أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سمير الحمادي - الإسلامولوجيا وسؤال الكفاية: نموذج مغربي















المزيد.....


الإسلامولوجيا وسؤال الكفاية: نموذج مغربي


سمير الحمادي

الحوار المتمدن-العدد: 4492 - 2014 / 6 / 24 - 08:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تمثل ظاهرة الحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة، بواجهاتها الفكرية والتنظيمية المتعددة، إشكالية فكرية وسياسية وأمنية ضاغطة منذ أزيد من ربع القرن، وتحديدا منذ الثورة الإيرانية سنة 1979، وما تلاها من أحداث (اغتيال السادات على يد إسلاميين [جهاديين] سنة 1981، مخلفات "عملية الجهاد الأفغاني" 1979 ــ 1989، تفاعلات أزمة / حرب الخليج الثانية 1990 ــ 1991، الأزمة الجزائرية 1991... ثم تفجيرات 11 سبتمبر 2001)، إلا أن الجديد الذي لم يكن في الحسبان هو أن يتحول المجال البحثي الخاص بدراسة وتحليل هذه الظاهرة إلى إشكالية أخرى باتت في الآونة الأخيرة تثير كثيرا من الأسئلة والتحفظات المهمة على أكثر من صعيد، وذلك في ظل حالة "التسيب" التي أصبحت تميز هذا الحقل المعرفي المفتوح أمام الجميع دون شروط أو حواجز (صار مهنة من لا مهنة له)، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومن المظاهر البارزة لهذا "التسيب" اقتحام عدد كبير من المثقفين، من خلفيات معرفية وتخصصات أكاديمية مختلفة، هذا المضمار بالقوة أحيانا: قوة النفوذ المالي والإعلامي والسياسي، واحتكار "الفتيا" في شئونه على الإطلاق، من دون ضوابط واضحة، وذلك على الرغم من افتقار كثير منهم إلى العتاد المعرفي اللازم لدراسة وترسيم خطوط مثل هذا النوع من الظواهر المركبة التي تتداخل في ثناياها شبكة معقدة من الإشكاليات الحديثة والتاريخية، منها ما يعود أصله إلى زمن الإسلام المبكر، وهو ما يفسر غلبة الطابع الوصفي على كثير من الدراسات المنشورة في هذا الصدد، فضلا عن مشكلة "الانحياز الأيديولوجي" الذي يأخذ اتجاهين متناقضين على طول الخط: الأول تعاطفي (تبريري) يعلي من شأن الظاهرة (الإسلامية) ويحصنها من كل أشكال النقد، مهما كانت ضرورته ووجاهته، بحيث لا يجوز عنده مساءلتها أو الاقتراب من حدودها، ولو بشق كلمة، وغالبا ما ينتمي أصحاب هذا الطرح إلى واحد من ألوان الحركة الإسلامية ذاتها، والثاني عدائي (إقصائي) يجرد الظاهرة من كل تفصيل إيجابي قد تنطوي عليه، ويتفنن في شيطنتها من خلال تأويلات وإسقاطات غير موضوعية في أغلب الحالات، وفي العادة يعبر أصحاب هذا الطرح، الذين يشهرون انتماءهم إلى التيار الحداثي، عن وجهة نظر الأنظمة العربية الرسمية في تعاطيها مع الظاهرة الإسلامية وما تمثله من تهديد لسلطتها من دون الالتفات كثيرا للسياقات الاجتماعية والسياسية ــ والثقافية المنتجة لخطابها الاعتراضي في صورته المعتدلة والمتشددة على السواء.

والخلاصة أن التهافت في مقاربة وتحليل الحركات الإسلامية، في تعبيراتها الأيديولوجية والتنظيمية المتعددة، ساهم في خلق هوة واسعة بين الظاهرة كما هي في حقيقتها، ودوائر الخطابات / الأطروحات المعنية برصد وإدراك الديناميات المرتبطة بها، الأمر الذي أدى، في كثير من نماذج البحث المطروحة، إلى تجريد المجال المعرفي الخاص بدراسة الحركات الإسلامية من حجيته العلمية، وتحويله إلى أداة في الصراع الأيديولوجي التقليدي بين الإسلاميين من جهة، وخصومهم من الأنظمة العربية والتيارات الفكرية الحداثية / العلمانية من جهة أخرى.

مناسبة هذا الكلام أننا اطلعنا مؤخرا على شريط مصور لمحاضرة ألقاها أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض في مراكش الدكتور محسن الأحمدي في 14 يناير 2010 حول "النموذج المغربي في مواجهة الإسلام الراديكالي"، وذلك في معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة (بصفته أستاذا زائرا في "مركز الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي ــ المسيحي" بجامعة جورج تاون). الموضوع كما هو واضح من عنوانه مثير وبالغ الأهمية، ويغري بقول الكثير، بل إن محاضرة واحدة قد لا تكفي للإحاطة بجميع مداخله وتفرعاته، ومع ذلك فإن المقام يتسع لطرح عدد من الأفكار المهمة وإنارة بعض الزوايا المعتمة، وهذا ما انتظرناه وتوقعناه من المحاضر: أن يقدم نموذجا راقيا للمعرفة ويذهب بعيدا في اجتراح رؤى جديدة من خلال مقاربة محكمة تتناول إشكاليات الإسلام الحركي في المغرب، وتنويعاته، والتوجهات الفكرية لكل تيار من التيارات التي تشكل بنيته، وتحدد عناصر الاختلاف بين أطروحات كل تيار حول السلطة والمجتمع، وكذا طبيعة وعناصر الإستراتيجية التي اعتمدها النظام المغربي في التعاطي مع التهديد الذي يمثله التيار الراديكالي على وجه التحديد، خاصة أنه يشكل في الحالة المغربية منظومة غير محكومة بهيكل قيادة واضح ومحدد (أي أننا أمام أفكار لا تؤطرها تنظيمات)، وهل هناك خصوصية تميز هذه الإستراتيجية وتجعلها مختلفة عن غيرها من التجارب الأخرى المشابهة، وكيف كانت انعكاساتها على الواقع المغربي بما ينطوي عليه من خصوصية، وما هي نقاط الضعف التي تعتريها إن وجدت، وكيف جرى تسويق سياسات مكافحة الإرهاب في المغرب سياسيا وإعلاميا، في الداخل والخارج، وغيرها من الأسئلة التي يمكن أن تراود ذهن أي مهتم بهذا الموضوع المعقد في طبيعته كما في تجلياته، بيد أن ما أدركناه لم يكن في مستوى الانتظار والتوقع، والمفاجأة / الصدمة كانت كبيرة حقا، إذ أننا ما إن شرعنا في الاستماع إلى المحاضرة حتى كانت الخيبة، وظل دخان هذه الخيبة يتصاعد مع مرور كل دقيقة. فالرجل لم يقل أكثر مما يمكن لأي واحد من الجمهور المغربي قوله. الأفكار التي قدمها لم تضئ أي جوانب محورية في الموضوع، وكثير مما أجهد نفسه فيه هو عبارة عن معلومات عامة منشورة في الصحف المغربية. ونزعم أن بعضا مما سمعناه هو رجع صدى، وأحيانا نسخ كربوني، لمقالات وآراء نشرت لباحثين آخرين. لقد ظل المحاضر لأكثر من نصف الساعة يلف ويدور دون أن يهتدي إلى وجهة محددة، وهو ما لا يليق بأكاديمي متخصص يفترض أن يكون على دراية كاملة بالمدارات التي تتحرك في إطارها الظاهرة الإسلاموية الحديثة والمعاصرة.

تطرق المحاضر في البداية إلى الإنجازات "الرائعة" التي حققها النظام الملكي المغربي منذ سنة 1965 في ما يخص الإصلاحات ذات الطابع الليبرالي التي طاولت المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتعليمية والقانونية، بيد أن المؤسسة الدينية التي تحتل موقعا بالغ الأهمية والحساسية داخل بنية النظام ظلت بعيدة عن هذا الإصلاح خلال فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني والسنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس، حتى جاءت الهجمات الإرهابية التي ضربت الدار البيضاء في مايو 2003، فاضطر الملك إلى تفحص ومراجعة الحالة الدينية بالمغرب بغية إقرار بعض البرامج الإصلاحية، وهو ما تم بكثير من الحرص والحذر...

بعد ذلك انتقل المحاضر إلى الحديث عن الإستراتيجية التي اعتمدها المغرب في مجال مكافحة التطرف الديني عقب تفجيرات الدار البيضاء، التي تعتبر الهجوم الإرهابي الأكبر في تاريخ البلاد، وحدد بعض الإجراءات التي تقوم عليها هذه الإستراتجية التي وصفها بأنها "واسعة" تشمل أكثر من مجال: تحديث التعليم، محاربة الفقر، ضبط الشأن الديني على مستوى المساجد والفتوى... ثم توقف عند سياسة تشجيع التصوف التي يعتمد عليها المغرب بشكل أساسي للحد من انتشار الفكر المتشدد في الأوساط الشعبية، على أساس أن التصوف يشكل قوة معارضة للراديكالية الإسلامية... مشيرا إلى قصور هذا المخرج على اعتبار أن دور التصوف، على الرغم من قوة حضوره في الثقافة المغربية، لن يكون فاعلا بالدرجة الكافية لكبح جماح التطرف الإسلامي، فهو وإن كان مؤثرا على المدى البعيد، إلا أن له توتراته أيضا، محذرا من تكرار أخطاء السياسة المغربية في الستينيات والسبعينيات، عندما جرى تشجيع الإسلاميين بهدف محاصرة التيار الماركسي، ثم خرجت الأمور عن السيطرة في ما بعد، ذلك أن حتى التصوف يمكن أن يتحول في المستقبل إلى شيء آخر، ولا ضمانات مؤكدة في هذا الشأن. من هنا، يرى المحاضر أن الخيار الأفضل هو التركيز على مزيد من "العلمنة" على مستوى مؤسسات الدولة والمجتمع، على أساس أن العلمانية لا تتعارض مع التراث الإسلامي للبلد، فــ "العلمانية يمكن أن تعني أشياء كثيرة مختلفة... من الممكن أن تكون مسلما، وتختار أن تبقي الدين بعيدا عن الأمور الدنيوية مثل التكنولوجيا أو السياسة...". هذا هو الحل / المخرج الذي يركز الدكتور الأحمدي على فاعليته في مواجهة أي اندفاعات محتملة للإسلام الراديكالي في المغرب: علمنة مكثفة تطاول مجالات الحياة المغربية كلها.

هذه باختصار أبرز المحاور / الأفكار التي أثثت فضاء المحاضرة (تجاوزنا بعض التفاصيل التي بدت لنا ثانوية وبلا قيمة). وهي أفكار لا مناص من الإقرار بأهمية وجدارة بعضها، لو أنها طرحت في سياق علمي يراعي التعقيدات البالغة المرتبطة بالموضوع، وبلغة بحثية مركزة فيها قدر من الابتكار والتجديد. لكن المحاضر اختار الركون إلى الحل السهل، وهو اجترار المكرور والمعاد من القول، حتى إنه، في كثير من العبارات، بدا منحازا، على نحو سافر، إلى وجهة النظر الغربية في مقاربتها لقضايا المغرب والعالم العربي بشكل عام، كما لو أن الأمر يتعلق بمستشرق قادم من وراء البحار وليس باحثا مغربيا عليه أن يكون معجونا بتراب بلاده، وفي النهاية جاءت المحاضرة مفككة بامتياز، يعوزها العمق الفكري، وتفتقر إلى مقومات المنطق الإبستيمي في معالجة الظواهر الاجتماعية، الأمر الذي أربك الحاضرين أثناء المحاضرة، وقد تجلى ذلك في الفقرة المخصصة للنقاش، إذ لم يقتنع عدد من الحاضرين بما طرحه المحاضر، أو بتعبير أدق، لم يشف العرض نهمهم المعرفي، الأمر الذي دفعهم إلى إعلان توجيه نقد حاد للمحاضر، وليت أن الدكتور أحسن في الرد لتبديد الانطباع الذي تركته محاضرته الملتبسة، بل استمر في الخط نفسه: يتلعثم ويكرر الكلام نفسه.

الآن نشير إلى المهم في الموضوع.. المهم الذي حررنا هذه الورقة من أجل بيانه، وهو إصرار الدكتور طوال المحاضرة على الحديث عن الإسلاميين باعتبارهم "مفردا بصيغة الجمع". فهو لم يكلف نفسه، على أي نحو، عناء إقامة فاصل منهجي بين الإسلاميين الذين يتحدث عنهم ويحاضر في شئونهم، وتمييز من يقصد منهم بالضبط، وتوصيفه على وجه التحديد، بل ظل يعتبرهم كيانا موحدا لا خلاف أو تعارض بين مكوناته، ويضعهم في قارب واحد كما لو أن الفروق والتمايزات البنيوية القائمة بين مختلف التيارات التي تشكل في مجموعها الظاهرة الإسلامية المعاصرة، بل وحتى داخل التيار الواحد (نموذج التيار السلفي الذي تتوزعه اليوم ثلاثة خطوط متعارضة: الخط السلفي "التقليدي" والخط السلفي "الحركي" والخط السلفي "الجهادي")، لا قيمة لها، إلى حد أن أحد الحاضرين عبر عن شعوره بــ " خيبة أمل لسماع الباحث المغربي يستخدم مصطلح "الإسلاميين" على نطاق واسع"، كما طلب آخر من الدكتور أن يحدد بدقة ما الذي يعنيه مصطلح "إسلامي" بالنسبة إليه، فكان جوابه هو أن "الإسلامي" يعني "رجل الدين الذي يستخدم الإسلام لتحقيق مكاسب سياسية أو شخصية"..

لا نعرف حقا في أي كتاب أو مقال، وفي أي لغة حية أو ميتة، قرأ الدكتور هذا التعريف المفرط في السذاجة والسطحية (عبّر معظم الحاضرين عن استغرابهم من هذا التعريف، واعتبروه تعريفا "ساخرا" لا يمكن أن يكون "مفيدا" على أي نحو)، ولكننا نعرف جيدا، كما يعرف غيرنا من المبتدئين في طلب هذا النموذج من العلم (الإسلامولوجيا)، أن التمييز بين التيارات / التوجهات التي تتشكل من مجموعها الحالة الإسلامية المعاصرة أصبح أمرا ضروريا على المستوى البحثي، بل إنه عرف منهجي في كل الدراسات المتخصصة في الموضوع في العالم كله، فإذا كانت القاعدة / المرجعية الفكرية التي ينطلق منها الإسلاميون واحدة وثابتة ولا خلاف عليها (المشروع الإسلامي)، فإن الخطوط الناظمة لأجنداتهم ونشاطاتهم النظرية والعملية ليست كذلك، فهي موزعة على أكثر من توجه ومسار، وهنا يكمن الخلاف.. والصراع الداخلي بين مكونات الحالة الإسلامية.

صحيح أن عددا من المفكرين العرب المهمين (فرج فودة في "قبل السقوط" 1985، فؤاد زكريا في "الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة" 1986، محمد سعيد عشماوي في "الإسلام السياسي" 1987، نصر حامد أبو زيد في "نقد الخطاب الديني" 1992...) ظلوا مصرين على عدم التمييز بين مكونات الحالة الإسلامية بدعوى أن "ليس في القنافذ أملس"، أو كما جاء في كتاب الراحل نصر أبو زيد المذكور من أن دراسته للخطاب الديني الإسلامي لا تأخذ في الاعتبار "تلك التفرقة المستقرة ــ إعلاميا ــ بين "المعتدل" و"المتطرف" في هذا الخطاب"، لأن "الفارق بين هذين النمطين من الخطاب فارق في الدرجة لا في النوع"، فهو "لا يجد تغايرا أو اختلافا، من حيث المنطلقات الفكرية أو الآليات، بينهما". وهو ما يذهب إليه رفعت السعيد أيضا، الذي على الرغم من إقراره بأنه يميز ــ إجرائيا ــ بين ثلاثة أنواع من الحركات الإسلامية: الإخوان المسلمون، الجماعات الإرهابية (جماعة الجهاد مثلا)، والأحزاب الإسلامية، إلا أنه مقتنع تماما بأن "الخيمة" الفكرية التي يأوي إليها هؤلاء جميعا "واحدة" (المواجهة حول الاعتدال والتطرف في الإسلام، 1996).

وصحيح أن مستشرقين أمريكيين بارزين يتبنون هذه الرؤية الإقصائية نفسها، ويدافعون عنها بقوة في كتاباتهم، ونشير هنا إلى أربعة نماذج هم الأهم والأكثر حضورا في المشهد الأكاديمي والإعلامي الأمريكي: دانيال بايبس في كتابه "في طريق الله: الإسلام والسلطة السياسية" (1983)، إيمانويل سيفان في كتابه "الإسلام الراديكالي (1985)، جوديث ميلر في دراستها "تحدي الإسلام الراديكالي (مجلة "فورين أفيرز، ربيع 1993)، بنجامين باربر في كتابه "الجهاد في مواجهة عالم ماك" (1995)، ثم مارتن كريمر في كتابه "الصحوة العربية والإحياء الإسلامي: سياسة الأفكار في الشرق الأوسط" (1996)، إلا أن الصحيح أيضا أن هذه الرؤية لا تنطلق من حقائق موضوعية لها علاماتها وشواهدها في الواقع بقدر ما تعبر عن توجهات شخصية تخص الأمزجة الخاصة لهؤلاء المفكرين جميعا. بعبارة أخرى، نحن بصدد مواقف وكتابات تعبر عن انحيازات أيديولوجية مكشوفة تتدثر بغطاء البحث الأكاديمي.

والحقيقة أن هذه الرؤية النمطية أصبحت فعلا متجاوزة ومهجورة، لا تقنع أحدا من المهتمين أو المعنيين بالظاهرة مهما ساقت من مبررات وحشدت من قرائن لترجيح كفتها، ويبدو غريبا حقا أن يتجرأ أحد من الباحثين اليوم على طرحها دون أن يحسب حساب الانتقادات التي ستنهال عليه من كل صوب، وفي هذا الصدد نستحضر تحليل عمرو الشوبكي لمشكلة هؤلاء المفكرين، حيث يرى أنها تتمثل في أنهم يتعاملون مع الظاهرة الإسلامية "على اعتبار أنها حركة لا تاريخية، تقرأ من خلال نصها المقدس والثابت أو من خلال خطابها الإيديولوجي الساكن باعتباره قدرا تاريخيا خالدا لا يتأثر بالزمن ولا بالبيئة الاجتماعية المحيطة"، وإنهم اهتموا، إجمالا، "بمجموعة من الأسباب النصية التي لا تهتم بقراءة أي تحولات ــ ولو جزئية ــ تحدث على الخطاب الإسلامي... مما أدى في النهاية إلى وضعه داخل إطار ساكن لا يتغير" (مستقبل الحركات الإسلامية بعد 11 أيلول، 2005). وهي الفكرة نفسها التي يؤكد عليها تركي علي الربيعو في كتابه "الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر" (2006)، حيث لخص في عبارة واحدة أزمة هذا النوع من الخطاب تجاه الظاهرة الإسلامية في كونه خطابا محكوما بــ "إرادة عدم معرفة".

وهنا، يجدر بنا استحضار بعض الكتابات المعروفة في السياق العربي، التي تعبر عن الاتجاه المعاكس، الذي يقيم وزنا لاعتبارات الواقع، ويميز أصحابها بين التيارات المختلفة التي تشكل بينة الإسلام الحركي المعاصر في تنوع تياراته الفكرية وتعبيراته التنظيمية. ونشير، على سبيل المثال، إلى دراسات كل من محمد جمال باروت الذي أسس مقاربته التحليلية لظاهرة الإسلامية في كتابه "يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة" (1994) على وجود تناقض بنيوي بين نظامين للخطاب داخل الحركات الإسلامية المعاصرة: الخطاب "الإخواني" المعتدل والخطاب "الجهادي" المتطرف، لكل خطاب بنية نظرية ــ حركية مستقلة تماما عن الأخرى ما يجعل العلاقة بين الخطابين لا تقوم على آلية "التداخل النصي" بقدر ما تقوم على آلية "القطيعة".

وأيضا محمد ضريف الذي ميز في كتابه "الإسلام السياسي في الوطن العربي" (1992) بين نمطين من الإسلام السياسي: إسلام سياسي استيعابي "يوظف مفاهيم التعايش والدعوة بالتي هي أحسن ويعطي أهمية كبرى لمفهوم تربية المجتمع..."، وإسلام سياسي إقصائي "يتمحور حول مفاهيم مركزية مثل مفهوم "الجاهلية"، وبالتالي يحكم بكفر مكونات المجتمع والسلطة، هذا الكفر / الجاهلية لا يمكن استئصالها إلا بواسطة الجهاد (= العنف)".

الأمر نفسه يقرره المختار بنعبدلاوي في كتابه "الإسلام المعاصر: قراءة في خطابات التأصيل" (1998)، حيث يميز بين نموذجين / خيارين في الأصولية الإسلامية: نموذج / خيار الرفض (الحركات الإسلامية التكفيرية والجهادية)، نموذج / خيار التوافق (جماعة الإخوان المسلمين وفروعها في الدول العربية والإسلامية)، وهو التمييز الذي كان رفعت سيد أحمد قد قرره في كتابه "الحركات الإسلامية في مصر وإيران" (1989)، حيث ميز بين اتجاهين أساسيين يتوزعان حركة الإحياء الإسلامي المعاصرة: الاتجاه الإصلاحي أو التوفيقي الذي يمثله بشكل أساسي الإخوان المسلمون، والاتجاه الثوري الذي تعبر عنه الجماعات الجهادية والتكفيرية.

طبعا لا تفوتنا الإشارة إلى "تقرير الحالة الدينية" الذي أصدره مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام (القاهرة) سنة 1995، وهو التقرير الأول من نوعه في العالم العربي، حيث ميز في قسمه الثاني الخاص بــ "الحركات الدينية غير الرسمية" بين الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الراديكالية على المستويين النظري والحركي. كذلك هالة مصطفى التي ميزت في كتابها "النظام السياسي والمعارضة الإسلامية في مصر" (1995) بين جناحين داخل المعارضة الإسلامية في مصر: الأول يمثله الإخوان المسلمون، والثاني تجسده "الجماعات" أي جماعات العنف الجهادي. كما نشير إلى موسوعة "الحركات الإسلامية في الوطن العربي وإيران وتركيا" (2004) التي حررها أحمد الموصللي، وجاء في مقدمتها أن "الحركات الإسلامية التي ينظر إليها على أنها حركة واحدة هي، في حقيقة الأمر، عدة حركات تتنوع وتختلف نظريا وعمليا في أمور جوهرية عدة".

أما في السياق الغربي، فنعرض لبعض النماذج الكلاسيكية مثل ريتشارد دكمجيان في كتابه المرجعي "الأصولية الإسلامية في العالم العربي" (1985)، الذي نقرأ فيه أن "تكاثر الجماعات الأصولية في البلاد العربية وفي العالم الإسلامي الأكبر أصبح حقيقة حياتية في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من وجوه الشبه الأساسية في القيم والمعتقدات والتوجه، فإن هناك تباينا واضحا بين هذه الجماعات والمجموعات (في المذهبية والممارسة)".

كذلك فرانسوا بورجا في كتابه الشهير "الإسلام السياسي: صوت الجنوب" (1988) الذي خصص الفصل الأول منه لــ "استطلاع الخطوط المتحركة التي تفصل بين التيارات الإسلامية... والتوصل إلى إزالة التداخل بين الأسماء المتعددة التي تطلق عليها"، وأيضا جون اسبوزيتو الذي حذر في مقال له بعنوان "الإسلام السياسي والسياسة الخارجية الأمريكية" نشر بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 من خطورة الدمج بين الإسلاميين "المعتدلين" والإسلاميين "المتطرفين" في إطار واحد للفهم، معتبرا أن التمايزات القائمة بين الاثنين حقيقية ولا يمكن تجاوزها. وكان اسبوزيتو قد شدد على الفكرة نفسها في أشهر كتبه: "التهديد الإسلامي: حقيقة أم خرافة؟" (1992)، حيث خلص بعد استعراض نماذج مختلفة من الحركات الإسلامية في مصر ولبنان والمغرب وتونس والجزائر وتركيا إلى "تنوع الجماعات الإسلامية الناشطة والتجارب الإسلامية، والإسلام السياسي على وجه الخصوص".

ومن الدراسات التي صدرت في هذا الصدد في السنوات الأخيرة دراسة مهمة أعدها الباحثان بمركز نيكسون الأمريكي روبرت ليكن وستيفن بروك بعنوان "الإخوان المسلمون المعتدلون"، ونشرت بمجلة "فورين أفيرز" (عدد مارس ــ أبريل 2007)، الدراسة رفضت الاتهامات الموجهة إلى الإخوان المسلمين بكونهم يدعون إلى التطرف والعنف، وطالبت بضرورة التمييز بينهم وبين الجهاديين بالنظر إلى الفروق الجوهرية الكثيرة القائمة بينهم، ولأن الإخوان يمثلون اليوم "صمام الأمان" للإسلام المعتدل المنفتح على مختلف السياقات الحضارية.

هناك أيضا دراسة تمارا كوفمان ويتس المنشورة في مجلة "الديمقراطية" (عدد يوليو 2008) بعنوان "الأحزاب الإسلامية: ثلاثة أصناف من الحركات الإسلامية"، حيث تميز الكاتبة بين الحركات التكفيرية (تنظيم القاعدة وفروعه)، الحركات الإسلامية المسلحة الوطنية (حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين...)، وقوى الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون). ومن النماذج الأخرى نشير إلى غراهام فولر: المسئول السابق في شعبة "الإسلام المتطرف" بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الذي يركز في مختلف مداخلاته البحثية والإعلامية على أهمية الحوار مع الإسلاميين المعتدلين وضرورة العمل معهم، محذرا من أن استبعادهم من أي عملية تحول ديمقراطي في العالم العربي لن يعود بالفائدة إلا على المتطرفين (الجهاديين). الفكرة نفسها نجدها عند كثير من الباحثين المرموقين مثل جيل كيبل، جارتينشتين روس، روبيل مارك، ديفيد كابلان، لاري دايمون، فريد زكريا...الخ.

وإذا، القول بأن الإسلاميين كتلة واحدة هو توصيف خاطئ لا يعبر عن واقع الحال، وهو متجاوز اليوم في الأوساط الأكاديمية الرصينة كما عند صناع السياسات الذين عمد بعضهم في السنوات الأخيرة إلى مد جسور الحوار مع المعتدلين منهم، خاصة أن تجارب من قدر لهم الوصول إلى السلطة تفند هذا التقييم الاختزالي، وها نحن مثلا في المغرب نعيش تجربة واقعية مع إسلاميين وصلوا إلى شيء من السلطة دون أن يصيبنا شيء من شر تطرفهم، صحيح أنها سلطة مقيدة، ولكنها سلطة على أي حال. فهل يصح أن نضع حزب العدالة والتنمية الإسلامي وتنظيم القاعدة الإسلامي أيضا في سلة واحدة؟ وهل يصح أن نقول إن عبد الإله بنكيران وأيمن الظواهري يفكران بالطريقة ذاتها، وينامان على سرير واحد؟

الجواب واضح.

في الختام، وتلخيصا للفكرة التي حررنا من أجلها هذا المقال / التعليق، نورد هذه العبارة / الإشراقة الجميلة للكاتب خيري منصور: "إن كل تثقيف أحادي البعد أو يقتصر على قوس صغير من محيط هذا الوجود، هو اسم آخر للتجهيل".

من المهم جدا لأي باحث يمارس مهنته، ولا يريد أن يخسر رهان العلم، إلزام الذات بالأمانة وتعميق الوعي بالظواهر التي يتصدى لها بالدرس والتحليل على اختلاف مستوياتها، حتى لا يتحول إلى شاهد زور معزول عن الواقع يتجاسر بلا مبرر على قول ما لا يصح في أذهان الذين لا يريدون ولا ينتظرون من شهادته إلا.. الحقيقة. بعبارة أخرى: عزم الباحث في أي مجال علمي يأتي على قدر علمه أولا.. ولكنه أيضا يأتي على قدر أمانته.. الأمانة مهمة جدا..

ملاحظة: نستخدم مصطلح "الإسلامولوجيا" في سياق هذا المقال / التعليق بشكل محدد للدلالة على الدراسات البحثية الأكاديمية التي تعنى بحقل الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها وأنماطها. وعليه، لا تصح المقارنة بين هذا الاستخدام الإجرائي والاستخدامات الأخرى للمصطلح في سياق الإسلاميات الحديثة كما عند الراحل محمد أركون مثلا في "الإسلامولوجيا التطبيقية"، وهو المفهوم الذي استحدثه في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين في إطار صيرورة مشروعه التأصيلي النقدي.

هامش: محاضرة الدكتور محسن الأحمدي متوفرة على الموقع الإلكتروني لمعهد الشرق الأوسط:
http://www.mei.edu/audio/reforming-radical-islam-moroccan-model



#سمير_الحمادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برقية.. إلى ثوار -الربيع العربي-
- السياسة تفرّق شمل السلفيين في المغرب
- في أزمة الربيع العربي
- الوهابية والسلفية الجهادية: أسئلة العلاقة


المزيد.....




- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- نزلها الآن بنقرة واحدة من الريموت “تردد قناة طيور الجنة 2024 ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- كاتب يهودي: المجتمع اليهودي بأمريكا منقسم بسبب حرب الإبادة ا ...
- بايدن: ايران تريد تدمير إسرائيل ولن نسمح بمحو الدولة اليهودي ...
- أستراليا: الشرطة تعتبر عملية طعن أسقف الكنيسة الأشورية -عملا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سمير الحمادي - الإسلامولوجيا وسؤال الكفاية: نموذج مغربي