أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - حسن الجنابي - إشكالية المناخ والبيئةوالديمقراطية السياسية















المزيد.....


إشكالية المناخ والبيئةوالديمقراطية السياسية


حسن الجنابي

الحوار المتمدن-العدد: 40 - 2002 / 1 / 20 - 17:49
المحور: الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
    


العدد 299 الثقافة الجديدة

فشل اجتماع المناخ في لاهاي ـ هولندا، الذي انعقد الخريف الماضي، في التوصل الى اتفاق دولي ملزم بخصوص آليات تطبيق بروتوكول كيوتو الموقع في اواخر 1997 في اليابان. وهذا هو الاجتماع السادس من نوعه الذي تنظمه هيئة الامم المتحدة، وقد حضر ستة آلاف مندوب من 180 دولة.

لقد التزمت الدول المشاركة في مؤتمر كيوتو بتقليص افرازاتها من الغازات الحابسة للحرارة، كثاني اوكسيد الكاربون، بنسب متباينة بعد مفاوضات شاقة تمخضت عن الاخذ بالاعتبار ظروف ومستوى تطورها، ومدى اعتماد اقتصاداتها على مصادر الطاقة التقليدية، واحتياجاتها التنموية وغيرها من الخصائص الاخرى (راجع مقالنا بعنوان التغيرات المناخية وبعض مشكلات التنمية المنشور في مجلة الثقافة الجديدة العدد 281 نيسان 1998).

يعتبر البروتوكول الموقع في العام 1997 أول اتفاق دولي ملزم (يصبح الاتفاق ملزما إذا ما صادقت عليه خمس وخمسون دولة بحيث تكون نسبة مجموع سكانها 55 من سكان الارض. وجدير بالذكر أنه حتى الآن صادقت 175 دولة على إتفاق كيوتو). وهومختص بتطوير وتطبيق سياسات من شأنها تخفيض انبعاث الغازات الحابسة للحرارة الى مستويات مقررة سلفا قياسا الى نسبتها في العام 1990 بهدف استعادة توازن غازات الغلاف الجوي، أو على الاقل محاولة ايقاف التدهور الحاصل في تركيزها الطبيعي من خلال التحكم بكمياتها المنبعثة الى الجو (حدد مؤتمر كيوتو معدل تخفيض الغازات الحابسة على المستوى العالمي بنسبة 5.2 عن مستواها في 1990 وذلك بحلول عام 2011).

لا تعتبر النسب والحصص التي اتفق بشأنها في كيوتو، والمطلوب تحقيقها خلال فترة محددة، بحد ذاتها إنجازا كبيرا رغم اهميتها. لكن مجرد الاعتراف الدولي الشامل بوجود مشكلة مناخية تهدد مستقبل الحياة على الارض هو الإنجاز الأكثر أهمية. وما الالتزامات الدولية بهذا الشأن الا تجسيد لإرادة العمل على حماية الحضارة الانسانية المعاصرة، والظروف البيئية التي أنتجتها. من هنا كان اتفاق كيوتو اطارا مهما لمتابعة دراسة المشكلة في ضوء تزايد المعطيات العلمية، والمعرفة الإنسانية بحجم مشكلة المناخ، ومن ثم مراجعة الاتفاق كل ثلاثة أعوام لتدقيق الإجراءات المتخذة، ومستويات تطبيقها، واستيعاب المعارف الجديدة واستخدامها في مراجعة الالتزامات الدولية وغيرها.

لذا فإن مؤتمر لاهاي هو أول لقاء دولي بعد مرور ثلاث سنين على كيوتو اريد منه أن يضع آليات محددة ومقاييس تجري في ضوئها متابعة التزامات الدول بتطبيق بروتوكول كيوتو حسب النسب المزمع تحقيقها (أوروبا مجتمعة 8، الولايات المتحدة 7، اليابان وكندا 6…الخ). غير أن المؤتمر فشل في الاتفاق على الصيغ المتوخاة خاصة بعد تردد دول كبرى، كالولايات المتحدة، في قبول المقاربة الاوروبية الرامية الى إقرار اتفاق واضح ومحدد لتقليل إنبعاث غازات الاحتباس الحراري. وهو تردد نتج عنه تأخير غير مبرر، واطالة لوقت الاجتماع، فقد معه أحد نشطاء البيئة صبره فرشق وجه رئيس الوفد الامريكي المفاوض(فرانك لوي) بقطعة فطائر طازجة.

لكن ذلك لم يغير من الامر شيئا إذ أن مصدر التردد الامريكي لم يكن فقط لانتزاع اتفاق دولي يتيح الإتجار بالتلوث (أي امكانية شراء أو بيع رخص التلويث)، بل كذلك انتظار ما تسفر عنه الانتخابات الرئاسية الامريكية التي كانت معلقة في اروقة المحاكم. فالمعروف أن آل غور أكثر استعدادا لقبول الإلتزامات الدولية بهذا الشأن، في حين أن جورج بوش المدعوم من قبل الاحتكارات الكبرى، أقل تفهما للمأزق البيئي، وقد صرح بعض المقربين منه أن الولايات المتحدة سوف تتخلى عن بروتوكول كيوتو في حال فوزه بالرئاسة. كما أن تأجيل الاتفاق لمدة اخرى يتيح وقتا اضافيا للإحتكارات واللوبي الصناعي والنفطي للتأثير على طبيعة المشاريع المطروحة بما يضمن مصالحها.

لقد حاول الوفد الامريكي وبدعم من استراليا واليابان التملص من الاتفاق على سقوف معينة لإفراز الغازات، ومدد محددة لبلوغها، ووضع الية يمكن بها قياس مدى الالتزام بتحقيقها، محاولا ادخال عناصر يصعب قياسها مثل امتصاص غاز ثاني اوكسيد الكربون في الغابات (وهذا مايسمى sink” "، وهو من الوسائل المستنبطة في كيوتو). فاليابان مثلا تقوم بتمويل بعض مشاريع زراعة الغابات في استراليا وتحسبها كمعادل لخرقها الحدود المتفق عليها لإطلاق الغازات الملوثة. هذا يعني أن على الدول الملوثة (الصناعية) أن تكثر من زراعة الغابات لامتصاص غاز ثاني اوكسيد الكربون. وبما أن المساحات القابلة لزراعة الغابات في اليابان قليلة عكس استراليا، فقد اتفقت معها على تمويل زراعتها. كما تحصل كوستاريكا مثلا على عائدات مالية طائلة من بيع رخص التلويث بثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن محافظتها على غاباتها وحدائقها الوطنية. وتأمل الولايات المتحدة بتعميم هكذا تجارب وتشجيع التجارة برخص التلويث مما يسمح لها بالاستمرار في النمو الاقتصادي بنفس الانماط السابقة. وبذلك تحقق رضى طرفي المعادلة، أي التزاماتها الدولية وضغوط نشطاء البيئة من جهة، واللوبي النفطي ـ الصناعي المعني بزيادة حجم الاقتصاد والارباح التي غالبا ماتكون على حساب توازنات البيئة، من الجهة الاخرى.

أضافة الى ذلك فإن مجلس الشيوخ الامريكي يتخذ موقفا متشددا من أي اتفاق قد يؤثر على الرفاهية الامريكية أو يقلل من قدرات امريكا على التنافس في الاسواق الدولية، ويرفض التصديق على أي اتفاقية من شأنها تحديد حرية رأس المال والاستثمار لأهداف "مناخية". كما يطالب بأن أية معاهدة بهذا الشأن لابد من أن تشمل الدول النامية أيضا رغم أنها دول في مؤخرة سلم التطور الاقتصادي، وتنقصها الامكانات العلمية والمادية لتحقيق التنمية الاقتصادية مع حماية البيئة، ويجادل مندوبوها أن الدول المتقدمة هي المسؤولة اساسا عن التدهور الحاصل في مناخ الكرة الارضية.

لذلك فلابد لأي اتفاق، اذا اريد له النجاح، أن يعالج مطلبين أساسين هما:

1- كونه مفيدا للبيئة بشكل لا لبس فيه.

2- ضمان المصادقة السياسية عليه من قبل الدول الموقعة.

لذلك فمن الواضح أن أي اتفاق دون دعم أمريكي يؤول للفشل لعدة أسباب أهمها حجم الاقتصاد الامريكي المسؤول عن 20 من حجم غازات الاحتباس الحراري الموجودة في الجو وبالتالي لايمكن استبعاد الولايات المتحدة عن أي اتفاق أو أية محاولة جادة للحد من انبعاث الغازات الملوثة. كذلك فإن أي إتفاق لاتسهم به الولايات المتحدة قد يحرم العالم من الإمكانات العلمية والاقتصادية والمعرفية الكبيرة لدى الطرف الامريكي خاصة في مجال مراقبة الغلاف الجوي ودراسة تغيرات المناخ حيث حقق الأمريكان تقدما هائلا.

لا شك أن عدم الاتفاق على معاهدة في لاهاي هو أفضل من الاتفاق على معاهدة سيئة. فمن الناحية النظرية من الافضل العمل لإنضاج عوامل اتفاق فعال ينال إجماع المشاركين وتدعمه الاسرة الدولية. غير أن العالم ليس حكرا على أصحاب النيات الطيبة. فالشركات الكبرى ومراكز النفوذ والاحتكارات النفطية تسعى لإجهاض أي معاهدة من شأنها التقليل من ارباحها. كما أن اللعبة السياسية في الديمقراطيات الغربية تتميز بصراع معقد للمصالح الرأسمالية، حيث تمارس مجموعات الضغط المحلية والمتعددة الجنسيات، بسبب طبيعة العملية الانتخابية، تأثيرا كبيرا على الحكومات لتغيير اتجاهاتها وبرامجها وكذلك التزاماتها الدولية بالطبع.

لذا كان من مصلحة العالم أن يتم الاتفاق في الخريف الماضي لكنه لم يحصل وانتهى الاجتماع على امل اللقاء مجددا بعد ستة أشهر خصصت لإنضاج الوثيقة النهائية. لكن وكالات الانباء تناقلت مؤخرا أن المفاوضات تعثرت هي الاخرى بسبب الموقف الامريكي الذي لم يلب الدعوة للبدء بها.

مع ذلك فقد تحققت في لاهاي، وقبلها في كيوتو، جملة امور أهمها:

1- الاعتراف بتدهور التوازنات المناخية خلال المائة سنة الاخيرة وضرورة البدء بعمل شيء ما لوقف ذلك التدهور.

2- بالرغم من انه لم يتوفر حتى الان أي دليل قاطع على أن إرتفاع حرارة الجو يعود أساسا لغازات الاحتباس الحراري، الا أنه لم يعد هناك مجال للشك بضرورة أن يعيد الانسان تقييم علاقته بمحيطه بما يضمن تنمية مستديمة لاقتصاد العالم. وقد برز ذلك واضحا في الجلسات العلمية التي اشترك فيها الفا (2000) عالم ومختص من مختلف أنحاء العالم. الا ان الاتفاق تلاشى حين التقى السياسيون وممثلو الحكومات، فهم الاكثر عرضة لضغوط الاوساط المتنفذة إن لم يكونوا هم ممثليها فعلا.

3- تسعى اليوم غالبية الحكومات، حتى من دون معاهدة ملزمة، الى تحقيق تنمية اقتصادية تعتمد على مصادر بديلة للنفط والفحم والمحروقات الاخرى، وتتبنى وسائل أكثر فاعلية في ترشيد استهلاك الطاقة.

4- يتزايد الوعي الشعبي بالشأن البيئي وإنجذاب اعداد اكبر من الناس الى ممارسة فعاليات وأنشطة تربوية وسياسية هادفة لحماية البيئة، وبخاصة في الاوساط الفنية والثقافية.

5- رفض ادخال الطاقة النووية في الاتفاق ورفض إعتبارها كمصدر بديل للطاقة (وهي من أنواع الطاقة "النظيفة" بالطبع أي تلك التي لاتفرز الغازات الملوثة كالفحم والبترول) وذلك نظرا للتأثيرات البعيدة المدى للفضلات النووية.

6- إن البحث في سبل معالجة التغيرات المناخية هو أمر ضروري بالرغم من غياب الادلة العلمية القاطعة على سببها، أي أن إستعداد الانسان لأسوء الاحتمالات هو أفضل من الانتظار السلبي الى حين يتم إثبات سبب تدهور التوازنات المناخية هو نشاطه الاقتصادي. فقد يكون الامر انذاك متأخرا ولا فائدة ترتجى في حينه من أية اتفاقية.

7- يتفق جميع العلماء تقريبا أنه إذا لم يكن النشاط الاقتصادي للانسان وتدخله في توازنات البيئة هو السبب الأساسي للتغيرات المناخية وارتفاع معدل حرارة الارض، وخلخلة تركيز الغازات في الجو، فهو على الاقل مسؤول عن جانب منها. وبالتالي من الضروري السيطرة على هذا الجانب وترشيد علاقة الانسان بمحيطه الطبيعي لضمان ديمومة الحياة.



الرخاء الاقتصادي ـ نوعية الحياة وانعكاساتها البيئية
لقد ازدادت كثيرا قدرات الانسان على التحكم بظروف الحياة وانتاج الثروة ووصلت مديات هائلة في وقتنا الحاضر. ولعبت التكنولوجيا المتطورة وفروع العلم والمعرفة المختلفة دورا بارزا في إظهار تفوق الانسان وتوقه للسيطرة على محيطه. وفتحت شبكة الانترنت وتكنولوجيا الاتصالات المعاصرة آفاقا غير محدودة لتبادل المعارف والخبرات بين الناس، وتنظيم علاقاتهم وتفاعلهم مع أحداث العالم.

وبالرغم من التغير الهائل في طرق المعيشة وتراكم المعرفة البشرية، ودخول التكنولوجيا كافة ميادين الحياة، الا أن العديد من العلماء يعتقدون أن نوعية الحياة المعاصرة ليست بالضرورة أفضل من نوعية حياة الاجيال التي سبقت الثورة الصناعية. فقد جاء تراكم الثروة في غالب الاحيان على حساب البيئة، وبالتالي فإن الدول الاكثر تصنيعا مسؤولة اساسا عن تدهور توازنات المناخ. ومن الحقائق المعروفة أن كميات الغازات الحابسة المتجمعة في الجو جاءت بالاساس من اوروبا والولايات المتحدة واليابان. إضافة الى أن انماط الاستهلاك السائدة في مجتمع اليوم، خاصة الصناعي منه، هي السبب الرئيس في تفاقم مشكلة التلوث نتيجة لحجم ونوعية الفضلات والنفايات ومياه الصرف التي لوثت الانهار والسواحل والمدن.

كذلك فأن التقسيم غير العادل للثروات، سواء على مستوى الافراد والجماعات أو على مستوى الدول، خلق تباينا مخيفا يتراوح بين البذخ والتملك اللامحدود وبين الموت جوعا. وتتركز الثروة في غالب الاحيان بأيدي فئات ضيقة من الصناعيين ورجال المال والاعمال الذين يملكون امبراطوريات اقتصادية كبرى، لاتغيب عنها الشمس حسب التعبير القديم. وغالبا مايؤدي هذا التفاوت في الملكية والثروة الى المزيد من الحروب والتوتر السياسي والعسكري والاحتقان الاجتماعي، مما يعيق التطور السلمي والديمقراطي للمجتمعات، أي الضمانة الاساسية للرقي والتنمية المستديمة للاقتصاد ذات التأثير البيئي المحايد. أما على المستوى الدولي، فالمعروف أن دولة واحدة (الولايات المتحدة الامريكية) تملك عشرين بالمائة من ثروات العالم.

أضف الى ذلك تلوث الهواء والمياه، وانتشار امراض وأوبئة لم تكن مألوفة سابقا (الايدز مثلا)، وانتشار التصحر والجفاف، والتوسع الاخطبوطي لصناعة التسليح والعسكرة، وتكديس اسلحة الدمار الشامل واستخدامها في أكثر من موضع، حتى أصبح بإمكان دكتاتور ارعن أن يبيد حياة الآلاف من السكان في واحدة من نزواته المريضة، وإتساع نطاق الحوادث الكارثية كانفجار مفاعل تشيرنوبل أو غرق بواخر شحن البترول، على سبيل المثال لا الحصر، وهي حوادث تكون البيئة من اولى ضحاياها.

صحيح بالطبع أن ماذكر سابقا يشكل وجها واحدا للخبرة الانسانية المتراكمة الا أن ذلك لايلغي كونه جانبا رئيسيا يجب باستمرار العمل من أجل تصحيحه بما يضمن صيانة حقوق الانسان، وعقلنة استغلال الطبيعة، والكف عن التدخل الفض في توازناتها المعروفة، والحرص على حق الاجيال القادمة في العيش في عالم أكثر عدلا، والتمتع بخيراته وثرواته.



الدكتاتورية وانتهاك البيئة
من الجدير ذكره هنا أن الانحدار النوعي في شروط البيئة لم ينتج فقط عن المبالغة في التصنيع والركض وراء الربح السريع، بل كذلك من استثمارات اقتصادية فاشلة ومشاريع كبرى تستخدم للاغراض الدعائية أكثر منه للإنتاج، وخاصة في الدول النامية، بل يعود اساسا الى غياب الديمقراطية السياسية، والى الطبيعة الدكتاتورية للسلطة، البعيدة عن أية رقابة شعبية أو مساءلة قانونية. فأي نشاط اقتصادي لسلطة من هذا النوع محكوم بهاجسها الامني وغريزة البقاء في الحكم مهما كان الثمن حتى لو كان تدمير البلاد بأسرها. وأفضل مثال على هذا القول هو مايجري في العراق منذ السبعينات وحتى هذه اللحظة.

من البديهي أن الدول التي تنتهك فيها حقوق الانسان، يكون انتهاك البيئة فيها امرا مفروغا منه. ولا تجد السلطة الدكتاتورية سببا لتبرير افعالها، أو أية ضرورة "لإضاعة" الوقت بانتظار نتائج دراسات الجدوى الاقتصادية، والمخاطر البيئية لأي مشروع إذا ما رأى الدكتاتور، أو أحد أعوانه، أن المشروع يصب في مصلحة التمترس في السلطة، أو يعرقل أي نشاط، فعلي أو محتمل، لطرف معارض مهما كان حجم هذا الطرف. فهل يمكن لعاقل ان يعتبر حرق ابار النفط الكويتية، وسكب كميات هائلة من البترول في الخليج، عملا عسكريا يسهم في تغيير ميزان القوى لصالح العراق أثناء حرب الخليج؟. فبأمر من صدام اشعلت النيران بخمسمائة بئر نفطي كانت تحرق خمسة ملايين برميل يوميا. وتم لنفس السبب سكب ستة ملايين برميل من النفط في ثغر الخليج فغطت مساحة تقارب الالف كيلومتر مربع من مياهه اضافة الى تدمير مئات الكيلومترات من شواطىء الخليج في أكبر كارثة بيئية تشهدها المنطقة.

لا تلجأ الدكتاتورية، بسبب طبيعتها، الى الحوار لإخراج البلاد من أزماتها. فمهما كان جبروتها، ومهما كان خطر المعارضة السياسية على وجودها في الحكم ضئيلا، فإن القمع بهدف إفناء الخصم وتدمير مقومات الحياة لديه يبقى الاسلوب الأمثل لتصريف تلك الأزمات.

وأفضل مثال على ماسبق هو التدمير المنهجي للبيئة الطبيعية في كردستان العراق لأهداف أمنية بحتة. فتركيبتها القومية، وطبيعة السلطة المركزية ببغداد وسياساتها الشوفينية، جعلت من كردستان حصنا دائما للمعارضة السياسية. وهي بتضاريسها الوعرة، وخصوبة سهولها، وعذوبة مياهها، وارتفاع نسب تساقط الامطار فيها، وشروطها المناخية، وانتشار قراها وحواضرها على مساحات شاسعة، قادرة على اسناد سكانها وتزويدهم بما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة، ومواصلة نشاطهم بعيدا عن مؤثرات السلطة المركزية. لذلك فإن تدمير البيئة أضحى هدفا عسكريا "مشروعا" لدى السلطة. فلجأت الى زرع الالغام في مساحات شاسعة منها، ودمرت الاف القرى الكردية، وهجرت السكان ونقلتهم الى معسكرات سكنية تسهل ادارتها الامنية، وكللت "انجازاتها" بأستعمال غازات الخردل والسيانيد في مناطق المواجهة العسكرية، فكانت حلبجة تجسيدها الاكثر دراماتيكية والرمز الاكثر دلالة على استعداد السلطة للايغال في الوحشية.

ومن الواضح، كمثال آخر, أن مشروع "النهر الثالث" في العراق، الذي جففت بواسطته السلطة العراقية المنطقة التي اقيمت عليها الحضارة السومرية العريقة، لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب بأية جدوى اقتصادية. بل أن غرضه الرئيسي هو القضاء على حركة المعارضة العراقية التي وجدت في المنطقة مأوى من حملات القمع والانتقام.

وحتى على افتراض أن العراق لم يعد بلدا محطما ومعزولا بل في وضع يمكنه من استصلاح الاراضي الشاسعة من بغداد وحتى البصرة، فإن النتائج البيئية والمسؤولية الاخلاقية والسياسية والتأريخية لعمل من هذا المقياس، كفيلة بردع مجرد التفكير بتغيير الطابع الايكولوجي والإجتماعي للمنطقة. ولا يمكن لأية سلطة أن ترتكب مثل هذه الجريمة الا إذا كانت مجردة من أي وازع وطني وأخلاقي. وبالتالي فتجفيف منطقة الاهوار بدعوى الاستصلاح لم يعد اكذوبة فقط بل هو من الجرائم البيئية الكبرى فضلا عن أنه جرم سياسي واخلاقي.

لقد جففت مساحة تزيد على العشرين الف كيلومتر مربع كانت قد غمرتها المياه، في ظروف مناخية مختلفة، منذ ماقبل التأريخ. وكانت بمثابة تكوين إيكولوجي وثقافي وتأريخي فريد في طبيعته، وانسجام عناصره، وديمومة اعتمادها المتبادل في دورة حياتها المستمرة. ولها أهمية محلية واقليمية ودولية معترف بها بالرغم من امتناع العراق عن توقيع معاهدة رامسار(1) (Ramsar Convention).

والاهوار من معالم العراق الحضارية، ومعينا للدراسات الاركيولوجية، والانثروبولوجية، والسوسيولوجية. كما انها مأوى لأنواع بيولوجية متميزة من الحيوانات والطيور والاسماك، فضلا عن انها المكان الوحيد الذي يعيش فيه كليب الماء العراقي (Otter) المعروف علميا بإسم (Lutrogale Perspicillata Maxwelli) وهو من الاصناف التي لم تكن معروفة للعلم حتى اكتشافه في العام 1956 في أهوار العراق(2). وقد انقرض هذا الحيوان الاليف ومعه اصناف اخرى عديدة من الحيوانات والطيور نتيجة الى تحول بيئتها المائية، المعتدلة الحرارة صيفا والدافئة نسبيا في الشتاء، الى اراض جافة.

وإيغالا في تخلفها وهمجيتها، شنت السلطة، أثناء حملة التجفيف، حرب ابادة حقيقية، لاتزال مستمرة حتى اليوم، ضد سكان المنطقة. واستأصلت بقسوة وحشية نمط حياتهم الاصيل والقائم على وئام مع محيطهم الطبيعي المتميز بتوازناته الدقيقة وثراء بيئته. وأجبرتهم على الرحيل بعد تسميم ما تبقى من مياههم وإبادة مواشيهم وقطع شرايين حياتهم.

ودأبت وزارة الزراعة والري العراقية على التفنن بالتلاعب بمصائر سكان المنطقة وما جاورها. ففضلا عن تطبيق قانون قطع ايدي الفلاحين الذين يمتنعون عن تسليم منتوجاتهم للسلطة (وهو قانون معلن ومنشور في الصحف الرسمية العراقية)، فإنها منعت زراعة الرز في مناطق شاسعة في الجنوب العراقي. وهذه محاولة واضحة تهدف الى افقار السكان وتجويعهم، ومنعهم عن مواصلة نشاطهم الاقتصادي المعتاد، واعتداء على نمط حياتهم بهدف اجتثاثه. كما انها تمنع وصول الطاقة الكهربائية اليهم، وتتمادى في تقنين جريان المياه وخفض منسوبه لمنعه فعليا من الوصول الى حقولهم.

كما تناقلت وكالات الانباء في السنة الماضية أخبار حرق حقول الرز في منطقتي المشخاب والشامية عن طريق رشها بالمواد الكيمياوية السامة، وذلك بتهمة مخالفة قرار منع زراعة الرز الصادر عن وزارة الزراعة. والمعروف ان هاتين المنطقتين تشتهران بزراعة ارقى انواع الرز العراقي المسمى بـ"العنبر"، وقد امسى من المستحيل زراعتها لسنين طويلة مقبلة بعد اغراقها بالمواد الكيمياوية.

يجري كل ذلك تحت شماعة "الحصار" الاقتصادي تارة وشحة المياه تارة اخرى. وبما أن الرز هو من المزروعات التي تحتاج الى وفرة في مياه الارواء فليس هناك أسهل لدى الوزارة العتيدة من منع زراعته بذريعة المحافظة على المياه. غير أن طارق عزيز لم يجد حرجا بإعلانه في السنة الماضية عن استعداد العراق لتزويد الاردن بكل ماتحتاجه من المياه اذا رغب الاردنيون بذلك. ولا أظن أن احدا نسي محاولات حكومته الدائبة لإقناع الكويت بتزويدها بمياه شط العرب قبل قرار اجتياحها وضمها "طوعا". لكن مياه الرافدين تشح حين يتعلق الامر بسكان جنوبي العراق (من السذاجة الاعتقاد أن وزارة الاوقاف العراقية، وهي الوزارة التي اتهمها عدي صدام بممارسة سياسة طائفية ضد الشيعة، تختص وحدها بهذه الممارسة. بل أن كل وزارات ابيه تسير على ذات النهج وهذه حقيقة لا تغيب عن العراقيين. مع ذلك يبقى لتصريحه مغزى يتأتى من كونه جاء على لسانه هو بالذات، وإذا قالت حذام فصدقوها).

أما مسؤولية السلطة العراقية عن حربي الخليج فلا يرقى اليها الشك. وبالتالي فهي مسؤولة أيضا، إلى جانب القوات الغربية، عن تلويث بيئة العراق باليورانيوم المنضب الى مستوى نجهل حتى الآن مداه ونجهل حجم الكارثة التي حلت بوطننا وشعبنا من جراء استخدامه.

Top of the Document



هوامش
(1) معاهدة رامسار هي أهم اتفاقية دولية تنظم مسؤولية الدول في ادارة مناطق الاهوار والمسطحات المائية ذات الاهمية الدولية.

(2) إقرأ كتب غافن ماكسويل المعنون "حلقات المياه الرائقة"، وغافن يونغ "العودة الى الاهوار"، و ويلفرد ثسيجر "عرب الاهوار".




#حسن_الجنابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بلومبرغ: دول مجموعة السبع تبحث تخصيص 50 مليار دولار لأوكراني ...
- كيف تساعد الصين إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية؟
- مطالبات في لبنان بحجب تطبيق تيك توك إثر استخدامه من عصابة مت ...
- بعد أن ألمح إلى استعداد فرنسا إرسال قوات إلى كييف.. روسيا تع ...
- وول ستريت جورنال: إسرائيل أمهلت حماس أسبوعاً للموافقة على ات ...
- ماكرون وشولتس -ينسقان مواقفهما- بشأن الصين قبل زيارة شي إلى ...
- بوريل: نهاية الحرب واستسلام أوكرانيا -خلال أسبوعين- حال وقف ...
- زاخاروفا تعلق على تصريح بوريل حول وقف إمدادات الأسلحة إلى كي ...
- مصرع 37 شخصا في أسوأ فيضانات يشهدها جنوب البرازيل منذ 80 عام ...
- قناة -12- العبرية نقلا عن مسؤولين إسرائيليين: وفقا للتقديرات ...


المزيد.....

- ‫-;-وقود الهيدروجين: لا تساعدك مجموعة تعزيز وقود الهيدر ... / هيثم الفقى
- la cigogne blanche de la ville des marguerites / جدو جبريل
- قبل فوات الأوان - النداء الأخير قبل دخول الكارثة البيئية الك ... / مصعب قاسم عزاوي
- نحن والطاقة النووية - 1 / محمد منير مجاهد
- ظاهرةالاحتباس الحراري و-الحق في الماء / حسن العمراوي
- التغيرات المناخية العالمية وتأثيراتها على السكان في مصر / خالد السيد حسن
- انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان ... / عبد السلام أديب
- الجغرافية العامة لمصر / محمد عادل زكى
- تقييم عقود التراخيص ومدى تأثيرها على المجتمعات المحلية / حمزة الجواهري
- الملامح المميزة لمشاكل البيئة في عالمنا المعاصر مع نظرة على ... / هاشم نعمة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - حسن الجنابي - إشكالية المناخ والبيئةوالديمقراطية السياسية