أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - هداس لهب - تراجع الاستعمار الاسرائيلي















المزيد.....


تراجع الاستعمار الاسرائيلي


هداس لهب

الحوار المتمدن-العدد: 1276 - 2005 / 8 / 4 - 10:47
المحور: القضية الفلسطينية
    


وثيقة حزب دعم
تراجع الاستعمار الاسرائيلي
عقد حزب "دعم" مؤتمره الفكري الثالث في حزيران الماضي، تحت عنوان "سقوط الامبراطورية الرأسمالية"، واشتمل على عشر محاضرات بين نظرية، سياسية ونقابية. فيما يلي مقتطفات رئيسية من المحاضرة التي القتها عضو اللجنة المركزية لدعم، الرفيقة هداس لهب.
هداس لهب
إسرائيل اليوم موجودة في أزمة عميقة، فهي لا تدير معركة على المناطق التي احتلتها عام 1967، وإنما على مصداقية نهجها كدولة استعمارية. تقلص مساحة اسرائيل جاء مرافقا بكسر المحرّمات التي تمسكت بها المؤسسة الاسرائيلية، وهي: لا للعودة الى حدود ال67، لا للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، لا للتنازل عن أراضي الوطن ولا لإزالة المستوطنات.

من قوة اقليمية عظمى قادرة على كل شيء، وقاهرة للجيوش العربية في الايام الستة، تحولت الى دولة نزاعات وانقسامات، تصارع على بقائها كدولة يهودية وديموقراطية. وبدلاً من محاربة الجيوش العربية، تواجه اليوم المشكلة الديمغرافية التي لا يجدي في حلها اكثر الاسلحة فتكا.

في الاستعراض التالي نصف عملية التراجع الذي وصلت اليه إسرائيل، منذ بلوغها ذروة قوتها في ال67، وحتى عملية الانفصال عن غزة.


التبعية للغرب
منذ قيامها ربطت إسرائيل مصيرها بالإمبريالية. في حرب ال56، الحرب الأولى التي شنتها اسرائيل بعد قيامها، تطوعت للتعاون مع بريطانيا وفرنسا، الدولتين العظميين اللتين مرتا بعملية تراجع. في حربها ضد الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، وضعت اسرائيل جيشها في خدمة المصالح العالمية للدول الامبريالية.

بن غوريون، رئيس الوزراء الاسرائيلي الاول، اعطى اهمية عليا للقوة العسكرية والتفوق التكنولوجي. منساقاً وراء جنون العظمة، حوّل بن غوريون دولة إسرائيل التي كانت في مطلع نشأتها، الى قوة نووية عظمى. هكذا اصبحت إسرائيل الدولة السادسة في العالم التي طوّرت وامتلكت سلاحاً نووياً (بعد الاتحاد السوفييتي، الولايات المتحدة، فرنسا، إنجلترا والصين). عشية حرب ال67 امتلكت اسرائيل القدرة على تفعيل السلاح النووي الذي كان بحوزتها.

السؤال الذي يجب طرحه هو لماذا سعت إسرائيل لامتلاك القنبلة؟ التفسير الذي تقدمه اسرائيل هو حاجتها لحماية وجودها بكل ثمن، على اعتبار انها جزيرة للديموقراطية في بحر من العرب، أقيمت على خلفية الكارثة (الهولوكوست). ولكن الاسلوب الذي صدّت به إسرائيل مساعي السلام العربية، وتصرفها خلال سنواتها ال57 عاماً، يشيران الى ان القنبلة النووية لم تأتي للحفاظ على دولة اليهود من الإبادة، بل لضمان مكانتها الاستراتيجية كدولة عظمى في المنطقة، ولفرض مصالحها على جيرانها.

بن غوريون كان الأول الذي حدد حاجة اسرائيل الى قوة عظمى تساندها في كل مواجهة بينها وبين الدول العربية. انتصار إسرائيل السريع على الجيوش العربية في 1967 رفع أسهم إسرائيل بشكل كبير جداً في البورصة الأمريكية، وأكسبها افضلية على دول المنطقة. كما كان الحال مع تايوان وجنوب كوريا في الشرق الأقصى، كذلك تم ادماج إسرائيل في التوازن الاستراتيجي الذي أقامته الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي.

لكن تدخل الولايات المتحدة في كل شؤون الحياة في إسرائيل، وخصوصاً في الاقتصاد المحلي، جعل إسرائيل تابعة تماماً للعم سام. غير ان المصالح الاسرائيلية لم تنسجم دائماً مع المصلحة الأمريكية، ولكن كلما تضعضعت مكانتها في المنطقة وفي العالم، وضعفت قوّتها الداخلية، اضطرت أكثر فأكثر للتنفيذ املاءات البيت الأبيض.

حرب الخليج عام 1991 كانت المثال الساطع على ذلك. في هذه الحرب تحدد امران: الأول، إضطرار اسرائيل للامتناع عن الردّ العسكري، رغم صواريخ السكاد العراقية التي سقطت على أرضها. فكانت هذه المرّة الأولى التي تواجه فيها اسرائيل هجوماً مباشراً على مراكز سكانية، دون ان تستطع الرد. ثانيا، تبين ان اسرائيل عاجزة عن استخدام قوتها العسكرية وقنابلها النووية، لمجرد ان الولايات المتحدة منعتها من ذلك.



التنازل عن "إسرائيل الكبرى"
ماذا كان موقف إسرائيل من حدودها؟ "خط وقف إطلاق النار الذي رسم في اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1949، لا يمكن ان يشكل حدودا ثابتا. فرغم طوله لا قيمة استراتيجية له، و"العودة اليه هي مثل العودة الى المصيدة"، كما قال القائد العسكري يجئال الون (1). معظم الزعماء الاسرائيليين لم يعتبروا حرب ال67 حدثا يجب استغلاله لتحديد حدودها الدائمة وتسوية علاقاتها مع دول الجوار، وإنما اعتبروها اصلاحا لظلم تاريخي وقع بحق الشعب اليهودي.

عملياً، حتى عام 1973 رفضت إسرائيل الدخول في مفاوضات مع الدول العربية حول الحدود الدائمة. قيادة الحزب الحاكم التاريخي "مباي" الذي سيطر على الحكم في إسرائيل في تلك السنوات، اعتقدت بامكانية تعديل او "تصحيح" حدودها المؤقتة بالطرق العسكرية. وكانت النتيجة رفض اسرائيل لكل محاولات وتلميحات الدول العربية للوصول الى تسوية.

مؤخرا كشف الصحافي رونين برغمان أن مئير عميت، رئيس الموساد عام 1966، عرض على عبد الناصر المباشرة بمفاوضات سلام (تضمنت موضوع تفكيك المفاعل النووي في ديمونا)، كما انه أقام اتصالات مع احد اهم المقربين من الرئيس المصري. غير ان حكومة إسرائيل رفضت المبادرة جملة وتفصيلا (2). واضح اليوم ان رفض اسرائيل قبل 1967 الدخول في عملية سياسية مع العرب لحلّ النزاع، كلّفتها غالياً.

الضربة التي تلقتها إسرائيل في ال73 فتحت المجال للمرة الأولى للمفاوضات. اتفاقية كامب ديفيد الموقعة مع مصر عام 1978 شكلت سابقة، وهي انسحاب إسرائيل للحدود الدولية، واعادة سيناء كاملةً الى مصر. بهذه الطريقة تم كسر الحظر الذي قال "لا عودة لحدود ال67"، حتى محاولة اسرائيل الابقاء على طابا تحت سيطرتها، رُفضت بتحكيم دولي وأعيدت هي الاخرى الى مصر.

منذ كامب ديفيد اصبح على اسرائيل الاعتراف بحدود ال67 كحد ملزم في اي اتفاق مستقبلي. حدث هذا في الانسحاب من لبنان عام 2002، عندما أخلت اسرائيل كل المنطقة التي احتلتها. كما يطالب السوريون اليوم، كشرط للتسوية، بالعودة لما وراء شواطئ بحيرة طبريا التي كانت تحت سيطرتهم قبل حرب ال67. اما بالنسبة للفلسطينيين، فعلى ضوء ضعف قيادتهم يصعب التنبؤ فيما اذا كانت الدولة الفلسطينية العتيدة ستقوم على كل المناطق التي تمّ احتلالها في ال67. ولكن دون شك سيكون هذا مطلب كل قيادة فلسطينية مستقلة.

فقط في ربيع 2002، على خلقية الانتفاضة الثانية وبضغط العمليات الانتحارية في العمق الاسرائيلي، وافق شارون على الاعتراف بضرورة الانفصال، وأقرّ خطة بناء الجدار الفاصل التي كان قد عارضها زمنا طويلاً. ولكن المفارقة ان الجدار الفاصل يقرّ بوجود الخط الاخضر، رغم أن هذا الخط قد امّحى من الخرائط قبل 38 عاما، منذ اول ايام الاحتلال. مع هذا، تصر اسرائيل على ان الجدار هو خط امني لا سياسي، أي لا تأثير له في رسم الحدود السياسية للدولة.



تراجع الاستيطان
النظرية التي تقول ان المناطق المحتلة هي الارض المحررة، طُبقت من خلال المشروع الاستيطاني الذي تجاوز منذ زمن نقطة اللاعودة. من الخطأ الاعتقاد بان المستوطنات هي مبادرة من اصحاب فكر "ارض اسرائيل الكبرى". حكومة حزب العمل التي حكمت في السنوات العشر بين عام 1967 وحتى انقلاب الليكود عام 1977، هي التي ابتكرت وصممت مشروع الاستيطان بكل ابعاده.

الموقف من المستوطنين المتدينين "جوش امونيم" اشار الى اجماع الأحزاب الصهيونية حول المشروع الاستيطاني. وقد نجحت العصابات التبشيرية في كسب تعاطف ودعم المؤسسة الرسمية والمثقفين الاسرائيليين ايضا الذين انتسبوا تاريخياً لتيار محسوب على حزب "مباي". وقد منح هؤلاء المثقفون شرعية كبيرة للمستوطنين استغلوها لتمرير اعمالهم غير القانونية في المناطق الفلسطينية.

حتى قائد حزب "مبام"، يعقوب حزان، قال عنهم: "انهم ليسوا بفاشيين، بل شباب متدينون مؤمنون بصدق طريقهم، انهم مؤمنون بالاستيطان كما آمن اعضاء "هشومير هتساعير" بنهجهم في سنوات العشرين" (3). المستوطنون من جانبهم سعدوا بوصفهم بالطلائعيين الجدد وليس كلصوص ينهبون اراضي الفلسطينيين.

كل هذا تغيّر في بداية التسعينات. اصحاب القرار السياسي في اسرائيل توصلوا للاستنتاج بان عليهم الاختيار بين احد نهجين: اما الاستمرار في المشروع الاستيطاني الذي عزل اسرائيل في العالم، او ضبط المشروع والاندماج في العولمة. الخيار الثاني كان قرارهم. على ارض الواقع تم تكثيف وتعزيز الكتل الاستيطانية "الاستراتيجية"، وبدأ العمل على تفكيك المستوطنات المنعزلة التي اعتبرت غير ضرورية لحفظ الامن. هذا هو أيضًا الهدف من خطة الانفصال الحالية: تعزيز السيطرة الاسرائيلية على الضفة الغربية، وفي نفس الوقت كسب تعاطف ودعم العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة.



لجم الطموحات التوسعية
منذ قيامها اعتبرت اسرائيل الحرب وسيلة لتعزيز قوتها واعادة رسم حدودها وخريطة الشرق الاوسط من جديد. انتصارها العسكري عام 1967 دعّم مناصري الضم، الذين آمنوا ان كل خلاف مستقبلي مع العرب، لا يضر بمكانتها الاستراتيجية بل بالعكس، يحسن أوراقها التفاوضية في اية مفاوضات مستقبلية.

حرب ال73 شكلت ضربة قوية جدا لطموحات اسرائيل التوسعيّة. الاضطراب الشديد الذي ألمّ بالمجتمع الاسرائيلي وعدم الثقة بالقيادة التي لم تتكهن ما حدث، دفعا حكومة اسرائيل للموافقة على الدخول في المسار السياسي. هكذا، وللمرة الاولى، دخلت اسرائيل الى مفاوضات سلام مع دولة عربية. اتفاقيات كامب ديفيد والخروج من سيناء خرقت الحظر الاسرائيلي الذي نفى العودة الى حدود ال67.

حكومة بيغين الاولى التي تشكلت عام 1977 وقعت على معاهدة سلام مع مصر وخرجت من سيناء. لكن بيغين لم يتنازل عن حلم ارض اسرائيل الكبرى. بعد اعادة انتخابه للمرة الثانية عام 1981، قرر تصفية القضية الفلسطينية بالطرق العسكرية. في شهر آب من نفس العام عيّن بيغين، اريئل شارون وزيرا للامن. في حرب لبنان التي شنها صيف 1982 جسّد بيغين كراهيته العمياء للفلسطينيين الذين اعتبرهم "حيوانات ذات قدمين" واعداء الشعب اليهودي.

فهم المنطق الذي قاد اسرائيل لشن حرب لبنان، يتطلب فهم الظروف الدولية التي سادت في تلك الفترة. فقبل عام واحد من حرب لبنان، حدثت تغييرات في الحكم في البيت الابيض، رونالد ريغان الذي خلف جيمي كارتر، تبنى سياسة استراتيجية جديدة، محورها حروب صليبية على الاتحاد السوفييتي، وهدفها "محو عار الهزيمة في فيتنام" .

وقد ادرك بيغين الفرصة الجديدة التي سنحت له. في نفس السنة قدم للولايات المتحدة اقتراحه الخاص: "محو عار هزيمة ال73"، وذلك من خلال احداث نظام حكم جديد في لبنان. ولاقى الاقتراح آذانا صاغية. وخصص ريغان لاسرائيل وظيفة في عالمه الجديد: "المشاركة في كبح السوفييت في منطقة حوض البحر المتوسط".

ولاجل تحقيق هذا الهدف لم يمانع الرئيس الامريكي ان يتم ضرب منظمة التحرير الفلسطينية، وتعليم السوريين درساً. حرب لبنان كانت بالنسبة لاسرائيليين كثيرين، كما وصفها رئيس الاركان آنذاك، رفائيل ايتان، "معركة على أرض اسرائيل". فقد اعتقدت اسرائيل ان تصفية منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ستضمن سيطرتها على الضفة الغربية وغزّة للأبد.

لكنّ شيئا ما اخلّ بالسيناريو المتفائل. الحرب التي كانت المفروض ان تنتهي في غضون 48 ساعة فقط، طالت وامتدت وتحولت الى مستنقع. الامريكان، الرأي العام العالمي وفي المقدمة الجيش والشعب الاسرائيلي، الذين كانوا على استعداد لدعم حرب سريعة ومحدودة، لاقوا صعوبة في دعم حرب مستمرة، حصدت اعدادا هائلة من الضحايا، وولّدت مجزرة صبرا وشاتيلا.

على انقاض عين الحلوة وبيروت، كسر الاجماع الاسرائيلي. الانشقاق العظيم الذي ولّدته هذه الحرب في المجتمع الاسرائيلي، فرض على جدول الاعمال للمرة الاولى ظاهرة رفض الجندية. وظهرت في الشارع حركة لا مثيل لها من مواطنين معارضين للحرب.

ولكن رغم انه كان واضحا ان اسرائيل لن تكسب شيئاً من المكوث في ارض لبنان، وان الانسحاب الجزئي منه بدأ في عام 1984، الا انها لم تنسحب نهائيا الا بعد 18 عاما. السبب هو عدم تجرؤ اي من حكومات اسرائيل على القيام بهذه الخطوة، التي كانت مثابة اعتراف علني بان الامبراطورية الاسرائيلية آخذة بالتقلص والتراجع. كان ذلك ايهود براك المنتخب لرئاسة الحكومة عام 1999، الذي فهم أنه لا يمكن الاحتفاظ بعد بلبنان والاراضي المحتلة، فانسحب من لبنان.

عمليا ادى التورط في حرب لبنان الى الحد من لجوء اسرائيل للخيار العسكري. فاذا كانت اسرائيل قد حصلت على السلام مقابل انسحابها من سيناء، فانها هذه المرة انسحبت من لبنان بشكل أحادي الجانب ودون أي مقابل.



القضية الفلسطينية تعود للمركز
حرب لبنان التي على اثرها طردت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الى تونس، نقلت القضية الفلسطينية الى داخل اسرائيل. في كانون الاول 1987، ادى اصرار حكومة شمير على عدم التقدم في العملية السياسية الى انفجار الانتفاضة الاولى في المناطق المحتلة. ضعف منظمة التحرير الفلسطينية النسبي بعد هزيمة لبنان افسح المجال لعلو صوت جديد – صوت الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة. هكذا وجدت اسرائيل نفسها أمام مشكلة لا آلية لها لمواجهتها: فهي لم تمثل امام جيش او قوات عسكرية، بل امام شعب كامل يناضل ضدها.

الانتفاضة الاولى اضطرت اسرائيل لكسر الحظر الكبير بالنسبة لعدم الاعتراف بمنظمة م.ت.ف. بذلك تكون اسرائيل قد قطعت شوطا طويلا منذ مقولة رئيسة وزرائها جولدا مئير بعد 1967 "من هو الشعب الفلسطيني؟ أنا فلسطينية"، وحتى اتفاقية اوسلو.

الانتفاضة عام 1987 شكلت مفاجأة للقيادة الاسرائيلية. فقد انتقلت ارض المعركة من الجبهة الخارجية الى داخل البيت. و"كلما تواصلت الانتفاضة، كلما زاد وعي الاسرائيليين الى أن اسرائيل انما تعود الى نقطة الصفر في صراعها مع الفلسطينيين، الى المراحل الاولى التي سبقت حرب الاستقلال، الى الانقسام حول القضايا الاولية" (4).

الانتفاضة قادت الامريكيين للاستنتاج بان عليهم الدخول للمسار السياسي. في الانتخابات الاسرائيلية عام 1992 دعم الامريكيون يتسحاق رابين وهددوا شمير بوقف المنح لاسرائيل اذا لم يجمد بناء المستوطنات. هكذا تم استبدال شمير برابين الذي كان مستعداّ للمرة الاولى، للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وللتفاوض معها.

النتيجة كانت اتفاقية اوسلو. ولكن اتفاقية اوسلو لم تشمل الاساس اللازم لحل القضية والوصول الى الصلح التاريخي بين الشعبين. ومع ان الطرف الفلسطيني كان مستعدا للتسوية، الا ان اسرائيل، مرةً أخرى، فضّلت التلاعب بالتكتيك على الحل الاستراتيجي. بدل اخلاء المستوطنات ومنح الفلسطينيين السيادة، حصل الفلسطينيون على نظام دمى أعدّ لتمكين اسرائيل من الانتقال من نظام الاحتلال المباشر الى الاستعمار الجديد غير المباشر.

ولكن حتى هذا الانتقال لم يتم بسهولة. فقد سبب اوسلو أزمة عميقة داخل المجتمع الاسرائيلي. الانقسام بين مؤيدي "ارض اسرائيل الكبرى" ومناصري التسوية، كانت له عواقب شنيعة مثل مذبحة باروخ جولدشتاين في الخليل، تبعها اغتيال رابين نفسه بايدي يميني متطرف.

ولكن خلافاً لاي منطق، ادى اغتيال رابين الى تقوية اليمين واضعاف اليسار الاسرائيلي. فقد تم انتخاب بنيامين نتانياهو (ليكود) عام 1996، ولم يكن استلام براك للحكم عام 1999 الا لامد قصير. والخلفية كانت اندلاع الانتفاضة الثانية بسبب خيبة الامل الفلسطينية من اتفاقية اوسلو. هذه المرّة لم تكن هذه انتفاضة شعبية، وانما عسكرية قادتها حماس واستخدمت فيها العمليات الانتحارية.

سيطرة الجيش الاسرائيلي على المناطق المحتلة تزعزعت. وهكذا تبلورت فكرة الانفصال عن الفلسطينيين.

الى جانب الحرب ضد المقاومة الفلسطينية المتنامية، دارت حرب من نوع جديد لا حل عسكري لها: الحرب الديمغرافية. وطرح السؤال بكل حدته: ماذا ستفعل اسرائيل بعد عشر سنوات أو ربما 20 سنة، عندما يعيش بين البحر ونهر الاردن عرب أكثر من اليهود؟ كيف ستتمكن من السيطرة على شعب يرفض احتلالها له، وفي نفس الوقت الحفاظ على طابع الدولة اليهودي والديموقراطي؟


الكتابة كانت على الحائط
اذا كان الانطباع السائد في ال67 أن قوة اسرائيل العسكرية ستردع هجمات لاحقة، فان العمليات التي حدثت منذ ذلك الحين لم تحطم هذا الوهم فحسب، بل حولت الصراع من اقليمي بين دول الى صراع داخلي مع شعب كامل، والى تمزق النسيج الداخلي، يهدد الوجود الاسرائيلي ذاته. لقد اثبتت الانتفاضة الثانية عدم امكانية مواصلة الاحتلال بشكله "الاستعماري الجديد". ولكن من جهة أخرى، ترفض اسرائيل الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة، فكيف تحل ازمتها؟ انها ببساطة، تبتكر حلولا سحرية.

الانتفاضة الثانية ادت الى تبني حكومة شارون خطة الجدار عام 2002، كما ادت الى مبادرته لخطة الانفصال. وبغض النظر عن اهداف الخطتين الا انهما كسرتا حظرا مزدوجا. فقد اثبت الجدار ان الخط الاخضر ما زال قائماً، واثبتت خطة الانفصال انه بالامكان إخلاء المستوطنات لاعتبارات سياسية.

نتيجة الوضع الجديد طرأ انقلاب صامت في الخريطة السياسية الاسرائيلية. فقد فهم حزبا العمل والليكود أن الوضع الاجتماعي الداخلي، الاقتصادي والعالمي، لا يسمح لاسرائيل بالتصرف كقوى عظمى. بذلك اقترب طرفا المؤسسة الاسرائيلية، اليمين واليسار، من بعضهما البعض، حتى اتحدا في دعم خطة الانفصال.

وقد لعبت العولمة دورا هاما في اتحاد قوى النخبة الحاكمة في اسرائيل (5). "مشروع السلام كان ممكناً بعد أن ادركت هذه النخبة في التسعينات أن من الافضل لها الاندماج بعمليات العولمة الاقتصادية، على الاستمرار في مشروع الصهيونية الجديدة المتعلقة بالاستيطان واضطهاد الفلسطينيين" (6). هذا التقارب بين المعسكرين ولد برنامجا براغماتيا بهدف البقاء، ويرفض هذا البرنامج الدولة الفلسطينية المستقلة وأرض اسرائيل الكبرى على السواء.

نبوءة "يوم القيامة" التي ادلى بها رئيس هيئة الاركان المتنحي، موشيه يعالون، تعكس الارتباك وفقدان البوصلة لدى الجمهور الاسرائيلي: "لا ايران ولا سورية ولا العراق... التهديد الوجودي الخارجي هو التهديد الفلسطيني... المزيج بين الارهاب والديمغرافية مع وجود علامات استفهام لدينا بالنسبة لمصداقية طريقنا هي "الوصفة" التي ستقضي على وجود الدولة اليهودية".

هل تتجه اسرائيل نحو انتفاضة ثالثة، كما يحذّر يعالون، أم أنها ستفهم أخيراً أن لا بقاء لها كقوة احتلال، وتدخل الى عملية سلمية بهدف رسم حدودها الثابتة، كما تتوقع قوى اليسار. واضح ان الصراع مع الفلسطينيين لا يمكن ان يحسم بفوز طرف على حساب آخر بقوة السلاح. مصير هذا الصراع متعلق الى درجة كبيرة بما سيحدث بعيداً عن القدس، في بغداد وواشنطن مثلا. ضعف مكانة الولايات المتحدة الاستراتيجية في العالم، هو انذار للامبراطورية الاسرائيلية الصغيرة. احدى نقاط ضعف الامبراطوريات أنها تخسر العلاقة بالواقع، الى ان تنهار.



ملاحظات:

1. "خطة الون"، يروحام كوهن، اصدار "هكيبوتس همؤحاد" 1972، ص32

2. "هكذا ضاعت فرصة السلام عشية الايام الستة"، ملحق يديعوت احرونوت، 3/6/2005

3. "اسياد الارض"، عكيفا الدار واوريت زرتل، ص289

4. "انتفاضة"، ص325

5. "العولمة في اسرائيل – عالم كبير في تل ابيب وجهاد في القدس"، دكتور اوري رام من جامعة بن غوريون، اصدار: رسلينغ، 2005.

6. ملحق كتب، صحيفة "هآرتس"، 1/6/2005

اعدت الترجمة: هناء محاميد



#هداس_لهب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بوش مكانك سر، في السياسة الداخلية والخارجية
- وثيقة حزب دعم اليسار الاسرائيلي – من اتفاق اوسلو لخطة شارون
- خطة الانفصال - اليسار الاسرائيلي ينفذ عملية انتحارية
- امين عام الحزب الشيوعي الاسرائيلي النائب، عصام مخول، حول تأس ...
- اسرائيل تخاف من فعنونو حرا
- الجدار الفاصل باقة الشرقية بين الارض والسماء
- الجدار الفاصل باقة الشرقية بين الارض والسماء
- الفاشية الابن الشرعي للرأسمالية
- شبح الفاشية يطوف سماء اوروبا
- The Caretaker "مدبر المنزل" في حيفا ...هوامش المجتمع.. مرآته
- قانون الارهاب يضرب حقوق الانسان الامريكي


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على بيان -حماس- بشأن مفاوضات وقف إط ...
- الجنائية الدولية: ضغوط سياسية وتهديدات ترفضها المحكمة بشأن ق ...
- أمطار طوفانية في العراق تقتل 4 من فريق لتسلق الجبال
- تتويج صحفيي غزة بجائزة اليونسكو العالمية لحرية الصحافة
- غزة.. 86 نائبا ديمقراطيا يقولون لبايدن إن ثمة أدلة على انتها ...
- هل تنجح إدارة بايدن في تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل ...
- -ديلي تلغراف-: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا ...
- صحيفة أمريكية: المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة في ...
- رسالة هامة من الداخلية المصرية للأجانب الموجودين بالبلاد
- صحيفة: الولايات المتحدة دعت قطر لطرد -حماس- إن رفضت الصفقة م ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - هداس لهب - تراجع الاستعمار الاسرائيلي