أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - ق 1 / ف5 : المناخ الثقافي فى ( نجد ) في عهد عبد العزيز بين الممكن والمستحيل















المزيد.....


ق 1 / ف5 : المناخ الثقافي فى ( نجد ) في عهد عبد العزيز بين الممكن والمستحيل


أحمد صبحى منصور

الحوار المتمدن-العدد: 4522 - 2014 / 7 / 24 - 22:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كتاب ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين )
الفصل الخامس : تحليل سياسة عبد العزيز وتجربة الاخوان
ق 1 / ف5 : المناخ الثقافي فى ( نجد ) في عهد عبد العزيز بين الممكن والمستحيل
اذا كان هذا هو الحال في مصر المنفتحة بطبيعتها علي العالم فان التحدي يكون اعظم في نجد،ويظهر لنا مدي المستحيل الذي واجهه عبد العزيز وسياسته مع هذا المستحيل حين ننقل عن حافظ وهبة هذه الصورة التاريخية عن المناخ الثقافي السائد في الجزيرة العربية،ذلك المناخ الذي كان يشكل مستحيلا عليه ان يغيره الا بهدوء وروية. وننقل شهادات معاصرة للمناخ المستحيل فى عهد عبد العزيز
أولا : يقول حافظ وهبة :
( اذا استثنينا بيوت بعض علماء نجد والاحساء ،فاننا نستطيع ان نقول :ان بلاد العرب كانت خلوا من المدارس بمعناها المعروف ،ولذا فالامية تكاد تكون سائدة في جزيرة العرب ،وربما كانت اول محاولة لتثقيف العقول والقضاء علي شئ من الامية كانت من جانب السيد محمد علي زينل رضا في الحجاز ،فانه في سنة 1326 هـ وما بعدها قام بانشاء مدرستين :احداهمافي جدة والاخري في مكة ،ومع ما وضع في طريقه من العقبات وما احيط بمشروعه من الشكوك من الاتراك والاشراف فان هذه المدارس قد قامت بنصيب وافر في الحجاز، وربما كانت الشبيبة الموجودة في الحجاز اليوم هي من غرس هذه المدارس .وهذه المدارس وان كانت تسير في التعليم علي الطريقة القديمة العتيقة التي ترتكز علي الحفظ لا علي التفكير ،فانها كانت المدارس الوحيدة في الحجاز .علي اننا لاننسي هنا بعض المعاهد التي اسسها الهنود في مكة والمدينة ،فانها قامت ايضا بنصيب يذكر ،وكل ما كان في الحجاز هو حلقات الدروس في المسجد الحرام علي نظام التدريس في الازهر قديما ،ولم يكن العلماء يلمون الا ببعض العلوم الشرعية واللغوية .
لقد قام في الكويت والبحرين ونجد ضجة عظيمة من جانب العلماء علي القول بكروية الارض وحركتها ،وتعليم اللغات الاجنبية ،مما يذكرنا بحوادث العصور الاولي ،ولولا ان السلطة تنقص هؤلاء لأوقعوا من العقوبات بخصومهم ما لا يقل عما وقع في القرون الوسطي في اووبا .
ان الحالة في الحجاز في ايام الشريف حسين لم تكن تختلف كثيرا عنها في ايام الاتراك ،فمع انه وضعت اسماء كبيرة : مثل المدرسة الراقية ،والزراعة والحربية وغيرها من المدارس ،فانها كانت اسماء لا تطابق الحقيقة ،وما هي الا طلاء لايحوي من ورائه شيئا ،وفي اول ايام عهد الملك عبد العزيز بن السعود قامت حركة لا بأس بها في التعليم ولكنها اقل بكثير مما كان ينتظره الناس من رجل عظيم مثله ،علي ان هذه المدارس التي اسست في الحجاز لا يشمل برنامجها اكثر من برنامج المدارس الابتدائية الاخري ،والتعليم فيها سائر علي الطرق القديمة البالية من الاعتماد علي الحفظ دون التفكير .واننا نسوق القصة التالية لتعلم مقدار الصعوبة التي يعانيها الملك ابن سعود ويعانيها أي مصلح يريد النهوض بالتعليم :
في اوائل شهر يونيو سنة 1347-1927 قامت ضجة بين علماء الدين النجديين ،واجتمعوا في مكة ،وبعد التشاور فيما بينهم وضعوا قرارا يحتجون فيه علي ادارة المعارف في مكة ،لأنها قررت في برنامج التعليم اولا تعليم الرسم ،وثانيا تعليم اللغة الاجنبية ،وثالثا تعليم الجغرافيا التي منها دوران الارض وكرويتها .ولما كان لي شئ من الاشراف علي ادارة المعارف ،فقد تذاكرت مع جلالة الملك في الموضوع ،فرأي من الحكمة ان اجتمع بكبار المشايخ وابحث معهم الموضوع ،فاجتمعت معهم ودار الحديث علي الصورة التالية :
حافظ :لقد امرني جلالة الملك ان احضر عندكم لأشرح لكم حقيقة المسائل التي قررتم الغاءها من برنامج التعليم ،انكم تعلمون مبلغ حبي لكم لأنكم من انصار السنة ،الآخذين بالاجتهاد ،الرادين علي كل قول يخالف القرآن او السنة الصريحة ،ولقد مضي الزمن الذي كان فيه قول العالم ــ مهما كان ــ حجة ،ولا اعتقد انكم تريدون ان نقبل منكم كل ما تقررون بدون مناقشة ،فان ذلك لا يتفق مع الروح التي تدعون اليها ،ولا معني ان نعيب علي الناس اتباعهم لعلمائهم بغير حجة او دليل ،وهنا نسير علي نفس النسق .
احد المشايخ :ان ما قلته حق وصحيح، ولكن لقد بينا للامام عبد العزيز الادلة والمفاسد التي تترتب علي تقرير هذه العلوم .اما الرسم فهو التصوير وهو محرم قطعا .واما اللغات فانها ذريعة للوقوف علي عقائد الكفار وعلومهم الفاسدة ،وفي ذلك ما فيه من الخطر علي عقائدنا وعلي اخلاق ابنائنا ،واما الجغرافية ففيها كروية الارض ودورانها ،والكلام عن النجوم والكواكب مما اخذ به علماء اليونان وانكره علماء السلف .
حافظ : اما الرسم فهو ليس التصوير لأن المقرر في المدارس الرسم أي التخطيط وهي معلومات اولية ،الغرض منها تعليم الاولاد الدقة ومعرفة المسافات علي الخرائط ومواقع البلدان ،وهو امر لا شئ فيه ،وقد اشتغل به كثير من علماء السلف ،ولم يبلغ الاولاد درجة تمكنهم من التصوير ،لأن علم التصوير هو من العلوم العالية التي تحتاج ممارستها الي وقت طويل ودراسة واسعة .اما اللغات الاجنبية فقد كان كثير من الصحابة يعرفون لغات عصرهم ،ونحن في هذا العصر اجبرتنا الحياة علي مخالطة الاجانب فبدلا من ان نتخذ لنا مترجمين لا نثق بهم نعتمد علي اولادنا ونعلمهم اللغات ،اما علوم الافرنج :فمنها ماهو صالح يصح ان نأخذ به ونتعلمه ،ومنها ما لايتفق مع ما نعتقد فنرفضه ،وعلوم الافرنج التي تقولون عنها قد ترجم كثير منها الي اللغة العربية في مصر وسوريا والعراق ،فالجهل باللغات لا يمنع الانسان عن الاطلاع علي ما كتب وترجم الي اللغة العربية .ان الخوف علي العقيدة الاسلامية هو رمي لها بالضعف ،لأن العقائد لابد ان تكون كالبنيان المتين لا تقوي عاديات الزمن علي زلزلتها ،ونحن نعتقد ان العقيدة الاسلامية الصحيحة اذا امتزجت بالدم وتملكت مشاعر النفس ،فلن يقوي أي شئ علي زعزعتها .اما الجغرافيا فاننا لا نعلم الاولاد منها الا ما يتعلق بوصف البلدان ومواقعها وحاصلاتها ،وما يهمنا منها من الوجهة التجارية والعلمية ،وما عدا ذلك من المسائل فانه لا يعلم في المدارس علي انه عقيدة دينية يجب الاخذ بها ،بل علي انه نظرية مقررة .
و يحسن قبل ان اختم كلمتي ان اقول لحضراتكم : ان مسألة سد الذريعة قد وسعت بدرجة قضت علي كل معني مقصود منها ،فحضراتكم كلما اردتم منع شئ قلتم سدا للذريعة ،فما قولكم في العنب والتمر يستخرج الخمر منهما ،والحكومة قد ضبطت في بلد الله الحرام من يصنع الخمر من هاتين الفاكهتين ،وقد وقع مثله في عصر الصحابة ،ولم يقل احد بقطع اشجار الكروم والنخيل؟ .
فلما رأي حضرات المشايخ ان البحث طال قالوا :لقد قررنا ما نعتقد ورفعناه الي الامام ،ولسنا في حاجة الي الجدل المنهي عنه شرعا، فان قبل الامام ما رأيناه فالحمد لله ،وان خالفنا فليست هذه اول مرة يخالفنا فيها .
لقد وقف جلالة الملك ابن سعود علي هذه المناقشة واقتنع بثاقب فكره ان ليس لدي العلماء دليل ديني يصح الاعتماد عليه ،فلم يوافقهم علي رأيهم ،واستمر تعليم اللغات والرسم والجغرافيا كما كان هذا ما كان قبل ربع قرن .اما اليوم فأنشئت وزارة التعليم وضوعف عدد المدارس الابتدائية والثانوية وارسل الي الخارج اعداد كبيرة من الطلبة لأتمام دروسهم العالية كما احضر عدد كبير من الاساتذة للأنتفاع بعلمهم …وقد كان علماء الاحساء والبحرين ينكرون علي المدارس تعليم الجغرافيا والقول بكروية الارض بل وينكرون علي بعض المتعلمين قراءة الصحف السيارة، بل ان تقارب الامم واختلاطها قد قضي علي نفوذ هؤلاء في البحرين والكويت.
وشأن علماء نجد شأن غيرهم في هذا القرن، ليسوا كطبقة الشيخ ابن عبد الوهاب في علمهم وتبصرهم ،بل شأنهم كغيرهم من علماء الدين في البلدان الاخري يعتمدون في حياتهم العلمية علي من سبقهم من المؤلفين ،ولذا فان مؤلفاتهم ورسائلهم ليست كرسائل الشيخ محمد وبنيه في متانة الاسلوب وحسن التصرف وكثرة المصادر التي كان يرجع اليها ،وهم لا يدعون الاجتهاد المطلق ،فهم مقلدون للامام احمد وللامام ابن تيمية وتلاميذه كإبن القيم وغيره .ولعلماء الجزيرة علي العموم المقام الاول عند الامراء ونفوذ عظيم في نفوس العامة .وعلماء الرياض اشد علماء نجد بغضا ومقتا للكفار والمبتدعة من المسلمين .
في سنة 1346 هـ ،1928 م كنت مع الشيخ عبد الله بن حسن كبير علماء نجد ورئيس القضاء الآن في زيارة للتفتيش في المدينة المنورة ،فنزلنا علي ماء في وسط الطريق يدعي ابار ابن حصان ،وهنالك التقينا بمستر فيلبي (قبل اسلامه ) وكان اتيا من ينبغ ،وبعد التحية دعوته للاكل معنا فعندما جلس معنا علي المائدة سأل الشيخ :من هذا الرجل ؟فقلت له :هذا فيلبي .فقال: اهو نصراني .؟ قلت له: نعم، فقال : اعوذ بالله .اتقوم للنصراني وتصافحه وتهش في وجهه وتدعوه للاكل معنا ؟ان هذا كثير ،فلما سمع مستر فيلبي ذلك قام منعا للمشاحنة ثم اخذ الشيخ يؤنبني علي عملي .فقلت: ايها الشيخ مهلا . اننا نطمع في اسلام الرجل ونريد ان نستميل قلبه ولا ننفره من الدين ،وان الرسول صلي الله عليه وسالم جذب الناس اليه بخلقه ولين جانبه ( ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك ) وان الملك عبد العزيز كثيرا ما يقوم له ولغيره تأليفا لهم ودفعا لشرهم ،وكثيرا ما يدعوهم الي مائدته ،فقال اما القسم الاول فحسن ،واما الثاني فالملك قد يفعل الشئ لمصلحة يراها وهو غير حجة في عمله وتصرفاته ،وكثيرا ما انكرنا عليه هذا وامثاله....
وعلماء نجد يحرمون التصوير ودروس المنطق والفلسفة ،ولا يوجد لديهم من يعرف هذه العلوم ،وقليل من علماء نجدمن يعرف اللغة العربية ويحيط بها وادابها احاطة تامة ،وقليل جدا من يعرف علوم البيان والاشتقاق واسرار البلاغة ،وقليل منهم من يحيط بحوادث التاريخ الاسلامي او التاريخ القديم ،فمعلوماتهم التاريخية لا تتجاوز السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين ،والتاريخ القديم لا يعدو علمهم فيه الطبري وابن الاثير .. واهم الاكتشافات الحديثة وما غير معالم التاريخ القديم ،فلا يكاد يعرف في جزيرة العرب كلها ،علي ان هناك روحا جديدة في الاسرة المالكة في ابناء الملك وبعض اشقائه في اقتناء الكتب الحديثة وحب الاطلاع علي المؤلفات الحديثة في التاريخ والقانون واداب اللغة العربية .
ونري واجبا علينا ان نقول :ان الملك عبد العزيز لولا ما يحيط به من الصعوبات من جهة استعداد شعبه لسار ببلاده خطوات واسعة في سبيل نشر الثقافة وتعميم العلم ،وهو يفضل السير التدريجي علي قدر استعداد الامة ….والملك عبد العزيز في طريقه الاصلاحي يفضل التؤدة والتأني واعداد الشعب تدريجيا لما يريد من الاصلاح .ان كثيرا من القراء لا يدركون الصعوبات التي كان يعانيها الملك عبد العزيز ولا العقبات التي تقف في سبيل ما يريد من المشروعات .لقد مكث الملك عبد العزيز يجاهد ويجادل في سبيل التليفون والتلغراف اللاسلكي جهادا عنيفا –مرة مع الاخوان ،واونة اخري مع العلماء نحو عشر سنوات –وكان هذا الموضوع من الموضوعات التي اثارت عليه حفيظة الاخوان .سأقص عليك القصتين التاليتين ،من كثير ،لتعرف المحيط الذي كان يشتغل فيه الملك عبد العزيز ،وتعرف الصعوبات التي كان يتغلب عليها .
اوفدني جلالة الملك للمدينة سنة 1346 هـ –1928 م مع عالم كبير من علماء نجد للتفتيش الاداري والديني ،فجري ذكر التلغراف اللاسلكي وما يتصل به من المستحدثات، فقال الشيخ:لا شك ان هذه الاشياء ناشئة من استخدام الجن ،وقد اخبرني ثقة ان التلغراف اللاسلكي لا يشتغل الا بعد ان تذبح عنده ذبيحة ،ويذكر عليها اسم الشيطان .ثم اخذ يذكر لي بعض القصص عن استخدام بني ادم للشيطان ،ولم يكن لشرحي لنظرية التلغراف اللاسلكي وتاريخ استكشافه نصيب من اقتناع الشيخ فلم اجد أي فائدة من وراء البحث .فسكت علي مضض .وفي يوم من الايام دعاني الشيخ لمرافقته لزيارة قبر حمزة عم النبي صلي الله عليه وسلم عند جبل احد – وهو يبعد عن المدينة بالسيارة نحو نصف ساعة – فلبيت الدعوة وسرنا من المدينة بعد صلاة العصر ،وفي اثناء الطريق اوقفت السيارة عند محطة التلغراف اللاسلكي ،وهنا دار بيني وبين الشيخ الحديث التالي : سأل الشيخ: لماذا اوقفت السيارة ؟ فأجبته :لنري التلغراف اللاسلكي ،فان كان هناك ذبائح ودعوة لغير الله ،فاني سأحرقه مهما كانت النتيجة ،فالدين لله لا لابن سعود ،وقد يكون الملك مخدوعا في امر هذا التلغراف ،وتذكر له الاشياء علي غير حقيقتها .فقال الشيخ :بارك الله فيك .فدخلت المحطة وبعد البحث لم يجد الشيخ أي اثر لعظام الذبائح وقرونها وأصوافها، ثم اراه الموظف المختص طريقة المخابرة .وفي دقائق تبودلت المخابرات والتحيات بينه وبين جلالة الملك في جدة .كانت هذه الزيارة البسيطة مدعاة للشك فيما كان يعتقده من عمل الشيطان في المخابرات اللاسلكية ،ولكنه ظن اني ربما دبرت هذه المكيدة بايعاز الملك ،فزار الشيخ محطة التلغراف بضع مرات في اوقات مختلفة ،بدون ان يخبر احدا بعزمه ، فكان يفاجئ العامل المختص بالزيارة ،ويسأله عن كل ما يخفي عليه، وقد اخبرني الشيخ ونحن في طريق عودتنا الي مكة ،بأنه يستغفر الله ويتوب اليه مما كان يعتقده ،ويتهم به بعض الناس –وربما كان يقصدني بذلك – ثم ختمت الموضوع بقولي :ما قولكم يا حضرة الشيخ في رواية اولئك الثقات ؟ اخشي ان تكون رواياتهم لكم عن اكثر المسائل العلمية كرواياتهم عن التلغراف، فقال حسبي الله ونعم الوكيل .!!!
وقد اخبرني جلالة الملك في شعبان سنة 1351هـ –ديسمبر سنة 1932م اثناء زيارته للرياض ان بعض كبار رجال الدين حضروا عنده سنة 1931م لما علموا بعزمه علي انشاء محطات لا سلكية في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد .فقالوا له :يا طويل العمر لقد غشك من اشار عليك باستعمال التلغراف وادخاله الي بلادنا، وان (فيلبي )سيجر علينا المصائب ،ونخشي ان يسلم بلادنا للانجليز ،فقال لهم الملك :لقد اخطأتم فلم يغشنا احد ،ولست –ولله الحمد – بضعيف العقل ،او قصير النظر لأخدع بخداع المخادعين ،وما( فيلبي ) الا تاجر .وكان وسيطا في هذه الصفقة ،وان بلادنا عزيزة علينا لا نسلمها لأحد الا بالثمن الذي استلمناها به .اخواني المشايخ ،انتم الان فوق رأسي .تماسكوا بعضكم ببعض لا تدعوني اهز رأسي فيقع بعضكم او اكثركم ،وانتم تعلمون ان من وقع علي الارض لا يمكن ان يوضع فوق رأسي مرة ثانية ،مسألتان لا اسمع فيهما كلام احد ،لظهور فائدتهما لي ولبلادي ،وليس هنالك من حديث او سنة لرسول الله صلي الله عليه وسلم يمنع من احداث اللاسلكي والسيارات .
وعندما وضعت الالة اللاسلكية في الرياض واستعملت ،كان الناس يغري بعضهم بعضا بأن انشاء هذه المحطة هو الحد بين الخير والشر .وكان العلماء يرسلون من يأتمنونهم لزيارة المحطة ورؤية الشياطين والذبائح تقدم لها ،فلم يجدوا شيئا .وقد اخبرني عامل المحطة بأن بعض المشايخ الصغار كانوا يترددون عليه من وقت لأخر لسؤاله عن موعد زيارة الشياطين .وهل الشيطان الكبير في مكة او في الرياض ؟وكم عدد اولاده الذين يساعدونه في مهمة نقل الاخبار ؟فكان يجيبهم بأنه ليس للشياطين دخل في عمله ،وكان بعضهم يغريه بالنقود وانهم سيكتمون هذا السر .ولكن العامل كان يأخذ الاخبار ويرسلها امامهم ويخبرهم ان الموضوع صناعي بحت) .[6]. وقد وصف حافظ وهبة الملك عبد العزيز بأنه كان يتساهل في كل شئ الا ما يمس سيطرته الشخصية او يمس مركز حكومته ،وقد اعترض عليه العلماء 1930 حين اذن باقامة احتفالات بمناسبة عيد جلوسه علي عرش الحجاز بحجة مخالفة ذلك للسنة ،فأرضاهم بالموافقة علي رأيهم ،ولكنه لم يهتم بمعارضتهم في ادخال الاصلاحات الحديثة ،وهنا تظهر سطوته اذا استخدم احدهم الدين ضد اصلاحاته.
ثانيا
وقد ذكر تقرير امريكي انه كان الشيخ (ابو باز )واعظا في الخرج خطب في ديسمبر 1944 يحرض ضد الملك الذي كان قد استقدم خبراء امريكيين لتطوير الزراعة في المنطقة، وقد كان الشيخ (ابو باز )يري الامريكيين يسقون ويزرعون ،فهب يحرض ضد الملك الذي خان الامانة وباع الوطن للأجنبي ، ويقول وقد رأيت بعيني الامريكان يستولون علي الارض ويزرعونها في الخرج ،ويسخرون العمال السعوديين ويشقون الطرق ،ويستعملون الماء النفيس كما يحلو لهم ..فهل من حق الملك ان يبيع بلادنا وميراث اجدادنا للمشركين ؟. وهنا ارسل الملك يطلب احضار الشيخ في سيارة خاصة ،ولكن الامر لم ينفذ، فارسلوا اليه سيارة نقل .وقد رفض الشيخ ان يركبها مصرا علي ان يعامل باحترام .فاستجاب الملك وارسل له السيارة الخاصة .وعندما جاء الشيخ (ابو باز )استقبله الملك محاطا بالامراء ورجال البلاط والمستشارين والحرس والعلماء واعضاء محكمة الشرع العليا .وهنا قال الملك : (اذا كان لديك ما تعترض عليه فقله علانية ،لأن الاسلام يطلب مواجهة الحاكم لا توجيه الاتهامات من خلف ظهره ) ووقف الشيخ في مواجهة هذا الحشد الملكي فقال :ان الملك يبيع بلاده والناس للكفار ،وهذا يخالف التزاماته كحاكم مسلم وحامي الحرمين والمشاعر .وقد تركه الملك يتكلم بدون ان يقاطعه ،فلما سكت كرر عليه الملك السؤال :هل قلت كل ما عندك ؟فأجاب بالإيجاب. عندها نزل الملك عن العرش وتقدم فوقف الي جانبه قائلا : انا لست الان الا مجرد مسلم يطلب ان يحكم بيننا الشرع ،انا عبد العزيز اطلب من القضاء والعلماء ان يفصلوا بيننا )ثم التفت الي العلماء فقال : افتوني …هل استخدم النبي غير المسلمين من اهل الكتاب والمشركين ؟ ثم استعرض الملك الحالات التي وردت في السيرة ، فرد العلماء بالاجماع ان الملك صادق فيما قال ،فعاد الملك يسأل : فهل خرجت انا علي الشرع ان اتبعت سنة رسول الله ،واستخدمت خبراء اجانب للعمل لحسابي وتحت توجيهاتي لزيادة موارد البلاد ،ويستخرجون لصالحنا المعادن والنفط والماء وما سخره الله من خير بلادنا ؟ ،،فرد العلماء انه لم يخطئ .هنا انتهي دور العدل وحكم القضاء بتجني الشيخ ،وجاء دور هيبة الملك هنا اعتلي الملك العرش واسترجع لقب الملك وسأل الشيخ : هل رضيت ؟
قال الشيخ :انه يطيع قرار العلماء ولكن لم يطمئن قلبه .قال الملك : لقد احتكمت للشرع ،وقرر علماء الشرع انني علي حق وانت المخطئ ..فاذا لم تعتذر خلال 24 ساعة فسأقطع عنقك ، واخذ الشيخ تحت الحراسة وانفض المجلس ،،وبعد ان اعطي الدرس علنا ،استدعي الشيخ الي مجلسه الخاص ،وتحدث معه متلطفا وشرح له ان مسلكه يسيئ الي دينهما ودنياهما واغدق عليه الهدايا وبعثه معززا مكرما الي منزله [ 7 ] .وبذلك جعل عبد العزيز نفسه مرجعية لأولئك الفقهاء ،كي لا يعوق جمودهم حركته نحو التمدن والتقدم .ويري عبد العزيز ان يأخذ من المدنية ما يعينه علي التقدم والرخاء ،طالما لا تتعارض مع الدين المتوارث ،ويعيب المعجبين بالغرب الذين يأخذون عنه شر مافيه ،ولا يأخذون عنه تقدمه العلمي والصناعي [7]وهو هنا يوازن بين العقلية التراثية وبين الاخذ عن الغرب في حدود المتاح .
ان المستحيل الذي كان يواجه عبد العزيز هو كيفية استمرار الوهابية ايدولوجية للدولة مع بناء الدولة علي اسس حديثة ،واساس المشكلة هي في التناقض بين الوهابية وتحديث الدولة ،وليس الحل فقط في مجرد استخلاص رؤية اسلامية مستنيرة تناسب العصر ،فقد اتي محمد عبده بهذا الرؤيةولم يستطع ان يفرضها علي مصر المنفتحة بطبيعتها علي العالم ،بل كان من تلامذة محمد عبده مثل شيخ الازهر الظواهري من كان يقدس الاضرحة التي كان يسخر منها الامام محمد عبده ،اذا فالحل هو تغيير المناخ بالعلم والتعليم علي مهل ،ومزج الدين بالعلم ،والانفتاح المحسوب علي العالم الخارجي، العربي والغربي ،وهو ما تعين عليه ان يعمل من اجله بعد استقرار الاوضاع .
وقد خرج من تجربته مع الاخوان بضرورة تركيز السلطة في يده ،واجهاض انفتاحه نحو الديمقراطية ،فانتهت الي الابد مؤتمرات المعارضة والمزايدة عليه باسم الدين ،واصبح العلماء يستمدون سلطتهم منه ، وانتظم بعضهم وبعض الاخوان (السابقين) في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اصبحت هيئة امنية دينية تخضع له [8] ،وبدأعبد العزيز انشاءها لتحل محل الاخوان سنة 1926 قبل تصفية الاخوان سياسيا ،أي انه كان يخطط للمستقبل .
الهوامش
6- وهبة : جزيرة العرب في القرن العشرين- 283 .
7- جلال كشك :المرجع السابق :64-،31:30.
8- ام القري :العدد 115 ،السنة 3 ،في 25/2/1927.
ام القري :العدد 111،السنة 3 ،في 28/2/1927



#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ق 1 / ف5 : المناخ الثقافي فى عصر عبد العزيز في اطار الممكن و ...
- ق 1 ف 5 بحث فى ( فن السياسة بين الممكن والمستحيل )
- ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78 ...
- ملعون أبو الاستقلال .. ملعون أبو الدستور
- مدخل الفصل الخامس (بين العظمة الحقيقية والعظمة الميكافيلية ا ...
- تعليق معاصر على ما سبق : السيدة زينب ..والحمار .. وداعش
- ق 1 ف 4 : زعماء الاخوان المزايدون على ( عبد العزيز )
- ق 1 ف 4 : من التزمت او التشدد عند الاخوان النجديين الى المزا ...
- ق 1 ف 4 : :التعصب الدينى و كراهية الاخر عند الاخوان النجديين
- ق 1 ف 4 : التطرف:الاكراه في الدين عند الاخوان النجديين
- ق 1 /4: مدخل عن ملامح البناء الايدولوجي فى سلوكيات الاخوان ا ...
- إنت حُرّ ؟ .!
- تعليق يعتبر خاتمة لهذا الفصل : خطوة رائعة للرئيس السيسى : إص ...
- الداعشيون - أنت أنت إمامهمُ - .. يا قرضاوى .!!
- ق1 ب 3 : الخوارج الآباء الحقيقيون للأخوان الوهابيين
- ق1 ب 3 : أثر ثقافة الوهابية والمعادلة الصفرية : القتل ونفى ا ...
- إجعلوها شعارا : ( داعش : يا كفرة يا أولاد الكلب )
- ق1 ب 3 : الأعراب والاخوان وقتل النساء والصبيان :
- ق1 ب 3 : تثقيف البدو ليكونوا اخوانا يقتلون النساء والصبيان
- ق1 ب 3 : التحالف بين العلماء والاخوان ضد عبد العزيز


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - ق 1 / ف5 : المناخ الثقافي فى ( نجد ) في عهد عبد العزيز بين الممكن والمستحيل