أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نورا جبران - أيّار الياسمين















المزيد.....

أيّار الياسمين


نورا جبران

الحوار المتمدن-العدد: 4377 - 2014 / 2 / 26 - 07:54
المحور: الادب والفن
    


وانقضى شهر اللوز ...
انقضى نيسان الحكايات وزهر الحنّون..
وانقضى تردد إبريل..
انقضت فوضى نيسان وحكايات الآلهة المحفوفة بجبروت عشتار، وغياب تموز، وميلاد السنة الآشورية.. انقضى ليشرع أيّار الياسمين روح ياسمينته إلى الفضاء.. ليعلن انتفاضة الحياة في الرائحة والصورة.. رائحة الياسمين وصورة البياض الأزرق..
حين كان يحضر لزيارتها في شهر الياسمين كان يصحبها أو تصحبه وهي الصغيرة التي تعرف شوارع المدينة وتحفظها، في جولة في زقاقها، يسيران ملتصقَين بأسوار البيوت التي يكلّلها الياسمين، فيحملها أحيانا لتبلغ الياسمين إن كان مرتفعا، أو تنحني هي لتقطف له ياسمينة من شجرة لا زالت ملتصقة بأسفل السور.. كان يقول لها: تشبه رائحتك رائحة الياسمين.. ولو اخترت لك اسما غير فلسطين الصغيرة لسميّتك ياسمينة.. كانت تصمت طويلا محاولة اكتشاف عطرها في الياسمين.. تأخذ نفسا عميقا.. عميقا في الياسمين.. ثم تنظر إليه وتقول: الله يا جدي.. ما أجمل عطري! فيضمّها إلى صدره ويقبّلها ويستنشق عطرها الياسمينيّ، ويثني على ذكائها قائلا: وقويّة مثل الياسمين..
لم تكن تفهم معنى قوله قويّة كالياسمين، كانت زهرة الياسمين بالنسبة لها زهرة ضعيفة، فما إن يمسّها المرء بيده حتى تذبل ويتحول بياضها إلى الشفاف، فاقدة مع اللمسة كل ماء الحياة الذي تملك.. وإذا ما انتُزع قلبها الأصفر الصغير تهاوت وانكمشت على نفسها، فلا تشبه نفسها ولا تشبه بقية الياسمين..
حين رحل صارت قصص زهر اللوز وتحولاته، وعطر الياسمين وقوته، ورائحة التراب بعد المطر، ووقع أوراق الخريف حين تداعبها بقدميها، هي رفقتها وحكاياتها طوال العام، كل في موسمه..
حين كبرت وتعرفت إلى الشخص الذي اكشفت معه معنى الحياة، وقال لها أيضا أن لها عطرا يشبه عطر الياسمين، سألته، وكان السؤال يلح عليها منذ سنين، ما هي قوة الياسمين؟ هل الياسمين قوي حقا؟
أمسك بيدها وابتسم، قال لها أحب يدك لأنها كبيرة، تمنحني شعورا بالامتلاء، واقتربا من ياسمينة شبّت من قاع سور، قال لها: انظري كيف ينبت الياسمين من أشد نقاط الأرض قوة وصلابة؟ أرأيت هذه الزهرة التي تموت بمجرد مساس سطح أوراقها بأصابع اليد، كيف تشق طريقها بين الصخور؟ هذه هي قوة الياسمين. بعد أيام أخذها إلى محل زهور صغير، كان طلبة المدارس قد اعتادوا شراء الزهور منه في عيد الحب، قال لها: هل ترين ياسمينا بين الزهور المعروضة في دكان الزهور؟
استغربت سؤاله، وأجابت: أنت تعرف أن الياسمين لا يُباع في محلات بيع الزهور! فأجابها: هذه قوة الياسمين!
الياسمين لا يُعرض للبيع، ولا يزرعه أحد، هو نبتة برية، تنمو وحدها مخترقة عمق الصخر، لها عطر يملأ المكان مهما اتسع.. لا يشبه الياسمين سوى نفسه، وله عطر فريد ينثره في أوقات محددة، فيختار أول النهار بعد انبلاج الفجر، وأول الليل بعد انبلاج القمر، ليفضح في الأرجاء عطره.. ولكن مجرد مسّ أوراق الياسمين يقتلها..
عادت إليه في اليوم التالي بنصّ سمّته "أيّار الياسمين".. لا تذكر تحديدا ما كتبت فيه، كانت صغيرة حينها، كان يدور حول كل حكاياتها مع الياسمين واللوز والخريف ورائحة الأرض بعد المطر.. ولكنها تذكر احتفاله بالنص جيدا؛ يومها نظر إليها ودمعت عيناه، قال لها أنت ياسمينتي، وهذا النص تميمتي.. عاد في اليوم التالي وقد وضعه في كيس قماشي صغير أخضر، كان من الجورجيت الخفيف، ربطه بشبرة بيضاء رفيعة جدا من قماش الستان شديد النعومة.. وقال لها سأحمله في جيبي دائما، ليكون تميمتي.. وحمله بالفعل سنوات إلى أن غاب وغابت معه تميمته الياسمينية....
فيما بعد ظلت هذه الفكرة تراودها سنوات وتلح عليها، حتى أول لقاء لها بالياسمين الأزرق في إحدى بلدات المدينة القديمة، في البيت الذي هجره أهله ورحلوا، وبقيت الياسمينة الزرقاء وحدها تموت وتحيا كل عام، شاهدة على زخم القصص التي مرت هنا.. كان الوقت نهايات أيّار.. والجو أكثر حرارة مما هو معتاد لهذا الوقت من العام.. بشغف كانت تستمع لحكاياته عن الياسمين،، حين قطف ياسمينة زرقاء وقدّمها إليها.. وأخبرها كيف قضى طفولته هنا في شوارع المدينة القديمة، في ظلال ياسمينها الأزرق، ودفء عطرها الذي يبعث الحياة في أوصال الشوارع التي تخلو باكرا من المارّة حتى في ليالي الصيف..
بعد أيام كانت على موعد مع ياسمين الروح هناك في يافا.. حيث اتصال البحر بجسد يافا، وحيث جنون الياسمين الأزرق على بعد خطوات من ارتطام البحر بالشاطئ الحجري العتيق.. ومع حكاياتها الأولى وجها لوجه مع وطن رسمت خارطته في روحها منذ نعومة الحياة فيها .. فصار وجهها وحُرقة اللقاء في عينيها، المسافة الفاصلة بين المتوسط في يافا، وحجارة البيوت الممتدة على الشاطئ منذ آلاف السنين، وعطر الياسمين الذي عرف طريقه إلى هنا قبل الاحتلال، وبقي صامدا في وجهه في عنفوان لا يجيده إلا الياسمين ..
في إحدى زياراتها إلى لندن، وفي السوق الحرة بمطار هيثرو، استوقفتها قارورة عطر من ماركة Guerlain الفرنسية، تدعى Idylle
..كانت مفعمة بالياسمين.. وكانت البائعة قد اقتربت لتحاول اقناعها بشرائها، فقالت لها: إنه الياسمين، لا حاجة لأن تقنعيني هل رأيت يوما ياسمينا معروضا للبيع في محل زهور؟ صمتت الفتاة، وربما شعرت أنها أمام شخص "مجنون"، ومضت...
كيف يمكن للرائحة أن تأتي بهذا السيل من المشاهد، وتنبش أعماق الذاكرة: لو لم يكن اسمك فلسطين الصغيرة لسميتك ياسمينة.. قوة الياسمين.. محل الزهور حيث لا يُباع الياسمين.. تميمة الياسمين.. والياسمينة الزرقاء في عمان، وبوح الياسمين في يافا..
تذكرت أنها عملت مع زميل بعمر والدها تقريبا، في مكتب واحد مدة سبعة شهور، حتى تجرأ وتحدث إليها للمرة الأولى في أمر خارج نطاق العمل، كان الأمر نقاشا حول مقال قرأه ويعرف أن أمره يعنيها، بعد نقاش طويل، قالت له: لم أكن أعلم أنك تهتم بأي شيء سوى العمل، فاجأها ذلك القدر الهائل من الثقافة واللبرالية التي يتمتع بها.. أجابها: هل ترين العصفور الذي يقف كل صباح خلف نافذة المكتب هذه؟ كنت أراكِ مثله، فأخشى الاقتراب منك، مخافة أن تفزعي، فزع عصفور من بشر، فتهربين بعيدا.. كان يعلم أنه لن يفعل أو يقول ما يؤذيها، ولكنه كان يراها رقيقة كياسمينة، خفيفة كعصفور يراقب من خلف النافذة، ويتأهب للطيران كلما اقترب منه ظل أو حقيقة..
برحيل شهر اللوز الذي رافقهما في إحدى مدن أحلامهما، وبحلول أيّار الياسمين، جلست تتأمل حكايتها معه... سألت نفسها:
هل ينكر امرؤٌ ياسمينته؟ هل يستطيع انتزاع صورتها من مشهد روحه؟ هل يجرؤ على الانسلاخ من عطرها المعتّق في مسام روحه وجسده؟ هل يجرحها بالغياب في أيّار الياسمين، كما تجرحُ لمسةٌ ياسمينة؟ هل يبدل لها أيّار الياسمين إلى أيّار الرحيل؟
ما هي الجرأة؟ وما هي الصعوبة؟ هل نفتقر إلى الجرأة على فعل الأشياء لأنها صعبة؟ أم أن عدم جرأتنا على فعلها هو ما يجعلها صعبة؟
تذكرت أنها كتبت يوما نصا في شهر اللوز، وتناقضه بين معنى الجمال والربيع، وبين ارتباطه بالكذب، كتبت يومها: "هل نبدو أجمل حين نكذب؟! هل نكذب لأن عدم تقبل المحيط لنا كما نحن يفرض علينا إجراء جراحات تجميلية عميقة، واضحة الأثر، قبل أن نفتح بيوتنا صباحا لنرى وجه الكون.. هل نكذب لأن من حقنا أن نحلم؟! أم لأننا نخشى عدم الصدق في عالم تجاسر فيه الكاذبون؟! أم لأن الكذب الذي لم نكتشفه بعد يمنح حياتنا لذة لم يمنحنا إياها الصدق!
حالة الكذب التي نعيش، وسواء حصلت بوعي منا أو بتواطؤ من عقلنا الباطن.. هي ذلك التناقض بين نيسان الربيع والجمال والخلود.. ونيسان الذي يحتفل بالكذب والنفاق.. هي تلك الحالة التي تعجز فيها كينونتنا كإنسان حقيقي عن ممارسة ذاتها كما هي .. كما نشاء .. لنمارسها كما يريد كل الآخرين .. فتتسع بذلك هوة الفجوة بيننا وبين أنفسنا.. معتقدين بذلك أننا نردم الهوة بيننا وبين الآخرين ..فيما نخرج من المعادلة صِفر اليدين!! كالمُنْبَت .. فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى…"
هزّت رأسها هاربة من حكايات نيسان، عائدة إلى احتفالها بالمكان وبالياسمين، ثم تذكرت رحلة "درويشها" إلى مدرسته في الجليل، بعد أربعين عاما من الغياب.. حين كتب: "لا شيء في حياتنا جدير بأن يُكرَّم سوى حقنا في حياتنا ذاتها.. حياتنا التي كدنا أن ننساها في زحام البحث عن معنى خارجها. وكان خارجُها كثيراً. إلى حَدّ خُيِّل لنا، معه، أن الوطن قد هاجر، فلم نعرف هل نحن هنا أم هناك. وها نحن قادرون على الافتتان بحقيقة واحدة: ما زال المكان في مكانه!"





#نورا_جبران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نورا جبران - أيّار الياسمين