أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ياسين عبيدات - * سميحة التميمي تبحث عن الهدأة * دراسة وتحليل لنصها سنة النور ..2...















المزيد.....



* سميحة التميمي تبحث عن الهدأة * دراسة وتحليل لنصها سنة النور ..2...


علي ياسين عبيدات

الحوار المتمدن-العدد: 4454 - 2014 / 5 / 15 - 20:05
المحور: الادب والفن
    


* سميحة التميمي تبحث عن الهدأة *

دراسة وتحليل لنصها سنة النور ..2...
بقلم/ علي عبيدات



سنةَ النور .....[ 2 - ------ ]

لستُ أنا منْ قَرَّرَتِ المَجيءَ في ذلكَ المساء
إلى هذا العالم ..
لقدْ جيءَ بي ...
لأكتُبَ شَهادتي على الحروبِ والانكساراتْ ...
بأعجوبةٍ نجوتُ من طلقةٍ في الرأس
كادَ يقتلني آخر نواطير الهَباءْ ...
.....................................................
ترِفٌ أنتَ ..وكلُ هذهِ الدهشةُ لكَ...
عندَما تشعرُ بالوحدةِ تَذَكرّني فأنا أُغَنّي بالجوار
دَعهُم يلملمونَ بقاياهُم وقصائدهم ويذهبون ...
وَابْقَ رَضيَّ السريرةِ ..و سليلَ الشموس
.. بي شوقٌ إلى ازدحامكَ بي وضجري منَ خَطيّاتِكَ..
أيها الحبُ لا تركعْ فأنتَ صلاةُ الطيبينَ وسِفرَهم
كونٌ ويتسعُ معَ كلِ لهفةٍ .. تاريخٌ أنتَ ..
ما ألْيَقَ الترتيل المنبعث من قسماتكَ..ما أوفى قَسَمَ صَمتِكَ
أنا أتصوَّفُ في عشقِ قداستكَ العُليا
أصواتٌ تطرقُ أبوابَ السجنِ، القلب
تُغنّي للكروم متجاوزةً ثِقلَ الخطوِ
أنا أنسجُ كيساً للاملِ المِدرار
أنا اشعلُ شمعاً مع هدأةِ أنغامِ الحَزانى
حتى لا تأتيهم غيلانُ المراعي
فترقصُ قلوبهم وتتبعني إلى النهرِ العظيم
أنا اصيخُ النظَرَ لهسيسِهم بجلالٍ ..
أصيخوا معي ..
نوِّسوا صوتَ الريح ولينهمرَ المطرُ بجلالٍ






فـ ...عندي عرائس الاقيانوس العلوي يُباركننَي بالوردي
لا تُفزعْني ..لا تمشِ عكسَ البركات ..أبحِر بهدوء
قبلَ أنْ تطلعَ الشمسُ على الرعيان
وتَثِب أنوار الارض الجديدة
انظر فالنهرُ طيّعٌ ..كحصانِ محارب عاشق
لقد تبَسّمَ الحظُ ومرّ كل العاشقينَ منْ هُنا
وأشعلوا قلوبَ الأعياد
فَلِمَ تبكِ ؟ ..لا تبكِ ...

ها هوَ البحرُ العظيمُ يغرقُ في دواماتهِ ..
البحرُ العظيمُ يغرق ..
ما أضعفَ البحرُ
يموتُ من البكاءِ ليلاً ..بعدَ نهارٍ من الاشتياق ..
الخيالُ أجملُ منَ الحقيقة والإنسحاق ...
ولكنكَ لنْ تصير نبياً..هكذا حدثني الله
كيفَ نُشعلُ عتمات المسافاتِ بعودِ ثقابْ..!
من المجنونُ ومن المحزونُ يا بابَ السنةِ الجديدة ..؟
هل تقتلُ الاعياد ؟وهلْ يحزنُ الناس وهمْ يستقبلونَ عاماً جديداً !
آه ..ما أكثر الدروب الآبلةَ للسقوط ...
يا صغيري ....لا زلتَ أسيرَ وَجهكَ الهارب
ولا زالَ الليلُ يصنعُ منكَ نسختكَ المتكررة المأساة..!
ولكن: لا زال للبحرِ شاطيءٌ بألفِ ميناء
فهل تُبحِرْ ...؟
إنّي وإياكَ تِسعٌ ...وعاشرنا : هَلْ ضاعَ في الزحام ..؟
لا زالَ ضجيجُ الرحلة الأخيرة يملأُ رأسي بكلِ تفاصيلهِا وبكاملِ أناقتهِا وأفراحهِا
وحزنهِا الوحيد ..أنتَ
الولاداتُ كما البدايات كبيرةٌ وتتعدّى حتى الضجيج .. المعضلةُ تكمنُ في التفكيرِ كيفَ تصغُر الأشياء الجميله ولماذا ؟!

في مُعجمِ البدايات والنهايات الكثيرُ من الورود ..والكثيرُ منَ الوخز
لذلكَ لا نُريدُ أن يُهدينا أحداً في السنةِ الجديدةِ وردة نيابةً عن أحدْ ..
هناكَ ابتساماتٌ لا تفويضَ فيها ..بلْ قد تقتُلها الإنابات ...
وعدتُ أتأملُ الشمعدانَ الفارسيَ الأحمر ..بورودهِ المجففةِ المضمخةِ بذياكَ العِطر الباريسي عينهُ ...

سمحية التميمي
......................... .



يتدفق العرفان من نصوص سميحة التميمي دون كبح، فقراء نصوصها رأوا وما زالوا يرون حرفيتها وبراعتها وصدقها في اخراج كوامن النفس، وفي هذا النص "سنة النور" نجد سميحة التميمي كما عهدناها محافظة على هويتها الشخصية التي تلتئم اجزاؤها وتجتمع أوصالها نصاً بعد نص، بنفس الوتيرة وبذات التدفق والإبتكار، ليكون القارئ أمام نصوص تجاوزت المونولوجات الداخلية والإعترافات التي تعكس الحيرة السطحية، والقلق اللامطبوع، والتذكر المبهرج، فكأن القارئ في حضرة ملحمة صوفية بطلها البسطامي او العطار وميمنتها مع سنائي وميسرتها تحت إمرة الرومي، ولكي لا يحسب مقالي على مقالات القراءات النقدية المجاملة والصحفية، سأحاول أن أتحدث عن النص بإعتباره لصاحبته، دون أن اتعمق بالحديث عن صاحبته بإعتبارها كاتبة للنص، لأن التعامل مع النص من منطلق الخلود أنفع من التعامل معه من منظور شخص مبدعه.

سنة النور كغيره من النصوص التي قرأتها لسميحة التميمي، فهو يشاطر نصوصها الأخرى بالأسلوبية وبالنهج التجديدي الذي تسبغ عليه صاحبته خصوصيتها وهويتها الشعرية، فتراه شعراً سائغاً يخاطب روح كل ذواق له وميال لمضامينه. و ليستطيع المتذوق أن يربط بنى النص معاً عليه أن يدرك ما يقرأ دركاً وافياً ليستطيع أن يكمل ما هو في صدد قراءته، فالربط بين أطراف نصوص كهذه جدُ صعب، وبحاجة إلى تريث يشبه البطء الذي يعتبر سمة بارزة لنصوص الباطن وما فوق الشعور(العرفان) وهذا على صعيد القارئ.

اما من يجد في سبر أغوار النصوص متعته، ومن ينتشي وهو ينغمس بين مخاديف النصوص وخلف تخوم بنائها محاولاً كشف أسرارها، فعليه أن يفكر ملياً قبل أن يصل إلى أي نتيجة او حكم على النص الذي يهم بالتماهي معه، فعلى سبيل المثال لا يمكنك أن تضع يدك على معالم الإستواء النفسي او الفني، ولا يسعك أن تجزم بواحدية الدلالات ومردها المعروف والمتعارف عليه، وكذلك الحال لن تكون أمام تصوير فني سبق لك أن لمحت أطرافه، فحتى التناص والتشبيه يكونان على غرار الهوية الشعرية الخاصة لا كما عهدنا.

يسمع قارئ "سنة النور" لحن النفوس الخالد من أعالي هذا الأسلوب السيميائي الإيحائي، وله أن يتكلل بأوج الطمئنينة والراحة الأبدية والدهشة، ليمتلأ عشقاً وصبابةً من خلال إستجابته النفسية للنص، تلك الإستجابة التي تتجاوز ملكة التذوق والإنطباعية وإرهاصات التأثر التي أومأت لها سميحة التميمي بواسطة الإيهام المكسو بالحيرة، وعبر التساؤل الذي لا يفارق القارئ طالما تمر أحداقه على النص، فلا يتوقف عن التساؤل ولا يبرح الحيرة، وبالكاد يجد لنفسه صفةً نهائية تتجسد فيها الذات المشتركة بينه وبين كاتب النص، وليس باليسير على قارئ النص أن يجد الأنا التي تمثله عاكسةً الآخر الذي يتراءى له في قفا الخطاب، فهو أمام نص لا يفيه حقه بقراءة واحدة، فلِكي ينغمس المرء بالنص عليه أن يفهم بعضه على الأقل..!

ومن باب الإنصاف فإن أسلوبية سميحة التميمي تجعل القارئ راضياً عن النص، محباً لما فيه وما يتخلله من عاطفة إنسانية و روح نقية تتشحُ بالخلود والهدأة والسلام. فحتى إن لم يدرك القارئ ماهية حضور البحر والنهر معاً او هجوم الغيلان على أشجار الزيتون، سيحاول أن يربط بين الوشائج التي ألِفَ أطرافها وأُعجِبَ بها ولو كان يختلقها متحايلاُ على نفسه، وهنا تكمن براعة الكاتب في تغييب المنطق وتحفيز الجدل والإيحاء والتقولُب.



يقودنا هذا التساؤل الصارخ إلى نقطتان أساسيتان، الأولى في مجال النص بإعتباره يمثل صاحبته، و الثانية الى صاحبة النص كشاعرة حداثية تنتمي إلى جيل الحداثة الجديد(الحي بيننا)، إذ يعتبر التساؤل القابع في النص- بشقيه تساؤل القارئ وهو يقرأ وتساؤل صاحبته من منظورها الفلسفي حالما تكتب- ركناً أساسياً من أركان جودة النص، فالنص هنا (سنة النور) يضج بالتساؤل المكلل بالحيرة، تلك الحيرة التي تنبعث من روح الكاتبة وتنعكس على حواس القارئ، ومن ذلك التساؤل:
" لستُ أنا منْ قَرَّرَتِ المَجيءَ"..." فَلِمَ تبكِ ؟

يبرهن تساؤل القارئ أن للنص دلالات وأبعاد ورموز إشتركت معاً ليكون النص قد تجاوز السرد والمباشرة والنثرية والحديث المليء بالمنطق او الخطب والأقصوصات الصحفية- والتي للأسف تعيك بعالم الشعر خرابا- فقد وظفت سميحة التميمي التساؤل خير توظيف، فلا قيمة للتساؤل إن لم يبحر المتسائل ولا قيمة لتساؤل الكاتب إن لم يكن مبنياً على فلسفة خاصة وتغذية مشربية وثقافة واسعة، فالكاتب إن كتب والمنشئ إن أنشئ والشاعر إن أشعر يعطينا رأيه في الوجود وكيف يراه، لا سيما أنه إبن المؤسسة البشرية ويخاطب إخوته فيها، فإن لم يحلق بصاحبه وقارئه فلن يرقى إلى درجة الحيرة التي تبرهن جودة النص، و عندها يكون التساؤل مبتور والضحالة فيه بائنة، ومن المعروف بأن النص الخالي من التساؤل نص لا قيمة له! والحق يقال فإن تساؤل سمحية التميمي في هذا النص حمل القارئ إلى نهايات حيرته، "فليست هي من جاءت إلى هذا العالم" وكأنها تناقش الخيارات كمأزق لا سيما أنه قد جيء بها، فتخاطب مخاطبها متسائلة عن بكائه الذي حضر ليتشح النص بالعاطفة التي رُسِمت معالمها كما تحب صاحبتها.

ترسم سميحة التميمي بوابة نصها بطريقة إندماجية تداخلية، فتدخل النص بينما تهمُ بالخروج منه، ليكون الترابط برسم اللعثمة والتنافر، وليتجاور الفائض عن اللازم بطريقة تخدم النص أكثر مما تضعف بنائه ومتانته، فبين ما كان وما يكون تبدأ قصة سنة النور، وكأنها تستهجن او تستنكر وجودها او تعترض على بعضٍ منه، لتنطلق بالأنا الساردة والمجهدة، فتبدأ ساردة مع بعض الإعتراف، فهي تشهد على الإنكسارات والحروب وتكتب عنها(تعيشها) ولا تراقبها - تتضرر منها- وفي معمعة ما هي عليه تنجو من طلقت في الرأس (ضربة قاضية)، وتتعافى من تلك الضربة (ظروف او لعلها مشكلة الوجود بذاتها) ليكون ناطور الهباء كقاتل مأجور وممثلاً للمعاناة، وجاءت (كاد) لتثبت أنها بالكاد انتصرت، ولهذا بُعدين، فالأول أنها قوية، والثاني بأنها عانت معاناة جلل، فلم يقتلها وبنفس الوقت لم يكن سهلا! وقد بدأ البحث عن الراحة عبر مركب التعب....

يستمر النص بنفس الإستواء النفسي وعلى نفس المنوال مع المحافظة على مضارعة البنية، و هنا خير دليل على إستمراية الحرب الشعواء بينها و بين معاناتها " تشعرُ بالوحدةِ..، تَذَكرّني، أُغَنّي، يلملمونَ، يذهبون، ابْقَ..."، وكأن هذا الهم يانعٌ ولا يبوس فيه! فهي تُدين وتحاور العالم بذاته على الرغم من تلوينها للمخاطب، فكان "الترف"، وكان من يشعر بالوحدة ولا يذكرها إلا إن إحتاجها، وقد حل ضمير الغائب الجمع ضيفاً على الخطاب، فكأنه ينوب عن أهل مخاطبها ويشترك معه بما لا تشترك هي فيه، فهم معهم القصائد والبقايا ويمضون، وهي المغنية في الجوار وأنيسته، فلماذا لها الغناء والبقاء حتى يشعر هو بوحدته؟ ولماذا هم يأخذون ما لهم ويمضون؟ لعلها قسمته وقدرها! لا سيما أنه باق على ما هو ومستمر كسليل شموس وهانئ و رضي سريرة. كما أن لها شوق فيه يغير من ماهية الخطاب، فالشوق إلى إزدحامه وضجرها، يبين ما هو كائن وما هي عليه، والضجر من خطاياه بمثابة إستمرارية للإستنكار التي بدأت به عندما جيء بها ولم تأتي...


تبقى الوان المخاطب ملونة على غرار الحالة النفسية التي تتخذ بعداً جديداً عندما تحاول استجلاب الأمل في الحديث عن الحب (الراحة، الهدنة، الهدوء، اليقين المنشود) فنرى التحايل في أفعال الأمر والصفات والجمل الخبرية والمفردات الصارخة في المعنى والإيقاع، والتي تتزامن مع دلالات الإنعتاق، ومن أعمدة هذا المحور (السجن ،الخطى الثقيلة ،غناء الكروم، لا تركع، أنت صلاة الطيبين، كونٌ ويتسعُ مع لكل لهفة، ما أليقَ، ما أوفى، قداستك العليا، أصوات تطرق). وهنا نكاد نجزم بأن الإيحاءات الصوتية أكثر أهميةً من قيمتها الدلالية، فصدى الكلمة وتناغم جيرتها لمن تلاصقها أعمق من دلالتها وبعدها الذي غالباً من يُصقل عبر التعبير اللاواعي في لحظة البوح الخافت والمنساب..

يتجلى التمني والأمل المنشود في سياق الأمر الذي تشحذ من خلاله همم روحها مخاطبةً عالمها المعني بالأمر(أنسجُ،أشعلُ) ليكون الأمل المدرار على غرار الصبر القائم، ونرى الشمع ودلالاته الصوفية العميقة، لتحضر الهدأة مكللةً بطلبها وتمنيها بكل ما فيها من تصالح وسلام، ويحضرن الحزانى اللواتي تبّنت الدفاع عنهن (بإعتبارها تقدر حزنهن) فأن يقدم الكاتب في نصه شيئاً للآخر من منطلق شراكته معه بنفس الهاجس يعني أنه بحاجة لمن يقدم له، لتخالف بهذا وظيفة الكاتب بأن يبقى محايداً، وهذا عبر اشتراكها بالمنظور والمسموع، وتغلغل الأنا الساردة. ولعل التغني بما بين أيدينا ما هو إلا إيحاء للحاجات التي لو ملكناها وكانت معنا! فكيف ستجعل الحزانى يرقصن ما دامت هي باحثة عن هدأة وتتحدث بلسان الإدانة منذ البدء...؟

ومن دلائل التمني والتحايل والبحث جاءت "أنا أصيخ، أصيخوا" وهنا لم تكن فقط من باب الإنصات و التركيز، بل عليهم أن يصيخوا بجلال، ولعل الصمت من منظور صوفي هو بداية طريق الصوفي الباحث عن يقينه وحقيقته ومن يبحث عن معرفته ويطرح نفسه كرامةً لمراده، فبعد أن" ينوسوا معها" سينهمر المطر، والمطر كدلالة ما هو إلا الخير والقادم الأخضر، والأمر هنا يعني ما سيكون، والإنهمار (بجلال)بعد حسن الإنصات يندرج مع ما سيكون ايضاً.

اما أن تكون الريح حاملة للخير (المطر)، فهذا إن لم يكن تجديداً فهو نيابةً عن مواضبة الإنصات وتقديم قرابين الفداء ليصل المنتظر(يقينها على صورة مطر). فإن حضرت الريح في الشعر تحضر من منظور العذاب او الأزمة او الهلاك والنهايات، وأحسبُ الريح وماهية حضورها من منظور سميحة التميمي دليلاً على امتلاكها لمعجم خاص ونسقاً دلالي ترسم له الأبعاد بنفسها، لتكون هنا أقرب ما يكون للإيماجين (الصورين) فقد تجاوزت الإعتراف والغلو بالحديث عن مرادها، وهذا من منظورهم، ورسمت واقع حالها بدقة تامة، من خلال جوهر رموزها الخاصة ومن منطلقهم...! ويزيد هذا رصيد هويتها الشخصية وشعريتها الصرفة..

الآوقيانوس..
تلك الجزر التي تنتشرُ في الهادي، والتي نسبت ليابستها مئات الأساطير، وقد نهل الشعراء من وحيها الكثير من صورهم وتشبيهاتهم واستعاراتهم وأساطيرهم الخاصة أيضاً، ولا أظن سميحة تلتزمُ بأي من تلك الأساطير، فهي كعادتها تحافظ على هويتها التي صقلتها وتليق بها وتليق هي فيها، فكانت لها رموزها الخاصة، وتناصها الذي تحيكه بعقليتها الشعرية وحرفيتها التي اكتسبتها من ثقافتها الواسعة.




تقول الايرانية "فروغ فرخ زاد" في الأوقيانوس:
أنا أعرفُ عروسة بحر تسكن الأوقيانوس
تعزف بتؤدة قلبها في قصة عروسة بحر حزينة
تموت ليلاً بقبلة، وحين الفجر تعود للحياة بقبلة أخرى...(1)

دائماً ما يصل أحدهم أو إحداهن ضيفاً على النصوص التي تكللها العاطفة والإعتراف، ويكون هذا على سبيل الشوق او المحبة المفرطة، لكن في نصٍ لا يخاطب إلا الروح، سأكون جانياً لو قلتُ هذا! فما حضر الآخر في نص من نصوص هذا العرفان الجديد إلا وكان ذو بعدٍ أبعد من الأبعاد التي عهدناها وعرفنا تآلفاتها وتقابلاتها.

فلم يكن الاقيانوس كما هو بل جاء علوياً " عندي عرائس الاقيانوس العلوي"، وهنا الرفعة والسمو على سبيل المقصد والتشبيه والتوظيف، وما كان الأمر مفزعاً بل جاء متشحاً "بالهدوء وبالوردي" وتوافقاً مع إنسيابية الروح التي هتفت سوريالياً في قولها " لا تمش عكس البركات" جاء التوقيت الهادئ والمحبب لعشاق الهدأة والإستغناء " قبل طلوع الشمس" ففي هذا الوقت نجدُ من الحيرة والسلام ما يجعل القارئ يسمع وقع خطى الماء في أعالي الاقيانوس.

وعلى صعيد الأمل اللامنقطع والنفس الهادئة المخضبة بالمصالحة والمعرفة، يترشح النور على الأرض الموصوفة "بالجديدة"، وقد حضر النهر مسانداً للمعزوفة العرفانية التي تتعالى سكينتها اللاصوتية بصورة الحصان المحارب والعاشق، ليحل السلام القوي والحب اللامنتهي معلناً الأعياد ورافعاً منسوب الأمل والإخضرار "..لقد تبَسّمَ الحظُ ومرّ كل العاشقينَ منْ هُنا وأشعلوا قلوبَ الأعياد.." ليكون البكاء مستهجناً وممنوعاً في حضرة هذا الأمل الذي قد حل "فَلِمَ تبكِ .لا تبكِ .".

عندما حضر النهر، كان مطيعاً مجدياً نافعاً لمن على شفاهه، ووصل البحر العظيم بهيلمانه غارقاً في دواماته التي إقترفها "...ها هوَ البحرُ العظيمُ يغرقُ في دواماتهِ .." ليُطرح أخيراً ضعيفاً منهكاً لا حول ولا قوة له، و للبحر في عالم العرفان نصيب الدنيا كدلالة، فكأنه معترك الحياة بقيعانه السحيقة وعناء الظروف بعبابه المتلاطمة. أما النهر فهو ملاذ الحيارى ومن تعب قلبه، وفي نصوص التصوف الشرقية يحتل النهر مكانة مرموقة وقيمة تعادل قيمة كل الطبيعة، فالنهر أكثر همساً وأقلُ خطراً والآكثر تسليةً وكأنه الأم الرءوم، وفي قصيدة للإيراني نيما يوشيج يتحدث عن البحر قائلاً:
وها أنا أجلسُ مقابل البحر
واراقبُ سنوات شبابي التي فقدتها.... (2)

فجاء البحر هنا سارقاً وكأنه تعب الدنيا ما فيها، ويحدثنا شاعر العرفان الكبير والايراني ايضاً "سهراب سبهري" عن النهر:
وصلت إمرأة لشفاه النهر
وقد تضاعف الجمال... (3)

والنماذج كثيرة في تخليد النهر ومحبته وتفضيله على البحر، اما البحر الذي اهلكته سميحة فقد غاب وانهزم، وهو الذي يبكي غرقاه ليلاً ويعود بعد أن يشتاق لهم نهاراً"...يموتُ من البكاءِ ليلاً .. بعدَ نهارٍ من الاشتياق..." وكأن للبحر(الدنيا وما فيها) حيل وحبائل، فأي غواية له! وما أن تعلن في جملتها الخبرية " الخيال أجمل من الحقيقة والإنسحاق" حتى تكتمل فكرة البحر وغوايته وتجنيه وموته، فإن لم ينتهي كما صرحت في بداية مقطوعة البحر، فحظوة الخيال ستريحنا إن اعتبرنا البحر قد انتهى عبره على الرغم من بقائه، لا سيما أن الخيال ملاذ من هُزم ومن لو تحقق له ما يصبو إليه، فكأن الخيال ملجأ من أدماه الواقع...

تقف "لكن" بين نهاية المعزوفة وبدايتها لتربط ما قبلها بنتيجة ما سيلحق بها "..ولكنكَ لنْ تصير نبياً.. هكذا حدثني الله..." لتعلن بأن الخيال لا يقودنا لليقين، فمنافعه لا تتجاوز الراحة التي تحايلنا على أنفسنا ونحن نتوهم حصولنا عليها، فإن أشعلنا عود الثقاب لن ننير إلا مساحة ما يجعلنا بين المعرفة وسواها، ليكون المتوجبُ على الذات الناطقة هنا أكثر من العلو في الخيال. وكأنها دعوة لمواضبة المسير، فطريق المعرفة جِدُ طويلة...

يواصل الإستفهام طريقه تزامناً مع التساؤل الذي ما فارق بناء النص من أوله "من المجنونُ ومن المحزونُ يا بابَ السنةِ الجديدة ؟" ويوجه السؤال برسم التعجب لباب السنة الجديدة " هل تقتلُ الاعياد ؟ وهلْ يحزنُ الناس وهمْ يستقبلونَ عاماً جديداً !". فمن سيحظى بالقادم؟ المجنون الذي سيستقبله كما هو ويتعامل معه من منطلقه المجنون، أم المحزون الذي سيصارعه ويحاول أن يكون هو! وهل ستقتل الأعياد؟ وهل تقتل في الأصل!؟ وكأن العيد هنا سعادة المُقبل ودعة القادم الذي بالكاد سيصل، فهل ستجتث سعادة القادم قبل وصوله محملاً فيها، ليكون القادم مبتوراً! سيما أن الكثير من الدروب(بعض من سيستقبلون القادم) منهكة بالكاد تبشر أنفسها بالقادم وخيره "... آه .. ما أكثر الدروب الآبلةَ للسقوط" ....! إنهُ رُقي التساؤل والحرفيةُ الصرفة..

تواصل النفس المترعة بالشغف لليقين سعيها عبر سراديب النوارنية الخالصة والحقيقة المطلقة، وتتحول الدينامية الإبداعية في هذا المقطع لتتجاوز سميحة التميمي من خلالها معنى الإبداع - بإعتباره سلامة طبع وسجية مبدعة فنانة-عبر وظائفيةٍ تشبه رسائل شيوخ الطرق، معلنةً اسمترارها في ما بعد الإبداع.
فتبدأ بنداء، والنداء للصغير الضعيف او لمن يهمُ بالتعرف، فقد ضاع شيءٌ ما! وتسعف روحها العطشى بوابلٍ من الغرابة عبر الليل ودلالاته البائسة الخرساء، وبمعية تقاطع الطرق الذي ناب عنه البحر بشواطئه الكثر، ويعلو صوتها بسؤال يصدر جلبة تهز بناء المقطع، و مفاد السؤال هو "هل" لتكون الحانية على مخاطبها والمستنكرة لما يحدث في ذاتها وهذا برسم سؤالها الذي تقاطعت فيه ذاتها مع مخاطبها الذي يشاطرها ما كان من لقاء وما حدث من فرقة برسم الضياع في الزحام.

ولكي تُحافظ على التواءم والتناغم بين صرخة السؤال والصغير الودود والبحث والضياع، يعلو صوت الضجيج (كعدو للهدأة التي تبحث عنها منذ بداية نصها) هذا الضجيج الذي استولى على بهاء وتأنق وأفراح الرحلة الأخيرة والذي خلف حزن مخاطبها الذي أشتركت أو أشركته في التعب "...يملأ رأسي..." لتكون وإياه على شفاه الرحلة الأخيرة كتجربة او كعناء سابق على أثر المرارة اللازبة.

و المعروف بأن حضور الطفل او الصغير في نصوص العرفان يعبر عن مرحلة من مراحل البحث عن المعرفة في عالم التصوف، لاسيما أن مراحل التصوف " الطلب، العشق، المعرفة، الإستغناء، التوحيد، الحيرة، والفقر والغنا.." ودائماً ما يعبر الطفل عن المرحلة الأخيرة (الفقر والغنا) ومن هذا قول شاعر التصوف الايراني "سهراب سبهري" في قصيدته التي لخص فيها مراحل التصوف (أين بيت الحبيب) ويقول فيها:

وفي صميمة الفضاء ستسمعُ ضعيفاً
وترى طفلاً صعدَّ أعلى شجرة الصنوبر
ليأخذ الفرخ من عُش النور
فتسأله: أين بيت الحبيب؟ (4)


يستمر الحديث عن البدايات والنهايات والإنتظار والشغف تزامناً مع إدانتها للتفكير وتحميله مسؤلية ما حدث بإعتبار القادم دائماً ما يكون كبيراً وعلى قدر الحلم ولا يهزمه الضجيج، وكيف للضجيج أن يكون مرحباً فيه في عالم السكينة والأصداء والأصوات الخافتة! ومن أسئلة الإدانة لمع سؤال بين الصاخب والعاتب "..كيفَ تصغُر الأشياء الجميله ولماذا ؟..." لتعلن أزمة البدايات والنهايات التي يسيطر عليها ركن التعامل معها وأثرها المترتب على من هم فيها، لتأخذنا الى عالم إختباراتها كصاحبة تجربة شديدة الوطأة على غرار ما استقبلته وما ولد أمامها وما غادرها وكيف كانت بينما كان العناء ضيفاً دائماً..

على هذا النحو ترى سميحة التميمي نقاء ذاتها وتعبرُ عنه، لتؤمن بأن معزوفات البوح التي تبوح بها هي طريقها للإنعتاق ..للنشوة ..لليقين.. للمعرفة.. للتعبير عن الذات ولمشاركة الآخر وإحيائه وتغيبه و معرفته وإنكاره، ولإيمانها بنفسها، ولإبداء رأيها بالوجود والأبواب والأقفال والأنهر وشجر الحور وأعشاش اليقين التي تهمس لها وتغويها لموصلة طريقها أسفل القبة السماوية التي تقوي عزيمتها لمعرفة ما يقاد في ردهات المغيب وبين الفواصل الصوتية لهمهمة الثلج وتلعثم الندى الخافت بالقرب من بنات الفجر وعلى شفاه الأنهر المستحيل وزهوره التي لا تؤمن بالنشوء والإرتقاء.

تحاول سميحة التميمي أن تُلخص رحلتها قبل أن تمكث مكوثها اللامنقطع قرب الشمعدان الفارسي ومع الورود التي جف لونها وما لا تزال خضراء على أثر العطر الذي يضوع بين تفاصيل لا معقولها الأزلي وأجنحة ثمالتها بنبيذ المعرفة الذي كلما شربت منه يزيد شغفها لإقتفاء ما تبقى له من أثر. فقد وخزت في رحلتها التي عاشت مع بواكيرها وتواصل البحث عن ثمارها على أطلال بدايات البحث، لأن السبل التي سلكتها لم تكن سليمة الموطئ وسهلة العبور، ومع هذا لا ينقطع الأمل في القادم بشرط أن تنال ما تريد ممن تريد لا ممن أخذت وتأخذ منه، فقد صدمتها الإنابات القاتلة..


أخيراً...

الإنغماس في النص أصعب من كتابته، فنحن على أثر التماهي مع صوره وأخيلته وأنواته و مخاطبيه محض نورٍ يتلاشى بينما يسّطع! وللأمانة فإن البحث عن قراءة بريئة كالبحث عن غراب أعصم، فلا تدري كيف تكون سوريالياً في نصٍ صوفي او رومانسياً في نصٍ يغرق بمنطق الواقعية! وبين أن تدرك ماهية القول وتمسك الخيوط التي نسجت البنية الكُلية للنص تباغتُكَ لحظات ثانوية تجعلك ترى النص من زوايا لا روابط بينها، وكأن النص يرمي لك أقفاله بينما تود أن تُشرع باباً يجعل منك على بينة منه، وأظن هذا مأزقاً إن اعتبرنا أن مشاكل الشعر الحديث هي الإيهام والإيحاء والغموض والرمزية المغلقة.



ولا أحسبهُ مأزقاً إن إعترفنا بأن أدبنا وشعرنا بحاجة إلى مواكبة تطور العالم وآدابه، فلن نبقى مع الدُمن والمنازل وسُليمى بعد أن كتب إليوت الأرض اليباب، وكتب الآخر ستيفنز ولاس صبيحة الأحد، وثمل رآمبو مع مركبه السكران، وهز الدنيا نيما يوشيج بقصيدته ققنوس! وسنقترف جريمة الرجعية إن تركنا السياب ونازك وأدونيس ودرويش يصارعون الحداثة وحدهم دون أن نمشي على خطاهم، فإن بقينا مكاننا سينتحر أدبنا، والمشكلة بأن منطق الحداثة هذا يحكم عليه القارئ بصفة مطلقة ويغيب دور الكاتب في مسألة إبداء الرأي...!



مراجع:

1.فروغ فرخ زاد، ديوان ولادة أخرى.
2.نيما يوشيج، قصيدة بيتي غائم.
3.سهراب سبهري، قصيدة لأن لا نعكر صفو الماء.
4.سهراب سبهري، قصيدة أين بيت الحبيب.

* ترجم المقاطع الشعرية عن الفارسية كاتب المقال.




علي عبيدات (كاتب ومترجم عن الفارسية).
[email protected]



#علي_ياسين_عبيدات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترجمة قصيدة الشتاء للإيراني مهدي أخوان ثالث


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي ياسين عبيدات - * سميحة التميمي تبحث عن الهدأة * دراسة وتحليل لنصها سنة النور ..2...