أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - كميل داغر - لبنان: أزمة وطن وأزمة يسار















المزيد.....



لبنان: أزمة وطن وأزمة يسار


كميل داغر

الحوار المتمدن-العدد: 1285 - 2005 / 8 / 13 - 12:14
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


اثر اللقاء الذي جمع السيد فؤاد السنيورة، يوم السبت 17/7/2005، بمفتي الجمهورية، في إطار جولة على رؤساء الطوائف (!!) لإبلاغهم بالصعوبات التي كانت تواجه تشكيل حكومته ويحاول تذليلها، قال: "هذه الحكومة التي اقوم بتشكيلها الان هي اول حكومة منذ ثلاثين عاماً يصار الى تشكيلها جميعاً بمساهمات محلية".

وفي الواقع، وإن كان نجح أخيراً في جعل حكومته تبصر النور، بعد تعسر ولادتها، من الواضح أن إعلانه أعلاه يفتقر إلى الدقة، كما سنبيّن لاحقاً، وأن ما قد يكون رأى فيه الكثيرون أزمة حكم، تم حلها مؤقتاً، بعد أن كان أخفق في تسويق أكثر من تشكيلة سابقة، إنما يتجاوز ذلك إلى ما هو أدهى بكثير.

وهي ازمة تكتسب إمكانية تجددها، لاحقاً، خطورتها القصوى، لا بل كارثيتها المحتملة، من أزمة اخرى ملازمة لها، هي تلك التي تطول الآن بعمق واقع اليسار اللبناني العاجز عن التدخل لاجل كشف المآزق العميقة للنظام الطبقي – الطائفي القائم، التي يهدد هذا النظام عبرها الوطن والشعب ككل، وبالتالي لاحداث تعبئة جماهيرية واسعة من شأنها إدخال الوطن والشعب هذين في سيرورة تغيير شاملة، تتجاوز بصورة جذرية تلك التي ارتفعت شعاراتها في آذار/مارس الماضي، سواء في ساحة رياض الصلح، او في ساحة الشهداء.

أولاً: أزمة وطن
لقد عرفت الأزمة الحكومية، التي بدت نُذرها منذ الأيام الأولى لتكليف السنيورة، قبل أكثر من شهر، عرفت إذاً حلاً لها، وذلك بعد أن تم التوافق بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية على التشكيلة الحكومية الأخيرة التي استبعد منها "تكتل الإصلاح والتغيير" بقيادة العماد ميشال عون. ومن الواضح أنها لم تجد صعوبة في الحصول على ثقة المجلس النيابي بها وببيانها الوزاري، ولكن من المرجّح أنها لن تعّمر طويلاً، لان أسباب انفجارها اللاحق أقوى بكثير من أسباب بقائها، لكثرة الألغام المزروعة في طريقها، والعوامل المحلية والخارجية العديدة التي تضع البلد ككل في مهب الرياح. وهي رياح سرعان ما ستكشف أن ما قد يكون ظهر في الأسابيع الأخيرة على انه لا اكثر من تناقضات تقليدية تهدد في أسوأ الحالات بأزمة حكم ، إنما يتجاوز ذلك إلى المقدمات الحقيقية لأزمة وطن! وبالتالي فإن الرياح التي تهب الآن ربما تتحول لاحقاً إلى أعاصير!
هذا ويمكن اختصار المقدمات الفعلية لأزمة الوطن هذه بما يلي:

1 – طابع الحكم الانتقالي الهجين وتبدل سلطة الوصاية
لقد شهدت الأشهر الأخيرة تبدلاً جسيماً جداً في واقع البلد، بعد بدء تطبيق القرار الدولي 1559، وخروج الجيش والمخابرات السورية، وسط تعبئة شعبية هائلة مناهضة للهيمنة طويلة الأمد التي كانت قد نجحت دمشق في فرضها على لبنان في العقود الأخيرة، ولا سيما منذ أواخر عام 1989. وهي تعبئة بلغت اوجها في مظاهرات 14 آذار/مارس الماضي، التي أطلق عليها منظموها تسميات جميلة مثل "ثورة الأرز" و"انتفاضة الاستقلال"، واعتبروا أنها شكلت تعبيراً عن وحدة اللبنانيين تحت شعارات الحرية والسيادة والاستقلال، وأنها لعبت الدور الأساسي في إنهاء الهيمنة المشار إليها أعلاه. هذا في حين سوف يعمد زعيم أحد الروافد الأساسية في ذلك اللقاء الجماهيري الحاشد، العماد عون، بعد اقل من ثلاثة أشهر، إلى إعطاء ذلك اللقاء صورة اكثر اقتراباً من الحقيقة، بقوله في مهرجان انتخابي في بلدة سلعاتا (قضاء البترون): "التقينا مصادفة ولبنانيين آخرين في 14 آذار سنة 2005 (...) وظننا أننا (...) كنا سائرين على الطريق نفسه، ولكن مع الأسف وجدت نقطة تقاطع وكأن احداً قطع الطريق في العرض ولم يسرمعنا".

ذلك ان التجمع الكبير في ذلك التاريخ بالذات، عدا كونه لم يلعب الدور الذي عزي إليه في إخراج النظام السوري من لبنان - إذ كان رئيس هذا النظام سبق ان اعلن، امام مجلس الشعب في بلده، عن موعد استكمال خروج قواته من الأراضي اللبنانية، وذلك استجابة للضغوط الأميركية والفرنسية قبل كل شيء - إنما شكل في الواقع تلاقياً ظرفياً واضحاً لقوى جماهيرية تغلب عليها في الجزء الاعظم منها، الحوافز المذهبية والطائفية، سواء في مواجهة دمشق بالذات ونظامها الذي يتخذ في وعيها طابعاً مذهبياً ، وبالتحديد علوياً، او في مواجهة التجمع الكبير الآخر، ذي الغلبة الشيعية، الذي احتشد قبل ذلك باسبوع، في ساحة مجاورة هي ساحة رياض الصلح ورفع شعارات مختلفة اجمالاً ، بينها بوجه خاص شعار "الشكر لسوريا".

لقد زالت سيطرة النظام السوري المباشرة على الوضع اللبناني، لكن لتفسح في المجال أمام مشكلتين بالغتي الخطورة هما:
أ- تأزم العلاقات مع سوريا ومخاطر ذلك

وهو تأزم ليس ناجماً فقط عن شعور دمشق بالخسائر الكبرى التي منيت بها عبر إخراجها عنوةً من لبنان، وما لازم ذلك من ضرب لمصالحها الاقتصادية والسياسية، وحتى العسكرية فيه، مع ما يشكله ذلك من إضعاف شديد لمواقع النظام القائم في سوريا بالذات، بل هو ناجم أيضاً عن شعور هذا النظام بالمهانة، بفعل الطريقة التي تم إخراجه بها، والتعبئة الشاملة التي حصلت ضده وترافقت أحياناً كثيرة بمشاعر شوفينية عدائية فاقعة ضد السوريين ككل، أدت عملياً إلى مغادرة مئات الألوف من عمال البلد المذكور على وجه السرعة، ولا سيما بعد أن تعرض العديد منهم لممارسات عنيفة ذهب ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى. وفي هذا الإطار، بوجه خاص، يمكن وضع ردود الفعل ذات الطابع الثأري التي تمارسها دمشق ضد المصالح اللبنانية. وليس ما شهدناه أخيراً من شبه إغلاق للحدود، وإعاقة كثيفة للترانزيت، وما يلازم ذلك من عواقب وخيمة على الاقتصاد اللبناني، إلا صورة أولية عن الضغوط الاقتصادية المدمِّرة التي قد تحصل لاحقاً، في حال لم يعمر اتفاق السنيورة الأخير مع السلطات السورية، بعد زيارته الأخيرة لدمشق، ولا سيما بخصوص استكمال تطبيق اتفاقات حيوية عدة كان بدأ تنفيذها في السابق، على مختلف الصعد، ومن ضمنها في مجال الكهرباء والطاقة، وما إلى ذلك.

ب- استبدال سيطرة خارجية بأخرى

وهي سيطرة، إذا لم تكن تتخذ طابعاً مخابراتياً وعسكرياً فظاً مباشراً، فليست أقل جسامة، هذا إذا لم تكن أشد خطورة بكثير. وهي تعبر عن نفسها بالدور الواضح للسفارتين الفرنسية والأميركية، وبوجه أخص للأخيرة بينهما، كما للعديد من الموظفين الكبار في وزارة خارجية الولايات المتحدة، وذلك في معرض توجيه التطورات على صعيد القوى الأساسية التي باتت في واجهة الأحداث اللبنانية وفي المواقع الأمامية للسلطة الراهنة، بدءاً باستعجال الانتخابات النيابية، لتتم في موعدها الأصلي، وإن يكن على أساس قانون الألفين المرفوض محلياً، وبالتأثير في صيغة التحالفات ضمنها، وصولاً إلى تشكيل الحكومة الحالية، بالصورة التي اتخذها، والتي لا تتفق إطلاقاً مع إعلان السنيورة الوارد في مطلع هذا المقال. ناهيكم عن تصريحات الرئيس الأميركي بوش، ووزيرة خارجيته رايس، بين الحين والآخر، في معرض تحذير السوريين من التدخل في شؤون لبنان، أو ممارسة ضغوط سياسية، أو اقتصادية عليه.
إلا أن انطباع الحكم اللبناني الراهن بسمة انتقالية قد تطول او تقصر عبر بقاء الرئيس اميل لحود في سدة الرئاسة الأولى، من جهة، وترسيخ الانتخابات الاخيرة مواقع حلفاء اساسيين لدمشق في المجلس النيابي ، ولا سيما حركة امل وحزب الله، من جهة اخرى -فضلاً عن الموقع الخاص الذي سنعود اليه لاحقاً والذي تتخذه كتلة العماد عون ويضعها خارج التحالف الأهم في الحالة السياسية الراهنة المتمحور حول كتلة سعد الحريري – انما يجعل الحكم المشار اليه قائماً على توازن هش جداً، ومحكوماً بتناقض واضح سوف يترك بصماته على المرحلة القادمة، لا بل يمكن ان يلعب دوراً هاماً في نزع الاستقرار عن الوضع اللبناني، او جعله على الاقل استقراراً قلقاً إلى هذا الحد أو ذاك، ولا سيما حين ستصبح الضغوط الأميركية اكثر حدة لاجل استكمال تنفيذ بنود القرار 1559، في شقيها اللبناني والفلسطيني.


2 – مشكلة القرار 1559
من الواضح أن الإدارة الأميركية كانت تنتظر الإسراع في حيازة الحكومة اللبنانية الثقة لأجل بدء ممارسة ضغوطها لتنفيذ ما تبقى من مضمون القرار 1559، وبالتحديد نزع سلاح كل من المقاومة الإسلامية والمخيمات الفلسطينية. وإذا كانت فرنسا اقل حماساً على هذا الصعيد، إلا أنها، مع ذلك، سوف تتضامن مع إدارة بوش في هذا المجال، بحيث سيشكل ذلك مأزقاً حقيقياً للحكم اللبناني، كما ستتبلور عناصره وقواه، في المرحلة القريبة القادمة.
ففي حين يقف كل من حزب الله وحركة أمل في خندق الدفاع عن سلاح المقاومة الإسلامية، ويؤكد وليد جنبلاط انه متضامن معهما على هذا الصعيد، كان سعد الحريري قد صرح لجريدة واشنطن بوست الأميركية، بعد لقائه نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني، قبل اشهر قليلة، بأنه سينزع هذا السلاح، وإن يكن أكد في الوقت نفسه أن ذلك سوف يتم عبر الحوار الداخلي، لا عبر ممارسة العنف المسلح. وهو يقترب في هذا الموقف من التيار الوطني الحر، بقيادة عون.
إلا أن حزب الله ، وإن يكن وافق على الانخراط في مواقع السلطة، بما فيه عبر الدخول في الوزارات ، فهو يعلن إلى الآن أنه حريص على سلاحه ولن يقبل التفريط به، وكان أمينه العام قد أعلن في الربيع الماضي أن حزبه سيرد على أي محاولة لتجريده منه بتحول أعضائه جميعاً إلى استشهاديين، وبخوض كربلاء جديدة. هذا ويمكن اعتبار أن التطور المتمثل في فوز المتشددين في انتخابات رئاسة الجمهورية الإيرانية سوف يدعمّ هذا الموقف.

لأجل ذلك، فإن الاستحقاق المتمثل بقضية استكمال تنفيذ القرار 1559 سوف يشكل تحدياً كبيراً للحكومة القادمة. إما نحو رفض الانصياع للضغوط الأميركية (والدولية الأخرى) في هذا المجال، مع ما قد يشكله ذلك من دافع لتكثيف تلك الضغوط، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، في وقت نعرف فيه أن مشكلة الديون الخارجية يمكن أن تستخدم بامتياز بهدف تطويع موقف الدولة اللبنانية، بل حتى عبر إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لممارسة اعتداآتها على الأراضي اللبنانية؛ أو على العكس، نحو الاستجابة لتلك الضغوط. وفي هذه الحال، سوف يهدد ذلك بوضع البلد أمام مخاطر حرب أهلية مدمرة يكون المستفيد الوحيد منها إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية.
أما بخصوص سلاح المخيمات الفلسطينية، فمن المعروف أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس ، في جولته الأخيرة في لبنان والمنطقة، أكد أن هذا السلاح لن يشكل عقبة أمام تنفيذ القوانين اللبنانية، على حد قوله. إلا أن المنظمات الفلسطينية، في هذه المخيمات، لا تزال تعلن عدم استعدادها لتعريض الشعب الفلسطيني لتكرار تجربة صبرا وشاتيلا لعام 1982. وهي تبدي إلى الآن إصرارها على الحفاظ على هذا السلاح، علماً بأن المقاومة الإسلامية، بالمقابل، لا تزال صامتة في هذا المجال، في حين إن أبسط البديهيات تقضي باتخاذ موقف مشابه يعلن الحرص أيضاً على السلاح الفلسطيني، طالما انه موجود أصلاً لأجل مواجهة العدوان الصهيوني. وبالتالي فوحدة المعركة، ووحدة العدو، إنما تستدعيان الحفاظ في آن على كل من سلاح المقاومة الإسلامية وسلاح المخيمات.

3 – الانتخابات الاخيرة والفرز الطائفي الكاسح
لقد ساهمت التعبئة المذهبية، والشوفينية أحياناً، التي اعقبت اغتيال الرئيس الاسبق للوزراء، رفيق الحريري، واستهدفت بوجه خاص الوجود السوري في لبنان، وسوريا بشكل عام في ظل النظام البعثي وما يلازمه من سمة طائفية غالبة، وبتسهيل كبير من قانون الالفين الذي خيضت الانتخابات النيابية الاخيرة في ظله، في إحداث فرز طائفي ومذهبي كاسح خلالها. وهو الأمر الذي ادى عملياً الى بروز تكتلات نيابية كبرى يغلب عليها الطابع المذهبي. وقد لفت ذلك بشدة البطريرك الماروني صفير، الذي كان واضحاً في إحدى عظاته في يوم الأحد 19 حزيران/يونيو الماضي، حين قال:

"نأمل أن ما حدث لن يقود إلى المواجهة، بعدما تساوت المجموعات الطائفية فأصبح لكل منها زعيمها الذي يستقطب مجمل قواها، بل إلى التعاون المخلص في سبيل انهاض الوطن بكامله، فنخرج من الروح القبلية الى بناء وطن فيه احزاب لها برامجها..."

وبالطبع، سيكون من الصعب جداً ان تتحقق تمنيات البطريرك الماروني. ذلك ان المعادلات الجديدة لن تعزز سيرورة الخروج مما سماه "غبطته" الروح القبلية، كما لن تساعد على "انهاض الوطن بكامله"، بل قد تعزز على العكس السيرورة المقابلة، وذلك في مرحلة صعبة وخطيرة جداً من التدخل الخارجي، في المنطقة العربية، لأجل مزيد من التفتت والشرذمة وحتى الحروب الأهلية، كما يمكن أن نلاحظ الآن في العراق . وهو ما كان قد بشّرنا به الرئيس بوش قبل حربه على البلد المذكور واثناء تلك الحرب وحتى بعدها، في معرض الترويج لما سماه إعادة صياغة بلدان المنطقة العربية، في سياق تصوره للشرق الاوسط الاكبر، على حد تعبيره.

4 – خصوصية الظاهرة العونية واحتمالاتها
على الرغم من أن البرنامج الذي يطرحه العماد عون يضم بين بنوده واحداً عن العلمنة يشدد في معرضه على الزواج المدني الاختياري وعلى قانون مدني للعائلة والإرث، كخطوات على طريق فصل الدين عن الدولة، وعلى رغم ما ركز عليه في خطابه في ساحة الشهداء يوم وصوله الى لبنان في 7 أيار/مايو الماضي حين قال لمستقبليه المحتشدين في تلك الساحة : "أنبذوني إذا استخدمت يوماً خطاباً طائفياً"، فلقد لعبت التعبئة الطائفية دوراً حاسماً في ما حققته لوائحه في جبل لبنان من نجاح ساحق. وهو ما دفع البطريرك صفير إلى "تطويبه" زعيماً للمسيحيين، في تصريح واضح له في 26حزيران/يونيو الماضي، اعتبر فيه أنه حصل على اكثرية من المسيحيين، لأن هؤلاء، على حد قوله، "كانوا مهمشين ومستبعدين ويشعرون بأنهم غير موجودين، وبأنهم يحتاجون إلى مرجعية مسيحية تقودهم كغيرهم من الطوائف، حيث يقود النائب جنبلاط الطائفة الدرزية والنائب سعد الحريري الطائفة السنية وحزب الله والرئيس بري الطائفة الشيعية" (السفير 27 حزيران/يونيو).

أياً يكن، إن القيادي المذكور هو الوحيد، إجمالاً، الذي ركز منذ البداية على أنه يحمل برنامجاً متكاملاً للإصلاح، بين بنوده، إلى عناصر هامة في العلمانية، بند حول التحقيق المالي والمحاسبة، لأجل وضع حد للفساد، وكشف اعمال السرقة والهدر التي تلازمت مع ارتفاع الدين العام في الـ15 سنة الماضية الى 44 مليار دولار! فضلاً عن موضوع حماية البيئة ، وما إلى ذلك. علماً بأن الجانب الآخر من برنامجه ولا سيما برنامجه الاقتصادي، يضعه في مواقع تخدم التصورات النيو-ليبرالية، التي لا تنسجم اطلاقاً مع مصالح الجماهير اللبنانية ومستقبلها، ناهيكم عن دعمه، على المستوى العسكري والسياسي، لاستكمال تنفيذ القرار 1559، وعدم إظهاره اية ممانعة في موضوع المشاريع الاميركية – الاسرائيلية للسلام في المنطقة.
في كل حال، لا بد من الاشارة إلى أن العماد عون، في تصوره للدور الخاص الذي يتنطح للاضطلاع به، شدد في مرحلة اولى، بعد وصوله إلى لبنان، على انه سيكون إجمالاً في المعارضة، وعلى انه سيشكل مجلس ظل لمحاسبة السلطة القائمة، على اختلاف مواقعها.

بيد أنه، في الوقت نفسه الذي كان يعطي الكثيرين انطباعاً بأنه يشكل حالة على حدة في الطاقم السياسي اللبناني، سرعان ما سينخرط في مسالك تضع علامات استفهام على مدى التزامه بالصورة التي سبق أن حاول إعطاءها عن نفسه. ومن ذلك دخوله في مفاوضات، خلال الحملات الانتخابية، مع أطراف عديدة، كان اتهمها بالفساد، وبالمسؤولية الكبرى عن الوضع الاقتصادي الخطير الذي يعانيه البلد، ولا سيما في ظل مديونية قل نظيرها في العالم، وذلك من أجل خوض الانتخابات بالتحالف معها! ومن ثم، وبعد توقف تلك المفاوضات ، بسبب الخلاف على تقاسم المقاعد النيابية، تحالف مع رموز متهمة هي الاخرى بالضلوع في الفساد، وبالتبعية سابقاً للأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية في آن معاً، بدءاً بميشال المر، ومروراً بطلال ارسلان، وانتهاء بسليمان فرنجية!!

هذا وبعد ان كان خلال المعركة الانتخابية قد وجه انتقادات حادة إلى خصومه الانتخابيين الاساسيين وليد جنبلاط وكتلة الحريري بشراء الذمم والرشوة واستخدام المال السياسي، سوف يعود فيشارك هو وكتلته في تسمية أحد الرموز الأساسية في الكتلة المشار إليها، فؤاد السنيورة، إلى رئاسة الوزارة، بعد التقائه رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، لمدة ساعتين، بضغط واضح من المسؤولين الأميركيين، خلال وجود نائبة مساعد وزيرة خارجية اميركا، اليزابيت ديبل، في لبنان. وقد توصل إلى استنتاج أن برنامجيهما "يتقاطعان في 95٪ من بنودهما، والـ 5٪ الباقية نتفاهم عليها او هم يعدلونها"!!

اما السبب الفعلي الكامن وراء فشل المفاوضات لمشاركة كتلة عون في التشكيلة الحكومية التي طرحها السنيورة فعائد الى عدد الوزارات التي اقترح هذا الاخير إعطاءها للكتلة المشار اليها، لا لأسباب مبدئية اساسية.

إن هذه المشاهد من تقلبات الرجل، وإن تكن لا تسمح بتكوين صورة نهائية حاسمة عن مواقعه الفعلية والدور الذي سيلعبه في دهاليز السياسة اللبنانية، إلا انها لا تبشر اطلاقاً بانه سيلتزم حقاً بالدفاع الجدي عن الجانب الاصلاحي من برنامجه والسعي لوضعه موضع التنفيذ. اكثر من ذلك ، لا يمكن المراهنة حتى على تعهداته بخصوص المسألة الطائفية ومنظور العلمنة، ولا سيما بعد أن سهَّل تحالف الحريري – جنبلاط نجاح تيار "القوات اللبنانية"، وهو تيار مفرط في سعاره الطائفي، في إيصال ستة من أعضائه إلى الندوة النيابية، من بينهم زوجة سمير جعجع الذي أُفرج عنه مؤخراً بقانون للعفو صوّت عليه أكثر من مئة نائب في البرلمان اللبناني! وهذا التيار، على الرغم من خطاب تصالحي ألقاه جعجع في حفل الاستقبال – الوداع الذي نظمه له محازبوه في مطار بيروت يوم الثلاثاء 26 تموز/يوليو الماضي، سوف يكون واقعاً باستمرار، بسبب بنيته الفعلية، وتعبئته، وتاريخه، تحت إغراء المزايدة الطائفية، المحرجة بالتأكيد للتيار الآخر الذي يقاسمه السيطرة داخل الساحة المارونية، بوجه خاص، عنينا التيار العوني. من هنا، ليس غريباً أن يكون الجانب الأهم من خطاب عون في جلسة الثقة بالحكومة الجديدة دار حول مشكلة العملاء اللحديين الباقين في إسرائيل، في سياق الدعوة من جانب قوى سياسية وروحية عديدة إلى إصدار قانون بالعفو عنهم! وبالتالي فإن موقع ميشال عون الفعلي كزعيم مرتبط بقاعدة طائفية تنظر إليه بصفته هذه، وبالضبط "كمرجعية مسيحية"، على حد قول البطريرك صفير، يجعله عرضة للانزلاق لاحقاً في معارج الصراعات ذات البعد المذهبي، أو الطائفي، بما يخدم تالياً السياسات التي قد يفرضها الفرز السياسي الراهن، ومصالح سلطة الوصاية الأميركية وتوجهاتها في المنطقة؛ إلا إذا أمكن ، في المرحلة القادمة، بناء جبهة صلبة من القوى الطبقية والسياسية المناهضة لهذا المنظور، والمناضلة لاجل تجاوز جدي للطائفية، وبوجه خاص باتجاه العلمنة الشاملة. وهو أمر يبدو إلى الآن أقرب إلى الاستحالة، ولا سيما ضمن أجواء من التعبئة المعاكسة تماماً لهذا المنظور، وفي ظل اضطراب أمني متواصل، وقد يتفاقم، إذا نجحت في الاستمرار مسيرة الاغتيالات والتفجيرات المتجددة، التي يشهدها البلد منذ أوائل الخريف الماضي.

5 – الاغتيالات ومسيرة الموت المتواصلة
منذ أول تشرين الاول/أكتوبر 2004 الماضي، ومحاولة اغتيال النائب مروان حمادة ومن ثم اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري والنائب والوزير السابق باسل فليحان ومصرع عشرين آخرين معهما، مروراً باغتيال الصحافي سمير قصير، ومن ثم الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، وصولاً إلى محاولة اغتيال الوزير الياس المر، بات بديهياً ان ثمة مسلسلاً إجرامياً مدبراً يكتسب خطورته القصوى من كون من يقفون وراءه لا يزالون إلى الآن غير معروفين. هذا وكانت أطراف كثيرة دأبت على توجيه الاتهام، منذ جريمة تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى الأجهزة اللبنانية والسورية، ما عدا في الحالة الأخيرة، التي انفرد فيها الزعيم الدرزي النائب وليد جنبلاط في توجيه الاتهام إلى الطرف عينه، مع أن المستهدف هذه المرة كان وزير الدفاع اللبناني في الوزارة السابقة، وأحد الرموز المعروفين لمرحلة السيطرة السورية. وبالطبع، فإن هذا الوضع إذا كان يدل على شيء فعلى أن ثمة خللاً عميقاً في بنية الدولة اللبنانية، وبالتالي أجهزتها الامنية، وحتى القضائية، إذا قيّض له ان يستمر، سوف يتيح لسيرورة القتل الزاحفة هذه أن تتواصل، وأن تدخل البلد في متاهة لا يعرف احد كيف يمكن الخروج في النهاية منها. اكثر من ذلك إن هذا ليدل أيضاً على مدى انكشاف البلد وهشاشته إزاء القوى التي تستهدف أمنه، سواء كانت خارجية، أو داخلية.

وهو أمر لن يوضع حد جدي له إلا حين يصبح بالامكان تجاوز الانشطار الوطني العميق القائم، المتمثل بالتقاسم الطائفي للسلطة السياسية - وما يلازم ذلك من ارتهان من هذه الحركة المذهبية او تلك بالقوى الخارجية، بعيداً عن أي شعور بالمواطنية الحقيقية -، وذلك في اتجاه قيام دولة علمانية ديمقراطية، دولة لكل أبنائها كان اتفاق الطائف قد وضع نظرياً المدماك الأول في عملية بنائها، حين نصّ على ضرورة إلغاء الطائفية السياسية. لكنه لم يفشل فقط في أن يضع هذا المنظور موضع التنفيذ، بل كان قاصراً تماماً عن جعله مجرد خطوة على طريق الفصل الكامل للدين عن الدولة . وتلك سيرورة إذا كانت حتى الاطراف الأكثر تقدماً في البرجوازية اللبنانية قد بقيت عاجزة إلى الآن عن الدعوة الصريحة والجريئة لاعتمادها، فوحده يسار متماسك ومنغرس بعمق في حركة الجماهير يمكن ان يطرحها ويعبئ لأجلها ويعمل على إنتاج الكتلة التاريخية القادرة على فرضها.

ثانياً: أزمة اليسار اللبناني
لقد كان لافتاً بصورة مخيفة حقاً ذلك المشهد المتكرر في الثامن ثم الرابع عشر من آذار/مارس الماضي، الذي نزل خلاله اكثر من مليون ونصف مليون مواطن ومواطنة إلى الشارع ، بدفع من قوى المذاهب والطوائف، بوجه خاص، في حين اقتصرت المسيرة التي دعا إليها الحزب الشيوعي اللبناني، في الفترة نفسها تقريباً، على حوالى عشرة آلاف من الشيوعيين وأنصارهم، تظاهروا على أساس برنامج اجتماعي واقتصادي وسياسي خاص بهم، وموقف ينطوي على الحد الأدنى، على الأقل، من الاستقلال الطبقي، والابتعاد الحازم في الوقت نفسه عن الاصطفاف المذهبي والطائفي. بيد أن هذا الموقف، الذي بقي ظرفياً بحتاً، ولم يتحول إلى ممارسة يومية لأجل وضع شعاراته ومطالبه موضع التنفيذ، جاء ليعبر عن نفسه، في وقت يعاني فيه اليسار اللبناني أزمة عميقة على مستويات شتى. إذ، بالإضافة إلى التشرذم والضعف البرنامجي، وقلة الانغراس الجماهيري، وانعدام الفعالية لدى المجموعات اليسارية المختلفة، الموجودة خارج الحزب الشيوعي اللبناني، تدب في صفوف الكتلة الاهم، ضمن هذا اليسار، المتمثلة بالحزب المذكور، خلافات عميقة، سبق أن أدت إلى ابتعاد القسم الأكبر من مناضليه عن الحياة التنظيمية في هيئاته، وإلى انشقاق قسم آخر ولو ضئيل العدد نسبياً، يجد موقعه الفعلي إلى يمين الحزب الذي انشق عنه، وهو بالضبط ذلك الذي شكل في الصيف الماضي ما سمي "حركة اليسار الديمقراطي". كما أن قسماً آخر وضع نفسه، هو أيضاً، على طريق الانشقاق، خلال الشتاء الأخير. وفي كل تلك الحالات، لعب غياب الحياة الديمقراطية الحزبية الحقيقية دوراً اساسياً في سيرورة التأزم هذه.

إلا ان غياب الديمقراطية هذا ليس هو السبب الوحيد في تعمق أزمة اليسار المذكور، والحزب الأهم ضمنه، بل يضاف الى ذلك ايضاً غياب الاستقلال الطبقي الكافي في البرنامج والممارسة، ولا سيما في سياسة التحالف، مع ما يلازم ذلك من نزعات انتهازية، ولا سيما خلال المواسم الانتخابية، تحول دون بروز هذا اليسار والشيوعيين ضمنه بوجه أخص، كقوة مستقلة حقاً، قادرة على طرح برنامج متقدم يمثل المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لأوسع الجماهير.
برنامج يمكن ان تتعرف فيه تلك الجماهير على نفسها، ليس كمَعْبرٍ لمصالح الطبقات السائدة، ولوصول رموز تلك الطبقات الى مقدمة المسرح السياسي، بل كالفاعل الأساسي لعملية التغيير الشامل في المجتمع والدولة. برنامج تكون عناوينه العريضة للمرحلة القريبة القادمة هي التالية:
1 – استعادة الشيوعيين بوجه خاص، واليسار بصورة عامة، موقعهم كمقاومة وطنية، الى جانب المقاومة الاسلامية، وذلك للحيلولة دون تحقيق سلام اميركي – صهيوني في المنطقة، ومن ضمنها لبنان، ولمواجهة الهجمة الأميركية الراهنة لإعادة صياغة الشرق الاوسط على قياس المصالح الإمبريالية للعقود القريبة القادمة .
2 – إنضاج قانون انتخابات ديمقراطي، على أساس لبنان دائرة واحدة والتمثيل النسبي غير الطائفي، وإعطاء حصة للنساء لا تقل عن 30٪ من مقاعد المجلس النيابي، بما يتفق مع إعلان بكين ومع القرارات الدولية بخصوص تمثيل المرأة. واختصار مدة المجلس الحالي الى سنة فقط يصار بعدها الى انتخاب مجلس جديد على أساس القانون الجديد. على أن يعمد هذا اليسار، بشتى تلاوينه وقواه، إلى تشكيل لوائح خاصة به، على أساس برنامج متقدم، تكون هذه البنود عناصر أساسية فيه، وانطلاقاً من توجهات طبقية واضحة تمثل مصالح أوسع الشرائح الاجتماعية الكادحة والداخلة في الإنتاج، من جهة، والمهمشة والعاطلة عن العمل، من جهة أخرى.
3 – السعي لأجل تنفيذ الجانب من اتفاق الطائف المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية، واستكمال ذلك بطرح قانون للزواج المدني الاختياري، ومن ثم قانون مدني موحَّد للأحوال الشخصية، كخطوات أساسية على طريق العلمنة الشاملة.
4 – ضمان أوسع الحريات والحقوق الديمقراطية، ليس فقط للمواطنين اللبنانيين، بل أيضاً للفلسطينيين المقيمين فوق الأراضي اللبنانية. فضلاً عن دعم حق الشعب الفلسطيني في ممارسة حقه في العودة إلى وطنه، على أساس القرار 194، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
5 – فرض تحقيق شامل لكشف حقيقة صرف عشرات المليارات من الدولارات المستدانة في الخمس عشرة سنة الماضية، وما تعرضت له تلك العملية من نهب وهدر، وتحديد القوى المستفيدة من ذلك والمسؤولة عنه ومحاسبتها الدقيقة على نهبها وهدرها.
6 – إعادة الاعتبار للحياة النقابية الديمقراطية، ولاستقلال النقابات الكامل عن الدولة ومؤسساتها، ولدور هذه النقابات الطبقي الاساسي في مواجهة الدولة وارباب العمل.
7 – رفع الأجور، والحد الأدنى للأجور، واعتماد سياسة اجتماعية تأخذ بالاعتبار ضرورة خفض البطالة وتأمين العمل لأوسع القطاعات الشعبية، ومن ضمنها خريجو الجامعات والمدارس المهنية.
8 – وقف سياسة الخصخصة والعمل، على عكس ذلك، لاجل تعزيز القطاع العام، وإخضاعه للرقابة المشددة، ولا سيما من جانب العاملين في مؤسساته المختلفة، للحيلولة دون استمرار حالة التسيب والفساد فيه، والتصدي في الوقت عينه لتوجهات الحكومة الجديدة، وأي حكومة أخرى تعقبها، إلى تطبيق البرنامج النيوليبرالي الخطير الذي وعد النائب سعد الحريري بوضعه موضع التنفيذ، أي بالتحديد برنامج والده، الرئيس الراحل رفيق الحريري.
9 – فرض سياسة بيئية شاملة لحماية الطبيعة ومصادر المياه، والغابات الباقية وما تحويه من تنوع نباتي وحيواني، ناهيكم عن اعتماد سياسة تشجير واسعة للمناطق المتصحرة والجرداء، والحيلولة دون استشراء الحرائق، والقمع القاسي للحرائق المفتعلة وشتى التعديات الأخرى على البيئة، ولا سيما على صعيد التلوث الناجم عن الصناعات المختلفة ومياه الصرف، وما إلى ذلك.
10 – السعي لاقامة افضل العلاقات مع سوريا وحل الخلافات القائمة، ومن ضمنها تلك المتعلقة بالترانزيت، وذلك على أساس مصالح كلا البلدين، وإقامة التكامل الاقتصادي الحقيقي، كخطوة أولى على طريق وحدة اقتصادية شاملة تطول البلدان العربية ككل. وفي الوقت نفسه إرساء سياسة التنسيق والتضامن العسكري الكاملين بين لبنان وسوريا، في مواجهة إسرائيل والهجمة الأميركية على المنطقة.
وبالطبع لا يمكن أن تنفصل قضية البرنامج عن مواجهة جدية لمسألة الأداة التنظيمية لوضع هذا البرنامج موضع التنفيذ. وهو ما سنكتفي في نهاية هذا المقال بإيراد فكرة سريعة وأولية جداً بخصوصه، على أن نفرد له في مقالة لاحقة تصوراً متكاملاً قدر الإمكان يتم السعي لجعله مدخلاً لحوار مستفيض في الأوساط المختلفة لليسار اللبناني، ويكون الهدف منه بناء الأداة المشار إليها أعلاه، من المكوِّنات الموجودة الآن لهذا اليسار، إذا أمكن، وفي حال استحالة ذلك، عبر العمل لإنتاج حالة جديدة، إلى هذا الحد أو ذاك، سواء من حيث خلفيتها النظرية، ورؤيتها البرنامجية، أو من حيث بنيتها التنظيمية والفهم الدقيق للعلاقات الديمقراطية في إطارها.
إن الواقع الراهن للحالة اليسارية إجمالاً، على الساحة المحلية، هو واقع متأزم بعمق، بفعل سلسلة واسعة من الأسباب العائدة لتاريخ هذه الحالة الستاليني، على مستوى القسم الأهم من مكوناتها، كما للمتغيرات الكبرى التي طرأت في العقدين الأخيرين على الصعيد العالمي، كما الإقليمي، وأدت إلى اختلال عميق في ميزان القوى الطبقي، والاجتماعي بشكل عام، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة التي طالما سميت بالاشتراكية. وهو الأمر الذي لا بد من أن يطرح على جدول الأعمال إعادة نظر جدية في الوضع القائم لمنظمات اليسار، ومن ضمنها الحزب الشيوعي اللبناني.
وهي إعادة نظر قد يكون بين استنتاجاتها الأساسية ضرورة بناء حزب يساري ثوري من طراز جديد، إذ يحتفظ بالجوهر الأساسي للمنهج الماركسي في تحليل التناقضات الاجتماعية، كما في تحديد الهدف الاشتراكي لسيرورة التغيير – من ضمن رؤية ديمقراطية ثورية متكاملة تتجاوز الإطار اللبناني الضيق إلى الإطار العربي الشامل -، يشدد على التنوع الكبير للكتلة الاجتماعية التي ينبغي أن تنخرط في هذه السيرورة كما على العلاقات الديمقراطية الحقيقية التي يُفترض أن تقوم بين الأعضاء الحزبيين، من جهة، وبينهم وبين الكتلة المشار إليها من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، وفي حين نجد من المؤسف جداً أن يكون واقع التحشدات الجماهيرية الكبرى، التي حصلت في الأشهر الماضية وتوجتها مظاهرة 14 آذار/مارس، قد انطبع، كما أشرنا في بدايات هذا المقال، بأشكال تعبوية يطغى في خلفيتها الدقيقة الطابع الطائفي، وحتى الشوفيني في بعض الأحيان، نعتقد أنه سيكون ضرورياً بعد الآن التعامل مع جانب إيجابي فيها – وإن بقي هجيناً وحتى مشوهاً – يتعلق بطابعها التعبوي الشعبي غير المعروف سابقاً، وما عبرت عنه من استعداد واضح لتجاوز الجمود والاستسلام للأمر الواقع، ومن تطليق لحالة الابتعاد عن العمل السياسي، وبالتالي اهتمام بالمشاركة الحية في تقرير مصير البلد ككل.
إن ما حصل على هذا الصعيد، وأياً تكن خلفيته الفعلية، جاء ليكشف أن ثمة طاقات شعبية كبرى يمكن ألا يبقى تحريكها حكراً على القوى التقليدية، وأن ما حدث في لبنان في الشتاء والربيع الماضيين لا ينفصل عن حراكٍ يبدو يتخذ في السنوات الأخيرة سمةً عابرةً للدول والقارات، ضد الظلم والقهر، وشتى أشكال الفساد والقمع، ونحو إعادة الاعتبار لدور الناس العاديين في سيرورة التغيير. وهو ما يجب أخذه بالحسبان في تصور هذه السيرورة وما يندرج فيها من أدوار مختلفة، ولكن متلاقية أيضاً، لفاعلين اجتماعيين متنوعين جداً، حيث يتضافر العمل المنظم، بلا ريب، مع الإبداع الجماهيري العفوي أو شبه العفوي، في صناعة التاريخ.

* * *

لقد أعلن الرئيس سليم الحص في 25 حزيران/يونيو الماضي أن الانتخابات النيابية أظهرت أن "ديمقراطية لبنان دابة ذات أربع قوائم هي قوى ذات طابع مذهبي لكل منها زعيم أوحد، فلا مبالغة إذا قلنا أن البلد يحكمه اربعة أشخاص وبقية النواب من الاتباع والملحقين". وأضاف الحص أن "البعد الخارجي للقضية اللبنانية يتجلى بالتنازع على من يحق له ركوب الدابة، وبين الطامعين هناك الأميركي والفرنسي، وثمة من لا يصدق ان سوريا ترجلت عن ظهر لبنان إلى غير رجعة". وختم بالقول إن أي "إصلاح ديمقراطي لا يمكن ان يتم الا على حساب كيان رباعية الحكم هذه ومصالحها".
أما نحن فنضيف أن أي إصلاح ديمقراطي حقيقي لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة فعلية من أوسع الجماهير الشعبية، العاملة على تنفيذ برنامج يساري ثوري تشكل البنود المذكورة أعلاه مقدمة اساسية لعملية التغيير الشامل انطلاقاً منه، وتلعب دوراً أساسياً في سيرورة تنفيذه هذه الحالة اليسارية الجديدة، بعد أن تكون تجاوزت عنق الزجاجة المتمثل بالأزمة البرنامجية والتنظيمية الشاملة لليسار الحالي.



#كميل_داغر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اغتيال الحريري وإطلاق الجن قراءة هادئة لشهر هائج
- مقدمة الترجمة العربية ل-النبي المنبوذ-، الجزء الثالث من سيرة ...
- مقدمة الجزء الأول من الترجمة العربية ل -النبي المسلح- الجزء ...
- رداً على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية أليس من خيار غير الن ...
- كلنا معنيون بمصير الشعب العراقي
- حكومة الموت وطائر الفينيق


المزيد.....




- رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك بـ -الملياردير المتغطر ...
- إسبانيا تستأنف التحقيق في التجسس على ساستها ببرنامج إسرائيلي ...
- مصر ترد على تقرير أمريكي عن مناقشتها مع إسرائيل خططا عن اجتي ...
- بعد 200 يوم من الحرب على غزة.. كيف كسرت حماس هيبة الجيش الإس ...
- مقتل 4 أشخاص في هجوم أوكراني على مقاطعة زابوروجيه الروسية
- السفارة الروسية لدى لندن: المساعدات العسكرية البريطانية الجد ...
- الرئيس التونسي يستضيف نظيره الجزائري ورئيس المجلس الرئاسي ال ...
- إطلاق صافرات الإنذار في 5 مقاطعات أوكرانية
- ليبرمان منتقدا المسؤولين الإسرائيليين: إنه ليس عيد الحرية إن ...
- أمير قطر يصل إلى نيبال


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - كميل داغر - لبنان: أزمة وطن وأزمة يسار