"لقد عشت حياة ممتعة وأنا راض بالإبحار نحو الموت"
تور هايردل
أواسط نيسان الماضي نعت الأنباء الإنثروبولوجي، عالم الآثار والمستكشف النرويجي الشهير تور هايردال ( (Thor Heyerdahl عن عمر ناهز 87 عاما. توفي، في قرية ايطالية، بسبب ورم سرطاني في الدماغ. وكان قد ابتاع القرية القديمة وأعاد اعمارها ليسكنها وافراد عائلته، فيستريح بعد ركوب البحار وأمواج المحيطات التي شهدت مغامراته العجيبة على متون قوارب بدائية من القصب والبردي وجذوع الاشجار.
كان عالما جليلا طافت سمعته الافاق، وأحدثت نظرياته ورحلاته البحرية جدلا قلّ نظيره في العالم المعاصر. وهو من القلائل الذين بيعت مؤلفاتهم في مختلف ارجاء الارض. فمؤلفه الشهير كون-تيكي، عن حملته الاستكشافية عبر جزر الباسيفيك في عام 1947، نشر بما يربو على الستين مليون نسخة في أكثر من ستين لغة.
كان ذا عقل فذ وارادة لاتقهر، مؤمنا بحكمة الشعوب "البدائية" والمنعزلة، ومأخوذا بمنجزاتها التي لم تكتشفها مؤسسات "العلم الحديث" المعاصرة. وحين قوبلت آراؤه الراديكالية بشأن العالم القديم وحركة الجماعات البشرية وعلاقاتها ببعضها، بصمت المؤسسات الرسمية وازدراء القائمين عليها، تولى بنفسه مهمة التحقق من نظرياته التي بدت غرائبية لمجايليه من العلماء والأكاديميين والباحثين في اصول الانسان. وكلما أعاد دراسة مادته وتأمل خارطة الانتشار البشري عبر القارات والجزر التي باعدتها المحيطات الجبارة، كان يزداد قناعة بصحة ارائه، ويتعزز إيمانه بالروابط والأصول المشتركة للشعوب التي بدت منعزلة لا يجمعها مع بقية البشر شيء.
تتسع دائرة اهتمامات هايردل، في مداها الجغرافي، لتشمل جهات العالم الأربع. أما في عمقها الزمني فتغوص الى فجر التأريخ ونشوء الحضارات الأولى. وفي تلك الدائرة الهائلة كان لوادي الرافدين وسكانه العراقيين حيز مميز.
كمغامر كبير، كان هايردل يرتكن إلى مرتكزات ثلاثة، اولها معرفة نابعة من البحث في مخلفات العالم القديم وآثاره لتبرير قناعاته المعلنة، واقتران تلك المعرفة بمخيلة جامحة لم تعرف الحدود. وثانيها فراسته وإحساسه الفطري في اختيار أفراد طاقمه من شعوب ومناطق متباينة ممن يعتقد أنهم أفضل من يمكنهم مرافقته وملاءمتهم لشروط حملاته الاستكشافية وحجم المغامرة المخطط لها. وثالثها خبرة السكان المحليين، من ابناء القرى والجزر المنعزلة، في تركيب سفنه البدائية وباستخدام ما تتيحه لهم بيئتهم الطبيعية. فهو لم يستخدم مادة مستوردة من خارج المحيط الجغرافي الذي يبحر فيه، بل اعتمد كليا على المواد المنتجة محليا باعتبارها المادة الوحيدة المتاحة للاستخدام من قبل الشعوب القديمة. فلم يلجأ لاستخدام المسامير أو الأسلاك أو أية مادة منتجة حديثا لربط قطع مركباته التي أبحر بها عبر المحيطات.
لم يأبه للمخاطر والصعوبات، بل أن حماسه لآرائه وأيمانه بنجاح حملاته العلمية عبر البحار فاقا كل تصور. إنه الرجل الذي لم يعرف المستحيل.قادته حملته الأولى المسماة (كون-تيكي، تيمنا باله الشمس) الى قطع الاف الاميال البحرية من البيرو الى جزر بولونيزيا في المحيط الهادي، على ظهر "مركب" تتقاذفه الأمواج، وتلاحقه الحيتان وأسماك القرش لعدة أشهر. صنع "المركب" العجيب من اثنتي عشرة قطعة من جذوع شجر استوائي، ربطت ببعضها بحبال مجدولة من أغصان نبت استوائي متسلق، وشراع بدائي. كان يطفو على سطح المحيط مكشوفا للأمطار والتغيرات الجوية حتى ليبدو كأنه على وشك الغرق لأن متنه لا يرتفع عن سطح المحيط إلا نصف متر فقط. كان هدف الحملة هو التثبت من أن أصل سكان الجزر المنعزلة في أقصى المحيط هو من أمريكا الجنوبية. وقد تمكن فعلا من إثبات نظريته بوصوله مبتغاه ضمن الإطار الزمني المحدد للحملة، الا أن فحوص الـ DNA الحديثة التي أجريت على أولئك السكان لم تكن في صالحه.
المركب كون-تيكي الذي أبحر فيه عبر المحيط الهادي
بعد مغامرته الاولى أبحر في عام 1958 إلى جزر( الإيستر) Easter Islands في المحيط الهادي أيضا في حملة عرفت بإسم حملة (أكو- أكو). فاكتشف خلالها أن الجزر كانت مأهولة بالسكان قبل أكثر من ألف عام اقدم مما كان يعتقد في الأوساط العلمية، واكتشف فيها اثاراً عملاقة وبقايا حضارة حيوية كتبت على شكل منحوتات ضخمة من الحجر غاية في الجمال والغرابة.
أما في العام 1969 فقد ابحر عبر المحيط الأطلسي بمركب من القصب الأفريقي محاولا إثبات أن مصدر الحضارة المكسيكية هو هجرة قديمة من حوض البحر الأبيض المتوسط وبالذات من مصر. فقد استند بحثه على اللوحات التي عثر عليها مرسومة على جدران القبور الفرعونية والتي صمم على شاكلتها مركبه الشهير ( Ra) . لكن عاصفة أطلسية هوجاء حطمت المركب بعد حوالى الشهرين من اقلاعه.
في عام 1977 باشر مشروعه العراقي. فقد كانت أسئلة الحضارة القديمة، وشغفه بحل ألغازها هاجسه الدائم. فإجاب عن السؤال المتعلق بسر انطلاق حضارة وادي الرافدين السومرية ووادي النيل وشبه القارة الهندية في أزمنة متقاربة، بأن الحضارات المذكورة كانت مترابطة وليست منعزلة عن بعضها كما هو الاعتقاد. ولإثبات نظريته قرر الإبحار بقارب سومري سماه "دجلة" من العراق إلى شبه القارة الهندية خلال الخليج والبحر العربي، ومن ثم خلال البحر الأحمر حتى بلاد الفراعنة.
كانت الحكومة العراقية آنذاك سخية في دعم وتنظيم أية مشاريع يشم منها رائحة دعائية. فلم ينكشف بعد وجهها الطائفي ضد سكان الجنوب العراقي، فقدمت له تسهيلات مهمة، ومنحته حرية الحركة والاقامة وتجميع اعضاء طاقمه دون تدخل.
صنعت السفينة "دجلة" كليا من البردي العراقي المقطوع من وسط الهور مهد الحضارة السومرية. فمن خبرة شيخ أهواري تعلم هايردال أن البردي الذي يقطع في شهر آب هو الأفضل نوعاً لصنع مركبه المتخيل الذي سيتتبع به طرق الملاحة والتجارة في العصر السومري، ويثبت من خلاله أن الحضارة البشرية نشأت من مصدر واحد. وقد طعّم هايردل طاقمه الاممي بشاب عراقي كان يدرس الفن انذاك هو رشاد نزار سليم، ابن أخ الفنان العراقي الكبير جواد سليم، فأتيحت لرشاد فرصة هي للحلم أقرب مما للواقع، وتتبع مع هايردال خطى اجداده السومريين بمغامرة غاية في الشجاعة.
أبحرت "دجلة" مسافة تزيد على ستة آلاف كيلومتر من مكان انطلاقها على دجلة، فشط العرب، فالخليج، وعبر مضيق هرمز الى خليج عمان ، فالباكستان ثم العودة خلال بحر العرب، فخليج عدن. لكنها منعت من عبور مضيق عدن للبحر الاحمر بسبب كثافة التواجد العسكري والقطع البحرية في خضم الحرب الباردة ولعبة الصراع الدولي. فحرمت بذلك السفينة السومرية من معانقة شواطئ الفراعنة فأثبتت أن حضارة القرن العشرين أكثر توحشا من حضارة أسلافنا التي كان هايردال يتتبع مساراتها.
امتعض العالم الجليل من "الخطورة" التي تمثلها سفينة البردي العراقي على أساطيل الاحلاف المتناحرة وحاملات الطائرات والفرقاطات الجبارة التي تحتل سطوح البحار والمحيطات الشاسعة. فقرر بالتشاور مع طاقمه حرق السفينة في عرض البحر، مقابل شواطئ جيبوتي" احتجاجا على التوتر العسكري وسياسة المواجهة التي تعرّض حياة البشرية لخطر الفناء. فكتب رسالة شهيرة الى السكرتير العام لمنظمة الامم المتحدة انذاك، كورت فالدهايم، وقعها جميع طاقم السفينة (ارفق ترجمتي للرسالة ومقطعين من كتاب هايردال).
كان هايردال امميا من الطراز الأول، لا يرفع على مراكبه غير علم الأمم المتحدة، حريصا على جمع أعضاء فريقه الاستكشافي من دول وثقافات متعددة ليصهرهم في ورشة عمل دائبة الحركة، فتزول بينهم حواجز اللغة والجنسية والدين.
إضافة إلى كونه عالما باصول الانسان والاثار، ومغامرا، وبحارا، كان فنانا مبدعا وكاتبا واكاديميا ومؤرخا غزير النتاج. كان واحدا من عظماء عصرنا دون أدنى شك.
نص الرسالة التي رفعها هايردال وطاقمه الى السكرتير العام للامم المتحدة
السكرتير العام كورت فالدهايم
الامم المتحدة
اليوم وبمناسبة انتهاء الرحلة التجريبية لسفينة البردي دجلة بطاقمها الاممي ، نعبر عن امتناننا لسيادة السكرتير العام للسماح لنا بالإبحار تحت راية الامم المتحدة، ونحن نفخر باعلامكم أن الهدف المزدوج لحملتنا قد تحقق كاملا.
كانت تجربتنا رحلة الى الماضي تهدف الى دراسة خصائص مركب بحري لما قبل التأريخ صنع وفق الاسس السومرية العريقة. لكنها كانت رحلة الى المستقبل ايضا لإثبات أن الكوكب يتسع للتعايش السلمي بين البشر الساعين للعيش المشترك. نحن احد عشر شخصا من دول شتى تخضع لأنظمة سياسية مختلفة. أبحرنا سوية على متن قارب من البردي والحبال الطرية مسافة فاقت ستة آلاف كيلومتر من الجمهورية العراقية عبر البحرين وسلطنة عمان وجمهورية باكستان حتى وصلنا الى دولة جيبوتي الافريقية المتكونة حديثا. يمكننا الاعلان أننا بالرغم من اختلاف رؤانا السياسية عشنا معاً في مكان ضيق، وكافحنا جنبا الى جنب بروح التفاهم التام والصداقة، في اوقات الصفاء والعواصف، ودائما حسب مفاهيم الامم المتحدة المجسدة بالتعاون من اجل العيش المشترك.
عندما شرعنا برحلتنا في سفينة البردي دجلة في كانون الاول الماضي، كنا ندرك أننا إما سنموت أو سنحيا معاً، وهذا الادراك هو الذي وحّدنا بالصداقة. هانحن في شهر نيسان نغادر كل الى وطنه، نشعر بالتعاطف والاحترام الحقيقي لشعوبنا، وان رسالتنا المشتركة ليست لبلد معين بل للانسان المعاصر في كل مكان. لقد اثبتنا أن السكان القدماء لوادي الرافدين والهند ومصر كانوا قد بنوا حضاراتهم الممعنة في القدم بالاستفادة من الاتصالات المشتركة عن طريق المراكب البدائية المتاحة قبل خمسة آلاف عام. لقد نشأت الثقافة من خلال التبادل البارع والمفيد للأفكار والبضائع. اليوم نحرق مركبنا البهيج بشراعه المرفوع رغم أنه في أفضل هيئة، وذلك احتجاجا على المظاهر اللاإنسانية في العالم والتي واجهناها بعد عودتنا الى اليابسة من فضاء البحار في عام 1978.
لقد أجبرنا على التوقف على مدخل البحر الأحمر، تحيطنا الطائرات والسفن الحربية القادمة من اكثر بلدان العالم تحضرا وتمدنا، ولم يسمح لنا بالرسو من قبل حكومات صديقة، لأسباب أمنية، الا في جمهورية جيبوتي الصغيرة التي ماتزال محايدة، ولأن جميع الاماكن الاخرى المحيطة بنا حيث الاشقاء والجيران متورطون بنزاعات قاتلة بأسلحة صنعها اؤلئك الذين يقودون البشرية معاً على الطريق إلى الألفية الثالثة.
نحن نوجه نداءنا إلى الجماهير البريئة من سكان الدول الصناعية. علينا التنبه لحقائق عصرنا المرعبة التي اختصرتها الصحف الى مجرد عناوين لأخبار مزعجة. أنها مسئوليتنا جميعا أن نسعى لدى صانعي القرار لمنع وقوع الأسلحة الحديثة بأيدي جماعات كانت معاركهم القديمة بالفؤوس والسيوف موضع شجب اسلافنا. أن كوكب الأرض أكبر من حزم البردي التي حملتنا عبر البحار لكنه بنفس الصغر من حيث حجم المخاطر إن لم تتفتح عيوننا وعقولنا إلى الحاجة الماسة للتعاون العقلاني لإنقاذ أنفسنا وحضارتنا المشتركة من التحول الى باخرة على وشك الغرق.
التاريخ 3 نيسان 1978
جيبوتي
((لقد عشت مع اناس بدائيين في بولونيزيا وأمريكا وأفريقيا، ولكن عرب الاهوار هؤلاء ليسوا بدائيين بأي صورة من الصور. انهم متحضرون ولكن بطريقة تختلف عنا. ليس لديهم تكنولوجيا التحكم عن بعد، لكنهم اختاروا اقصر طرق المتعة ومن مصادرها مباشرة. وقد اثبتت حضارتهم أنها قابلة للحياة والاستمرار، فيما انهارت الحضارات الاشورية واليونانية والفارسية بعد ان وصلت قمة ازدهارها))..
هايردال من كتاب ((حملة دجلة- في البحث عن البداية))
((الماء رائق كالبلور والنبت المائي يغطي القعر. شاهدت سمكا واكاليل وردية طافية على السطح. انسللنا بصمت بعيدا عن المرج الأخضر، وانزلقنا بين جدران باسقة من القصب والعشب المائي. وحين غطتنا النباتات المائية ، وأغلقت البوابة الخضراء خلفنا، شعرنا اننا غادرنا صخب العالم الحديث وضجيجه وانتقلنا بسرعة مركبة فضائية الى الماضي السحيق. ومع كل ضربة مردي من ملاحينا الصامتين، أحسست اننا نسافر في الزمن الى الوراء، ليس الى الهمجية والأخطار، بل الى حضارة بعيدة عن ذلك كبعد حضارتنا المعاصرة، لكنها عجيبة في البساطة وعدم التعقيد.
بيوت القصب بأناقتها التامة مدهشة، مساكن غاية في الجمال وكل مسكن يشبه هيكلا كنسيا مقوسا، ذا قبة ذهبية مهيبة على خلفية سماء صافية تمتد عبر الصحراء وتنعكس صورها الموشمة بزرقة السماء على صفحة الماء.
هذا هو اسلوب البناء السومري الخالص. الاقوام المثابرون الذين علموا اسلافنا فن الكتابة سكنوا في أكواخ مثل هذه. ففي مدنهم المعتادة بنوا مساكنهم من الطابوق المقاوم، ولكنهم في الاهوار بنوها كليا من القصب. وقد خلدها الفن الواقعي السومري منذ خمسة آلاف عام، على شكل حفريات على الحجر أو منقوشات على الاختام. كذلك الأمر بالضبط مع قواربهم الحالية. فهي تشبه تماما النماذج المصغرة، سواء المصنعة من الفضة أو المطلية بالقار، التي عثر عليها مدفونة في المقابر السومرية. لقد أثبتت هذه المنجزات، في الحالتين، أنها متوائمة مع البيئة وكذلك مع الحاجات المحلية)).
هايردل من كتاب "حملة دجلة – في البحث عن البداية"