النظام وتفسخه وسيؤدي لا محالة الى القضاء عليه في النهاية.ومما يجب درسه في هذا الصدد :
• الضعف الاقتصادي المريع أحيانا الذي بدأ يصيب بعض كبار رجال الاقطاع ويبهضهم بالديون الثقيلة لأثرياء المدن الكبرى،ويلزمهم بدفع المبالغ الطائلة بالربى الفاحش للجماعة المذكورة( آل شلال مثلا وسيطرتهم على الفرات الأوسط)،وجاءت الضربة الثانية على رجال الاقطاع من جراء دخول أبناء المدن واثريائها في معترك الحياة الزراعية،وغزوهم غزوا قويا لمعاقل الاقطاع.وقد كان ذلك نتيجة عوامل مختلفة منها نمو الثروة الخاصة في المدن الكبرى وعدم امكانية استغلالها في المشاريع الصناعية لأسباب مختلفة،واضطرار اصحابها على تثميرها في الحياة الزراعية(الدامرجي،عبد النبي الدهوي مثلا وغزوهما مناطق كبيرة في لواء ديالى)،ومنها اضطرار بعض رجال الاقطاع وخاصة اولئك الذين فسحوا المجال من الوجهة الاقتصادية على اشتراك أبناء المدن وخاصة كبار رجال السياسة والمتنفذين من رجال الطبقة الحاكمة في حياتهم الزراعية املا في انقاذ موقفهم المرتبك.ومن المعلوم ان فريقا كبيرا من رجال السياسة اليوم اثروا عن هذا السبيل واصبحوا يعدون من كبار ملاك الأراضي الزراعية (المدفعي واراضي كرارة ؛العسكري،عبد الكريم الازري).
• والعامل الآخر من عوامل انحلال النظام الاقطاعي هو بداية دبيب الوعي في سكان الأرياف ونشوء مراكز كثيرة في مراكز الألوية والاقضية وبعض النواحي المهمة في صميم الريف يصح ان تسمى (مراكز ثقافية تعليمية ) بدأ ينتشر الوعي فيها الى الأرياف نتيجة دخول التعليم فيها،ولاشك ان هذا العامل سيكون حاسما في القضاء على النظام الاقطاعي .
• ومن العوامل الملحوظة في تفسخ النظام الاقطاعي الهجرة العامة خاصة اثناء الحروب،من الأرياف الى المدن الكبرى بسبب الضائقة الاقتصادية التي ترهق كواهل الفلاحين وترغمهم على الانتقال الى ميادين أوسع فيها.
وقد خلقت هذه الهجرة مشاكل جديدة في المدن الكبرى وخاصة في بغداد،مشاكل تتصل بالتموين والأمن والأجرام الا أنها على كل حال عامل هام من عوامل تفسخ النظام الاقطاعي الذي يعتمد على طاعة وتبعية جماهير الفلاحين.
• واخيرا فان الطبقة الاقطاعية فقدت قوتها الداخلية وتضامن رجالها نتيجة النزاعات المختلفة التي احتدم أوارها في الفترة الأخيرة من تاريخ العراق نتيجة تدخل السياسة فيما بينها،وتنافسها وتكالبها على الحصول على وسائل القوة الجديدة التي نشأت عن نظام الدولة الجديد،من عضوية النيابة الى عضوية الوزارة أحيانا الى غير ذلك.وبالرغم من بعض المحاولات الفاشلة في الفترة الأخيرة لجمع شملها وتوحيد جهودها ضد عوامل الانحلال المذكورة(من المؤتمرات العشائرية الأخيرة الى محاولة ايجاد حزب جديد)،فان المحاولات المذكورة انتهت الى الفشل بسبب طغيان التطور الاجتماعي الجديد.
والخلاصة فان طبقة الفلاحين بحكم خضوعها للنظام الاقطاعي لا تصلح كمصدر مباشر للامكانيات الحزبية المنظمة وان كان من الممكن القيام بمحاولات جزئية في نشر الوعي فيها عن طريق المدارس الريفية خاصة.
3) سكان المدن :ان المدن هي المصدر المباشر لإمكانيات العمل الحزبي ويمكن تقسيم سكان المدن من وجهة الإمكانيات الحزبية الى ثلاثة أقسام.
أ‌. العمال الصناعيون - لاشك ان طبقة العمال هي أهم عنصر قابل للاستفادة منه في العمل الحزبي الجدي.وبالنظر لأهميتهم من جميع الوجهات في أي عمل حزبي فعال،وبالنظر الى ان تنظيمهم السياسي والنقابي من أول مستلزمات العمل المذكور،اصبح للنقابية اكبر الأهمية في الحياة الحزبية،ولا يمكن في هذه العجالة الا الاشارة لهذه الأهمية فقط.أما الدراسة التفصيلية للنظام النقابي في العراق وقوانين العمل الأخيرة وامكانيات التنظيم النقابي بموجبه،وتجارب النقابات التي تكونت فعلا،فكل ذلك يحتاج لبحث خاص.
ب‌. الطبقة الوسطى الصغيرة - لهذه الطبقة في حياتنا الاجتماعية الحاضرة أهمية قصوى لم تلتفت لها الأحزاب الحالية كما يجب،بالاضافة الى أهميتها العددية في المدن الكبرى والصغرى على السواء اذ تكون الأغلبية الساحقة من سكانها بدون ريب،لذلك فانها اكثر الطبقات العامة وعيا بحكم معارفها العملية الناشئة عن أعمالها التجارية وظروفها المهنية واتصالاتها المباشرة بدوائر الدولة ومراكز التجارة الكبرى في المدن كالشركات التجارية وتجار الجملة والمستوردين والمصدرين الكبار،وهي مراكز ليست تجارية فقط بل مراكز ثقافية في الواقع تكسب المتصلين بها خبرة عملية فتزيد في معارفهم وتوسع من نطاق آفاقهم للحياة.كما ان لهذه الطبقة خبرة سابقة في الاشتغال بالمسائل الوطنية العامة. وكانت من أهم مصادر قوة الحزب الوطني.وكان لتنظيمها النقابي اكبر الأثر في لم شتاتها وجمع كلمتها وقيامها ببعض وسائل الضغط الهامة على الحكومات القائمة آنذاك(اضرابات 1930 ومقاطعة شركة الكهرباء الأجنبية ومقاطعة الانتخابات النيابية).والاهم من كل ذلك ان هذه الطبقة اكثر الطبقات تأثرا بالتطور الاجتماعي والاقتصادي في المدن الكبيرة خاصة. وقد ظهر تطور اقتصادي جديد قبيل الحرب العالمية الثانية في المدن الكبرى في العراق وزادت الحرب(بما تجمع لدى البعض من ثروات طائلة)في حدة التطور فنشأت شركات كثيرة في بغداد والبصرة تحاول السيطرة بل احتكار التجارة الداخلية والخارجية في بعض المواد الأساسية كالشاي والسكر والأقمشة علاوة على تجارة الأراضي المربحة.ولاشك ان هذا التطور يقضي على حياة الكثيرين من أفراد الطبقة الوسطى الصغيرة،مما يجعلهم بحكم مصالحهم الاقتصادية اشد وعيا من غيرهم واكثر ادراكا لأهمية تنظيمهم واقرب مثالا من جميع الطبقات الأخرى لأمكانيات العمل الحزبي الفعال.على ان هناك خصائص خاصة في هذه الطبقة تضعف الامكانيات المذكورة،فهي من جهة تفصل بين المهنية والعمل السياسي اذ هي تشعر بحكم مصالحها بأهمية تنظيمها المهني لكنها لا تدرك بحكم ضيق افقها الاجتماعي أهمية العمل السياسي في هذا المجال.وهي على العموم جامدة لا تثق كثيرا بالتغيير والتطور وتكره دائما الأساليب الثورية ووسائل العنف وتشعر بحاجتها للدوام والاستقرار وابقاء ما كان على ما كان.هذا فضلا عن مزاجها الديني الحاد وتعصبها الشديد له وكراهيتها الفطرية لجميع الأفكار والاتجاهات التي تمس المشاعر الدينية من قريب أو بعيد.
هذه الحالة الاقتصادية والعقلية الخاصة لهذه الطبقة يجب ان يحددا الوسائل اللازمة لكسب هذه الطبقة والتكتيك المناسب لضمها للحركة السياسية الحزبية . فيجب أولا اعادة الحركة النقابية لهذه الطبقة والاهتمام الجدي بذلك والتعاون معها من الوجهة السياسية ..كذلك يجب توجيه الحزب وجهة ثابتة مقصودة نحو الاهتمام جديا بمصالح هذه الطبقة المباشرة سواء أكان ذلك في منهاج الحزب ومبادئه وأهدافه المباشرة ،أو في شعارات الحزب ووسائله في الدعاية والنشر أو في أعمال الحزب الفعلية وحركاته في العمل. ومن الوسائل اللازمة المناسبة لكسب هذه الطبقة الاستفادة من اجتماعاتها التقليدية وخاصة الدينية منها لنشر الوعي العام فيها بالطرق الملائمة لثقافاتها وعقلياتها.وعمل الحزب الوطني في هذا السبيل أيضا كاستغلال التعازي والأعياد والزيارات،الخ.وقد كانت لشخصية رئيسه المحترمة وبعض عناصر القيادة فيه الأثر الخاص في نجاح تلك الفعاليات .كما ان انضمام كبار رؤساء هذه الطبقة وزعمائها النقابيين للحزب المذكور اثر واضح في ذلك أيضا.
ت‌. المتعلمون- وهم فريقان :1- اليساريون . لاشك إن لليساريين في الطبقة المتعلمة في العراق كل الأهمية في العمل الحزبي المباشر إذ يجب أن يكونوا وحدهم المسيطرين على عناصر التوجيه في الحزب ومراكز القيادة فيه،ولذلك يجب دراسة هذه الجماعة بشيء من التفصيل. أول ما يلاحظ عن هذه الجماعة قلة العدد وسبب ذلك معروف يتعلق بالأنظمة العامة في العراق،وخاصة نظام التعليم المتصف بالطبقية من جهة،وبالمميزات الأخرى التي سيأتي ذكرها بعد حين .
وثاني ما يلاحظ في هذه الفئة قلة الدراية التي تتمثل في مظاهر مختلفة منها نقص المعلومات المنظمة عن النظرية الماركسية نفسها وعن تطبيقاتها المختلفة وتطوراتها الدائمة عند الأمم واتجاهاتها المختلفة في ظروف العالم الحديثة؛ومنها نقص المعلومات عن أحوال العراق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعدم الاهتمام الجدي بملاحظة مشاكله ودراسة ظروفه الخاصة،ومنها أيضا نقص المعلومات الاجتماعية العامة وعدم الإلمام بالاتجاهات المختلفة المعارضة للماركسية في الوقت الحاضر.هذا النقص البارز في الكفاية الفكرية وفي المعلومات العامة اتضح كل الوضوح في كتابات ونشرات وترجمات اليساريين في العراق وخاصة في مطبوعات صحيفة حزب الشعب.واذا استثنينا عزيز شريف من الحزب المذكور لوجدنا تأخرا مؤسفا في كتابات قادة هذا الحزب،وفي معالجتهم لمشاكل العراق المختلفة( توفيق منير والآخرين )،على ان المظهر الأكبر لنقص الدراية المذكور هو الخطأ في وسائل التطبيق أي نقص الالمام بالتكتيك الحزبي وعدم الاهتمام بالعوامل النفسية المحيطة بالأفراد والجماعات.وقد كان لهذا العامل أثر واضح في اختلاف اليساريين واهتمامهم بالتوافه دون اللباب.
كذلك من الظواهر الواضحة في هذه الفئة هو الانقسام والتشتت وكثرة الخلافات،ولاشك ان لهذه الظاهرة عوامل اجتماعية عميقة،بعضها يرجع الى الاختلاف الطبقي في هذه العناصر والظروف الاجتماعية المختلفة التي نشأوا فيها،والروح العامة المتباينة التي نشأت عن ذلك، والأمزجة المختلفة المتفرعة عنها ( عزيز شريف و كامل الجادرجي )والبعض الآخر يرجع الى المنافسات الشخصية و الاختلافات الخاصة التي ترجع أحيانا الى أصول تتصل بعهد التلمذة والدراسة والاشتغال المبكر غير الناضج في المسائل العامة،على ان أحد العوامل الكبرى في هذا الاختلاف هو العقلية الدوغمائية النظرية التي تتصف بها الطبقة المثقفة عامة والعناصر غير الناضجة منها خاصة.هذه العقلية التي تبعد أصحابها عن المشاكل العملية وتضفي عليهم طابعا خاصا من المثالية الفلسفية والتفريعات النظرية الفكرية البعيدة.ولعل اكبر سبب في تطرفهم ومغالاتهم(أمثال/ داود الصائغ)وعدائهم لجميع اليساريين العراقيين وتوجيههم جميع جهودهم وقواهم للقضاء عليهم بدل توجيه الجهود للقضاء على القوى الرجعية يرجع الى هذه(الدوغمائية)الفكرية.
ومن العوامل المهمة في هذا الاختلاف أيضا عدم ظهور شخصية ماركسية قوية تفرض احترامها على الجميع وتتمتع بمزايا خاصة من تاريخها أو ثقافتها أو مركزها الاجتماعي ينظم تحت لوائها الجميع.أي بعبارة أخرى ان تساوي مركز العناصر التي تشغل مراكز القيادة في هذه الفئة في الوقت الحاضر،أو شعورها بهذا التساوي عامل مهم في منافساتها واختلافها ورغبة كل منها في عدم السير تحت لواء الآخرين ..واحسن دليل على ذلك هو قبول اكثر عناصر هذه الفئة الالتفاف حول جعفر أبو التمن بالرغم من افتقاره الى جميع عوامل اليسارية الواعية،فلو ظهر رجل له مركز أبو التمن مثلا،ويعتنق الماركسية نظريا وعمليا بنفس الوقت لاستطاع لحد كبير ان يوحد جهود هذه الفئة ويقضي على الاختلافات المصطنعة بينها.
وملاحظة أخرى عن هذه الفئة هو عدم تحرر البعض منها للأسف الشديد من النزعات الرجعية المناهضة للماركسية فبعضها يوفق بين الشيوعية والعنصرية ويستغل الأولى منها لتطبيق وتحقيق الثانية وكثير من الشيوعيين اليهود من هذا القبيل.والبعض الآخر لم يتحرر بعد من عوامل الطائفية ولم يدرك الطبيعة الاجتماعية والأسباب العامة لظهور الطائفية. واخيرا فان بعض أفراد هذه الفئة بل بعض كبار التقدميين فيها لا ينظرون الى الشيوعية والاتجاهات التقدمية الأخرى الا بمنظار ثقافي خاص أي لا يدركون مضمونها الثوري وقيمتها في تبديل المجتمع ووسائلها في هذا التبديل .هذه الفئة تضع الشيوعية وضعها لسائر المدارس الفكرية الأخرى،باعتبارها تيارا عاديا من تيارات الفكر البشري بدون التفات الى الصفة الأساسية منها،صفة الكفاح الاجتماعي لتبديل المجتمع،أو بكلمة واحدة تضع هذه الفئة نفسها موضع المتفرج على(الرواية الاجتماعية)ان صح التعبير،وليس موضع المشترك في التمثيل.ولعل اكثر عناصر الحزب الوطني الديمقراطي من هذا القبيل.
والخلاصة عن هذه الفئة انها قليلة العدد ضعيفة الكفاية،موزعة الاتجاهات،ولكنها على كل حال المصدر الوحيد في الوقت الحاضر لإمكانيات الحزب الماركسي المطلوب وتسلم مراكز القيادة فيه،وسنرى بعض الوسائل الممكن استخدامها للعمل على توحيد هذه الفئة وشحذ وعيها الماركسي العام .
2- باقي المتعلمين(ولا أقول المثقفين لأن ثقافة هؤلاء الاجتماعية خاصة لا يمكن ان تعد ثقافة علمية بالمعنى الصحيح).ان أهمية هذه الطبقة واضحة في كل عمل اجتماعي حزبي في العراق لأنها الطبقة الواعية من جهة ومصدر القوى التوجيهية لطبقات الأمة الأخرى من جهة ثانية ، ولا يمكن في هذه العجالة دراسة هذه الطبقة بالتفصيل المطلوب بالرغم من الأهمية البالغة لهذه الدراسة لمعرفة الإمكانيات الإيجابية فيها واستيعاب مصادر القوة والضعف في ثقافتها وأمزجتها واتجاهاتها الفكرية.
أول ما يلاحظ على هذه الطبقة أحوالها الاقتصادية المزرية في الوقت الحاضر، ويرجع ذلك الى عوامل عميقة تتصل بالوضع الاجتماعي العام في العراق وأنظمته السياسية والاقتصادية .وقد زادت الحرب الأخيرة في تردي الأحوال المذكورة لزيادة مستوى المعيشة وثبات إيرادات اكثر أفراد هذه الطبقة أو ايرادات آبائها.ولنأخذ مثلا على ذلك المحامين _ باعتبارهم أقوى عناصر هذه الطبقة في الإمكانيات العامة وانشطها فعالية في العمل …نظرة واحدة الى أحوال المحامين في العراق والى أسباب سوء أوضاعهم الاقتصادية ترينا ان مرجع ذلك يعود في الواقع الى تردي جهاز الدولة العام كله ، فيعود من جهة الى نظام العراق السياسي غير الديمقراطي حيث ان الرشوة والنفوذ الشخصي أهم الوسائل الموصلة اليوم لحل النزاعات القانونية ، فانفردت فئة قليلة من كبار المحامين باحتكار الدعاوى الهامة على حساب ضياع كل عناصر الكفاية القانونية والنشاط الفعلي لأغلبية المحامين وخاصة العناصر الناشئة فيها . كذلك يعود ذلك الى نظام العراق الاجتماعي حيث لا تتوفر في الأرياف والأماكن البعيدة وسائل المواصلات الكافية ووسائل الراحة البسيطة ، فتركز اكثر المحامين في بعض المدن الكبرى فقط في الوقت الذي يفتقر فيه الريف وهو موطن المنازعات الأساسي الى ابسط المحامين واقلهم كفاية . كذلك يعود التردي في الوضع الاقتصادي الى النظام القضائي العراقي خاصة حيث جرد القضاء العراقي الاعتيادي من أهم اختصاصاته الطبيعية ووسع اختصاص رجال الإدارة وكبار موظفي الدولة في المسائل الإدارية والمالية والعشائرية ومسائل التموين والتغذية ومشاكل السداد والري ، واصبحت المحاماة في جميع هذه المسائل الأساسية وقفا على فئة قليلة من أرباب النفوذ واصحاب الدراسات السابقة وكبار المتنفذين ، حتى من غير المحامين أنفسهم… وضاع بذلك على المحامين مصدر واسع كبيرمن مصادر دخلهم المشروع .كذلك يعود التردي المذكور الى نظام العراق الاقتصادي حيث تنعدم فيه المؤسسات الاقتصادية الشعبية التي تعتمد في البلاد الديمقراطية في كثير من أعمالها القانونية والاقتصادية وكل ما يحتاج الى استشارات عامة على المحامين واصبحت المؤسسات القليلة الناشئة في العراق كبعض الشركات الجديدة لا تعتمد بحكم طبقيتها وبحكم صلاتها ومصالحها مع رجال الحكم الا على الوزراء السابقين وبضعة أفراد من كبار المحامين .واخيرا يجب ان لا ننسى نظام العراق التعليمي وأثره في التردي الاقتصادي للمحامين حيث اقتصر على أعداد المحامين الناشئين أعدادا نظريا فقط ، فضعفت لديهم بعض الوسائل المهمة التي تربط فئة قليلة من المحامين الآن في العراق بالبنوك وبعض الشركات الكبرى كالتمكن من اللغة الأجنبية والاطلاع على قوانين التجارة الأجنبية والخبرة في بعض المعلومات العملية ك( مسك الدفاتر ) والمعلومات الحسابية …الخ…مما جعل هذه الأعمال وهي تكون مصدرا مهما لدخل المحاماة في العادة وقفا في العراق على بضعة أفراد من المحامين العراقيين ،وخاصة اليهود منهم ( يوسف الكبير – شينا وغيرهم).
والخلاصة ان الوضع الاقتصادي لطبقة المتعلمين ، وضع سيء جدا ، وهو يسير نحو التردي بالتدريج حيث تنحسر امكانيات التوظف ويصعب الاعداد للامتهان الحر.
بعد هذا ننتقل الى حالة المتعلمين الثقافية ومزاجها العقلي الخاص واتجاهاتها الفكرية ، وأول ما يصدم الانسان في دراسة هذه المسألة هو النقص الفاضح في المعلومات الاجتماعية لهذه الفئة والضعف البالغ في وعيها الاجتماعي والسياسي بالمعنى العلمي الصحيح ،ويمكن أن يلاحظ بهذا النقص مظهران أساسيان :
الأول - عدم تطبيق المقياس العلمي الموضوعي في المعارف والعلوم الاجتماعية . من المعلوم إن المعرفة بوجه عام سواء أكانت المعرفة الطبيعية أو المعرفة الاجتماعية ، ماهي الا صورة للعالم الخارجي المادي القائم فعلا في حيز الوجود . فالمعرفة الطبيعية ماهي الا دراسة وفهم الطبيعة الخارجية أي معرفة قوانينها وتطورها ومصدرها وسيرها بوجه عام. وكذلك المعرفة الاجتماعية ماهي الا دراسة المحيط الاجتماعي الخارجي القائم فعلا. أي دراسة الانسان بسائر علاقاته الاجتماعية بأخيه الانسان ، أو علاقاته بالطبيعة الخارجية بمعناها العام .والمقياس العلمي كما هو معلوم أيضا لا يمكن أن يكون الا انطباق هذه المعارف على حقيقة سير العالم الخارجي المذكور.وفي مجال العلوم الطبيعية لا نشك الآن في هذا المقياس الموضوعي . فإذا قلنا مثلا أن الماء يتألف من أوكسجين و هايدروجين فيمكن التأكد من صحة هذه النظرية بتطبيق المقياس الموضوعي بأخذ كمية من الماء فعلا وتحليلها في المختبر واكتشاف حقيقة تكونها من العنصرين المذكورين. أي إن هذا الرأي في الماء رأي صحيح من الوجهة العلمية لأنه ينطبق على حقيقة تكوين الماء.وبالرغم من بديهية هذا المقياس في العلوم الطبيعية فاننا نجد انه لا يزال بعيدا عن الهضم والتمثل في المعارف الطبيعية …ولنأخذ مثلا ( على كيفية تطبيق المقياس الموضوعي في المعارف الاجتماعية ) المثل الآتي من علم الاقتصاد :
قرأنا جميعا في كتب الاقتصاد المدرسية بأن عوامل الإنتاج أربعة هي : الطبيعة ، العمل ، الرأسمال ، المدير .فكيف نستطيع أن نقرر علمية هذه النظرية أي صحتها من الوجهة العلمية ؟ المقياس الموضوعي يقتضينا أن نأخذ الانتاج الفعلي كما يقع في الواقع . ولنأخذ مثلا إنتاج الأحذية محاولين تطبيق النظرية المذكورة عليه.ما هو عامل الطبيعة في عمل الأحذية ؟ لاشك إن الذي يقصده علماء الاقتصاد بالطبيعة هو جميع المواد الطبيعية قبل أن تعمل فيها يد الانسان. ولاشك إن المادة الأساسية الطبيعية في الأحذية هي الجلود.فكأن علماء الاقتصاد يقولون بأن الجلود هي العامل الأول في انتاج الأحذية …ولكن أليست الجلود هي مادة الأحذية بالذات أو بعبارة أخرى أليست الأحذية هي الجلود نفسها محولة من حالة طبيعية الى حالة جديدة بفعل عوامل الانتاج ؟ إن نظرة بسيطة الى هذه المسألة تبين لنا بكل وضوح بأن الطبيعة - وتمثلها هنا الجلود - ليست اذن عاملا من عوامل الانتاج ولكنها مادة الانتاج بالذات . وعليه فيمكن القول بكل اطمئنان بان الرأي المذكور القائل بأن الطبيعة هي العامل الأول في الانتاج ليس صحيحا من الوجهة العلمية.
كذلك يقول علماء الاقتصاد بأن العمل هو العامل الثاني من عوامل الانتاج ، ونظرة بسيطة الى انتاج الأحذية تقنعنا بوضوح بصحة هذا الادعاء من الوجهة العلمية لانطباقه على واقع الأمر لأن انتاج الأحذية لم يتم فعلا الا باشتراك العمل وتحويل المادة الأولية ( الطبيعة ) الى مادة منتجة قابلة للاستهلاك.
نأتي الى العامل الثالث وهو عامل الرأسمال .فمالذي يقصده علماء الاقتصاد بالرأسمال ؟ يقصدون في موضوعنا هذا ، ( أي انتاج الأحذية وسائر المنتجات الصناعية الحديثة ) المكائن والآلات .فما هو مقدار صحة هذا الرأي علميا ؟ لاشك إن الأحذية في هذا المثل لم تنتج الا بتشغيل المكائن والآلات ولكن ما هي طبيعة هذه المكائن والآلات ؟ نظرة بسيطة الى هذه الطبيعة ترينا بوضوح بأن هذه المكائن والآلات ما هي بدورها الا مادة أولية أي طبيعية ( حديد ، برنز وسائر المعادن الأخرى ) ، عملت بها يد الانسان أي اليد العاملة فحولتها الى منتجات اعتيادية كسائر المنتجات الأخرى ، وان كانت لا تستهلك مباشرة بل يتم استهلاكها في انتاج البضائع الأخرى ، وأذن فليست المكائن والآلات ،أي ليس الرأسمال ، عاملا اصليا من عوامل الانتاج بل هو مادة تنطبق عليها وعلى إنتاجها سائر عوامل الانتاج للبضائع الأخرى ، ولا يمكن أن تعتبر عاملا من عوامل الانتاج وعليه فأن الزعم المذكور في أن الرأسمال هو أحد عوامل الانتاج زعم غير علمي لأنه لا ينطبق على الواقع .
واخيرا نأتي الى العامل الرابع في الإنتاج وهو المدير ( الإدارة ) أو ما يسميه بعضهم ( بالتنظيم ) . ونظرة بسيطة الى هذا العامل ترينا انه ليس عاملا مستقلا اذ انه ينطوي تحت مفهوم العمل وهو لا يخرج عن كونه صورة من صوره بالذات .واذن فنتيجة تطبيق المقياس العلمي الموضوعي على هذه النظرية الاقتصادية في عوامل الانتاج اتضح لنا بأنها نظرية مغلوطة علميا ، لأن عوامل الانتاج تنحصر في عامل واحد ايجابي وهو العمل ، وما الطبيعة الا المادة المنتجة بالذات وما التنظيم والرأسمال الا صورتان للعمل بالذات .
على أن الطبيعة المتعلمة عندنا بوجه عام ويشمل ذلك حتى الطبيعة التي تحشر نفسها بين فئة العلماء من خريجي الجامعات الأوربية تفوتها هذه البديهية الاجتماعية فلا تعول في مقاييسها العلمية على هذا المقياس الطبيعي الموضوعي بل تتعداه الى مقاييس أخرى يمكن تقسيمها الى قسمين :
أ – أما مقاييس شكلية أي أنها تهتم بالشكليات والوسائل العلمية بدون اهتمام ( بالمضمون العلمي ) أي بانطباق المعارف الاجتماعية على الحقائق الاجتماعية الخارجية .من ذلك أنها تلتقي لاعتبار المعرفة علمية باحتوائها مثلا على الإحصائيات أو بكونها حافلة بالمصادر والوثائق والمستندات أو بكونها كتبت بأسلوب هادئ بعيد عن الحماسة والتأثر أو أنها منظمة مرتبة يجري فيها التسلسل السببي بشكل واضح .وليس وجه الاعتراض طبعا على هذه النظرة هو التأكيد على هذه الوسائل اذ من المعلوم أنها جميعا وسائل لازمة لمعرفة الحقائق الاجتماعية أي للتوصل الى السير الحقيقي للعالم الاجتماعي الخارجي ، ولكن وجه الخطورة والخطأ هو أنها تكتفي بهذه الوسائل وتعتبر توفرها كافيا لاستكمال الصحة العلمية بدون التفات الى أن هذه الوسائل جميعا لا تخرج عن كونها وسائل فقط ، قيمتها في أنها توصل الى الحقائق الاجتماعية وان المقياس الوحيد لصحة المعارف الاجتماعية هو المقياس الموضوعي المادي المشروح آنفا أي انطباق المعارف الاجتماعية على الحقائق الاجتماعية الفعلية.
ب – واما أن تكون مقاييسها مقاييس ذاتية شخصية أي الاهتمام بالأسماء سواء أكان ذلك أسماء الأشخاص واصحاب المعرفة أو أسماء الفلسفات والمعارف الفكرية نفسها . وهذه الظاهرة ، ظاهرة التأثر بالأسماء دون التأكد من صحة الأفكار على الطريقة المذكورة ظاهرة خطرة مريعة حقا في الطبقة المتعلمة في العراق وقد جعلتها سهلة المأخذ ، سهلة التأثر بل الانقياد والخضوع لمجرد الأسماء المعروفة في عالم الفكر والشهرة الفكرية . ولا اظنني بحاجة الى ذكر الأمثلة على هذا المزاج المعروف لدى الجميع ولكن المهم انه موجود حتى في الطبقة المثقفة ثقافة عالية فانها تفترض وتسلم بصحة النظريات الاجتماعية لمجرد كونها صادرة من العالم الفلاني أو المفكر الفلاني بدون التفات الى التيارات الخفية التي توجه المعرفة والأفكار بوجه عام والتي سيأتي ذكر بعضها بعد قليل.
ولكن ماهي أسباب هذا المزاج لدى الطبقة المتعلمة بوجه عام ؟إن لذلك أسباب كثيرة يمكن تلخيصها من الوجهة الفكرية بكلمة واحدة معروفة لدينا نحن الشيوعيون . وهي المثالية :
لا يمكن طبعا بكلمة مثل هذه أن يستعرض الإنسان المثالية الفلسفية وعوامل نشوءها والمصالح الاجتماعية التي تنبثق عنها ، ولكن النتائج العملية لهذه النظرة هي نتائج سيئة جدا أدت في الحقيقة الى سطحية اكثر ما كتب عن العراق حتى الآن من قبل الطبقة المتعلمة .إن المثالية باختصار هي تصور وجود مستقل للأفكار وكيان خاص لها بصرف النظر عن أساسها المادي في العالم الخارجي الاجتماعي أو الطبيعي .ولنضرب بعض الأمثلة مما كتب عن العراق فعلا ومما يدرس الآن في المدارس العالية في العراق كضرب من ضروب المثالية .لنأخذ مثلا الكتب الدستورية التي وضعها الأساتذة المصريون عن نظام العراق الدستوري .من الطبيعي إن أي بحث عن الحياة الدستورية للعراق معناه البحث عن هذه الحياة للعراق المادي أي هذه القطعة من الأرض التي يسميها الوطن العراقي مختلف الطبقات من السكان الذين نسميهم الشعب العراقي وهذه المؤسسات الحكومية التي نسميها بجهاز الدولة .والحياة الدستورية في العراق معناها حياة هذا الشعب العراقي القائم فعلا ، وحقوقه المختلفة الدستورية وعلاقاته بالسلطات العامة القائمة …الخ…ولكن الأساتذة المذكورين لا يبحثون عن هذه الحياة المذكورة بل يبحثون عن حياة دستورية أخرى لوثيقة أو وثائق جامدة معينة ،لحبر و ورق و مادة مطبوعة ،هي وثيقة الدستور العراقي والقوانين الدستورية الأخرى المتصلة به، وبتطبيق هذا المقياس المثالي أي دراسة الأفكار القائمة في الدستور ،بصرف النظر عما تمثله من حقائق بشرية واجتماعية وسياسية وقانونية قائمة في الخارج ، انتهت الى نتائج في منتهى الغرابة والبعث عن السخرية والألم …انتهت مثلا الى أن العراق : بلد ديمقراطي دستوري برلماني في حين اننا كلنا نعلم إن العراق بعيد كل البعد عن أن يوصف بهذه الصفات ، انه عراق الدستور الورقي ، وليس العراق القائم في الفعل.
يدرس مجيد خدوري مثلا - جريا على المصادر التاريخية الشائعة في الدول الغربية – تاريخ أوربا الحديث على أساس حركة الأمم والقوميات فيتحدث مثلا عن الوحدة الألمانية والوحدة الايطالية وكيفية تحققهما بجهود بسمارك وكافور وان الأخيرين خدما أمتيهما احسن خدمة الخ…ولا يكلف المومى اليه نفسه عناء البحث في هذه الدراسة القائمة على افتراض سابق معين هو تصور الأمة الالمانية والإيطالية كوحدة معينة منسجمة المصالح والأهداف ، موحدة العلائق والاتجاهات ..وان بسمارك مثلا ،اذ حقق الوحدة الالمانية السياسية ، قام بخدمتها جمعيا وعمل على توحيدها من الوجهات المختلفة .إن المومى اليه بافتراضه هذه الفرضية وبتسليمه بها إنما سار على المثالية في التفكير .لأنه لم يكلف نفسه عناء البحث في حقيقة الشعب الألماني في زمن بسمارك. وكلنا نعلم بان الشعب المذكور كان يجتاز في أواخر القرن التاسع عشر اخطر ظاهرة في تأريخه وتاريخ أوربا حينذاك ، هو نشوء واستفحال قوة الطبقات الحاكمة الالمانية ، وخاصة طبقة كبار الاقطاعيين ( يونكرز ) والطبقة البورجوازية الكبيرة التي لم يكن بسمارك الا وسيلة من وسائلها وآلة في يدها استعملته في القضاء على الحركات التقدمية الالمانية ، ويرجع لبسمارك بالذات ولسياسة الدولة الالمانية آنذاك ، اثر القضاء عليها وعلى جهودها السياسية والاجتماعية ، وتأخير الحركة الاشتراكية الأوربية مدة طويلة أو بكلمة أخرى فان بسمارك لم يقم بتوحيد الأمة الالمانية في الواقع بل بالعكس قام بشحذ حدة التناقض الاجتماعي بين طبقاتها ولم يقم بخدمة الأمة الالمانية بل قام بخدمة الطبقات الحاكمة فيها على حساب أكثرية الشعب الألماني.
والخلاصة في الظاهرة الأولى للنقص الثقافي في الطبقة المتعلمة لدينا الآن هي تشبثها بمقاييس شكلية لصحة المعارف الاجتماعية وان مرجع ذلك يعود للمثالية في التفكير.
الثاني - أما الظاهرة الثانية للنقص المذكور فهو التجريد الفكري أي عدم أدراك مضمون مادي للمفاهيم الاجتماعية وعدم أدراك طبيعة التطور في المفاهيم المذكورة . مثال ذلك إن الكتب الدستورية التي تبحث عن الديمقراطية في العالم وتعرف عناصرها وخصائصها يجري التكلم عنها كأنها ذات مفهوم واحد في كل التاريخ البشري منذ ظهور الديمقراطية اليونانية حتى الآن ولا تدرك البديهية الاجتماعية في أن الديمقراطية في المدن اليونانية لا يمكن أن تكون عين الديمقراطية في المجتمع الحديث لاختلاف النظامين الاجتماعيين اليوناني والعصري.
مثل آخر مستمد من الدراسة القانونية في فرنسا : يذهب ( سل ) مثلا الى أن أساس القانون بوجه عام هو التضامن الاجتماعي .وليس المقصود هنا مناقشة صحة هذه النظرية من الوجهة العلمية إذ أنها تناقض الواقع في المجتمع الطبقي ولكن مظهر التجريد في هذه الدراسة هو أن التكلم عن القانون بوجه عام يجري بدون ملاحظة اختلاف القوانين وتباين أسسها باختلاف الأنظمة الاجتماعية التي تمثلها .والواقع إن التجريد صورة من صور المثالية مصدره عدم أدراك طبقية المعارف الاجتماعية وإنها نتيجة طبقية المجتمع بالذات.
هذا وقد أدت الحالة العقلية السالفة الذكر بأكثر أفراد الطبقة المتعلمة الى نتائج كثيرة تتصل باتجاهاتها الثقافية والفكرية نذكر منها على سبيل المثال :
1 - تعلق الكثير منها بالقومية وانتمائها الى الأحزاب والمنظمات الداعية لها باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتوحيد الأمة وقد ساعد على ذلك عدم فهم الطبيعة الطبقية للقومية البورجوازية ودورها التاريخي المرسوم ، كما ساعد على ذلك الدراسات التاريخية المغلوطة المقررة في العراق ( كما هو الحال في الوحدة الالمانية والإيطالية كما ذكرنا )
2 - تعلق الكثير من أفراد هذه الطبقة بالمبادئ الدكتاتورية والمعادية للسامية وسائر مفاهيمها ومستلزماتها الفكرية كمبادئ العنصرية ومبدأ الزعامة وتمجيد الروح العسكرية وتفسير التاريخ الفكري وتاريخ الحضارات على الأسس والاتجاهات القومية وتسخير جميع المعارف والعلوم حتى الوطنية منها لخدمتها . وقد ساعدت على ذلك عدة عوامل محلية منها مثلا :
- التأكيد على دور الأبطال في دراسة التاريخ العربي والتاريخ الأوربي الحديث في المدارس العراقية . مثال ذلك : تاريخ الأمة العربية للمقدادي وتاريخ عزت دروزة . والتأكيد على دور أمثال بسمارك وكافور ونابليون واتاتورك في التاريخ الحديث.
- انتشار المفاهيم الفاشية بسائر ضروبها وصورها نتيجة الانتصارات المؤقتة التي أحرزتها النازية الالمانية كأحتقار الديمقراطية واحتقار الجماهير وانتشار الفلسفات الدكتاتورية الى غير ذلك من الاتجاهات الفكرية التي استفحلت قبيل الحرب الماضية والتي كانت تعبر عن جنون البورجوازية الغربية من جراء توسع الشيوعية في العالم.
- عدم فهم الطبيعة الطبقية للحركات السياسية الحديثة وخاصة النازية الالمانية . وتوهم الكثيرين من الطبقة المتعلمة لدينا بأنها كانت حركة جماهيرية واعية لمحاربة العناصر الناشزة الداخلية والأخطار الداهمة الخارجية جريا وراء الدعايات الخاصة في هذا الصدد . ولعل اكثر ما ظهر من المطبوعات الخاصة بهذه الحركات باللغة العربية تثبيت لهذه النظرة.
- تشجيع بعض رجال السياسة والمعارف في العراق لهذا الاتجاه وتلوين اكثر فروع الثقافة الاجتماعية المدرسة في المدارس بهذا اللون وإنشاء المنظمات الاجتماعية التي تثبت هذا الطابع . مثال ذلك - سياسة ياسين الهاشمي ونظام الفتوة ودور سامي شوكت .
3 - كراهية المبادئ اليسارية وخاصة الشيوعية أما باعتبارها عنصر من عناصر تفكيك وحدة الأمة على أساس المغالطة السابق ذكرها في الخلط بين وسيلة الشيوعية في القضاء على التناقض الاجتماعي الطبقي وممارسة الكفاح الطبقي و( هدف) الشيوعية في ازالة التناقض المذكور .واما باعتبارها مظهرا من مظاهر العقلية اليهودية لتفكيك وحدة الشعوب تمهيدا للسيطرة عليها وهي سخافة قائمة على تفسير مغلوط للتاريخ على أساس القوميات والشعوب وتفسير مغلوط للتاريخ العقلي والحضاري قائم على أساس تعاقب الحضارات أو النفسيات أو العقليات القومية .واما أخيرا باعتبارها تمثل الاتجاه الدولي الاممي المحارب للقوميات والقاضي على كيان الأمم وهو تشويه مغلوط للمسألة القومية.



#سلام_ابراهيم_عطوف_كبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 10
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 9
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 8
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 7
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 6
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 5
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 4
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 3
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 2
- عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 1
- العلوم والتكنولوجيا في العراق
- التهجير القسري في الادب السياسي العراقي الراهن
- القوات المسلحة العراقية اليوم الوليد الضال للشعب العراقي
- عن احوال العراق اليوم ماذا كان سيكتب غائب طعمة فرمان؟!
- مهام مركبة تنتظر الحكومة العراقية الجديدة
- حركية اليسار الرث في العراق
- استئصال اللغو وترك الحنقبازيات مهمة اساسية
- ماذا ينتظر حكومة ما بعد انتخابات 30 نيسان البرلمانية؟
- كهرباء العراق..بشائر التقطعات والتقاطعات!
- السلطة القضائية في العراق لصوصية بامتياز


المزيد.....




- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - سلام ابراهيم عطوف كبة - عقد كامل على رحيل عالم اقتصادي متميز- 11