|
حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي :البناء البرنامجي بين المسار الصعب والطريق المبهم -2
محمد الخباشي
الحوار المتمدن-العدد: 1247 - 2005 / 7 / 3 - 12:37
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
في فترة سابقة، حاولت ان أغوص في ثنايا ادبيات حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، بحثا عن النزعات الاشتراكية العلمية فيها. ومحاولة لتبيان البطء الذي تميزت به عملية تبلور النظرية الاشتراكية العلمية داخل المجتمع المغربي من خلال الممارسة السياسية للحركة الوطنية المغربية وحركة التحرير الشعبية التي يشكل استمرارا لها الى حدود معينة. وأعددت مسودة لكتاب في الموضوع املا في تصحيح بعض المعطيات التي لقنت للمناضلين، وأخدت دون تمحيص كافي. ولاسباب فيها الذاتي/الشخصي، وفيها ما ارتبط بانتمائي الحزبي، اقبرت هذه المسودة. وفي انتظار اعادة ترتيب بعض الفصول، ارتأيت أن انشر هنا محاور اساسية املا في طرح رؤية فيها من الاختلاف ما هو اسمى من الداتية والعاطفة. وفيها من الحجة ما اعتقد أنه كاف ليشكل مقاربة جديدة لنقد ممارسة سياسية تتبلور بشكل غير موازي لتبلور مشروع التغيير المجتمعي في تصور نظري متكامل. وسوف اتطرق الى الولادة العسيرة للاختيار الاشتراكي داخل الحزب منذ تاسيسه عام 1959، مرورا بأهم المنعطفات التي مر بها (المؤتمر التأسيس- الاستثنائي- الثالث – الرابع و الخامس)، ومحاولات التعبير عن نزعات اشتراكية علمية اعتملت في اوساط الحزب وأن لم تكن رسمية ( الاختيار الثوري- المذكرة التنظيمية- بيان 8 اكتوبر72- مذكرة العمال الاتحاديين باالمهجر- مذكرة اقليم الرباط 82
الجزء الثاني :
سأحاول في هذا الجزء، إبراز أهم السمات الرئيسية لممارسة الحزب، للصراع السياسي، كما أنني سأتوقف على المحاولات التي جاءت لتقويم النواقص في تلك الممارسة، وبالتالي محاولات تجاوزها ببلورة تصورات بديلة. والوقوف على هذه المحاولات التصحيحية تفرضه ضرورة إبراز حقيقة تعبر على أن الحزب تعتمل بداخله توجهات متنافرة، وهي التي ستبرر عمليات الفرز التي عرفها في أهم مراحل تطوره. في البداية، وقبل تسجيل أية ملاحظة، لا بد أن نقرأ في ميثاق المؤتمر التأسيسي، ما يلي: "…..وان الموقعين على هذا الميثاق…. - سواء منهم رجال الصناعة والعملة والفلاحين والتجار والطلبة، - وكلهم إن كانوا ينتمون إلى منظمات سياسية مختلفة وأوساط اجتماعية متعددة فإنه تجمعهم جميعا رغبة متعادلة صادقة في الوحدة والعمل الوطني". ويمكن أن نقرأ أيضا في النقط البرنامجية، في نفس الميثاق، ما يلي: "- الدفاع عن الاستقلال والوحدة الكاملة للتراب الوطني. - جلاء القوات الأجنبية وتصفية مخلفات الاستعمار من القيود العسكرية. - مواصلة سياسة التحرر الاقتصادي لضمان التشغيل الشامل والعدالة الاجتماعية. - انتهاج سياسة للتصنيع وتأميم المرافق الحيوية للاقتصاد، لضمان ارتفاع الدخل القومي ارتفاعا مطردا لفائدة جميع السكان. - إقامة ديمقراطية واقعية تضمن لجميع المواطنين تسيير شؤونهم –أنفسهم سواء في الصعيد الوطني أو المحلي، في دائرة ملكية دستورية تحت رعاية صاحب الجلالة محمد الخامس" كما أن الميثاق تطرق إلى ضرورة تطهير الإدارة وتكوين الإطارات والتعليم والسياسة الخارجية وضرورة مساعدة الشعب الجزائري المكافح من أجل تحرره. وذيل الميثاق بنداء إلى المواطنين، يقول: " والموقعون على هذا الميثاق يوجهون نداءا أخويا حارا إلى جميع المواطنين المخلصين لا يستثنون منهم أحدا: -لأخذ مكانهم في صفوف الاتحاد ونسيان الحزازات والأحقاد ونبذ كل تعصب حزبي. - والعمل الايجابي بروح الوئام والامتثال في سبيل بناء مغرب تسود فيه الأخوة والرفاهية والديمقراطية تحت القيادة المتبصرة لصاحب الجلالة محمد الخامس". بعد هذا الجرد لأهم فقرات الميثاق التأسيسي، أسجل ما يلي: أولا: لا يتضمن الميثاق أية إشارة إلى الهوية الطبقية للحزب واختياره الأيديولوجي، بل اعتمد خطابا تعميميا، واعتبر نفسه حزبا لكل القوات الشعبية باختلاف أوساطها الاجتماعية. صحيح أن الهدف الاستراتيجي للحزب، الذي هو التحرر الوطني كما جاء في الميثاق، هدف يهم سائر الفئات التي ذاقت مرارة الاستقلال الشكلي، إلا أنها لن تذهب كلها إلى أبعد نقطة وبنفس الوثيرة. فلا يمكن أن تذهب جميعها، كالبرجوازية الصغيرة مثلا، حتى تحقيق الأهداف التي تصبو إليها الطبقة العاملة، ولن تستمر هذه الفئة في النضال وقتما أصبحت تتناقض مصلحتها، في الحفاظ على نفسها كطبقة، مع مهام حركة التحرر الوطني، من حيث هي حركة انتقال إلى المجتمع اللاطبقي. ثانيا: غموض الرؤية الحزبية لمعركة التحرر الوطني بالرغم من الأهمية التي أولاها للقضية الوطنية، ولو أنه اكتفى فقط برفع شعارات عامة، أوردناها سابقا. ولم يحدد أهدافا استراتيجية –مرحلية تؤدي بالضرورة نحو تحقيق التحرر الوطني، ولم يحدد أيضا طبيعة هذه الحركة. ويتجلى ذلك في عدم ربطه بين مهمات التحرر الوطني- ولو بصيغتها الغامضة- ومعركة الديمقراطية.
ويتضح من هذه النقطة أن الحزب لم يستوعب طبيعة البنية الاجتماعية استيعابا يمكنه من اكتساب الرؤية الواضحة لمهمة التحرر الوطني وطبيعتها، حيث اختزل القضية الوطنية في بعض النقط فقط، ليست كافية- حتى بتحققها- لكي تسمى استقلالا تاما، خاصة إذا لم ترتبط بقضية مهمة هي السيادة الشعبية. ثالثا: فتح الحزب أبوابه مشرعة أمام "كل المواطنين" للانضمام إليه دون أي تحديد لهويته الطبقية، فليس عيبا أن يدعي حزب ما تمثيليته لمصالح كل المقهورين أو كل "المواطنين المخلصين"، كما جاء في النداء، لكن من الضروري تحديد القيادة الطبقية للحزب. وتكمن أهمية ذلك في التأكيد أولا على الدور الطليعي للطبقة العاملة، ثم في توضيح طبيعة المهمة التحررية كانتقال إلى الاشتراكية. لكن هذا البتر، ليس اعتباطيا، إنما كان بسبب عدم استيعاب طبيعة حركة التحرر والمهمات التي تفرضها، وظل البعد الوطني هو المتحكم في سياسة الحزب دون الاهتداء إلى نظرية محددة تمكنه من اكتساب رؤية واضحة لطبيعة الهدف الذي يعمل من أجله والأساليب التي تمكنه من تحقيقه. وبصفة إجمالية، أقول أن الحزب ولد وحمل مسؤوليات جسيمة دون تملك زاد أيديولوجي ونظري يؤهله لتحمل مثل هذه المسؤوليات. وا ما جعله يسقط في فخ نصب له ولو بشكل غير مباشر، وشارك في الحكومة أو الأصح أن نقول أنه استمر في تحمل المسؤولية في الحكومة التي تشكلت قبل ميلاد الاتحاد، كما لا يجب إغفال مسألة ذات أهمية قصوى، هي أن تعيين عناصر حزبية لتحمل المسؤولية في الحكومة، كانت خطة مدروسة من جانب الطبقة الحاكمة. وقد رأى الحزب –ربما- في ذلك فرصة لفرض توجهاته التحررية ولو بالمشاركة إلى جانب عناصر رجعية بطبيعة الحال. وقد حاول بالفعل أن يرسم خطة اقتصادية تهدف إلى وضع البنيات الأولى لبناء اقتصاد وطني مستقل، ووضع أسس صناعة ثقيلة، وأولت الأهمية للتشغيل وتكوين الأطر، واهتمت أيضا بالفلاحة لتحقيق اكتفاء ذاتي في الغذاء لضرب أية تبعية غذائية نظرا لخطورتها. أما الطبقة الحاكمة، فقد رأت في إشراك عناصر يبدو أنها ستنتمي إلى الاتحاد، فرصة سانحة أيضا له، مكنته من ربح الوقت وضمن تأييد الاتحاد. وبالفعل تم توريطه في حكومة بدون حكم سينتهي الأمر بإسقاطها، وتمكن الحكم من تحقيق خطوات هامة نحو بناء أجهزته القمعية. وفي ظل هذه الحكومة "الوطنية" تم التآمر على جيش التحرير والمقاومة بالجنوب (معركة إيكوفيون ECOUVILLON). وفي ظلها أيضا يتم تضييق الخناق على الحريات العامة، سنة فقط على إصدار ظهير 1958، وتم حضر الحزب الشيوعي المغربي سنة 1959 تحت ذرائع واهية بالرغم من أنه لم يلعب إلا دورا هامشيا في الصراع الوطني. سمتان مميزتان للحزب في تلك الفترة، وهي ضخامة الأهداف الاستراتيجية، رغم غموضها، من جهة، ومن جهة أخرى تراكم نظري وسياسي لا يؤهله لذلك، حيث رفع شعارات تفوق ما راكمه على المستوى السياسي والتنظيمي. وكما سبق القول، لو كانت الرؤية لمهمات التحرر الوطني وطبيعته واضحة، لامتلك الحزب تصورا سياسيا واضحا ومتماسكا. فلو كان يدرك أن مهام حركة التحرر الوطني هي حركة انتقال إلى الاشتراكية، لجعل من أولى مهماته الآنية، مهمة بناء الإدارة الثورية القادرة على تجنيد القوات الشعبية في إطارات جماهيرية، يلعب فيها الدور الطلائعي. في غياب هذه الأمور، سقط الحزب في صفة جعلته حركة شعبوية: شعارات ومواقف ضخمة مقابل تنظيم هش لا قيمة له، بنية جعلته فريسة سهلة في متناول الحكم، فسهل عليه ضربه لمرات متتالية (62،63...) الشيء الذي جعله يعيش على هامش الأحداث لفترة تمتد ما بين 63-67. لكن لتجاوز هذه الوضعية الهشة للتنظيم الحزبي، وبغية التدقيق في شعار الاشتراكية الذي "ذكره" المؤتمر الوطني الثاني بكثير من الحشمة والغموض في المقرر المذهبي، لتجاوز ذلك، حاول التقرير الذي قدمه الشهيد المهدي بنبركة، والمعروف بوثيقة الاختيار الثوري، أن يرسم رؤية واضحة واستراتيجية للعمل الحزبي. وسأحاول أن ألامس أهم النقط الرئيسية الذي أوردها، كما أنني سأتطرق إلى المحاولة الجادة والمتقدمة للشهيد عمر بنجلون لإرساء دعائم تنظيم حزبي سليم، على أسس علمية، وتثبيت مبادئ تنظيمية بديلة، في غياب قانون داخلي بحكم العلاقات بين المناضلين وبين الأجهزة الحزبية. وتلك محاولتان في ظرف اقل من 3 سنوات، لتصحيح مسار الخط السياسي الحزبي الذي شابته شوائب ذكرت منها القليل فيما سبق. وسآتي على ذكر البعض الآخر عند ذكر المعوقات الذاتية والموضوعية أمام "الاختيار الثوري"، التي أجهضت أيضا "المذكرة التنظيمية"، وذلك في نهاية هذا الجزء. قبل أن ينطلق التقرير في طرح مهام مستقبلية، على الحزب أن يعمل على إنجازها، عمد إلى دراسة دقيقة للواقع الموضوعي في البلاد، وعلى ضوئه تتضح استراتيجية العمل. وللضرورة المنهجية فقط سأبتر الباب المتعلق بهذه الدراسة الخاصة بوضعية المغرب. وسأركز على القسم الثاني المتعلق بآفاق العمل، حيث يقترح مهمات لتجاوز بعض السمات المذكورة سالفا، بخصوص الممارسة السياسية الحزبية. قدم التقرير نقدا ذاتيا صريحا لتجربة الحركة الوطنية، حيث وقف لأول مرة على هذه التجربة واستخلص أخطاء، وهي مطروحة لمعالجتها واستخلاص العبر منها والاستفادة منها، واعتبرها قاتلة لا محالة في حالة عدم تداركها. 1- القبول بأنصاف الحلول: بعد أن وقف التقرير بالدرس والتحليل على أول نصف حل أخذت به الحركة الوطنية وهو "أيكس ليبان" والظروف التي أفرزته كحدث، يؤكد التقرير على أنه ليس من المحرم أن تقبل حركة ثورية بحلول مرحلية لأن ذلك (أي تحقيق الهدف الاستراتيجي بشكل نهائي) متوقف على توازن القوى، ولكن الأهم هو "أن يتم كل شيء في وضح النهار وبتحليل شامل يقدم الأوضاع للمناضلين"، بمعنى أن مثل هذه الحلول (الحلول الوسطى التي قد تضطهر أية حركة ثورية إلى قبولها) يجب أن تقدم بصفة موضوعية وبتقييم حقيقي، وليس بالدفاع عنها كانتصارات حاسمة. ويختم بالقول: "علينا ألا نقع مرة أخرى في خطأ "ايكس ليبان" و لا نتولى تبرير التسويات كأنها انتصارا، يخدم في الواقع أغراضا انتهازية". 2- صراع في نطاق مغلق: لقد دخل الحزب في "معارك" متعددة دون أن يعرف الشعب شيئا عنها، وكلها كانت تدور في جدران أساطين الحزب أو داخل القصور الملكية دون أن ينفذ صداها إلى الخارج. هذا في الوقت الذي يفترض أن تكون الجماهير الشعبية هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أي معركة لكونها هي المعنية، وهي التي يجب أن تتجند للدخول فيها، ولا سبيل للنيابة عنها في نضالها اليومي. 3- الغموض الأيدلوجي: ويتجلى في كون الحزب لم يوضح بعد طبيعة المجتمع الجديد الذي يسعى إلى بناءه، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولا بد من وضع حد لهذا الغموض، وما دامت الصورة للقوى المتصارعة في البلاد، قد انكشفت، فإن مزيدا من التوضيح لا بد منه حتى يتحدد الاتجاه الحزبي كاختيار ثوري أمام الاختيار الرجعي الديماغوجي المتحكم في البلاد. على ضوء هذا التحديد للأخطاء التي انزلقت إليها الحركة الوطنية، وتجلياتها، يطرح التقرير، مهمات لا بد من إنجازها. أولا: مشكلة الديمقراطية: يرسم التقرير بعضا من سمات الوضع اللاديمقراطي، وسيادة نوع من الفوضى تتجلى في "تشكيل حكومة فتحل، وتعقبها أخرى فتحل دون الخضوع لأية قاعدة مستقرة، ووضع الأحزاب السياسية كلها في نفس الكفة وفي مستوى واحد بذريعة ضرورة تظافر الجهود". كما أن التقرير حاول أن يكون أكثر وضوحا فيما يتعلق بمشكلة الديمقراطية، إذ يؤكد على أن الموقف من الدستور لن يكون هو الخطوة الأخيرة، كما أنه ليس كلمة سحرية من شأنها أن تحل جميع الإشكاليات، بقدر ما ان "القضية الدستورية إنما هي جزء من المشكلة الديمقراطية، لأنها تطرح مسألة المشاركة الواسعة للجماهير الشعبية في تسيير شؤونها العامة وهي لا تنفصل عن مسألة تنظيم الجماهير وتعبئتها (...)، وهي لا تنفصل عن معركتنا ضد الاستعمار، إذ لا يكفي أن نوجه ضرباتنا لنظام الحكم المطلق في الميدان السياسي وحده، يل ينبغي كذلك إضعاف حلفائه في الميدان الاقتصادي وهم المستعمرون والإقطاعيون والبرجوازية التجارية الطفيلية". كان التقرير واضحا أيما وضوح فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، حيث ربط بين استراتيجية حددها في القضاء على المصالح الاستعمارية وحلفائه المحليين أي التحرر الوطني، وبين نقطة مرحلية، كقناة لا بد من المرور عبرها نحو الهدف، وهي المسألة الدستورية. ويضيف: "ولهذا السبب فإننا لا نختلف مع النظام في المشكلة الدستورية وحدها لأن الدستور إنما هو إطار للعمل ووسيلة إضافية للمزيد من تنظيم الجماهير وتعبئتها ضد الاستعمار الجديد، وأن الذي يحدد موقفنا من النظام من أي شيء آخر هو موقفنا العدائي من الاستعمار". 2-المهام ضد الاستعمار: يمكن اعتبار القضية الدستورية، نقطة مرحلية، في إطار برنامج سياسي مرحلي يهدف إلى بناء الديمقراطية. وقد اعتبرها التقرير تكتيكا فقط، من خلال طرحها لمشكلة المشاركة الواسعة للجماهير، أي أنها تهدف إلى تحقيق "ديمقراطية التعبئة" بغية الوصول إلى هدف استراتيجي، هو التحرر الوطني وما يقتضيه من مناهضة للاستعمار. هذه المناهضة تدخل في إطار مهام قسمها إلى داخلية وخارجية. أما الخارجية منها، فقد حددها في ضرورة تقديم الدعم والمساندة ماديا ومعنويا، لكل الشعوب المكافحة من أجل تحررها الوطني. أما الداخلية منها، فهي بإيجاز تصفية منطلقات وأسس السيطرة الأجنبية وإنهاء التبعية في المبادين الاقتصادية والمالية والثقافية. وعلى الصعيد الاستراتيجي أيضا، رسم التقرير أفقا ثوريا من أجل تحرر حقيقي، حيث يقول: "... يجب أن يصبح واضحا عند الجميع أننا لا نستطيع أن نتحرر تحررا كاملا عن طريق إصلاحات جزئية وفي نطاق النظام الرأسمالي وأننا لن نكون في مستوى مهامنا التاريخية إلا بانتهاج سياسة مقاومة الاستعمار تكون شاملة لمجالات العمل في الداخل والخارج". ويضيف في إطار التوضيح: "لا ينبغي أن نضع كل هذه المهام في مستوى واحد، وإنما يجب أن تحتل المقام الأول وبدون منازع مهمة تحقيق الإصلاح الزراعي في الداخل، وفي الميدان الخارجي، مهمة بناء مغرب عربي كوسيلة لمقاومة نفوذ الاستعمار الجديد. وهاتان المهمتان لا بد من وجودهما ضمن أي حد أدنى من برامجنا المرحلية" ويحدد استراتيجية العمل الحزبي بشكل أدق بقوله إن تحقيق هذه المهام هو السير في الاتجاه الاشتراكي. والأهم في هذا التقرير، فيما يخص تأكيده على الخيار الاشتراكي، هو تطرقه لمشكلة السلطة كنقطة أولى يقتضيها مضمون الاشتراكية، حيث يقول: "إن مضمون الاشتراكية العلمية يقتضي: - حلا صحيحا لمشكلة السلطة، بإقامة مؤسسات سياسية تمكن الجماهير الشعبية من رقابة ديمقراطية على أجهزة الدولة وتوزيع ثرواتها وإنتاجها القومي. - أسس اقتصادية لا تترك أي مظهر من مظاهر سيطرة الاستعمار ولا لسيطرة حليفه الإقطاع والبرجوازية الكبرى الطفيلية. - تنظيما سياسيا واجتماعيا للسهر على تأطير الجماهير الشعبية وتربيتها من أجل التعبئة الشاملة لسائر الموارد القومية لتراكم وسائل الاستمار". وإذا اعتبر هذا التقرير محاولة تصحيحية أو نقدا ذاتيا، فهذا يتجلى أولا في تدقيقه في الاستراتيجية التي يجب أن يسير نحوها العمل الحزبي. ثانيا- وهذه هي النقطة المهمة جدا- كونه، حدد كيفية بلوغ هذه الاستراتيجية أي أنه وضع تكتيكات لهذا الهدف. وهذا تجاوز لمستوى الممارسة الحزبية للصراع الطبقي، حيث التنظيم مهلهل، و"تكتيكات" غير محددة الاستراتيجية. ويؤكد "الاختيار الثوري" على التكتيك وأهميته، حيث يقول: "أن أي حزب ثوري لا مناص له في مرحلة المعركة من أجل التحرر القومي والديمقراطية من أن يكون له برنامج مرحلي أدنى، تكون أهدافه دون غايات الأفق البعيد المدى" ، مضيفا "أنه من البديهي أن من يكتفي بالخطة التكتيكية (المرحلية) دون أن ينطلق من أفق استراتيجي، يكون مصيره إما أن يسرق منه الخصم سياسته و إما أن يظهر بمظهر الانتهازية". وتجاوز مستوى الممارسة الحزبية للصراع الطبقي، من طرف "الاختيار الثوري"، يكمن بشكل أساسي في إيلاءه اهتماما للأداة الكفيلة بتأطير الجماهير بغية الوصول إلى الهدف الاستراتيجي وبناء المجتمع المنشود، حيث حدد سابقا المهام الأساسية، مرحليا واستراتيجيا، التي يجب العمل من أجلها. أما الأداة التي تمكن من القيام بهذه المهام فإن "تطوير الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ليصبح تلك الأداة يطرح نوعان من المشاكل: فيها ما هو تنظيمي وفيها ما هو أيديولوجي". فيما يخص التنظيم فإن هذه المشاكل تكمن في ضرورة جعل قوانين الحزب والنظام الداخلي، تضع بعين الاعتبار الأفق الثوري وتحديد دور المناضل الحزبي والعاطفين وضمان المركزية الديمقراطية في الحزب، واقترح مشاركة واسعة للقاعدة ومراجعة الأجهزة المركزية وذلك "بمساهمة المناضلين مساهمة فعلية في خطة الحزب وفي مراقبة الجهاز المركزي والإقليمي، ولكي تكون هذه المساهمة حقيقية وذات فاعلية، يجب أن نسهر بكيفية منتظمة على تأسيس وتسيير خلايا القاعدة في الأحياء والقرى وكذلك في المؤسسات الصناعية والفلاحية". أما على المستوى الأيديولوجي، فإن التقرير أولى اهتماما كبيرا لقضية تكوين الأطر الحزبية وبتسليح المناضلين بالأيديولوجية الثورية، وذلك بدراسة قوانين تطور المجتمعات، لأنه "لا معنى لإعلان الاختيار الثوري بدون إطارات مسلحة بأيديولوجية ثورية". واعتبر أن أفضل الوسائل لتمرس المناضلين وتدريبهم على التضحية، هو "العمل اليومي، حتى في أداء المهام البسيطة، ولأن المناضل يكتسب صلابته الخلقية وقوته الأيديولوجية عن طريق نضاله سواء داخل الحزب أو في المنظمات الجماهيرية...". ويشير في الأخير إلى أهمية دور الحزب في هذه المنظمات الجماهيرية، وفي مختلف الأماكن التي يتواجد فيها المواطنون... وكخلاصة لهذه المحاولة التصحيحية، فإنها حاولت أن تحدد استراتيجية واضحة للحزب، تكمن في العمل من أجل مجتمع اشتراكي، حدد معالم هذا المجتمع. كما أنه طرح مهمات مرحلية من شأنها أن تقود إلى هذا الهدف، وضع على رأسها نقطتين هامتين وهي مناهضة للاستعمار والتضامن الدولي، تم الإصلاح الزراعي لتحقيق ديمقراطية واقعية. كما أنه حدد الوسيلة التي من شأنها أن تقود عملية التغيير تلك، وهي مهمة جوهرية جسيمة تكمن في بناء الإدارة الثورية. نلاحظ إذن أن التقرير كان جد متقدم مقارنة مع وضعية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك. إلا أنه تم طمسه من طرف الأمانة العامة وسحبته من وثائق المؤتمر الوطني الثاني، واستبدل بتقرير مذهبي دون المستوى المطلوب وهذا الأمر كان مرتبطا بقوة التيار النقابوي الإصلاحي داخل الاتحاد، الشيء الذي كرسه انعقاد المؤتمر الثالث للاتحاد المغربي للشغل. والحقيقة أن حزبا، كالاتحاد الوطني سنة 1962، لا يمكن أن يتبنى برنامجا كالذي اقترحه "الاختيار الثوري"، لأن مركز القرار تتربع عليه فئات معينة تستغل نضالات القواعد والجماهير المناضلة، كقوة ضغط. وقد ساهم في هذه الوضعية غياب قانون داخلي للاتحاد، يحكم العلاقات بين المناضلين وبين الأجهزة الحزبية المركزية منها والإقليمية. ويحدد دور المناضل داخل الحزب، إضافة إلى اعتماده على أشكال تنظيمية "مائعة". وللإجابة على هذه المعضلة، ووعيا منه بضرورة بناء تنظيم حزبي على أسس علمية، فقد حاول الشهيد عمر بنجلون، وضع محاولة تصحيحية أخرى بين يدي المناضلين، وأصدر في عام 1965 مذكرة تنظيمية، سأحاول الوقوف على مجمل ما جاء فيها. تهدف المذكرة إلى وضع مخطط للعمل يرمي إلى ضمان ظروف ووسائل تحويل تدريجي للحركة من تيار شعبي إلى حزب ثوري منظم. وتستلزم هذه المهمة توضيح 3 نقط رئيسية، طرحتها المذكرة في شكل أسئلة، وهي كالتالي: - ما هي أهداف هذا التحويل؟ - ما هو الواقع الموضوعي الذي ننطلق منه والذي نريد تغييره؟ - ما هو أسلوب العمل الأكثر فعالية، الذي يدخل في نطاق أهدافنا التنظيمية ويأخذ بعين الاعتبار واقع الحركة كما هو؟ قبل الغوص في ثنايا هذه الإشكالات، أوضح الشهيد عمر أن الجزء الأول من المذكرة، المتعلق بمشاكل الحزب التنظيمية وارتباطها بدوره السياسي، يشكل نقدا ذاتيا للحركة من حيث أساليب التنظيم والنشاط، بالرغم من كونها نتيجة للضرورة السياسية الموضوعية لتأسيس وتركيبة الاتحاد. وأكد أن الظروف التي حدث فيها انفصال التيار الشعبي-مكونا من كافة القوات الاجتماعية التي لا تتفق مصالحها وعقليتها مع مصالح وأساليب القيادة التقليدية- عن قيادة الحركة الوطنية هي مصدر جميع هذه المشاكل الداخلية. كما أن الاتحاد سار على سكة الحركة الوطنية بإتباع أساليبها الروتينية، واقتصر نشاطه (الفروع) على التجمعات المائعة، الشيء الذي ساهم في عدم اندماج العناصر الحية الجديدة، إضافة إلى قلة الإطارات القادرة على تجاوز هذه الوضعية. كما أن هذه الأشكال غير كافبة لخوض معارك مصيرية من حجم الجلاء...، خاصة بعد يونيو 1961. وقد كانت لهذه الأساليب إيجابياتها في الفترة الممتدة ما بين أيريل1960 ويونيو 1961، أثناء الدعاية لمطلب الحزب بانتخاب مجلس تأسيسي للدستور، وفضح التواطؤ بين الإقطاع والاستعمار. كما أنها كانت مطابقة لمرحلة وضع مشكل الحكم الديمقراطي المنبثق من الشعب، لكنها كانت معرقلا أساسيا لخوض معارك أخرى، وكانت تخلف وضعا وعقلية تكبح تطور التنظيم. تلك كانت حصيلة تقييم المذكرة لتجربة الحزب في الفترة ما قبل 1963، واستخلصت ضرورة تطابق التنظيم الحزبي للمهام المراد إنجازها، لذلك وجب أن يكون التنظيم مطبوعا في القاعدة لضمان القوة والوسائل القارة الثابتة، التي تجعل الحزب يتحكم في سياسة الخصم، ومواجهة مبادراته بسرعة، كما أنه يعتبر الضمانة الوحيدة لاستمرار الحزب في فترات القمع. إن التنظيم ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتنفيذ الخط والاختيارات السياسية للحزب، كما أن "الكفاح من اجل الاشتراكية يهدف إلى تغيير في الأسس التي ينبني عليها النظام الإقطاعي والرأسمالي، أي الأسس الاقتصادية والاجتماعية. لهذا فإن الكفاح السياسي، يجب أن يرتكز على المعارك من أجل المطالب الاجتماعية للجماهير لتحقق مكاسب على حساب الفئات المستغلة. وهذا الأمر يعطي أهمية بالغة والأولوية لتنظيم الحزب في صفوف المنتجين الذين يشكلون القوة الطلائعية التي لها مصلحة مباشرة في تغيير النظام الاجتماعي، من حيث هي الأكثر قدرة على ذلك، إذ بإمكانها أن تعطل الإنتاج الذي يقوم على أساسه الاستغلال الرأسمالي". وتضيف كاستنتاج: "هكذا فإن التنظيم الحزبي الثوري يجب أن يركز قبل كل شيء على المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون نواته الرئيسية هي الجماعة في المعمل والمؤسسة". وأوضحت المذكرة مزايا هذه الجماعة، كما أنها قدمت نموذجا للهيكل التنظيمي للحزب، وكذا مبادئ وشروط التسيير، إذ لامست ضوابط تنظيمية تضمن السير العادي للتنظيم الحزبي وكذا شروط العضوية. وإذ استعرض هذه النقط الرئيسية في المذكرة، يراودني سؤال حول ما إذا كان ممكنا أن نقارن هذه الحمولة مع الوضع الداخلي للاتحاد الوطني، ثم لماذا لم توت أكلها؟ بالنسبة للشطر الأول، أظن أنها شكلت خطوة متقدمة أيضا نحو بناء الحزب على أسس علمية، وبالتالي محاولة للتخفيض من حجم الهوة الشاسعة بين البرنامج الحزبي وبين الواقع التنظيمي. أما العوائق أمام تطبيقها فهي ترتبط بجانب ذاتي وآخر موضوعي. من جهة أعلنت حالة الاستثناء، وحال ذلك دون أن يتمكن الحزب من استعادة ديناميته في الساحة النضالية، خاصة بعد تأثره بالضربات السالفة الذكر. من جهة أخرى عاش الحزب نوعا من الازدواجية التنظيمية، وأعلن بشكل فوقي عن "الوحدة" عام 1967، ودخل الحزب في منعطف يكبح أية إمكانية لتطوره، وخلقت واقعا يصعب الانفكاك منه بسهولة. حاولت أن أبرز من خلال هاتين المحاولتين على أن يسارا اتحاديا كان حاضرا، بشكل أو بآخر، في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كتيار شعبي يضم شرائح وطبقات وفئات اجتماعية مختلفة، كانت خلفية وحدة انتمائها كلية إلى الاتحاد، هي التخلص من غطرسة القيادة التقليدية. هذا اليسار كان يطل من حين لآخر، ويطفو إلى السطح، حسب ميزان القوى ، ويتضح ذلك من خلال عمليات "المد والجزر" التي تشتم من بيانات الاتحاد في الفترة حتى سنوات 1969-1970. كما أنه كان يبحث عن ذاته من خلال ذلك، إلا أنه بقي غير قادر على بلورتها بشكل دقيق ومنسجم، وقد ساعد في الإبقاء على هذا الوضع، هيمنة توجهات رسمية ظلت دوما تكبح أي تطور للخط السياسي الحزبي في اتجاه المزيد من التوضيح (أو التوضيح فحسب)، والخروج من دائرة الممارسة البرجوازية للصراع الطبقي، والذي أصبح غير ممكن على الإطلاق في ظل هذه الازدواجية، وحتى اتخاذ قرارات 30 يوليوز 1972. وإذا كانت هذه الخطوة قد خلصت الحزب من المعوقات الأولى لبلورة خط سياسي واضح واستراتيجية واضحة للعمل الحزبي، الا انه وجب التساؤل : هل فتحت آفاقا جديدة للممارسة السياسية الحزبية؟ بعبارة أخرى هل شكل لفظ الاتجاه الاقتصادي-الإصلاحي نهاية للسمات التي تناولتها سلفا، وقدمت بديلا على جميع المستويات؟ وبلغة أوضح، هل دشن الحزب، بعد حسم 1972، فترة جديدة من تاريخه ، تعتبر فيه الممارسة السياسية تجاوزا لاخطائه ،وبالتالي كان نقد 1972، نقدا صريحا لنواقص الحزب في ممارسته للصراع الطبقي؟ في الجزء الثالث محاولة للاجابة عن هذا السؤال.
#محمد_الخباشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي:البناء البرنامجي بين المسار
...
-
المهمة الاية لليسار العراقي : تحرير العراق أم تجفيف دجلة وال
...
-
اليسارالحقيقي ويسار بروكوست
-
لماذا صوت الاوروبيون ضد الدستور؟
-
بصدد اشكالية تجديد المشروع الاشتراكي
-
جوانب من مهمات البناء الاشتراكي
-
ثورة اجماعية ام تورة اشتراكية؟ : سؤال مغلوط لقضية مغلوطة
-
وجه من مأساة الاشتراكية العربية
المزيد.....
-
وسط مخاوف من تشكيل خطر على الأمن القومي.. ما هو شرط عدم حظر
...
-
-يؤكد على بناء دولة خالية من الإرهاب-..أنور قرقاش يعلق على ا
...
-
تقرير لوزارة الدفاع الفرنسية يثير توترا بين أنقرة وباريس
-
الكاف يمنح الرئيس المصري جائزة رفيعة في حفله السنوي
-
-القسام- تبث مشاهد لكمين كبير ضد القوات الإسرائيلية شمالي قط
...
-
بوتين: مستعدون للقتال على جميع الجبهات
-
العراق.. عاصفة ترابية قادمة من سوريا تجتاح بغداد
-
وليد جنبلاط يهنئ أحمد الشرع ويتفقان على لقاء قريب في العاصمة
...
-
-تقسيم الشرق الأوسط الجديد لن يجلب السلام- – صحيفة بريطانية
...
-
عشرات المفقودين في حادث غرق سفينة مهاجرين قبالة سواحل جافدوس
...
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|