أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية عبد الجواد - على خطى حلم















المزيد.....

على خطى حلم


نادية عبد الجواد
كاتبة و متفلسفة


الحوار المتمدن-العدد: 4534 - 2014 / 8 / 5 - 16:06
المحور: الادب والفن
    


فتح عينيه ذات فجر أمام مشهد لم يسبق أن رآه من قبل : صحراء تملأ كلَ المحيط ، من أمامه كثوب رمال عالية و من وراءه انبساط هادئ و مريب و على جانبيه امتداد كأنَّه اللانهاية الرمزيَة متجسَدة الى حدود السَراب.
وقف برهة ليتأكد من وجوده الجسديَ في خضم الصَحراء، تهيَأت له لأوَل وهلة فراغ شاسع لا يحتوي شيئا لكنَها الامتلاء كلَه، الامتلاء الذي يبلغ حدَه و ضدَه في نفس الوقت ليتماهى الفراغ مع الامتلاء و تصير المثنويَة وحدة لا بداية لها و لا نهاية.
خيَل له أنَه سمع صوتا أنثويَا يأتي من أعماق الأرض و يناديه
"أثير..أثير..أثييير انطلق نحو الأعالي.."
كان الصوت يأتيه من كلَ صوب يصعب تحديد مصدره و في كلً مرَة يتصاعد صداه ليغمره
تماما كالمشهد الذي أمامه مغريا حدَ الانتشاء ذكَره بكلَ تلك الكتب التي قضَى حياته في قراءتها والتعايش مع كلماتها ، كان كلَ كتاب " تجربة وجود" و "هيأة فعل" وكانت القراءة بالنسبة اليه تقمَص للكلمات و انصهار ديالكتيكي بين القارئ و الكتاب. لكنَ ما يعايشه في هذه اللحظة ذو طعم عجائبي لأنَ المشاهد المكتوبة صارت معيشة ومحسوسة تجتاحه جسدا و كيانا.
لم يكن "أثير" متعجَبا بقدر ماكان منبهرا بالهالة التي تلَف المكان فتسبح بعقله و قلبه الى دهاليز العوالم الموازية هو الذي لم يؤمن يوما بعالم ما ورائي تراه اليوم ينتشي في التنقل بين أبعاد الوجود دون أن يبارح مكانه.
لم يسأل عن أسباب تواجده في قلب الصَحراء ولا عن مقاصد ذلك. لقد كانت اللحظة الحاضرة متجليَة على وجه التمام تبتلعه فتذهله و صار وجوده لحظة تأمل فريدة لطالما بحث عنها من قبل و تذكَر كم من التجارب خاض ليظفر بشعور الامتلاء هذا الذي يتنفسه الآن.
لقد جرَب النساء و التوحَد المقدَس مع جسد المرأة المليء بالأسرار و جرَب نشوة الخمر و اغتراب الوعي في ثنايا اللاوعي كما جرَب الانعتاق من الألم بتجربة المسرح، وقفات ركحيَة تنسيه ما كان و ما لم يكن .
جرَب أيضا انسكاب الذات بفعل الكتابة فكانت له أعمال شعرية و روائية مشهورة جعلت منه رجل الساحة الأدبيَة . و حتَى في لحظات خيانة القلم تُخلص له الكلمات دائما.
لكنَ اليوم تهرب منه الكلمات فجأة و تندثر كلَ تلك التجارب أمام "لحظة قدسيَة" عصيَة على الوصف
هل تراها "لحظة الحلول" التي زخرت بها كتب اعلام الصوفيَة ؟ أم هي مرحلة من مراحل النيرفانا عند البوذيين ؟ أم لعلَها النور الذي يراود المسيحيين طالبي الخلاص
ما هذه النشوة التي تسري في كامل كيانه و في عروقه كأنَها تنتزعه من ثقل الطَين الى خفَة الهواء او اكثر ؟
لاح له مشهد كان قد تعرَض له أثناء بحثه الاكاديمي اِنَها صورة المنطاد الذي اذا ما ثًقل بأكياس الرَمل تثاقل الى الأرض أمَا اذا انتزعناها يطفو كالرَوح اذا ما انعتقت من رذائلها و صفت.
ها أن الصورة تصير معيشا و المجاز يصبح حقيقة و أحسَ أثير بانشراح لم يشعر به من قبل و أدرك أن المكان الواحد اللامتناهي يمتصَ منه كلَ طاقة سلبيَة ليتركه يطَف .
ألم تكن الصَحراء ملهمة الشعراء و محيَرة العشَاق ؟ كالمرأة اذا اكتست ثوب الالغاز و الاغراء صارت كالبحر يغمر السَابح حدَ الغرق..حدَ الفناء.
لقد غرق أثير في جمام الوجود و سكون الصحراء و اذا به ثمل بمحبَة لا محدودة و غير مشروطة وصار يحلَق في العالم كأنه هو و العالم شيئ واحد ...انصهار و تمازج لا يفقهه العقل و لا تفسَره الكلمات.
كم هي لذيذة لحظات التأمل التي امتلأ بها أثير ..لقد سلَم نفسه لها و كاد يصل الى سدرة المنتهى الى التوحَد لولا كلمات قاطعت حلُمه و أفسدت عنه الرؤيا.
لقد كان صوت زوجته عشتار التي لاحظت تأخرَ أثير لأوَل مرَة عن العمل..
-" أثير..أثير..أفق فليس من عادتك النوم كلَ هذا الوقت"
فتح أثير عينيه و الدَمع منهما على حافَة السقوط..هل هوحلم ؟ امر لا يعقل..لقد كان حقيقيَا أكثر من الحقيقة ذاتها فكيف يكون مجرَد حلم ؟ كيف يفارقه دون موعد و لماذا يزوره بهذه الطريقة التي تفقده توازنه..؟
لقد ظلَ المشهد ساكنا أثير لمدَة ثلاثة أيًام..يلفَه الذهول من كلَ جانب و النوم يخشى من المجيء عدم عودة الحلم من جديد.
صار الأرق رفيق أثير و أخذ التعب منه كلَ مأخذ لكنَ الحلم لم يغادره برهة واحدة
أراد ان يسترجعه أو على الأٌقل أن يصفه لزوجته التي أصرَت على معرفته ان يكتبه شعرا أو نثرا المهَم أن يستحضره و مقصده الأعمق أن يعيشه من جديد لكن القلم أبى و الكلمات فرَت فرارا غريبا و الأيَام تمضي دون استشارة أثير الذي من يومها فقد مقولة الزمان و مضى سارحا في مخيلته.
دخلت عشتار الغرفة دون طرق الباب على غير عادتها فكثيرا ما كانت تتركه لوحده اذا ما كان مشغولا بشيء ما خاصَة اذا كان بصدد كتابة رواية لكن أثير لم يكتب منذ مدَة كأنَما انقطع عليه الوحي أو كأنَه ينتظر مخاض رواية اعمق قيد التشَكل ..نظر الى عشتار معتذرا دون أن يجد للكلمات ملاذا غير الصَمت..انَها زوجة صبورة و متفهَمة لجنون الكاتب و تقلَبات مزاجه ...انَها الملهمة و الناقدة لأعماله تشاركه طموحاته و آماله لكنَها تقف اليوم عاجزة على فهم حلم قد غيرَه جذريَأ..لاحظت فيه عطشا مبهما لم تتمكن من فهم ألغازه...
مالذي أصابه حتَى يغرق في تأمَل طويل دون أن ينطق ببنت شفة أو أن يكتب حرفا شافيا مطفيا لحرقته و قاتلا لكتمه و صمته ؟
اقتربت منه بهدوء و داعبت شعره بأناملها و على وجهها ألف سؤال
-"أخرج من هذا الضباب الذي يكتنفك فلم أعد احتمل هذا الالغاز..
نظر أثير اليها بعينين يسكنهما حلم أصيل و قال
-"أعذريني..كدت انسى الوجود لولا ذلك الحلم يا عشتار..اني اليوم أرتجف خوفا من ان يضيع الحلم ولا يعود مجدَدا..
-"حدَثني عنه..أفصح ففي الافصاح راحة...
-..مع ذلك كان واقعا..كان حقيقة..
-مالحلم الذي سرقك منَي و من قلمك ؟
-."هو"
أجاب أثير و صمت متفكَرا..أما عشتار فما زادها الا ضبابا و حيرة فما عساه يكون هذا "الهو" ؟
هل هو شيطان الانسان في سيكولوجيا فرويد ؟ أم هو ذلك الغائب ضميرا و الحاضر نطقا و تجليَا ؟
مضت عشتار تاركة ورائها فكرا يسبح في سماء بلا عنوان
أما أثير فقد كتب بعض كلمات كأَنها شطحات
"أبصرتك لحظة غياب فلم تبصرني
أبصرتني الأبديَة فلم أبال
جهلتك اذ أردتك
أردتك فجهلتك اذ فكرَت أنك جهلتني
و بجهلك لم أكن
و بجهلي عرفتك انت
أنت الذي ناديتني منذ الازل
و عرَفتني بك في ممرَات الزمن
فانتقلت من ذاتي الى ذاتك
و من صورتي الى جوهرك
و من فنائي الى خلودك
و من حرفي الى مضمونك
اخترقت الحجاب و كسرت المرآة
فليس بيني و بينك فرق اذ لم أفعل سوى أن انتقلت منك اليك"
كتب هذه الكلمات دون تفكير كالوحي راوده و انقضَ على قلمه و تفطَن أثير أنه تحرَر من أغلال العقل العتيدة و صدق ابن عربي و الحلاَج و الرَومي و السهروردي و بوذا و كلَ من هدَم مقولة العقل في معرفة الأزل.
بارح أثير مكانه و توجَه الى زوجته عشتار بخطى مسرعة و صوَب نظره الى عينيها و قال بتعطَش باد على ملامحه :
-"هل تؤمنين بالتقاء المتضادَات ؟ و بالكثرة المتوَحدة و الوحدة المتكثَرة؟"
-"تعلم أن الحقيقة لاتدرك الاَ في صيغة الجمع...لماذا هذا السؤال؟"
-"أمَا أنا فكنت لا أؤمن الاَ بنفسي,بأعمالي,بطموحاتي و لكنَي في الحقيقة لم أفعل سوى أنَي تجاهلت ذاتي"
قالها مسترجعا أيَام النجاح و الشهرة..مالذي حصَله من ذلك سوى انبهار طبقة ما بكتابته و لقاءات صحفيَة عقيمة و مملَة..؟ لعلَ تلك الرتابة كانت قادحا يجعله يراجع قرابة أربعة عقود مضت من حياته.
-"هل وجدتها الآن؟"
تنهدت عشتارو رافق كلماتها تيه في النظرات
-"بل عدت اٍليها.."
لقد شعرأثير لأوَل مرَة بأنه الكون بأسره فغابت الفروقات و انتفى الفصل و الحدَ بين الأنا و العالم و بين الظاهر الباطن و تجلَى "الهو" في جميع الضمائر.
لقد التقى أثير في تجربته بالحلاج الذي قال لحظة التوحَد " انا الحقَ و الحقَ فيَ"
و فهم ان التجربة احيانا ما تكون أهَم من الفكرة و أن الفكرة ليست دائما أمَ التجربة..فأن يسكنك الوجود هو ان تتحسسَ الكون داخلك.
التفت أثير الى مكتبته الشاسعة و تساءل اذا ماكانت كلَ تلك الكتب قادرة على أن تهديه لحظة واحدة من ذلك الحلم..حتما لا فليس كلَ ما يعيشه العقل تعيشه الرَوح..
و لكن هل سيحكم انطلاقا من حلم ؟ هو الذي لطالما احتكم الى العقل في أدقَ التفاصيل
هل سيفرَط في معرفته من اجل حدس ؟
فهل أن الحلم هذيان ؟ ام تراه رسالة من الوجود تدعوه لبداية تجربة مختلفة و فريدة بامكانها أن تكشف له عن خبايا الكون و أسرار الانسان ؟
شعر أثير انه على أبواب سفر ..على شارفة حياة جديدة
فاَما الرحيل و المخاطرة و اما الجمود لكنَه لم يتماسك يوما عن أي تجربة تعترضه و لا عن فكرة جديدة فكيف يمكنه أن يعزف عن "دعوة كونيَة" قد تفتح نوافذ اخرى للكتابة ؟
لم يعد متَسع من الوقت للتفكير..قرَر أثير ماضيا وراء حلم راوده ذات فجر أن يرتمي في أحضان هذه التجربة و يتبع اشارات الكون و نداء الحلم.
أعدَ حقيبته بما يكفي لترحال روحيَ ثم نظر الى ذاته في المرآة ليرى رجلا على أهبَة التغيَر..انَه درويش جديد في عصر نسي ماضيه الروحاني و ثقافته الرمزيَة العريقة..
لقد صار أثير عنوان هذا الاحياء لثقافة في طور الموت لولا حلم يأتي بين الفينة و الآخرى لينقذها
و بالطبع كان اختيار أثير للصَحراء صائبا اذ في امتدادها الهام فريد
انَها تمدَه بصطلحات جديدة قد تصنع مشروع رواية لا ككلَ الروايات ..رواية تختلط فيها التجربة بالكتابة و تصطبغ الكلمات بثيوصوفيا رائعة
فكما كتب أثير عن الانسان في بعده العملي فاليوم سيكتب ذاته انسانا في بعده الروحي و العميق
ودَع زوجته و ظنَه الناس قد جنَ..و َأن لعنة المثقف تمكنَت منه ..وحده يعلم أن الحلم يصنع الواقع.
ومضى أثير ناشدا
"أنا الطريق الى المستحيل
انا التوق
أنا الشوق
انا الحرف و انا المضمون
انا الجنون و انا المجون
أنا العقل و انا العشق
و من لم يضق طعم التضادَ ما عُتق"



#نادية_عبد_الجواد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المحاكاة في فلسفة نيتشه الشاب : مولد التراجيديا الإغريقية نم ...
- -حبوب العادة-


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نادية عبد الجواد - على خطى حلم