أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الأحمد - ماذا يمكن ان نضيف لفرانز كافكا في ذكراه















المزيد.....


ماذا يمكن ان نضيف لفرانز كافكا في ذكراه


محمد الأحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1279 - 2005 / 8 / 7 - 12:08
المحور: الادب والفن
    


ماذا يمكن ان نضيف لفرانز كافكا في ذكراه
سطور عن (كافكا)
Franz Kafka
بقلم: محمد الأحمد
أصبحت سيرة (فرانز كافكا 1883،1924)، توقظ رغبات لا حدّ لها، في نفوس محبيه، وخاصة بعدما تناقلت لغات العالم قاطبة قصة (المسخ)، التي كادت أن تتملك بكابوسها على قارئها، وعبقرية مقاصدها. فكاتبها كان قد أثير حوله لغطا كبيرا، فمنهم من اتهمه بميل ديني متطرف، وآخر لم ير فيما تركه إلا إبداعا يهمّ البشرية جمعاء. وهو كاتب موهوب قضي معظم حياته مريضا بالسل الرئوي الحاد، ولم يفارقه أبدا حتى توفي. ومن الغريب بان عشرات كتاب السير كتبوا عنه ما يزيد عن ما كتبه بعشرة أضعاف. وهو الكاتب الذي صارت سمة أجواءه مصطلحا (كافكويا) يقارن به النقاد. فعالمه منتفض بجد عن كل ما عرفه أدب السرد من اغتراب، كقصة (غريغوري) الرجل الذي نهض من نومه ووجد كيانه متحولا إلى (مسخ) حشرة مقززة، وبقي يسرد معاناته القاسية في غاية الدقة كانسان حساس مرهف، بعد أن أنمسخ جسده، ولم يبق إلا عقله ناصعا، فقد كان المرض مشتدا عليه، في ذلك الحين (عام 1920م)، ولم يكن يغادر مصحة إلا ليدخل غيرها، فدخل عام 1921 مصحة (جبل تاترا) بعد أزمة اختناق كادت تؤدي بحياته، وبعدها بعام مصحة (بلاتا)، وقضي أيامه الأخيرة في مصحتى (فينزفالد) المتقدمة و(كيرلينج) حتى توفي بالأخيرة في 3 آب 1924، واستقر جثمانه بمقبرة (شتراش ينتسر )، بمدافن اليهود (ببراغ). واتفق معظم كتاب سيرته بأنه بدأ الكتابة في سن الخامسة عشرة، وربما قبل ذلك بقليل، فكتب على سبيل الهواية الكثير من المقاطع النثرية الصغيرة، وشرع في عدة محاولات روائية لم يقرأها غيره، وتخلص منها واصفا إياها (بالناقصة )، ومع إتمامه المرحلة الجامعية ملكت الكتابة عليه أمره وصارت اهتمامه الأول، بل الأوحد، حتى أنه ترك وظيفته بشركة التأمينات العامة التي عمل بها لعدة أشهر عام 1907 لأنها لا تتيح له وقتا للكتابة. فبعد تخرجه من الجامعة قضي عاما كاملا في التدريب بالمحاكم المدنية والجنائية، وهو تدريب أساسي لكل المحامين الطامحين في تولي وظائف حكومية. وبعد إتمامه اشتغل في شركة التأمينات العامة، لكنه ما لبث أن تركها نظرا لما تتطلبه من مجهود جبار لا تتحمله صحته، فالتحق بأكاديمية التجارة (ببراغ) وحصل على (دبلوم) في التأمين على العمال، وفي 30 حزيران 1908 انتقل للعمل بمصلحة التأمين ضد إصابات العمل، وكانت هذه المصلحة ضمن التشريعات الاجتماعية التي اتخذتها الحكومة على نمط الإصلاحات (البسماركية) في ألمانيا، فبقيت خاضعة للرقابة المباشرة للسلطة الحاكمة، وتعنى بتطبيق قوانين حماية العمال، وتوفير وسائل الوقاية من إصابات العمل. لكنها بالكاد حققت نجاحا بسيطا حتى سنة التحاق (كافكا) بها، فيشير في يومياته (تبدو المصلحة كجثة هامدة الشيء الوحيد الحي فيها هو العجز في ميزانيتها، والناتج عن تنصل أصحاب المصانع والورش عن دفع مبالغ التأمين لعمالها وغياب الرقابة الجادة للمصلحة ). إلا أنها بدأت في إحراز التقدم المطلوب وتحقيق أهدافها مع تغير إدارتها وتولية الشباب المتحمس لمناصبها القيادية. وقد تدرج (كافكا) في المناصب من موظف مساعد حتى وصل إلي سكرتير أول المصلحة قبل أن يتقاعد بسبب مرض السل الفتاك عام (1922م)، وكان يصفه العاملون هناك (قوة تخطيط باهرة و رجل القانون المميز ) وشملت مسئولياته كما هو ذكرها في يومياته: (تقييم إقرارات أصحاب المصانع وضع نصوص الدعاية والإعلان الخاصة بالمصلحة مثل إقرار التأمين على البنايات وعلى السيارات والوقاية من الحوادث تمثيل المصلحة في المنازعات القضائية، الزيارات التفتيشية للمصانع في أربع مناطق صناعية كبري حول (رايشنبرج) والتي تمثل أكبر المراكز الصناعية على نهر الدانوب، ويعمل بها ما يزيد على 10 آلاف عامل). وأسهمت الوظيفة في إثراء (كافكا) الأديب، فساعدته رحلات العمل بالتعرف على مدن وأفراد جدد، كما منحه الاحتكاك بأصحاب المصانع والعمال خبرة كبرى جعلته الأديب الوحيد في زمانه المطلع على أسرار المصانع وقسوة الرأس مالية بشكل فعلى. كان (كافكا) مغرما بالطبيعة البكر والهواء النقي، متحمسا للحياة الصحية الرحبة، فأحب الريف وأعتاد القيام بنزهات ورحلات خلوية بغرض الراحة أو الاستشفاء، خاصة مع التدهور المستمر لصحته. كان طويلا أهيف القامة، ذا طبيعة جادة، قليل الكلام. وكان يتحدث بصوت هادئ منخفض. ويرتدي في الغالب حللا غامقة و أحيانا قبعة سوداء دائرية. ولم أره قط منفعلا أو يضحك بصوت عال. واظب على كتابة يومياته أكثر مما واظب على كتابة القصص، وكان لقائه بالكاتب الصحفي (فرانتس بلاي) المعروف بحماسه الشديد للأدب الشاب، والكتاب المجددين، بمثابة النافذة الأولى التي أطل بها بإبداعه الأدبي على الحياة الثقافية في براغ، حيث دعاه للعمل بمجلة (هيبريون) المتخصصة في الآداب والفنون المعاصرة، فنشرت له هناك بين عام 1908م ،1909م مجموعة من القصص القصيرة، هي (الثياب) (الأشجار) (الطرد) (التاجر) (تطلع تائه الطريق إلى البيت)، (المسافر)، (العابرون). تلك القصص التي شملها، بالإضافة إلى عشر قصص أخرى، كتابه الأول (تأمل) الصادر عام 1913 عن دار نشر (روفولت، ليبزيج) وطبع منه 800 نسخة فقط. و بعدها توالت أعماله في داري نشر (فولف) و(روفولت) فصدر له (المتعطش) 1913 (الحكم)، 1916، علاوة على ثلاثة أعمال أخرى هي (مستعمرة العقاب)، (طبيب ريفي) و(فنان جائع)، ظهرت بين عامي 1919م، و1924م وهي، تقريبا، الأعمال الوحيدة التي ظهرت أثناء حياته، بينما ظهرت معظم أعماله المهمة مثل (القلعة)،(المحاكمة)، (أمريكا). بعد وفاته. ويلاحظ أن أعماله الأولى لم تلق رواجا كبيرا بين القراء بالرغم من إيمان الناشرين والنقاد بموهبته وقيمة إبداعه، فلم تتجاوز أي طبعة من تلك الأعمال الألفي نسخة، واحتاجت سنوات طويلة حتى تنفد، وتكفي الإشارة إلي أن 800 نسخة من كتاب (تأمل) استغرق بيعها 11 سنة، في حين احتاجت ألف نسخة من (مستعمرة العقاب) ل9 سنوات، فيرجع الكثير من المحللين قلة إنتاج (كافكا) الأدبي، لفترات بعيدة إلى حرصه الشديد على كتابة يومياته التي بدأها تحريرها في مايو 1910م، واستمر في ذلك حتى يونيو 1923م ولم ينقطع عنها إلا فيما ندر، وقد أهدي جزءا كبيرا منها إلي صديقته وحبيبته (ميلينا يزينكسا)، ولعل قصص الحب التي عاشها (فرانز كافكا)، هي من التأثير بمكان على إبداع الكاتب، وكانت هي رابع امرأة يعشقها، كانت امرأة كاتبة، ومترجمة مطلقة تعيش في (فينيا)، ذكية، جميلة، مثقفة، تفيض أنوثة ونعومة. أغرمت به وهامت به هياما يقوم على الإعجاب والانبهار، تعرف عليها خلال إقامته بـ(ميران)، وتطور الحب بينهما في رسائلهما المتبادلة. كتب عنها ل(ماكس برود) :- إنها امرأة تنبض بالحياة على نحو لم أره من قبل، أنه سعيد للغاية معها، فبرغم حبها الكبير له وعطفه عليها، حيث لم تنتظره طويلا حتى يتخذ قراره، فهجرته وتزوجت من غيره، وأبرقت (إليه لا تكتب إليٌ ثانية، وأحرص على ألا نتقابل)، وقد يكون المرض سببا في تلك القطيعة. وقبلها قد حفلت حياة (كافكا) بالعديد من العلاقات العاطفية الصعبة وقصص الحب الحزينة، وبقي هو كان شديد الحيرة، أحب أكثر من مرة وأعلن خطبته مرارا، لكنه لم يتخذ قرار الزواج أبدا. إذ كان موقفه من المرأة غريبا غامضا، جمع بين الميل والنفور والازدراء، فأما النفور فربما يرجع إلي بعد أمه عنه في طفولته وعدم الشعور بحنانها، وأما الاحتقار فسببه، كما تكشف يومياته، علاقاته، الصبيانية، العابرة ببعض العاهرات. فكان يرى أن الزواج سيقيده، ويزيد من عزلته (حينئذ لا يشيد الزواج منزلا وإنما يقيم سجنا..) كما أعتبره خطرا، على عشقه الأعظم، الأدب، (أن جسدي كله ينفر من الزواج، إذ أنني سأعرض بزواجي اهتماماتي الأدبية للخطر)، لقد عانت عشيقاته من تردده وتخوفه سنوات طويلة حتى احترقن من اليأس والملل، فابتعدن عنه. فالحب الأول كان مع (فيليتسه دورا) وصارت صاحبة دورا مؤثرا في أعمال (كافكا) في تلك الفترة، فأهدي لها قصة المحاكمة: (أن قصتي المحاكمة ستكون هي قصتك)، وكتب ذات مرة عن القصة، ستكشف عن حياة (فيليتسه) أكثر مما تعرف هي عن نفسها، كما كانت دافعا لانجاز أعمال مهمة مثل (مستعمرة العقاب)، ومجموعتيه، (مدرس القرية) و(طبيب ريفي)، وجزءا كبيرا من رواية (القضية ). إلى جانب الكم الهائل من الرسائل التي تبادلها، يكشف أسرارا كثيرة في حياته، منها على سبيل المثال ما كتبه عن معاناته أثناء الكتابة (حين أعجز عن الكتابة، أستلقي منهكا على الأرض)، وأيضا عن ألمه لعجزه عن الالتحاق بالجيش في الحرب العالمية الأولى، (إذا كنت قد تألمت من شيء فهو أنني لم أساهم في هذه الحرب بشيء على الإطلاق). وكتب (نيزو) احد كتاب سيرة (كافكا) المحدثين (تعرف عليها في منزل والد صديقه ماكس برود أواخر عام 1912م، وهي فتاة برلينية قليلة الثقافة ومحدودة الاهتمامات، أحبته بشدة وإخلاص، وتحملت بسببه آلاما رهيبة). لكنهما لم يتوافقا فلم تستطع أن تكبح جماح شوقها تجاه رجل لا يؤمن بغير الحب الروحي الأفلاطوني، رجل يحتقر الجنس ويعتبره عقابا للحبيبين، لا رباطا بينهما، (أن الجنس هو العقاب الذي يجعل بنا عند بلوغنا السعادة المشتركة، بينما الحياة الأفلاطونية، هي الطريق للخلاص، من البداية)، وأكد أنه شخص غريب الأطوار لا يصلح للزواج، بائس، صامت، معذب، مريض، ويبدو لك أحيانا كالمجنون، وأنه زوج خائن، سأكون زوجا غير صالح، يخونك كل ليلة مع كتاباته، إلا أنه لم يرع مشاعرها بعض الشيء، وأعتاد أن ينشغل عنها من حين لآخر بغراميات عابرة. لذلك لم تفز علاقتهما بزواج إذ أعلانا خطبتهما مرتين، عامي 1914م، و1917م، وفشلتا على الفور، خاصة مع أحساس (كافكا) في كل مرة بأن الارتباط، يقيده كالمجرم. فكان الانفصال التام هو النهاية الحتمية والبديهية، وتزوجت (فيليتسه) عام 1919م من شخص آخر. وانغمر (كافكا) بعلاقة مع (جريته بلوخ) إحدى صديقات (فيليتسه)، توطدت علاقتها ب(كافكا) قبيل فسخ خطبته الأولى وأن لم يكن لها أية صلة بذلك، ولم تتطور العلاقة بينهما فيما بعد. بعد وفاته وبالتحديد عام 1940م حين أصابت أعماله شهرة كبيرة في كل أنحاء العالم، وغدا روائيا فذا يفتش الجميع عن أسراره، أرادت أن (تعملق) تلك الشهرة مستغلة إعجابه العابر بها، وأدعت إن لها أبنا منه، وهو ما كذبه (ماكس برود) مستشهدا برسائل (كافكا) إلى فيليتسه. والمرأة الثالثة هي الحسناء (جوليا فوريتسك) ابنة صانع أحذية من براغ، تعرف عليها أثناء إقامته بقرية (ليبوخ) في نوفمبر 1918، وما لبث أن خطبها وأوشك على الزواج منها. لكنه وجد معارضة شديدة، من والده الذي أخذ يوبخه ويهزأ من أسرة (جوليا)، بل وأخبره أنه قد يغفر له لو عاش في بيت للدعارة، ولكنه لن يقبل تلك الزيجة!. أثار ذلك (كافكا) ودفعة لكتابة تحفته (رسالة إلى الوالد عام 1919)، والتي عبر فيها عن استيائه من موقف أبيه، لقد أدهشتني بكلماتك، وظهر جليا أحتقارك لي، وأخيرا حسم المرض الموقف، وأنفصلا بعد أن تمكن السل الرئوي منه، ويشير (ماكس برود) في يومياته، كان (كافكا) لدي الطبيب، زيارة لزيادة الوزن قبل الزفاف، وهو أمر مستحيل فسيولوجيا، الحالة صعبة،. أما (دورا ديامنت) الفتاة اليهودية التي تعرف عليها في (برلين). هي من عاشت معه أحلك لحظات حياته في أيامه الأخيرة بمصحة (كيرلنج) قرب (فيينا)، وقد حنت عليه بشدة ولم تبخل عليه بشيء، حتى مات بجوارها. لقد عاش (كافكا) حياته القصيرة أسير شعور بالمطاردة، ربما بسبب علاقته المتوترة بوالده أو بسبب يهوديته أو مرضه وعجزه عن الزواج، أو بسبب الكتابة التي استبدت بروحه وعقله، لذا عاش وحيدا وأدمن الانزواء على أمل أن يلقي الأمان في عزلته (إنني غريب بأكثر ما يكون الغرباء.. إنني في حاجة دائمة الي الوحدة، وكل ما حققته لم يكن إلا ثمرتها.. إنني أخاف أن أفقد ذاتي في كائن آخر.. فأفقد مع هذا لكائن وحدتي)، فبعد أن تأكدت إصابة (كافكا) بالسل المعدي أواخر عام 1917، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته أتسمت بإهمال الوظيفة والخروج في رحلات استشفائية إلي الريف والمصحات العلاجية، فتنقل بين (تسورا) و (وليبوخ) و(ميرابناد) وغيرهم. واخذ يعزي نفسه بالأدب، فتظهر بعض أثار روايته، القصر، وينتهي من مجموعة (بناء سور الصين)، وقصص (تحقيقات كلب) ، و (الجحر) و(امرأة صغيرة) 1918م، بالإضافة للعديد من القصائد الغنائية والقطع النثرية.. كما ابرم، في تحدّ يائس للمرض، عقدا مع ناشر مجهول، لنشر أعماله في المستقبل، وقد انشغل أيضا في هذا التوقيت بدراسة الفلسفة وبخاصة فلسفة (كيركيجارد). إلا إنه لم يفضل (كافكا) أية مدينة على (براغ) سوى (برلين) فكتب عام 1914م، ويرجع قراري هذا إلي أنه في حال عدم الزواج من (ف) يقصد (فيليتسه باور)، فأنني سأترك وظيفتي هنا، أو لو أمكن الحصول على إجازة بدون مرتب فسأرحل إلى (برلين)، ليس بسبب (ف) وإنما لإمكانيات برلين المتعددة، وسأعمل هناك صحفيا أو ما شابه ذلك فتغيرت المدينة كثيرا قبيل وفاة (كافكا)، وشهدت عمليات تطوير وتجديد واسعة واختفي من الشوارع ( نوعا ما بائعو الروبابيكية والعاهرات والسكارى)، إلا أنه ظل على عشقه للمدينة القديمة (أن المدينة القديمة المريضة أوقع عندي من تلك المدينة الجديدة العفية المحيطة بنا)، وقد أحيطت براغ في ذلك الوقت بعشرات القرى الصغيرة، مثل (لبيوتس) و(كخوخيليا) و(يود بالبترويا).. لا يحتاج الوصول إليها غير ساعة بالقطار على أقصى تقدير، فضلا عن المروج والحقول الممتدة على طول ضفتي نهري (إلبه) و(مولداو). ومن بين تلك القرية احتفظت قريتا (ليبوخ) و(دوبر يشوفيتس) بمكانة خاصة في قلب (كافكا)، وداوم على الإقامة بهما، كما أعتاد التسكع بمفرده في شوارع (براغ) وضواحيها النائية واستكشاف المشاهد الطبيعية حولها، فزار (كويتنبرج) و(كارلسباو) و(فريدلاند) و(بيلسين) و(تراوتينو)، وبات خبيرا بالمنطقة البوهيمية بأثرها. وهذا ما كتبه صديقه الذي رافقه في معظم رحلاته الطويلة (ماكس برود). فكتب (احتلت مدينة براغ ، خاصة المدينة القديمة، مكانة مميزة في نفس (كافكا) وشكل تركيبها السكاني واحتقانها السياسي مطلع القرن العشرين جزءا كبيرا من وجدانه الأدبي والفكري. وتعد براغ بعد مدينتي (فيينا) و(بودابست) ثالث أكبر مدن مملكة (الدانوب)، وبلغ تعداد سكانها عام 1900م، بالإضافة إلي الضواحي المحيطة بها، نصف مليون نسمة. يمثل الناطقون باللغة التشيكية الغالبية العظمي، بينما لم يتجاوز تعداد الناطقين باللغة الألمانية الأربعين ألفا، أي ما يساوي أقل من عشر السكان. وتمركزت تلك الأقلية الألمانية والتي يمثل اليهود نصفها في قلب المدينة، بالتحديد في المدينة القديمة، وهو تمركز يحمل دلالة واضحة على سيطرة الألمان على جميع الدوائر السياسية والمناصب الحكومية، وأنهم يمثلون الطبقة الاجتماعية الراقية بالمدينة، ليس فقط لسطوتهم الاقتصادية الرأس مالية، و إنما أيضا لوعيهم الثقافي والحضاري، فلديهم مسرحيون وجريدتان يوميتان ومدارس ثانوية وابتدائية وجامعة ومدرسة صناعية ومعاهد موسيقية وغيرها. ولكن مع تفاقم الأوضاع السيئة للأغلبية التشيكية وزيادة وعيهم القومي حصلوا عام 1883م، عام ميلاد (كافكا)، على حق التصويت في الانتخابات وبدءا من عام 1891م كتبت جميع اللافتات في الشوارع باللغة التشيكية، وفي العام نفسه عقد مؤتمر أهلي للناطقين بالتشيكية في المناطق (البوهيمية)، تمخض عنه توفير خدمات صحية واجتماعية في المناطق التشيكية الفقيرة). وعلى الرغم من رحلات (كافكا) الكثيرة خارج (براغ) والتي قد توحي للبعض بأنه يبغض المدينة، فإنه عاش معظم فترات حياته بها ولم يبرح قلبها قط، وتكفي الإشارة إلي أن منزل أسرته ومدرستيه الابتدائية والثانوية وكل متاجر والده والجامعة ومكتبه وشقتي حارة (تسلتنر جاسه)، لا تبعد عن بعضها البعض أكثر من 100 متر. كتب (كافكا) عن زيارته (لتريش) عام 1907م، (أنتقل كثيرا بالدراجة البخارية وأستحم في مياه البركة، أجلس طويلا عاريا في الحشيش، وأبقي حتى منتصف الليل في المنتزه بصحبة فتاة هيمانه ثقيلة الظل. قمت بتغطية الحقل بعشب يابس، وبنيت تكعيبة من جذوع الشجر للاحتماء من تقلبات الجو، وقد رعوت البقر والماعز، ثم سقتهم في المساء إلى البيت. كثيرا ما لعبت (البليارد) أو خرجت في نزهات، كما احتسيت كمية كبيرة من البيرة فضلا عن ذهابي إلى المعبد، قضيت معظم الوقت هنا، طيلة ستة أيام، بصحبة فتاتين صغيرتين، فتاتين غاية في المرح، من أنصار الفكر الديمقراطي الاشتراكي ). ويؤكد (ماكس برود): أتاحت له الوظيفة رؤية العديد من المدن الأوروبية، فزار في (المانيا) (درسدين) و(ميونخ) و(ليبزيج) و(فيمار)، وفي (إيطاليا) (فينسيا) و(فيرونا) و(ميلانو)، وفي (سويسرا) (زيورخ) و(لوزان)، بالاضافة الى (بودابست). أما العواصم الأوروبية الكبرى مثل (برلين) و(باريس) و (فيينا) فبهرته بمزاراتها السياحية وتقدمها التكنولوجي الكبير والذي لم تكن براغ قد عرفته بعد كالتليفون والتصوير السينمائي ومترو الأنفاق والسيارات، وفي هذا الصدد يعد (كافكا) اسبق كتاب عصره الذين تحدثوا عن الطائرات والسيارات، كما أنه، وهو المشهور بضجرة من الضوضاء والفوضى، لم يشتك من ضجيج وصخب تلك العواصم وتشهد يومياته انه لم يكتب ولو سطرا واحدا عن الضوضاء في باريس التي أقام بها ستة أيام كاملة. ففي إحدى يومياته كان قد كتب (لو أنني أقدمت عام 1912، وأنا في أوج نشاطي وأنعم بذهن صاف ولا أمل من بذل الجهد، فتخلصت من حياتي)، ربما لا توجد أصدق من تلك الكلمات التي سجلها (كافكا) في يومياته لتؤكد أهمية عام 1912 بالنسبة له، وأنه يمثل نقطة فارقة في حياته الشخصية والأدبية. فحتى هذا الحين كان الأمل ما يزال يراود الأب في أن يغدو (كافكا) رجل أعمال مرموق خاصة مع النجاح الكبير الذي حققه في وظيفته خلال فترة وجيزة، إلا أن (كافكا) كان يري غير ذلك وحاول مرارا إقناع والده بأنه يعشق الكتابة وحسب، وانه يتطلع ليصبح كاتبا محترفا وحينها ستغدو حياته أفضل، أن الكتابة تمتعني، أنها كل غايتي ولذتي، وبالفعل شهد عام 1912 أوج نشاطه الأدبي فظهرت في مطلعه الصيغة الأولي من رواية (أمريكا ) وفي منتصفه أخذ يبحث عن ناشرين يتحمسون لأعماله، وفي أكتوبر من العام نفسه أتم قصته،(الحكم) التي كتبها بالكامل في ليلة واحدة ودونها في يومياته، وفي خضم هذا النشاط ألتقي، بالفرقة المسرحية البولندية المتنقلة، التي جاءت في زيارة إلي براغ، وقدمت على مدار شهر عروضا يومية بمقهي (هيرمان) ومطعم (سافوي) وميدان (تسيجين) حضر (كافكا) معظمها، وقد ربطته صداقة قوية بأحد أعضاء الفرقة، الممثل اليهودي (يعقوب لوفي) الذي لفت نظره إلي يهود المشرق وأطلعه على شيء من ثقافتهم وتدينهم، الأمر الذي أزعج والد (كافكا) وأخذ يسب الممثل، فكتب له (كافكا ) معاتبا، لقد قارنته من دون أن تعرفه، بالحشرة. وشهد هذا العام أيضا زيارته إلي مدينة (فيمار)، عاصمة الثقافة الألمانية، وقبلة الكلاسيكية الأوروبية في ذلك الوقت فتتبع هناك آثار الكلاسيكيين الألمان (جوته) و(شيللر)، لا بعين العاشق للأدب وتاريخ المبدعين الكبار، وإنما برؤية أديب ينقب عن هوية رواد عظام. ورغم كونه من أصل يهودي فانه لا يمكن اعتباره يهوديا متزمتا، إذ كان يهوديا بالوراثة لاعن اقتناع. ومع انه أتقن، إلي جانب (الألمانية)، (التشيكية) و(الفرنسية)، وكان على دراية ببضع الانجليزية والايطالية، لم يكن يعرف شيئا من اللغة (اليديشية)، لغة اليهود في شرق أوروبا. كما لم يتلق إي تعليم ديني في طفولته او صباه، وكان يشعر بالدونية لأصله اليهودي، ما الذي يربطني أنا باليهود او اليهودية، كذلك لم تظهر شخصية يهودية واحدة في إعماله، وصرح ذات مرة إن يهوديته تجعل منه كاتبا غريبا بين أقرانه الألمان. (كتب في رسالة إلى ميلينا في 13 يونيو 1920 م رأيك باليهود الذين تعرفينهم طيب أكثر من اللازم، أحيانا أتمنى أن احشرهم جميعا (ربما فيهم أنا) في الدرج ، وانتظر، ثم أسحب الدرج قليلا كي أرى فيما إذا كانوا اختنقوا جميعا، وإذا لم يكن هذا قد حدث، فأغلق الدرج، وأعيد العملية هكذا حتى النهاية) كما انه رفض عام 1922 رئاسة تحرير مجلة (اليهودي)، ويذكر الكاتب المصري يوسف القعيد (ومع هذا قام أنصار الصهيونية ودعاتها، كعادتهم، بعملية سطو كبري على (كافكا)، حاولوا تزييف فكرة وآثاره، وزعموا انه كان صهيونيا متشددا، مستندين في ادعاءاتهم الي أمرين غاية في الضعف). قالت ابنته خادمته : (حالما لمحني، انحني قليلا في أدب، كشأنه دائما، وابتسم، ورفع قبعته. وربما كان على عجل، إذ إننا لم نتوقف كي نتحدث سوية. خسارة، كان هذا هو لقاؤنا الأخير. ولم أسمع عنه شيئا بعد. فقط في آب عام 1924م، قبل أربعين عاما، قرأت نعيا في صحيفة (تربيونا) كتبه ماكس برود بعنوان (كافكا) مات )..
‏الأحد‏، 31‏ تموز‏، 2005



#محمد_الأحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخميائي ساحر الصحراء
- الحلم بوزيرة
- عولمة الشارع الانترنيتي بالدهن الحر
- رواية الحرب العراقية....اهي منسية؟
- لجوء عاطفي
- امري كان لي
- التعددية الثقافية
- الرواية حاضرة أبداً


المزيد.....




- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...
- -طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت ...
- الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني ...
- أخلاقيات ثقافية وآفاق زمنية.. تباين تصورات الغد بين معمار ال ...
- المدارس العتيقة في المغرب.. منارات علمية تنهل من عبق التاريخ ...
- تردد قناة بطوط كيدز الجديد 2024 على نايل سات أفلام وأغاني لل ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الأحمد - ماذا يمكن ان نضيف لفرانز كافكا في ذكراه