أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - موسى ديروان - تساؤلات حول نشوء الإسلام الأولي 1 - (دحية الكلبي) بوصفه جبريل















المزيد.....


تساؤلات حول نشوء الإسلام الأولي 1 - (دحية الكلبي) بوصفه جبريل


موسى ديروان

الحوار المتمدن-العدد: 4369 - 2014 / 2 / 18 - 15:11
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ملاحظة أولية : إن الاعتماد على المصادر الإسلامية ومناقشة أخبار شخوص الرعيل الأول بحسبها، لا يعني أننا لا نشكك بتاريخية هذه الشخصيات، فمصيرها في رأينا سيبقى رهناً لما سيقوله التنقيب الأثري، وحتى ذلك الحين سيبقى المجال مفتوحاً على مصراعيه للتكهن ولمحاولة وضع فرضيات بناء على معطيات كتب التأريخ الإسلامي أو سجلات المنطقة بشكل عام.

مدخل :
دحية بن خليفة بن فروة الكلبي القضاعي
أخ لمحمد بالرضاعة، وكونه كلبي وقضاعي يعني أنه ليس من سكان مكة أو يثرب أو الطائف، بل من العرب الشاميين تحديداً، حيث يذكر المؤرخين المسلمين نقلاً عن ابن الكلبي، أن قضاعة هي أول قبيلة عربية يمنية نزلت الشام وتنصرت، أي اعتنقت المسيحية، وبالطبع الحديث عن التنصر يشير-رغم تشكيك البعض بالمسألة- إلى أن وصول هذه القبيلة إلى الشام قد تم ما بين القرنين الرابع والخامس للميلاد، حيث شهدت سوريا انتشاراً للمسيحية بعد صدور إعلان ميلانو 312م والقاضي باعتبار المسيحية ديانة شرعية يجوز التعبد بها ضمن الأراضي الرومانية، وبحسب ما وصلنا عن ابن الكلبي وغيره، فإن المناطق التي انتشر بها الكلبيون هي ما بين شمال الحجاز اعتباراً من دومة الجندل، وصولاً لبادية الشام فتدمر وبادية السماوة، وهي منطقة شاسعة كان يشاركهم في بعض جغرافيتها قبائل قضاعية أخرى كسليح والضجاعمة وهؤلاء حكام العرب في محافظة العربية جنوب سوريا قبل وصول الغساسنة بحسب زعم المؤرخين العرب أيضاً نقلاً عن ابن الكلبي (أنظر تاريخ ابن خلدون ج2: 245 )، وعلى هذا الأساس فإن ديانة دحية قبل الإسلام لم تكن الوثنية بالطبع لتنصر قبيلته منذ مدة طويلة، بل كانت المسيحية و غالباً المسيحية اليعقوبية أي أتباع يعقوب البرادعي مطران السريان و مؤسس الكنيسة السورية الأرثوذوكسية، والقائلين بأن للمسيح طبيعتين متحدتين بطبيعة واحدة من غير اختلاط أو افتراق، أو تصيًّر، وانشقاقهم كما هو معروف حدث بعد مجمع خلقيدونيا في أواخر القرن الخامس الميلادي، ولمعرفة مستوى الحضور المسيحي العربي في ذلك المجمع يكفي ان نذكر أن 15 أسقفاً عربياً من جنوب سوريا ممثلاً للأبرشيات والقرى والقبائل العربية حضر مداولاته، وقد اتبع ذلك المجمع انشقاق الكنيسة السورية عن الكنيسة البيزنطية، وطبعاً لا يمكننا الجزم بأن هذه المسيحية كانت فعلاً مسيحية دحية لعدم وجود أي إشارة في كتب التأريخ الإسلامي توضح الغموض الذي يكتنف كل ما يتعلق بشخصية دحية الكلبي عموماً، لكن من المعروف أن القرن الخامس الميلادي الذي شهد انشقاق الكنائس السورية والشرقية عن الكنيسة البيزنطية وضع هذا الانشقاق القبائل العربية في مأزق حقيقي، فتبعيتها السياسية لبيزنطة في الشام، حيث كان زعماء القبائل يحكمون "فلارخيات" (أنظر عرفان شهيد : روما والعرب : 42) وهي مناطق يحكمها نظام حكم عشائري ضمن نفوذ الدولة البيزنطية، ووجود هذه القبائل في بحر سرياني يعقوبي، جعلها تمارس التقية أحياناً وفي ذات الوقت تعمل ضمنياً على الاستقلال بحدود سوريا عن بيزنطة بعد اعتناقها اليعقوبية، مما أساء كثيراً للعلاقة بينها وبين القسطنطينية، وهناك شواهد عديدة للتناوش السياسي بين الغساسنة والعرب من جهة وبيزنطة من جهة أخرى، ففي نهاية القرن السادس على سبيل المثال، سيكلل الإمبراطور البيزنطي تيباريوس رأس المنذر بن الحارث الغساني بالتاج الذهبي، ليعبر فيه الأخير مع محظياته، شوارع القسطنطينية مختالاً ومزهواً بهذا التكريم الذي يبطن وعداً كما بدى له على الأغلب بتسليم مفاتيح سوريا لأمراء غسان بصلاحيات مفتوحة والكف عن اضطهاد اليعاقبة، مقابل حسم عسكري مطلوب ضد اللخميين عمال الفرس في العراق، ولم يتوانى المنذر عن اغتنام الفرصة وضرب اللخميين في عقر دارهم كما يخبرنا الرواة ، فكان انتصاره مفزعاً للبيزنطيين أكثر منه للمناذرة، حيث رأت بيزنطة في قوته قوس صعود للقوى اللا- خلقدونية المتشددة المناهضة للكنيسة البيزنطية – وربما بتواطؤ تكتيكي مع الساسانيين بحسب التهمة البيزنطية أيضا- فاستدرجته إلى القسطنطينية من جديد ثم نفته إلى جزيرة صقلية، علماً بأن الغساسنة كما زعم ميخائيل السرياني المؤرخ، بلغوا بتكفير الملكانيين – الطائفة البيزنطية- حد ترك تناول الطعام من أيديهم أو ملامستهم، وهذا يفسر مدى تصدّع العلاقات البيزنطية مع السريان والعرب في سوريا، لكن ما يثير الاستغراب، أن الكلبيين التواقين لإزاحة الغساسنة واستعادة ملكهم الشامي على القبائل العربية ودورهم كحراس للحدود الجنوبية لبيزنطة وجباة ضرائبها من أصحاب القوافل، لم يحركوا ساكناً في تلك المرحلة، بل وأكثر من ذلك لم يعد لهم من وجود على الخريطة السياسية، باستثناء أخبار عن معارك خاضها الكلبيون ضد بعض القبائل كغطفان التي قررت بناء كعبة على غرار كعبة مكة، فقاتلهم زهير بن جناب الكلبي على ذلك وردهم عن عزمهم بناء الكعبة، وهذه الأقصوصة تفسر حرص الكلبيين على مصالحهم التجارية على طريق مكة، وهذا الحرص براغماتي طبعاً فهو يتغير بتغير موازين القوى على الأرض، حيث نعلم أن زهيراً هذا تقرب من أبرهة الحبشي قنصل مملكة أكسوم الحبشية الذي زعمت النصوص التأريخية الإسلامية أنه انتوى هدم كعبة مكة لأسباب سخيفة من مثل أن أبرهة كان في نيته بناء كعبة في مكان آخر حيث جهل هؤلاء وجود عدد من الكعبات الأخرى لدى العرب بما في ذلك الكعبات المسيحية، على كل حال ،فإن تقارب بني كلب مع أبرهة يعزز خطة أبرهة للاستقلال باليمن عن الحبشة حيث أن كلب قبيلة قوية لها بطون في اليمن والشام يعني على حدود بيزنطة، قد تشكل سياج حدودي عازل لمملكته في حال فكر بتوسيع نفوذها حتى شمالي الحجاز، وفي ذات الوقت يؤكد هذا التحالف عدم تدين الكلبيين بالمذهب الملكاني البيزنطي، وانحيازهم للقوى المناهضة للكنيسة البيزنطية فأبرهة الأكسومي يتبع في نهاية الأمر لكنيسة الإسكندرية المنشقة في خلقيدونيا.
ولنأتي على المزاج السياسي العام عند العرب وفي سوريا خلال القرن السادس، اليهود طبعاً لم يغفروا لبيزنطة كونها أوعزت للاكسوميين الحبشيين القضاء على دويلتهم الناشئة في اليمن، ونقلها للأحباش بأسطولها الرابض في البحر الأحمر (إنظر الفصل : رأفت عبد الحميد : بيزنطة العقيدة والسياسة :197) ولا تدميرها المستوطنة التجارية اليهودية في العقبة بمساعدة الغساسنة، أما العرب والسريان فبعد انشقاق كنائسهم عن بيزنطة ومن ثم تعرضهم للاضطهاد والتنكيل على أيديها، لم يكونوا أقل حماسة من اليهود في عدائهم ضدها، أما الفرس فكانت هذه فرصتهم الذهبية للانقضاض على الولايات الشرقية لبيزنطة، والمفارقة أن الفرس في حربهم الأخيرة بداية القرن السابع، حرروا جميع المناطق التي نسب إلى العرب فتحها خلال بضع سنوات تلت، بل وخاضوا معركة ضد بيزنطة على مقربة من اليرموك وكانت معركة حاسمة أدت لفتح دمشق، و هنا يشك المرء ما إذا كانت الفتوحات الفارسية التي اقتطعت جميع المحافظات الشرقية من بيزنطة وصولاً للإسكندرية حيث نجحت بقطع توريد القمح إلى بيزنطة، هي ذاتها فتوحات البلاذري والطبري الإسلامية المزعومة حيث جرى التلاعب بها إثر انقلاب العرب على الفرس لاحقاً، فلا الوجود الكلبي ولا الوجود الغساني انتهى في سوريا عقب الفتح الفارسي للبلد، وهذا يضعنا أمام خيار وحيد ، تحالف العرب مع الفرس في حربهم على بيزنطة، وما يثير الريبة حقيقة أن البلاذري الذي يعتبر كتابه فتوح البلدان مرجعية – هي الأصح بحسب التيار الرسمي للمؤرخين- قد وضعه في بلاط المتوكل العباسي بعد قرنين ونصف على الأقل من الفتوحات المزعومة، ومعروف تشيع المتوكل للسلف وتعصبه ، بل ويعتبر نظرياً مؤسس الإسلام السني، وأول من أظهر النقل على العقل وقضى على الفرق الفلسفية الناشئة، وأعاد كتابة التاريخ بما يتفق مع عقيدته من خلال استخدامه زمرة من الكتبة المشكوك في مصداقيتهم كالبلاذري الذي عرف عنه حرصه على المال وترك أشعاراً فيها ذمّ للوزراء الذين أمسكوا عنه النفقة، بالإضافة لما تصرح به الأخبار عن المتوكل من أنه تعمّد القيام بتحريف منهجي في الأخبار والشبكة المعرفية عموماً لذلك العصر، تحت مسمى محاربة البدعة وإحياء السنة.
بالعودة إلى الكلبيين، نستفيد من أشعار زهير بن جناب الكلبي سيد بني كلب في القرن السادس الميلادي، أنه طرد من بلاط الغساسنة المتشيعين لبيزنطة، ثم التحق ببلاط المنذر في الحيرة المتشيع للفرس و "نادم أبناء ماء السماء " أي المناذرة حتى نهاية حياته، وعلينا أن لا نغفل هذه المسألة نهائياً، فتحويل زعيم القبيلة لولائه السياسي، يعني تغير ولاء القبيلة برمتها، ولا ندري ما هو الدور الذي اضطلعت فيه القبيلة أثناء فترة الاجتياح الفارسي، لكن من الواضح أنها استطاعت من خلاله تدعيم وجودها في سوريا، وصولاً لمرحلة كان الكلبيون فيها قادرين على تعيين الخلفاء الأمويين وإزاحتهم، ولا يكفي أن نشير إلى أن هذه السلطة كانت سياسية محضة بحكم حجم القبيلة أو وزنها العسكري، بل واقتصادية أيضاً، فهؤلاء يحكمون منطقة تشكل عقدة تجارية هي الأهم في عالم ذلك الوقت، فالخط التجاري القادم من الحجاز والثاني القادم من الشرق أي من فارس والهند باتجاه مصر أو أوروبا بالجملة يلتقيان في عقدة بادية السماوة – تدمر حيث ينتشر الكلبيون وهذا ما سيجعل منهم أغنى القبائل العربية على الإطلاق، وهذا يبرر تحالف أبرهة معهم، وتعيين أبرهة لسيد بني كلب ملكاً على أهم القبائل العربية.
ثمة إشارات مختلفة، لدور غامض اضطلع به بعض الكلبيين في مرحلة نشوء الإسلام الأولي، حيث نجد قائد جيش محمد وابنه بالتبني زيد بن حارثة الكلبي، و دحية بن خليفة الكلبي أخو محمد بالرضاعة و سنتحدث عنه مطولاً، كان يقود جيش محمد بصفة الملاك "جبريل"! ويا للمفارقة أننا نجد سلمان الفارسي أيضاً يحتل مكانة مماثلة، وقد أجمعت الروايات على كون سلمان هذا كان عبداً لبني كلب قبل قدومه إلى مكة، والتقى محمد وآمن به في ظروف غامضة، ورغم أن بعض المستشرقين اعتبروا سلمان الحلقة الخفية أو الرجل (س؟) الغامض الذي يقف ربما وراء الدعوة المحمدية والتأسيس لها عقائدياً – أنظر رأي ماسنيون - لكني أفضل النظر إلى الجانب السياسي من المسألة، وأضع في اعتباري أن محمداً لم يجهز جيشاً واحداً لغزو فارس، بل يوحي دخول المناطق الخاضعة للنفوذ الفارسي في الإسلام - لا نعرف حقيقة بماذا دخلوا هل دخلوا بحلف عسكري أم على مقولة المؤرخين المسلمين السطحية، قد اعتنقوا عقيدة دينية هكذا وبهذه السهولة - بشكل سلمي كالبحرين وشرق الجزيرة العربية ومعظم اليمن الفارسي آنذاك وقبائل تعيش في العراق الفارسي أيضاً، أن ذلك يثير الريبة، ويفتح المجال للسؤال عن تزامن الحركة المحمدية المزعومة مع اجتياح القوات الفارسية للولايات الشرقية لبيزنطة بأكملها وكأن هذه الحركة بالجملة أتت في إطار انتفاضة موازية ضد بيزنطة معاضدة للفرس في حربهم عليها، يكفي أن نعرف أنه وعقب وفاة محمد مباشرة ارتدت جميع المناطق ذات النفوذ الفارسي، وقاتلهم أبو بكر على الردّة، وهذا أمر لا شك فيه في إطار المواد التأريخية الإسلامية التي بين أيدينا، على أن ذلك لا يعني أننا لا نشكك بمختلف عناوين التاريخ الرسمي وشخصياته، وإنما نناقش هنا المواد النصيّة التي وصلتنا فحسب، إذن فإذا ما كانت تلك المناطق قد ارتدت لرفضها خلافة أبو بكر التي رتب لها عمر بن الخطاب المعروف بعدائه للفرس وهذين الشخصين- أي أبو بكر وعمر- متهمان بالتنصل من جيش أسامة بن زيد الكلبي الذي جهزه محمد لغزو الروم في ذات الوقت تماماً الذي كانت فيه فارس حينها تجتاح الشام والولايات الشرقية لبيزنطة، فهل كان الجيش المحمدي سيدخل المعركة إلى جانب فارس أم ماذا؟ ليس ثمة من مبرر لتجهيز جيش لغزو بيزنطة والجيش الفارسي يجتاحها إلا إذا ما كان ثمة اتفاق مسبق، فإنه من الواضح إذن أن ثمة مصداقية ما لهذه الفرضية. و بعد وفاة محمد – أو اغتياله كما يحلو للبعض أن يقول- أصبحت ملامح الانقسام (الفارسي – البيزنطي) في الإسلام أوضح ، تمثلا بتياري الشيعة والسنة، والقسم الأول لحق العراق الفارسي وجعل عاصمته هناك، والقسم الثاني لحق الشام البيزنطية وجعل عاصمته هناك.
دحية الكلبي (جبريل) ..
و بناء على ما تقدم سنسمح لأنفسنا أن نضع على عهدة الفرضية بطانة محمد المقربة ممن أصبحوا من تيار علي لاحقاً ضمن جوقة المعادين لبيزنطة والموالين سياسياً لفارس في ذات الوقت، ومنهم دحية الكلبي، وتركيزنا على دحية في هذه المقالة ليس من قبيل فحص ما هو سياسي في متون المصادر، بل أيضاً ما كان متشاكل بين المستويات السياسية والعقائدية معاً، يمكننا ومن خلال تتبع ما يفصح عنه النص التأريخي الإسلامي رسم خريطة جغرافية لتحركات دحية الكلبي وسفراته، تبدأ بيثرب – حيث أنه لا يذكر أبداً في أخبار مكة ولا حتى في بدر- وتنتهي ببصرى الشام ، حيث زُعم أنه كان مبعوث محمد إلى الروم، طبعاً هذا الخبر عن إرسال محمد رسالة إلى قيصر يبدو إبداعا من خيال المؤرخين، ثم أنه لدينا رواية سنأتي عليها خلال المقال تجعلنا نشكك في صحة خبر قيصر جملة وتفصيلاً، حيث استبدلت المصادر قريظة بقيصر لغرض نبينه لاحقاً، إذن فبالإضافة إلى أن المصادر الإسلامية تشير إلى دحية باعتباره تاجراً يتنقل ما بين المدينة والشام، ولا يطيل عادة مكوثه في المدينة إلا أياما ثم يغادرها قاصداً الشام، حتى أنه بعد وفاة محمد انقطع بشكل نهائي ومريب عن القدوم إلى المدينة ولزم الشام حتى مات، وقد عزى بعض الشيعة ذلك لاقتناص أبي بكر للخلافة فيما كان يفضل هو علياً وأنه في زيارته الأخيرة وجه كلاماً لاذعاُ لأبي بكر ثم انصرف عن المدينة إلى الشام بلا عودة ، وفي كلامهم شيء من الواقعية، فأخبار دحية الكلبي تنقطع فعلاً بعد وفاة محمد، حتى يظهر أخيراً في دمشق في متن خبر سطحي جداً يتحدث عن اضطراره للفطور في رمضان بداعي السفر، وقد تكون القصة برمتها ابتكرها أحد الفقهاء لتمرير فتوى معينة، حيث لا يعلم تاريخ هذه الحادثة ولاشيء موثوق حولها، كل ما نعرفه إذاً أنه اعتزل الشأن العام، كـ دبلوماسي منهك.
يذكر مقاتل بن سليمان في إطار حديثه عن سبب نزول آية " وإذا رأوا لهواً أو تجارة انفضوا إليها وتركوك قائماً" أن دحية الكلبي أتى بتجارة له من الشام فقرعت الطبول احتفالاً بقدومه وانفض المصلون أيضاً من حول محمد نفسه وهو في خطبته وهرعوا لاستقبال دحية، وتركوه مع نفر من أصحابه لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وهناك إضافات أيضا يقدمها النص الإسلامي عن دحية في سياق القصة نفسها، حيث يذكر أن دحية كان أحسن الناس وجهاً "..وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق – فتاة بين البلوغ والعنوسة- إلا أتته " وهنا ينبري سؤال مهم : هل يمكن اعتبار الحديث عن فتنة وجه دحية، وإحاطتها بهذا النوع من التهويل – بعض الروايات تذكر أنه كان يغطي وجهه كي لا تفتتن به النساء- أن شخصية دحية تمت صياغتها عمداً على هذه الشاكلة لتبرير ظهوراته بصفة جبريل في مناسبات مختلفة؟
الحقيقة أننا لسنا أمام شخصية رتيبة سواء أتعلق الأمر بحياة هذه الشخصية وترتيب مراحل نموها وفق سياق نمو الحدث الإسلامي الكلاسيكي في النص التأريخي، أو إن تعلق بمكانة هذه الشخصية قياساً لصاحب الدعوة، بل نحن نتعامل مع شبح يظهر ويختفي بحسب السياق أو الفجوة التي يراد له ملأها، فلا ندري متى يظهر أو يختفي، لكن من الواضح تماماً أنه ينزل على القصة من خارجها تماماً كآلية تدخل الوحي في السياق الحدثي، و لعل استنطاق النص الإسلامي حول التساؤلات التي قدمناها في الفقرة السابقة ليست بتلك الصعوبة المتوقعة، ففي البداية لا بد أن نعيد صياغة مجموعة الخصائص التي بيناها حول شخصية دحية، فـ دحية إذن تاجر متجول بين الشام ويثرب، يوصف بملاحة وجهه التي تأخذ طابع التهويل والأسطرة أحيانا، يأتي فجأة وهو على اطلاع تام بما يجري يعني يدخل الحدث مباشرة، ويختفي عندما لا تكون المناسبات التي حددنها من ملئ فجوة أو تبرير موقف إشكالي موجودة، علاوة على ذلك فإنه دخل إلى النص التأريخي الإسلامي اعتباراً من المرحلة المدنية للدعوة.
لم يكن كل الوحي المحمدي على الصورة الأكثر شيوعاً في الوعي الإسلامي التي تعرّف نزول الوحي بأنه حالة تجلي روحي غير مادي يتعقلها النبي وحده في خلوة عن الناس، نعم لقد أريد لهذه الصورة أن تعم من خلال تعمد إزاحة التمظهرات الأساسية للوحي المحمدي للهامش، لقد كان ينزل ويمشي ويحدث الناس ومحمد جالس بينهم، وفي بعض الأحايين يخوض الحروب إلى جانب محمد، ويوعز إلى القادة ويحفزهم إن أقتضى الأمر، جبريل كان في وسط الحدث المحمدي ولم يغب عنه إلا في فترات تعرف رسمياً بـ "انقطاعات الوحي" لكن كيف تم التمهيد لظهورات الوحي بصورة علنية؟ النص التأريخي الإسلامي لم يستطع طمس التراتبية المنطقية لاستيلاد الوحي الآدمي، فهو يقدم مجموعة من الوسائط لفهم هذه الموضعة المتدرجة، ضمن كرونولوجيا خاصة بالبنية العامودية ثم الأفقية لتطور خبر الوحي ففي خبر صحيح مسلم، يتحدث محمد عن الشبه والمطابقة بين خلقة جبريل ودحية (انظر صحيح مسلم ج 1 - ص 106) والمشكلة هنا أن هذا الحديث يوقع المصادر الإسلامية نفسها في تناقض غريب، فقول محمد بما معناه " عرض علي جبريل فإذا هو أشبه الناس بدحية" يعني أن جبريل لا يأتي على صورة دحية كما تقول المصادر(أنظر ظنّ العيني : عمدة القاري - العيني - ج 1 - ص 80) بل يأتي على صورته التي تشبه دحية، وبين المسألتين فرق شاسع.
وفي حديث عن أم سلمة حيث يدخل جبريل على النبي فتظنه دحية "والله ما حسبته إلا إياه" (انظر صحيح مسلم - ج 7 – 144) و في نفس الحديث يختبرها محمد بحنكة ويسألها عن هوية الشخص الذي رأته، فتقول إنه دحية الكلبي، وكما سيتكرر في حديث عائشة (مسند احمد - ج 6 - ص 74) حيث يسأل محمد عائشة أيضاً "ورأيتِ؟" ليجيب بأنه جبريل وليس دحية، لكن لنرجع لحديث أم سلمة، نجد أنفسنا مع رواة الحديث في ذات الحلقة الضيقة التي كنا نتحدث عنها سابقاً، فراوي الحديث سلمان الفارسي، وناقله أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، وهذا مريب طبعاً، فهؤلاء من ضمن الدائرة التي حددناها سلفاً، والتي لعبت دوراً سياسياً مريباً في نشوء الإسلام الأولي.
والواضح أننا لو عزلنا أخبار تمظهرات الوحي بصورة دحية لم يبقى لهذا الشخص من عمل على طول صفحات التأريخ الإسلامي وعرضه سوى خبرين أو ثلاثة وكلهم بلا استثناء يتحدثون عن إهداء دحية للرسول على التوالي : حذاء، جبة صوف، وخبر زواج دحية من ابنة أبو لهب، أو تنازعه على سبية من خيبر مع محمد، فأين ذهبوا بالرجل إذن؟ هل تم مسح تاريخ دحية من التأريخ الإسلامي وإحضار جبريل بدلاً عنه؟ أو أنهم تقصدوا تغييب الرجل عن كل مواطن ظهور الوحي في النص التأريخي؟..
بني قريظة : اليهود وعداؤهم لجبريل :
من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ...الآية (البقرة 97 ) توضع هذه الآية في سياق نقاش مفترض كان يجري بين اليهود ومحمد آنذاك، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة ما هي مشكلة اليهود مع جبريل وهو في الميثولوجيا التوراتية عبارة عن ملاك يأتمر بأمر الله حاله حال جبريل الإسلامي؟ والحدود التي ترسمها الديانات الإبراهيمية عموماً لنطاق تحرك الملائكة ، هي حدود مطلقة في تقييدها وتبعيتها الكاملة لإرادة الله فحسب، لكن من ضمن سياق النص يتضح أن مشكلة العداء ترتبط بالوحي المحمدي حصراً بدليل الاشتراط في صلب الآية : فإنه نزله على قلبك، فإذا كان اليهود بالطبع لم يقتنعوا أصلا بتلقي محمد وحياً من السماء، فأنه ولا بد يعنون بجبريل أحداً آخر غير جبريل الملاك الذي يعرفون من كتبهم.
في النص التأريخي الإسلامي، ثمة إشارات مريبة عن امتلاك جبريل لذات النفس من العداء يقابل به اليهود أيضا، بل لدينا قصة عجيبة للغاية توضح مدى حماسة جبريل للقضاء المبرم على بني قريظة، هذه الحماسة لا يخفيها النص التأريخي ففي المستدرك - الحاكم النيسابوري - ج 3 - ص 34 أورد حديثاً عن عائشة، أنه ولما أتى جبريل – دحية، يوم قريظة يحث محمد على الخروج بقوله " وضعتم السلاح ونحن – أي الملائكة – لم نضع السلاح بعد .." هرع محمد يحث أصحابه على الخروج للقتال وأن يؤجلوا فرض الصلاة إلى حين بلوغ مضارب قريظة، مما أثار بلبلة بين المسلمين أنفسهم بسبب هذا الاستثناء الغريب والقاضي بتاجيل الفريضة الواجبة واعتبار الأولوية للقتال " .. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فمر بمجالس بينه وبين قريظة فقال هل مر بكم من أحد قالوا مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج قال ليس ذلك بدحية ولكنه جبرائيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم لرعب.." ولنفهم الأمر بدقة لابد من العودة إلى السجلات الإسلامية لفهم هل ثمة علاقة أو اتصال بين دحية وقريظة؟ ابن الأثير في الكامل ج:5: يروي قصة ملخصها أن دحية كان عائداً من عند قيصر، فأغار عليه بطن من جذام وسلبوه متاعه وكل ما يحمل، طبعاً القصة فيها مشكلة أساسية لم ينتبه لها مؤلفها، وهو أن طريق الشام مؤمن تماماً ويسيطر على قسمه الأعظم الكلبيون قبيلة دحية، وتؤمنه القبيلة حتى وصوله مأمنه في المدينة، لكن ثمة رواية أخرى لنفس القصة ربما تحل هذه المعضلة وهي مرفوعة لابن اسحق ( انظر مجمع الزوائد - الهيثمي - ج 5 -310 ) : ثم لم يلبث أن قدم دحية الكلبي من عند قريظة ، حين بعثه رسول الله (..) حتى إذا كانوا بواد من أوديتهم يقال له شنار ومعه تجارة أغار عليهم الهنيد بن العريص وأبوه العريض الضبعي بطن من جذام فأصابوا كل شئ معه
في النص السابق إذن، نرى عودة دحية من عند قريظة لا من عند قيصر، وقد أغار عليه بطن من جذام ( وهي قبيلة متهودة ذكرها و أشار إليها ابن صاعد الأندلسي ) في وادي لقريظة، ويبدو أن محمداً أنفذه إلى قريظة لأمر ما وأن هذه دبرت أو أوعزت، لقبيلة موالية لها من متهودة العرب، بالإغارة على دحية وسلبه، وهنا أرسل النبي سرية مع زيد بن حارثة (الكلبي) فقتل المغير وابنه بناء على طلب دحية الخاص من محمد حيث طالبه بدمهم، إذن لقد تم تحريف النص لبتر العلاقة بين عداء دحية الكلبي لليهود ولقريظة تحديداً وتحمسه وتعطشه لدمائهم وبين تحمس جبريل للاشتباك معهم، وهكذا نفهم من سياق هذه البنية القصصية من هو "جبريل" الذي يعادونه اليهود والذي يظهر بشكل عدوهم دحية الكلبي. فإذاً خبر عودة دحية من عند قيصر ملفق على الأغلب، فهو يستوي ضمن السياق، ولا شك ولا ريب في أنه تعرّض للتحريف عمداً كما يتضح من طمس بعض معالم القصة ، واستبدال قريظة بقيصر بشكل سافر.
الأصحاب ودحية – جبريل .
على الرغم من المكانة التي يضع فيها الشيعة علي بن أبي طالب وأسرته، إلا أن هذا لم يمنع من توظيف بعض أحاديث " جبريل بصورة دحية" لأهداف سياسية وعقدية، أهمها تأصيل مبدأ الولاية بمقتضى الأمر الإلهي المنقول على لسان جبريل، وبالتالي أصبحت خلافة علي أمراً إلهياً لا يتوقف على شورى أو وصية من أحد أصلاً، ومع أن "انخداع" الإمام في نهاية المطاف فيه قيمة تبخيسية لا ريب فيها، لم يحل ذلك كما قلنا من استخدام الفكرة وتوظيفها في ذلك النزاع الأيديولوجي ذو المنحى الدموي مع أعدائهم، فحديث الدرع الذي باعه عليٌ لدحية ليكتشف لاحقاً أنه قبض الدراهم من جبريل (نوادر المعجزات - محمد بن جرير الطبري ( الشيعي) - ص 86) وحديث دخوله على النبي ورأس الأخير في حجر دحية (الروضة في فضائل أمير المؤمنين - شاذان بن جبرئيل القمي - ص 29 – 30) ليكتشف لاحقاً انه كان جبريل، وغير ذلك، لم ينبه هذا التكرار مؤلفي وملفقي هذه الأخبار إلى مسألة مهمة وبسيطة معاً، حيث لابد أن هذه الحوادث حصلت بشكل متلاحق، فعلى فرض أنه خدع بدحية أول مرة ، كيف لم يتكشف أنه جبريل في المرة الثانية أو في الثالثة؟
كما وقد رأى جبريل بصورة دحية كل من ابن عباس وأسامة بن زيد وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسير وسلمان الفارسي وحارثة بن النعمان الأنصاري ومن الآل فاطمة وبنيها، والقاسم المشترك بين الجميع انتمائهم لتيار علي باستثناء ابن عباس – المشايع له إلى حد ما- و كان حديثه مع جبريل فيه حمولة سياسية عباسية واضحة، وهذا بالجملة يعيدنا إلى الفرضية نفسها التي بدأنا بها المقالة، حول وجود تيار محمدي يضم عدداً من الكلبيين إلى جانب مشايعي علي، وكما بينا فإن لهذا التيار اتجاه فارسي واضح. سنفصّل الحديث عنه في المقلات اللاحقة.



#موسى_ديروان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناقشة ل -شهادة- الكاتب الآرامي (بر سرابيون) حول الصفة التأر ...


المزيد.....




- الرئيس الإيراني: -لن يتبقى شيء- من إسرائيل إذا تعرضت بلادنا ...
- الجيش الإسرائيلي: الصواريخ التي أطلقت نحو سديروت وعسقلان كان ...
- مركبة -فوياجر 1- تستأنف الاتصال بالأرض بعد 5 أشهر من -الفوضى ...
- الكشف عن أكبر قضية غسل أموال بمصر بعد القبض على 8 عناصر إجرا ...
- أبوعبيدة يتعهد بمواصلة القتال ضد إسرائيل والجيش الإسرائيلي ي ...
- شاهد: المئات يشاركون في تشييع فلسطيني قتل برصاص إسرائيلي خلا ...
- روسيا تتوعد بتكثيف هجماتها على مستودعات الأسلحة الغربية في أ ...
- بعد زيارة الصين.. بلينكن مجددا في السعودية للتمهيد لصفقة تطب ...
- ضجة واسعة في محافظة قنا المصرية بعد إعلان عن تعليم الرقص للر ...
- العراق.. اللجنة المكلفة بالتحقيق في حادثة انفجار معسكر -كالس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - موسى ديروان - تساؤلات حول نشوء الإسلام الأولي 1 - (دحية الكلبي) بوصفه جبريل