أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى مدثر - تماماً، ليس بعد- قصة قصيرة















المزيد.....

تماماً، ليس بعد- قصة قصيرة


مصطفى مدثر

الحوار المتمدن-العدد: 4392 - 2014 / 3 / 13 - 00:50
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

تماماً، ليس بعد

بقلم مصطفى مدثر
-----------

رئيس التحرير المرموق استمع لفكرتي بنصف انتباهة. لم يمنعني الحماس لفكرتي من تنمية فكرة طارئة بدا في لحظة كأنه اضطلع عليها.
كان سعيداً بلحية دائرية دقيقة أسند عليها فكيه المفترين عن ابتسامة بلون الأصيل الماجن. فكرت أنه ربما لبس قناعاً قبيل دخولي مكتبه!
قال لي: الفكرة لا تصلح في مجتمع، ..عارف.. مجتمع،...تقي!
استطردت رغم أنها كانت ضربة! لم أتوقع أن يأتي بهكذا سلاح في جولتنا الأولى والأخيرة:
- يمكننا أن نحجب الأسماء أو نقول إن صاحب الإعلان مجهول أو حتى يمكن فبركة هذه الاعلانات ونقوم أو أقوم أنا بكتابتها....
انقطع نفَسي جاهداً ألاّ يجد فرصة لمقاطعتي.
قال بشيئ من ضيق: كتابة ماذا؟ أين درست؟ موسكو؟

*
لم يرفض الرجل فكرتي فقط بل أوقف تعييني وأطلق ساقيّ للريح.
قلت أقعد في البيت. أساعد الوالد. انه لمن سوء الطالع أن تمر كتلة الملل من سَم الحوادث الجسام. أن تخرج من طرف آخر لا يفضي للسهل، تلك التمنيات البدينة.
وأراه خفت غلواؤه، والدي. أحياناً أراني فيه. زمجري يا مرايا فأمامك إبن أبيه!

*
الوالد يتدلى من حامل على جانب سريره محلول وريدي، يختبئ تحت غطائه لأكتشف في تجوالي البصري اليومي أنه يظهر موازياً لذراعه الأيسر.
ولكن الضرع الذي يتنزل منه المحلول يتناقص وفراشه غير مبلول. لابد من ضبط السوائل. لا أفهم والله! لا زلت أثق في تفوقه على الأشياء آخر المطاف.
وأيضاً هناك صعوبة تتبع أنبوبين آخرين يُفترض أنهما يوصلان بين منخريه
و جهاز أشبه بالقُلة لكنه اليكتروني ومكتوب عليه ميدوب. تأكدت أن ميدوب موصول هو الآخر ببطارية سيارة تبدو مثل صندوق حذاء ثقيل خاض عدداً من الحروب الخاسرة.
عدت لأكمل متابعة خط سير الأنبوبين الأنفيين فوجدتهما في عناق مع مجموعة أنابيب قديمة متروكة على الطاولة التي بجانب السرير. أكره عناق هذه الأنابيب المسمى زوراً اشتباك.
انه عناق ولاشك وكذلك هو حزين. فتح أبي عيناً واحدة وابتسامة واسعة وقال:
- فصلتهما من الجهاز!
قلت له الجملة التي كنت دائماً أتوصل إليها عندما أجادله:
- كويس معاك كدا؟
هز رأسه ايجاباً وسألني بنبرة العودة للموضوع الأصل:
- أحضرت الجريدة؟
يا للعجوز الملحاح! قلت له:
- ليس فيها شيئ يا أبي!
لكن لهجة "مواصلة العمل" عادت مرة أخرى فخرجت.

*
صاحب كشك الجرائد، لا أعرفه، صرف لي ابتسامة اعزاز أعرفها. هو يعتقد أنني مثقف نهم رغم أنني، كدأبي كل مرة، أوليته ظهري وخطوت خطوتين
مبتعداً عن الكشك ثم توقفت لتقليب صفحات الجريدة مسرعاً فوق صفحات الأخبار والمقالات والمقابلات. وصفحة الرياضة. يبدو أن تصرفي مع صفحة
الرياضة يجعل من رأيه فيّ كمثقف نوعاً من التخمين المعقول. لكنه في كل المرات كان ينشغل مع زبون آخر دون أن يعرف أين بالضبط توقف تصفحي
الصاخب للجريدة. ليس من حقه، أليس كذلك؟ والغريب أنني كنت أتضايق في كل مرة من تضييعه لفرصة أن يدرك السبب الذي يجعلني أشتري الجريدة يومياً.
هذا بالرغم من أنني أنا نفسي لا أعرف السبب.

*
قال لي الوالد:
- عدد الأمس لم يكن فيه سوى اعلان واحد!
شكر وتقدير من أهل شيخ طريقة. ابتسمت ابتسامة ساخرة، ليست له ولا لأبي وقلت:
- نعم اعلان واحد. وعدد اليوم...
ثم صمتُ. أحسست أن التداعي في هذا الأمر سيوقظ عنده السؤال النائم منذ أيام.
كنت قد جلست على الجانب المواجه له من طاولة الأنابيب المتعانقة وبسطت الجريدة أمامي واضعاً بعض أوراقي في بطنها.
أعتدلت كتلميذ في مبتدأ الحصة تسميع وقلت له:
- عدد اليوم.... عدد اليوم... هناك اعلانان فقط! إذا رغبت يمكنني قراءة أخبار الرياضة!
قال لي بأسى متصنع:
- غير معقول! اعلانان فقط! أقفلوا كل الصحف إلاّ هذه. لا أصدق!
كنت أُسر لنفسي أن دعوتي بخراب الجريدة يا رئيس التحرير يا.. هي أمر متحقق. انتبهت لشبح مزاج العودة لأصل الموضوع
يرتاد صفحة وجهه. لاحظت كذلك أن صفحة وجهه لا بأس بها. ولكن كل البأس أن يتعكر مزاجه:
- طيب يا أبوي! الاعلانات كالآتي:
شقة على النيل الأبيض. نصف ساعة بالسيارة من الدويم، مناسبة للخبراء الأجانب. تلفون903.
بدا عليه شيئ من الإهتمام وبالتالي توسمت أن يكون الإعلان مناسباً معه لكنه قال بغضب خفيف:
- الدويم؟ الدويم يغادرونها أم يذهبون إليها؟ اعلان كاذب. شفرة معارضة!
اقتربت كثيراً من سؤاله عن حقيقة أمره. ولكن هزيمة مشروع الوالد بدت لي هزيمة مزدوجة.
وقرأت له:
- مطلوب محلل بيانات، وضارب لأكباد الإبل. الراتب بالريال السعودي. ماهر. ت 906
- صيدلية للبيع بدواعي السفر. الاتصال مامون تلفون 904
- صياد متخصص سعوديات. رخصة سياقة دولية. تَحمّل العمل لساعات طويلة. مجدي تلفون 905
ماذا تريد؟ عم تبحث؟ قال لي:
- سياقة أم سواقة. هذا تأدب مع اخوتنا العرب ليس إلاّ.
- شقة بمدينة النيل جوار كافتيريا عشتار مفروشة بطراز حديث.
نظر لي بريبة ولم يعلق.
- عمارتان في الحجاز. ادارة أبو أدهم السوداني. تصلحان مكتب ادارة أعمال. الإتصال بيوسف الجميل. تلفون 425
لم أفهم صمته. فكرت لو أنه ألح على فكرة الذهاب للحج التي طرحها قبل أيام فسأكون مقضياً عليّ!
- عربة كريسيدا....
سمعت شخيره فقلبت إحدى أوراقي وواصلت:
-وظيفة شاغرة: مطلوب مساح في مضمار سباق الجرذان.
لدهشتي ضحك وقال:
- وظيفة ممتازة على فكرة. حسب شطارتك في اختيار الجرذ الأنسب!
لكنه بعدها نام تماماً. أعرف أنه عندما ينام تماماً لا يستعجل الشخير. لكنني واصلت للضمان:
- "مشهد الجبل الذي تصدع" مخطوطة أثرية للبيع. المؤلف د.موسى فرعون. للإتصال أبلة داليات 967.
- (أن تقودك قوى خفية هو أن تحيا بلا حرية)، ندوة الاسبوع المنصرم مسجلة فيديو. حالة جيدة. الاتصال استاذ برعي ت 983.
- إلى وفاء: يمكنك العودة إلى البيت. المفتاح مع المكوجي. أبداً سمير.
تأكد لي أنني استطيع مخارجة اعلانات كثيرة جداً. قد تكون مسلية أو كاذبة أو الإثنتين معاً.
رص الاعلانات نفسه لا يجب أن يكون كدس السم في الدسم، بل يمكن أن تصَف الاعلانات صغيرة وملوية على حقائقها بحيث يحس
القارئ بانحباس نفَس المحرر أو راصف الحروف أو على الأقل أحدهم من مكتب الجريدة. ولربما أحضر لي معه كوب شاي ساخن. أحتاجه الآن.

*
أيقظني صوت الوالد. كنت قد أسندت رأسي على الطاولة بحيث بدت لي الكتابة على الأنابيب البالية (صُنعت في السويد) غريبة نوعاً ومصحوبة
بنوع من الحنين المبهم. قال لي:
- مالك؟ واصل!
زمجرت الجريدة عند تقليبي لها كأن بها آخر الأخبار. كانت عينة من (اعلاناتي) على الورقة في مهب الأنابيب قريباً من السقوط فوق القُلة الاليكترونية.
قلت له:
- ليس هناك الكثير. هذا اعلان: ثلاثة. تلفون 912. قرني. سألني بقلق:
- هذا اعلان؟ ثلاثة فقط.
قلت له باقتضاب:
- نعم، أبي.
سألني بتحدي، فهو دائماً يحوّل أرض المعركة. أو النقاش. ليس هناك معارك:
- ماذا تعني ثلاثة؟
اجبته بصبر وباحترام واجب:
- هنا اعلان يقول: خبيرات تدليك رجالي من السويد. خدمات خاصة ومتقنة. اتصل بعمّار ت 911.
قال لي وأنفاسه تتصاعد:
- أعرف. أعرف. كنت متأكداً أنهم سيأتون قريباً. مهما استطال الزمن آتون!
ما هذا؟ عبارات من تراتيل القيامة أو نحوه. ماذا فعلت بنفسك يا أحمق!
هب الرجل قاعداً في سريره. طاحت القلة وانكفأ عمود السائل الوريدي وأحدث انجذاب البطارية أصوات مبهمة ومكتومة.
طوّح هو نفسه، والدي العزيز، جسده وارتد رأسه على وسادته وقد همد تنفسه.

*
جذبت الهاتف مهروّلاً صوب باب الخروج. قال لي الدكتور: دقائق وأكون معكم!
بعد حوالي دقيقتين مكثتهما خلف الباب مسوّراً بهمٍ يطبق عليّ أشبه بالخدر، دفع الدكتور الباب وتوقف بابتسامة بعيدة وماكرة
ينظر إليّ لبرهة ثم سألني:
- هل تقول إنه مات؟ لماذا تقف هكذا بعيداً عن أبيك؟
قلت له باستنكار:
- أنا لم أقل ذلك يا عمو!
- لقد اتصل بي قبل لحظات من سريره وسألته أين أنت فقال إنه أحس بخروجك من الغرفة. ماذا حدث؟
- قرأت له من الجريدة. هل لم يمت؟
سأل بحدة:
- ماذا قرأت له؟
- قرأت له من صفحة الاعلانات.
قال بضيق: ألم أقل لك إن أقصى ما أسمح به هو صفحة الرياضة! هذا الأمر لن يمر هكذا!
قلت له مستجلباً شجاعة ما أمام احساسي بتآمر وغموض:
- الحقيقة ياعمو الجريدة لم يكن بها أي إعلان! بالجد!
نظر لي مليّاً وأخرج سماعته الطبية بحرص ثم قال لي كأنه يدعوني لمشاركته أمره الطبي:
- هيا بنا!
سرنا تلكم الخطوات القليلة إلى الغرفة. كان أبي يتطلع من مرقده في صمت. لم يكن على وجهه أي بأس بل سألني:
- لم تقل لي ما حدث. هل رد عليك أصحاب الجريدة. مرحب دكتور!
اجابتي كانت خاطفة وعيوني تخلعان عينيه خلعاً في اتجاه الطبيب:
- لقد أغلقوها يا أبي. الجريدة اغلقوها. تماماً! آخر عدد كان اليوم!
نظر لي باستغراب. قلت لنفسي مَن هو المريض في هذه الغرفة؟ هل هذه مؤامرة كبرى؟
لم أفهم.
كان الطبيب ينظر لي بإهتمام وتحفّز. ثم رأيته يشير إلى الوالد ويقول لي:
- أريدك أن تطمئن. أبوك بخير! تماماً! ليس بعد.



#مصطفى_مدثر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى مدثر - تماماً، ليس بعد- قصة قصيرة