أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي المنصوري - أسطورة شعب الله المختار - أصل التوحيد الإبراهيمي















المزيد.....



أسطورة شعب الله المختار - أصل التوحيد الإبراهيمي


سامي المنصوري

الحوار المتمدن-العدد: 4346 - 2014 / 1 / 26 - 10:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



أسطورة شعب الله المختار- أصل التوحيد الإبراهيمي


هذه المقالات ليس من تأليفي وانما مقتضبات واقتباسات و ملخصات واستنتاجات من بطون الكتب والمقالات والنشرات والابحاث من مصادرها كيفما وردت لكتاب وباحثين أجانب ومستشرقين وعرب منهم المسلم او المسيحي او لا ديني والعلماني وغيرهم بهذه الصوره جمع مقال عام شامل بصوره حياديه ومعتدله لتوضح التاريخ الديني والجغرافي – اذا كنت ديني عقائدي لا تقرأ المقال لانه عكس هواك

هذا جزء من موضوع عام عن نشأة الأديان - و قد اقتطعت هنا الجزء الخاص باليهودية و نشأتها و تطورها, ففهم اليهودية برأيي مهم للغاية في فهم الأديان الإبراهيمية و كيف وصلت لنا..


التوحيد الإبراهيمي - شعب الله المختار

لماذا تبدو الأديان الكبرى العالمية "السماوية" الثلاثة - و التي تنتسب إليها اليوم أكثر من نصف البشرية - وكأنها تتمركز بشكل أساسي حول قبيلة بدوية مغمورة, عاشت في الشرق الأوسط إبان العصر البرونزي ؟

فالقارئ للتوراة قد يفاجأ بحديثها الحصري عن الشعب المختار وحده, تاريخهم نشأتهم و أجدادهم و زعماؤهم القوميين و حروبهم و سلامهم و عاداتهم و تقاليدهم و مدينتهم المقدسة أرض ميعادهم و مخلصهم المنتظر, مع تجاهلها للأمم الأخرى تماما, بل و قد يصدم بإيمانهم العنصري بأنهم هم وحدهم أبناء الله, و أن باقي الناس جميعا هم أنصاف بشر, خلقهم الله لغرض واحد هو خدمة أبناؤه الإسرائيليين, و النصوص الدينية كالتوراة و التلمود و غيرها, و كذلك القوانين و التشريعات اليهودية, تزخر بكراهية و احتقار الأغيار (غير اليهود) بشكل بشع لا يكاد يصدق, حتى نتساءل: ما الذي حدث حتى جعل أول ديانة إبراهيمية على ذلك القدر من التعصب و القسوة و العنصرية و ضيق الأفق؟

فإذا نظرنا إلى المسيحية الرحيمة ذات البعد الإنساني ,فسنفاجأ بأن عيسى يعلن (كما يخبرنا إنجيل متى) إنه إنما أرسل حصرا "لخراف بني إسرائيل الضالة", و هي جملة قالها عندما جاءته امرأة غير يهودية تستعطفه و ترجوه أن يقوم بشفاء ابنتها المريضة, فرفض و أخبرها – بما عهد عنه من رقة و سمو مشاعر- أنه :"لا يصح إعطاء خبز الأبناء للكلاب", و عندما أجابته :"سيدي و لكن حتى الكلاب تأكل من فتات موائد أسيادها" , سرالمسيح من إجابتها و شفى ابنتها!
والسؤال: ماذا يعني أن عيسى (أي الرب نفسه حسب الرؤية المسيحية) يعلن بلسانه في إنجيله أنه إنما قد أرسل –لا ليفتدي الناس جميعا بصلبه و تحمله لخطاياهم, كما يؤمن المسيحيون - و إنما أرسل من أجل قبيلة؟!
و لا تكتفي الأناجيل بإخبارنا أن الله جاء فقط من أجل الإسرائيليين, و إنما يبدو أن الله نفسه إسرائيلي! ,فإبن الله له نسب يهودي - مذكور بصيغتين مختلفتين في إنجيلي متى و لوقا- يعود به إلى الملك الإسرائيلي داود!
و تتجلى التبعية المسيحية للدين اليهودي عمليا في ضم كتابهم التوراة , بما فيها من أساطير و عنصرية و دموية و تعصب , لتصير الجزء الأول من الكتاب المقدس المسيحي, يليها الإنجيل كجزء ثاني..

فإذا التمسنا الأمل في الإسلام و عالميته, بصفته الرسالة الخاتمة للبشرية جمعاء ,كنا كمن يستجير من الرمضاء بالنار:فيكفي أن تذكر اسم أي نبي أو رسول ممن ذكرهم القرآن منذ عهد إبراهيم (الجد الأكبر لبني إسرائيل) و حتى محمد (النبي العربي المذكور في كتب بني إسرائيل)- أي على مدى ما يقرب من خمسة و عشرين قرنا من عمر البشرية- وستجد أن هذا النبي (بالمصادفة البحتة) منتسبا لنفس القبيلة المختارة إياها, و التي "جعل في ذريتها النبوة و الكتاب"..

صحيح أن المسلمين يؤمنون أن هناك أنبياء لم يذكروا في القرآن , و أن لكل أمة نذير, و لكن هل هذا يبرر تركيز الله الغريب في رسالته الأخيرة للبشرية على بني إسرائيل وحدهم, و تجاهله المذهل لسائر العالم, بصورة لا تختلف كثيراعما قامت به التوراة و الأناجيل؟
أين في القرآن الحديث عن المصريين و السومريين و البابليين و الأشوريين والفرس؟ أين اليونانيين والرومان و الهنود و الصينيين و الأفارقة و المايا و الأزتيك و غيرهم من مئات الأمم و الأجناس و الأعراق حول العالم؟ أين الحديث عن رسل و مبعوثين لهم؟ مع ملاحظة أن القرآن لا يخبرنا أن موسى الإسرائيلي مثلا قد حاول هداية المصريين (الوثنيين), و إنما تحددت مهمته فقط في إنقاذ قومه من الأسر, و نفس الأمر ينطبق على عيسى مع الرومان, إذ يتفق القرآن مع الأناجيل في أنه هو أيضا "رسولا إلى بني إسرائيل" وحدهم.. فإذا كان هناك لكل أمة نبي, فلم لم يتحدث القرآن إلا عن أنبياء بني إسرائيل وحدهم؟!

ثم نجد أن القرآن كما يماثل الإنجيل في تركيزه المريب على بني إسرائيل, فهو يماثله أيضا –بل و يفوقه – في وصفهم بأسوأ الصفات, و ينسب إليهم أشنع الأفعال: فهم كافرون جاحدون مفسدون في الأرض, منكرون للمواثيق قاطعون للأرحام, و هم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا, و هم أنكروا نبوة عيسى و محمد و عادوهما بل و حاولوا قتلهما ,وهم قتلة الأنبياء و الرسل بصفة عامة – فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم قتلوه- و هم عصوا موسى و عبدوا العجل و رفضوا القتال معه في سبيل الله, و هم اعتدوا في السبت و قالوا لن نصبر على طعام واحد, وقالوا أرنا الله جهرة, و هم قالوا لمحمد راعنا و قالوا سمعنا و عصينا و قالوا يد الله مغلولة و قالوا إن الله فقير و نحن أغنياء و قالوا عزير ابن الله و قالوا على مريم بهتانا عظيما و قالوا قتلنا المسيح ابن مريم, و هم حرفوا الكتب و أخفوها و جعلوها قراطيس و ألقوا كتاب الله وراء ظهورهم, و حملوا التوراة ثم لم يحملوها بل و كتبوا الكتاب بأيديهم..الخ

مع تلك الأفعال و الصفات الشنيعة التي نسبها إله الإسلام لليهود عبر تاريخهم ( بدرجة ترشح القرآن حتما للتهمة المفضلة في الغرب: معاداة السامية) ألا يحق لنا أن نتجرأ قليلا لنتساءل: لماذا يا رب إذن فضلتهم على العالمين؟!
لماذا يصطفي الله قوما تلك صفاتهم, وكأن الدنيا اقتصرت عليهم؟! ما هو سر تميز اليهود العظيم دينيا أو حضاريا أو علميا أو إنسانيا أو أخلاقيا- إذا ما قارناهم بالحضارات المصرية أو العراقية أو الفارسية أو الصينية أو الهندية على سبيل المثال- حتى يفضلوا علي غيرهم؟ ولماذا عندما كفروا و أشركوا و عصوا و جحدوا لم يهلكهم كما أهلك غيرهم من الأقوام, فيما وصفه بـ"سنة الله التي لن تجد لها تبديلا"؟ صحيح أنه ذات مرة حول البعض منهم قردة و خنازير (عندما اصطادوا أسماكا يوم السبت) لكن السؤال: لماذا لم يفني اليهود عن بكرة أبيهم مهما فعلوا, كما أفنى قوم عاد و ثمود و نوح و غيرهم "و قرونا بين ذلك كثير" , بل و كما هدد بإفناء أهل مكة أنفسهم؟
لقد أهلك و أفنى قوما لأنهم عقروا ناقته, فلم لم يهلك من قتلوا أنبياءه و رسله؟ لقد أهلك أقواما لأنها عبدت الأصنام و الأوثان, فلماذا لم يهلك من عبدوا عجلا صنعوه بأيديهم ؟! وهل عليهم لوم بعد هذا إن ادعوا أنهم "أبناء الله و أحباؤه؟!
و لم يكتف الله بعدم إهلاكهم بذنوبهم, بل إنه قرر لسبب ما أن يضع نبوءة نبي آخر الزمان العربي العالمي في كتبهم هم بالذات (التوراة و الإنجيل)- مع علمه المسبق بتحريفهم للكتب و كتمهم لها!- لتظل آيات القرآن تحثهم مرارا – بالترغيب و الإستعطاف تارة و الترهيب تارة أخرى – على أن يظهروا التوراة (المحرفة؟) و يخرجوها للناس, ويعترفوا بنبوة محمد..

كلها معضلات و أسئلة لن نجد لها إجابات, إلا ردودا سابقة التجهيز من قبيل أن الله فعال لما يريد, و أن هناك كالعادة حكمة ما لا نراها بعقولنا المحدودة, لكننا مع الأسف سنقرر ألا نقنع بتلك "الإجابة", و حتى ننتشل أنفسنا من الغرق في بحور من الحيرة و التساؤلات, لا مفر من أن نحاول مرة أخرى الإستعانة بما قاله المؤرخون و علماء الآثار, لعلنا نقف على سر شعب الله المختار.

فإذا بدأنا بتلخيص التاريخ الديني المفترض أولا- كما تقدمه لنا التوراة و القرآن- فسنجد قصة عائلة-قبيلة مقدسة: بروز النبي إبراهيم في وسط مجتمعات مشركة وثنية, و نزول الوحي عليه بالتوحيد, و صداماته مع أهله و عشيرته و كبار قومه, و هجراته المتعددة و زواجه و إنجابه لإسماعيل و إسحاق, ثم ظهور يعقوب ابن إسحاق (إسرائيل) والأسباط الإثنى عشر (أبناء إسرائيل) على الساحة, و دخولهم إلى مصر, كنتيجة مباشرة للأحداث الدرامية المعروفة لقصة يوسف ابن يعقوب ,و تبوء اليهود مكانة رفيعة هناك, سرعان ما تنقلب لإضطهاد و استعباد لهم لمدة أربعة قرون, تنتهي بمجيء موسى و مواجهته للفرعون و سحرته و نجاحه في إخراج الإسرائيليين من مصر عن طريق شق البحر الأحمر و غرق الفرعون المصري و جنوده, ثم شرك اليهود وعبادتهم العجل الذهبي و رفضهم دخول كنعان أرض الميعاد, و معاقبتهم على هذا العصيان بالتيه لمدة أربعين سنة في صحراء سيناء, و أخيرا دخولهم - بعد وفاة موسى- إلى الأرض المقدسة بقيادة يوشع ابن نون و استقرارهم هناك,ثم تحولهم لأول مرة من مرحلة النبوة (الكهانة) لمرحلة الملك, عندما قرر صمويل النبي ترسيم شاؤول (طالوت القرآني) ملكا على إسرائيل, ثم موت شاؤول و بروز الملك المحارب داود, الذي دخل في معارك و حروب عديدة مع القبائل الأجنبية المحيطة , نجح خلالها في توسيع حدود سلطان بني إسرائيل لتصير مملكة كبيرة عاصمتها القدس, ورثها لإبنه سليمان, الذي يمثل ملكه الأسطوري ذروة مجد و عظمة الدولة الإسرائيلية, و تنتهي الدولة المتحدة بموت سليمان و انقسام مملكته من بعده لمملكتين: يهوذا و إسرائيل, و أخيرا نرى دخول اليهود مرحلة الضعف و الشتات, الذي سيختم حتما بعودتهم إلى القوة و الإتحاد مرة أخرى, في نبوءات ملحمية مرتبطة بعودة المسيح و علامات القيامة و القدس و حروب آخر الزمان..

هذه هي النسخة التوراتية من القصة, والتي وافقها في مجملها المسيحيون و المسلمون, فصارت "الرواية الرسمية" للأديان السماوية, و تدور أحداثهاحسب تقديرات متباينة للمؤرخين التوراتيين في فترات زمنية تقريبية كالآتي: إبراهيم يرجح أنه عاش في وقت ما بين 2100 و 1800 ق.م- دخول يوسف مصر يقدر بين 1800 و 1600ق.م- خروج موسى بين 1500 و 1300ق.م- مملكة داود حوالي العام 1000 ق.م, و موت سليمان و انقسام مملكته حوالي 930 ق.م..

لكن إن نحينا النسخة الدينية الرسمية جانبا, و نظرنا للتاريخ "الحقيقي" من مصادره المتاحة, فسنفاجأ – كالعادة- برواية أخرى مختلفة تماما..

شعب الله الخفي
"الألف سنة الأولى في التاريخ اليهودي- كما يقدمها لنا الكتاب المقدس- ليس لها أي أساس مشهود على الإطلاق "
(السلالة المقدسة- نورمان كانتور)

"الأساطير التي تحيط بالآباء البطاركة (إيراهيم و إسحق و يعقوب و يوسف) هي غير متسقة و غير تاريخية, لدرجة أنه لا يمكن تأكيد أنهم وجدوا أصلا.."
(تاريخ إسرائيل القديمة- مايكل جرانت)

"من المستحيل أن يكون الأسباط الإثنى عشر قد نشأوا في عصر الآباء البطاركة, و لا حتى في العصر المبكر للإستيطان الإسرائيلي في كنعان,أسماء الأسباط كانت في الأصل أسماء لمناطق جغرافية في فلسطين, و لكن في سفر التكوين يتحولون إلى أشخاص, الجدود الأسباط تم منحهم أسماء سائدة لا ترتبط بأي حال مع الحقيقة التاريخية.."
(الدليل المصور للكتاب المصور- ج.ر. بورتر)

"موسى و إسرائيل المستعبدة و قصة الخروج, هي أحداث غير مذكورة في مصادر قديمة خارج الكتاب المقدس,رغم أن المناخ قد حافظ على أقل أثر لمخيمات بدوية و خمسة آلاف قرية متناثرة من عمال المناجم, ليس هناك أثر واحد لموسى أو للإسرائيليين.."
جون رومر (الشهادة)

"رغم الكثير و الكثير من الآثار المصرية المعاصرة, لم نجد بعد مرجعا تاريخيا واحدا يشير لوجود الإسرائيليين, ليس هناك ذكر واحد ليوسف, لا توجد كلمة عن موسى, أو عن الهروب المدهش من مصر, و تدمير الجيش المصري المطارد.."
(آثار أراضي الكتاب المقدس- ماجنوس مجنوسون)

"مملكة إسرائيل غير مذكورة في أي نص معاصر لها إلا التوراة.."
كارين أرمسترونج (تاريخ القدس)

"لم تستخرج الآثار أي شيء في القدس في الزمن المفترض لسليمان, إلا ما يشير لمستوى متواضع نسبيا من المدنية, اما عن الإمبراطوريات المعاصرة, فلا تبدو أنها كانت على علم بوجود مدينة القدس"
(تراث موسى - جراهام فيليبس)

"لم نجد حجرا واحدا من معبد سليمان, ليس لدينا دليلا واحدا على سليمان و مملكته, ليس عندنا مصادر معاصرة تتحدث عن سليمان, و على حد علمي, فهو غير مذكور في أي نصوص خارجية معاصرة.."
(أمين قسم سوريا و فلسطين بالمتحف البريطاني جوناثان تب)

"هذا هو ما تعلمه باحثو الآثار من استكشافاتهم في أرض إسرائيل: لم يكن الإسرائيليون يوما في مصر, و لم يتوهوا في الصحاري, و لم يغزو الأرض بحملة عسكرية, و لم يورثوها للقبائل (الأسباط) الإثنى عشر الإسرائيلية, أما الأصعب تقبله فهو أن مملكة داود و سليمان الموحدة التي وصفتها التوراة الموصوفة بأنها قوة إقليمية, هي في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة.."
(مجلة هآرتز الإسرائيلية –أكتوبر 1999)

"لا شيء حتى الآن نجح في حسم الخلاف, حول ما إذا كان الإغريقيين القدامى قد عرفوا اسم اليهود أصلا"
(الحكمة الغريبة,حدود الهيللينية- أرنالدو موميجليانو)

و من هم اليهود؟! إنهم لم يقوموا بأي شيء ذا أهمية, لم يكونوا أبدا ذوي تأثير أو إنجاز, إذ لا نجد لهم ذكرا فيما كتبه المؤرخون""
(سيلسس – ناقد وثني للمسيحية 170 ب.م)

ليس هناك ذكر واضح لحضارة أو جماعة تسمى اليهود أو الإسرائيليين, قبل القرن العاشر على الأقل, أي بعد ألف سنة من التاريخ المفترض لحياة إبراهيم..

هناك كما هو معروف ما لا يحصى من المصادر و المخطوطات و الآثار في المتاحف و المنشئات على الأرض, تشهد على سيرة الحضارات العظيمة للمصريين و السومريين و الأشوريين و الفرس و اليونانيين والرومان و غيرهم, هناك الأهرامات و المعابد و المسلات, هناك بقايا مبان و منازل و بيوت بها أدوات وأواني و تماثيل ,هناك مقابر بها أجساد محفوظة أو محنطة و أدوات و كنوز, هناك ألواح حجرية و طينية و برديات و كتابات على الجدران و المعابد و المسلات و المقابر, هناك رسائل و هدايا متبادلة مع الحكام الأجانب, باختصار هناك آثار حضارة..

أما مصادر الشرق الأوسط القديم التي تتحدث عن فلسطين التاريخية, فهي تذكر تواجد الكنعانيين العموريين و الأدونيين و الفلسطينيين و العيلاميين و الصيدونيين و المؤابيين و الفينيقيين و غيرهم من السكان التاريخيين للمنطقة ,و لكن لا ذكر لليهود أو بني إسرائيل! كذلك لا يوجد أي ذكر تاريخي لإبراهيم أو إسحاق أو يعقوب أو يوسف أو الأسباط, أو موسى أوهارون, أو داود أو سليمان..

هناك ما يقرب من مليون لوحا طينيا تم إيجادها في أرض العراق وحدها, رغم التدميرات المتكررة و التخريب الذي تعرضت له المنطقة عبر التاريخ, كذلك قصة إخناتون مثلا, وصلت إلينا رغم هدم معبده و سعي الكهنة و الفراعنة من بعده لمحو سيرته محوا..

المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس ق.م, في كتابه "التاريخ" قال و هو يتحدث عن عادة الختان: "الكولخيسيين و المصريين و الأثيوبيين هم الأمم الوحيدة التي مارست الختان منذ القدم, الفينيقيون و سوريو فلسطين أنفسهم يعترفون بأنهم اقتبسوا تلك الممارسة من مصر, ليس هناك أمة أخرى تمارس الختان, و كل هؤلاء بلا ريب يتبعون النهج المصري".. و قال عن أرض فلسطين: "الفينيقيون و سوريو فلسطين كانوا قديما يعيشون في الخليج الفارسي, ثم هاجروا إلى الساحل السوري حيث هم اليوم, هذا الجزء من سوريا, مع الإمتداد شمالا حتى مصر, يعرف باسم فلسطين" ا.هـ.. هيرودوت الذي جاب معظم العالم القديم,و عرف قبائل أفريقيا و روسيا وأقاصي أوروبا, لم يتحدث عن تاريخ أو مجد أو حتى ذكر اسم اليهود أو الإسرائيليين, حتى و هو يتحدث عن الشعوب التي تمارس الختان, و عن الشعوب التي سكنت فلسطين!!

ما نجده هو بعض المصادر المصرية و الأسيوية ,التي تتحدث بشكل مبهم مختصر عمن يسمون بـ"العابيرو" أو "الخابيرو" , التي يفسرها بعض علماء الآثار بأنها تشير للعبرانيين, لكن الكلمة هي كلمة عامة تطلق على "البدو الرحل" (العابيرو أي العابرون), و يرى آخرون بأن المقصود بالكلمة هم العبيد, و الأرجح أن العابرين المقصودين هم جماعات بدوية غازية, عاشت على السلب و النهب قديما, و تواجدت في مناطق الهلال الخصيب و فارس, و على حدود مصر و كنعان, لكن كما أشرنا فالكلمة مبهمة تعني "البدو" فحسب, و لا تشير لجماعة محددة ذات كيان أو عرق أو دين بعينه..

هناك أيضا شاهد حجري يعود للفرعون المصري مرنبتاح (حوالي عام 1200 ق.م), يذكر فيه اسم القبائل التي دمرها في إحدى حملاته العسكرية في أرض كنعان, من هؤلاء القبائل اسم يرى بعض الباحثون أنه يشبه نطقنا لكلمة إسرائيل..

فهل الإسرائيليون العبرانيون هم "العابرين" , أو ينتسبون لهم بشكل ما؟ و هل كانت هناك قبيلة أو أرض تسمى إسرائيل أيام مرنبتاح؟ هذا محتمل, و إن لم يتمكن المؤرخون و علماء الآثار من الإتفاق حول تلك المسألة..

أما أول ذكر تاريخي واضح لمملكة حقيقية تسمى إسرائيل, فلن نراه قبل القرن التاسع ق.م, و لم تكن في القدس و إنما في الشمال في السامرة, و نعني مملكة إسرائيل المذكورة في التوراة على أنها جاءت بعد انقسام مملكة سليمان المفترضة إلى مملكتين (حيث الأخرى هي مملكة يهوذا في الجنوب, و هي التي كانت عاصمتها القدس), و هذا بالمناسبة هو بداية العصر الذي نجد فيه شيئا ما من التوافق, بين التوراة و التاريخ ,و هو ما لا ينطبق على الألف سنة السابقة!

مملكة إسرائيل التاريخية


"الملحمة التاريخية في الكتاب المقدس, بداية من مواجهة إبراهيم للرب, ثم رحلته لأرض كنعان, مرورا بتخليص موسى للإسرائيليين من الأسر, و حتى نهوض و سقوط مملكتي إسرائيل و يهوذا, لم يكن وحيا معجزا, و إنما منتج من منتجات الخيال البشري.."

"...تحليل من منظور علم الآثار لمراحل الآباء و الحروب و القضاة و المملكة الموحدة, و التي لا يوجد أدلة أثرية قوية على أي منها, بل إن هناك أدلة على أحداث أخرى تحل محل تلك الأحداث في محيط القرن السابع"

"...إعادة بناء لتواريخ مملكتي إسرائيل و يهوذا, مركزا على المتجاهل من الأسرة العمرية, و مبينا كيف أن الغزو الأشوري للمنطقة,أطلق سلسلة من الأحداث التي أدت في النهاية لان تصبح المملكة الأفقر و الأبعد و الأكثر محافظة دينيا – يهوذا- المركز الثقافي و القومي لآمال الإسرائيليين"

Bible unearthed(من مقدمة كتاب "استخراج آثارالكتاب المقدس
واحد من أكثر الكتب العالمية مبيعا, لإسرائيل فنكلستين, أستاذ الآثار بجامعة تل أبيب
و نيل أشر سيلبرمان,عالم آثار و مؤرخ..)

"في مو قعين أثريين, تم إيجاد نقوش عبرية تذكر "يهوه و أشيرا" (الإله و زوجته) ,تلك النقوش التي تعود للقرن الثامن ق.م, تطرح احتمالية أن التوحيد, كدين رسمي للدولة, هو في الواقع ابتكار يعود لزمن مملكة يهوذا, بعد تدمير مملكة إسرائيل.."
(زائبف هرزوج – أستاذ الآثار و دراسات الشرق الأدنى بجامعة تل أبيب)

في القرن الثاني عشر ق.م, تعرضت منطقة الشرق الأوسط بأكملها لموجات متتالية من الغارات , قامت بها جماعات غامضة أشبه بالقراصنة, تسمى اليوم "شعوب البحر", قاموا بغزو عدة مدن مهمة في آسيا, و أسقطوا الإمبراطورية الحيثية -المنافسة لمصر- و نهبوا عاصمتها, و لاحقا شنوا هجوما كبيرا على مصر, إلا أن رمسيس الثالث نجح في صدهم, و ألحق بهم عدة هزائم متوالية, إلى أن انتهى خطرهم..

و رغم نجاح مصر في وقف المد, و حفاظها على استقلالها, إلا أن تلك المرحلة كانت بداية تراجع القوة المصرية الإقليمية, بل و حدث انهيار متزامن للقوى الأخرى في المنطقة أيضا, تحت وطأة غزوات شعوب البحر, بالإضافة لعوامل أخرى, فدخل الشرق الأوسط بالكامل في ما يسمى بـ"انهيار العصر البرونزي", منذ منتصف القرن الثاني عشر ق.م, و بدأ عصر ظلام وضعف عام , لم ينته إلا لاحقا بنهوض الإمبراطورية الأشورية الجديدة في أواخر القرن العاشر ق.م لتملأ الفراغ, و تبدأ عهد جديد من الإمبراطوريات التي ستليها..

في تلك الفترة من الإنحطاط الإقليمي العام بين 1200 و 900 ق.م, خلت كنعان (فلسطين) – منطقة النزاعات الدائمة بين الإمبراطوريات, لأول مرة من قوة مهيمنة , و لم تعد تحت السيطرة المعتادة لمصر, فظهرت فيها عدة مدن مستقلة و إقطاعيات متناثرة و ممالك صغيرة, تشكلت كخليط من عدة أجناس ولغات و أديان, و من وفود القبائل الأجنبية الوافدة من أنحاء آسيا و أفريقيا, بالإضافة لبقايا أتباع القوى القديمة, ذات الولاءات المتباينة, فكان بعض المدن و الممالك مواليا لمصرأو آشور أو فارس أو غيرهم, بينما ظلت مدن أخرى تسعى جاهدة للحفاظ على حيادها و استقلاليتها..

و كما هي العادة, فإن كثرة القوميات المتنافسة يكون مصاحبا لكثرة الآلهة المتنافسة, فكانت أرض كنعان أشبه بفسيفساء دينية: إذ انتشرت عبادات آلهة ذات أصول مصرية و فارسية و بابلية و أشورية و سورية, بالإضافة لعشرات الآلهة القبلية الأبوية المحلية, من مناطق مختلفة في آسيا و أفريقيا مثل بعل و إيل و أدون و أنات و تموز و عشتار و شاماش (إله شمس) و سين (إله قمر) و نبو و نرجال و كاموش و مولك (إله النار) بالإضافة لآخرين, وانتشرت مع تلك الديانات الكثير من العبادات و الطقوس و الأساطير المحلية المختلفة..

و مع اتحاد بعض المدن و المقاطعات الكنعانية, نشأت مملكتان مزدهرتان نسبيا: الأولى في شمال المنطقة ,إسرائيل, و عاصمتها مدينة السامرة, و الثانية في الجنوب,يهوذا, و عاصمتها القدس, و كان بين المملكتين معارك و حروب دائمة, انعكست كمنافسة دينية بين إلهين قبليين, هما بعل و مركز عبادته في الشمال, و يهوه و مركز عبادته في الجنوب- مع تواجد بعض أتباع كل إله في أرض الأخرى- و استمرت الصراعات دون أن يحسم النصر لصالح أي من الفريقين, رغم التفوق النسبي الحضاري للمملكة الشمالية – خاصة في عصر الملكين القويين عمري و ابنه أهاب- مقابل التفوق الديني و الأدبي للجنوب, متمثلا في الطبقة المثقفة المتعلمة الموجهة للفكر في ذلك الزمن, و هم الكهنة..

و تزلزلت المنطقة كلها في القرن العاشر مع المد الأشوري الناهض, قادما من شمال العراق, و مكتسحا في طريقه المدن الأسيوية تباعا, و بينما أعلنت بعض الممالك تبعيتها و خضوعها له, حاولت مدن أخرى التمرد, و من هؤلاء كانت مملكة إسرائيل, فقام الملك الأشوري شلمنصر بحصارها لمدة ثلاث سنوات, ثم نجح خليفته سرجون الثاني في غزو عاصمتها السامرة و إنهاء إستقلالها حوالي عام 722 ق.م..
و لاحقا كاد أن يتكرر الأمر مع مملكة يهوذا, حيث تمرد ملكها حزقيا على أشور– بدعم من مصر و بابل- فقام الملك الأشوري حينها سنخاريب
بحصار القدس لفترة , و لم يتركها إلا بعد أن تراجع حزقيا عن تمرده, و أعلن خضوعه مجددا للأشوريين, و دفع لسنخاريب جزية ضخمة من ذهب و فضة و جوهرات, أرهقت ميزانية المملكة, لكن في المقابل احتفظت يهوذا بشيء من استقلالها,الذي ستنعم به لمدة مائة و خمسين سنة قادمة ,حتى قدوم البابليين..

فبعد أن انهارت أشور على يد القوة البابلية الصاعدة أواخر القرن السابع ق.م, استغلت مملكة يهوذا الأمر لتمد سلطانها شمالا, في سعي توسعي محدود انتهى إلى مقتل حزقيا, في مواجهة مع الفرعون المصري نخاو, و لاحقا انطلق نبوخذ نصرالبابلي ليغزو المنطقة كلها, و دخل القدس مرة 597 ق.م, ثم -بعد محاولة للتمرد-عاد و دمرها تماما عام 587, و هدم المعبد اليهودي, ثم – ليتحاشى أي تمرد آخر- قام بإجراء حاسم و إن لم يكن بدعة في عصره, إذ أمر بترحيل الكثير من سكان القدس إلى عاصمته بابل, حيث قام بتسكينهم هناك, فيما تسميه التوراة "السبي البابلي", و الذي سينتهي بعد سقوط بابل نفسها 538 ق.م على يد القوة الثالثة الناهضة, الإمبراطورية الفارسية الأخمينية..

فلما جاء قورش الكبير, سمح لليهود أخيرا بالرجوع للقدس مرة أخرى ,بعد خمسين سنة من الغربة في بابل, فعاد بعضهم ,تحت قيادة النبي-الكاهن عزرا, و استقروا في مدينتهم واعادوا بناء المعبد الذي كان قد هدمه نبوخذ نصر, و أقاموا حكما ذاتيا نصف مستقل - حيث كان تابعا للفرس بطبيعة الحال- سيستمر حتى عصر الإغريق و الرومان..

تلك الفترة التاريخية هي التي أفرزت ما يسمى بالجماعة اليهودية, و أحداثها هي التي وجهت معتقداتهم في اتجاهات بعينها, بحيث ستشكل جسرا بين الأديان الوثنية القديمة من جهة ,و بين ما نؤمن نحن به اليوم - الأديان الإبراهيمية- من جهة أخرى..

بني إسرائيل - اختراع أمة


"حوالي العام 1000 ق.م , لم يكن هناك أي شيء مميز فيما يخص اليهود, عرقيا أو لغويا, أو سياسيا أو اقتصاديا"
(السلالة المقدسة- نورمان كانتور)

"اليهود كأمة منفيين معزولة, جابوا البحار و القارات, حتى بلغوا أقاصي الأرض, و في النهاية عادوا جميعا لوطنهم المهجور, ليست إلا أسطورة قومية"
(اختراع الأمة اليهودية - البروفيسور شلومو ساند ,جامعة تل أبيب)

"كتاب التوراة يسقطون على الماضي الصراعات السياسية التي كانت تجري في زمانهم هم (القرن السادس ق.م), بهدف تفسير تلك الصراعات, و ربما لإعطاء تبرير لنزاعات محلية حدودية"
(آثار أراضي الكتاب المقدس- ماجنوس مجنوسون)

"و فاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر- وكان أحكم من جميع الناس- وكان صيته في جميع الأمم حواليه"
(التوراة - من سفر الملوك الأول)

"ولأجل المحراب عشرون ذراعا طولا وعشرون ذراعا عرضا وعشرون ذراعا سمكا – و غشاه بذهب خالص – و غشى سليمان البيت من داخل بذهب خالص - وسد بسلاسل ذهب قدام المحراب - وغشاه بذهب - وجميع البيت غشاه بذهب الى تمام كل البيت وكل المذبح الذي للمحراب غشاه بذهب - وغشى الكروبين بذهب - وغشى أرض البيت بذهب من داخل ومن خارج - رسم عليهما نقش كروبيم ونخيل وبراعم زهور وغشاهما بذهب ورصع الكروبيم والنخيل بذهب""
(التوراة - من سفر الملوك الأول, وصف لمعبد سليمان)

"فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال- وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها- لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر ابقوهن لكم حيات"

"فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر- وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم- آوي وراقم وصور وحور ورابع- خمسة ملوك مديان- وبلعام بن
بعور قتلوه بالسيف- وسبى بنو إسرائيل نساء مديان واطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل املاكهم- وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار- وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم"
التوراة - من سفر العدد))
الرب رجل الحرب- الرب هو اسمه""
التوراة - من سفر الخروج))

"ولكن هكذا تفعلون بهم تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار- لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك- إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الارض- ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب, التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب- بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي اقسم لآبائكم"
التوراة - من سفر التثنية))

"وقال موسى هكذا يقول الرب: إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر- فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه الى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة- ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله ايضا- ولكن جميع بني إسرائيل لا ينبح كلب عليهم لا على الناس ولا على البهائم- لكي تعلموا أن الرب يميز بين مصر وإسرائيل"
التوراة - من سفر الخروج))
"لأن الرب أحب إسرائيل الى الأبد"
(التوراة - من سفر الملوك الأول)

لم يكن الإسرائيليين أبدا في يوم من الأيام - فيما ذكرناه من تاريخهم أوفيما سيلحق - جماعة عرقية منفصلة..

فالرؤية التاريخية الأوثق اليوم بين الأكاديميين و علماء الآثار, و منهم إسرائيليين كما رأينا, تقول بأن من يسمون ببني إسرائيل, ليسوا إلا جماعة كنعانية, ضمن جماعات عديدة عاشت في فلسطين القديمة التي كانت منطقة هجرات و تواجد لأخلاط متنوعة من شعوب عديدة من الشرق و الغرب, و لم يثبت تاريخيا وجود جماعة "أصيلة"أو "نقية الدماء", لم تختلط بالغير, في منطقة فسيفسائية كفلسطين – و لا يتصور هذا في أي منطقة أخرى على أية حال- بل و لم يثبت وجود جماعة إسرائيلية متميزة سياسيا, قبل عصر مملكتي إسرائيل و يهوذا..

قالقوم –وكما تبين حتى القراءة المتأنية للتوراة ذاتها- هم خليط من قبائل مختلفة متعددة المنشأ, جاءوا من أماكن مختلفة و دخلوا معا في أحلاف و اتحادات بدائية, ثم تمايزوا كجماعة بصورة تدريجية, و تشكلت هويتهم المستقلة على عدة مراحل, و عبر مئات السنين, نتيجة ظروف سياسية و اجتماعية متراكمة, و بتوجيه متعمد من ملوكهم و كهنتهم, و ليس لوجود أي عامل جماعي أصيل مشترك بينها – عرقيا أو دينيا أو لغويا- بل إن عوامل الوحدة تلك قد تم اختراعها اختراعا, بهدف خلق هوية مشتركة, تخدم الوحدة التاريخية الدينية - و بالتالي الإجتماعية السياسية- المطلوبة..

أما أسطورة الشعب الإسرائيلي المتميز, بأسباطه الإثنى عشر, و الذي ينحدر من جدود كبار مشتركين (إبراهيم و إسحق و يعقوب) فهي في ميزان التاريخ خرافة وأكذوبة فجة, رغم تواطؤ الأديان الثلاثة عليها, و حتى فكرة "السامية" فيتعامل معها الباحثون المعاصرون على أنها تشير لفرع من اللغات القديمة, و ليست لها مدلول عرقي محدد, أي أن الساميون هم المتحدثون باللغات السامية, و هم طائفة واسعة جدا من الأقوام القديمة , كالأكاديين و الأشوريين والأراميين و الكنعانيين العموريين و المؤابيين و الفينيقيين و العرب الأنباط و الغساسنة و غيرهم - فهؤلاء جميعا يعتبرون من الساميين..

فإذا انتقلنا للأفكار الدينية اليهودية, فسنجد من الصعوبة الإحاطة بظروف نشأة كل منها بدقة, أو تحديد ظهوره في لحظة بعينها, إذ جاءت كما قدمنا عبر تراكم تدريجي و التقاء ثقافات و أديان عديدة, وأفضل ما يمكننا عمله هو رصد المنعطفات التاريخية و الأحداث المحورية البارزة, ثم محاولة ربطها معا, لرسم صورة أكثر وضوحا, بتلك الطريقة يمكننا تقسيم عملية تشكيل الديانة اليهودية إلى ثلاثة مراحل..

المرحلة الأولى تقع في الفترة بين تدمير المملكتين, إسرائيل و يهوذا, و استمرت لمائة و خمسين عاما, فبعد انهيار إسرائيل تحت الموجة الأشورية, ثم إنقاذ يهوذا بفضل سياسة ملكها حزقيا, تم تصوير الأمر من قبل كهنة يهوه بأن ما حدث هو نصر مؤزر ليهوذا, جاء بفضل قوة إلهها يهوه و عظمته و رعايته لأتباعه, مقابل بعل المنافس المهزوم في الشمال, ونجد في التوراة – التي كتبت لاحقا- رؤيتها الخاصة لقصة حصار القدس, فبدلا من تراجع حزقيا عن تمرده و دفعه الجزية لسنخاريب, تخبرنا التوراة أن الرب يهوه أرسل ملاكه جبريل, الذي دمر الجيش الأشوري, و أهلك حوالي مائتي ألفا من الجنود الأشوريين في لحظات معدودة (مما يذكرنا بقصة مكة و أصحاب الفيل)..

و النتيجة الأخرى لسقوط الشمال, كان انتقال الكثير من أهلها في هجرات متتابعة جنوبا نحو يهوذا, التي فوجئت بمزيد من التيارات و الأديان و التقاليد الأجنبية الوافدة, (علما بأن سكان إسرائيل كانوا أضعاف تعداد سكان يهوذا) مما أقلق البعض من الخطر الثقافي الجديد, و الأدهى أن بعض تلك التيارات الوافدة كانت تؤمن بالبعل, و ترفض تمجيد يهوه أو اعتباره الأعظم بين الآلهة, مما شكل تهديدا مباشرا لنفوذ الكهنة اليهويين, فبرز اتجاه يدعو لإنقاذ وحدة يهوذا و هويتها القومية- الدينية, متمثلة في إلهها المحلي, و نشط الكهنة في تأكيد و تحديد تلك الهوية المهددة , عن طريق تصعيد و تعميم عبادة يهوه..

و في عهد الملك اليهوذي يوشيا, أواخرالقرن السابع ق.م, نرى تكرارا مدهشا لقصة حجر شاباكا (قريبة العهد), فأثناء عملية لإصلاح و تجديد معبد القدس 620 ق.م, تم العثور "بالصدفة"على نص ادعوا أنه قديم يعود لمئات السنين, و نسبوه لكاهن-نبي و جد مقدس و زعيم قومي لبني إسرائيل هو موسى, و النص يتحدث عن عهد أبرمه الرب يهوه مع أمته الإسرائيلية,على أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا, ويعلن بوضوح صارم –لأول مرة- وحدانية يهوه, و زيف الآلهة الأخرى, و يجرم التعددية و عبادة الأصنام و الطقوس الوثنية كالسحر و القرابين البشرية (التي كانت تمارس على نطاق واسع) بصورة نهائية و قاطعة , و يحتوي النص كذلك على قوانين و تشريعات إلهية و عقوبات جنائية على أي من الممارسات الوثنية المذكورة, أوحى بها يهوه شخصيا لنبيه..

هذا النص المهم هو سفر التثنية -الذي يترجم أيضا بتثنية الإشتراع- و هو السفر الخامس من أسفار التوراة الحالية..

و برعاية يوشيا, و فيما سمي بـ"الإصلاح الديني", تم تطبيق الوحدانية اليهوية الصارمة على مملكة يهوذا, عن طريق تجريم قانوني للعبادات الأجنبية – و في مقدمتها عبادة البعل- المنتشرة في جنوب فلسطين..

و نقرأ في التوراة قصة – ربما صيغت لاحقا- عن ذلك العهد,هي قصة النبي الصالح إيليا (إلياس القرآني), و دعوته لعبادة يهوه وهجر عبادة البعل في مملكة إسرائيل الشمالية قبل سقوطها, ثم هروبه منها و عودته لاحقا و مواجهته للملك أهاب, الذي استدعى أربعمائة من أنبياء-كهنة البعل ليتحدوا إلياس, فيضع كل من الفريقين قربانا ضخما, و يدعو إلهه أن يبعث نارا تأكل القربان -علامة على تقبله- وتنتهي القصة التوراتية كما هو متوقع بفوز إلياس -برعاية إلهه الرسمي يهوه- ثم توعده لأهاب وتنبؤه بسقوط مملكته, و هو ما حدث بالفعل كما نعرف..

وسيرة إلياس تبدو إحياءا مطلوبا في وقته لسيرة موسى, نفس الإضطهاد و الهرب ثم مواجهة الملك و كهنته-سحرته ثم انتصاره, و حسب التوراة فقد كان لإلياس أيضا قدرات خارقة لا تقل عن موسى, فكان يحيي الموتى, و يأتي بالنيران من السماء, بل و يكلمه الله شخصيا, و في نهاية حياته ارتفع للسماء طائرا على عربة مجنحة, محاطا بالنيران و الدخان ,و هي أمور بالطبع لم يتمكن أنبياء البعل المساكين من منافستها, و لم يكتف إلياس بهزيمة هؤلاء الكهنة , بل قام لاحقا بالإشراف على ذبح المئات منهم, انتصارا لإلهه يهوه..

لكن رغم "الإصلاح" الذي قام به الملك يوشيا, و حسب الآثار التي تم إيجادها لتلك الفترة, فإن الوثنية لم تختف تماما من المنطقة, فهناك دائما الكثير من الأصنام و التماثيل لآلهة أخرى إلى جانب يهوه, بالإضافة لاستمرار الممارسات والطقوس الوثنية و عدم انقطاعها, و لعل ذلك يرجع لوقوع المملكة تحت النفوذ المصري لفترة قصيرة, قبيل الغزو البابلي..

المرحلة الثانية من تبلور الديانة اليهودية تأتي في فترة "السبي", و استمرت خمسين عاما, بدأت بعد انهيار مملكة يهوذا و سقوط القدس على يد نبوخذ نصر, ثم ترحيله لسكانها و تسكينه لهم في بابل, فهزيمة اليهود الساحقة على يد حضارة أجنبية قوية, ثم انتقالهم المفاجيء من مدينتهم المتواضعة إلى عاصمة إمبراطورية عريقة و مدينة من أعظم مدن العالم القديم, كان له أكبر الأثر على العقلية و النفسية الإسرائيلية, و بالتالي على تشكيل الديانة اليهودية..

فالكهنة استغلوا الموقف كالعادة لصالحهم, إذ نجحوا في إقناع العامة بأن الهزيمة إنما جاءت كعقاب إلهي من يهوه, الذي غضب على يهوذا لتفشي الفساد فيها, و عدم تطهيرها بالكامل من بقايا الوثنية, و بالتالي تخلى عنها و تركها تسقط أسيرة للبابليين, و ساهمت تلك الدعاية في تزايد نفوذ الكهنة و تبعية الشعب لهم, و كذلك في تكريس مزيدا من التوحيد الديني الصارم و الرفض القاطع لآلهة الأمم الأجنبية الأخرى, تجنبا لغضبة يهوه إله إسرائيل الغيور, و كما رأينا دائما, فالتأكيد على توحيد الإله المحلي, ليس إلا الوجه الديني للتأكيد على الوحدة القومية المستقلة – لبني إسرائيل في حالتنا هذه- تلك القومية التي تضاعفت الآن الحاجة لتأكيدها و الحفاظ عليها من الضياع و الذوبان مواجهة مدنية بابل الباهرة..

و المشاعر التي تولدت من تلك الصدمة الحضارية للإسرائيليين عامة هي مشاعر نفسية متباينة, تنوعت ما بين الإنبهار الشديد بالمعمار و الفن و التقدم البابلي, و الحقد و الغيرة و الشعور بالضآلة و الفقر الحضاري أمام تلك المدنية المتفوقة, فواجه اليهود تلك المشاعر برد فعل دفاعي عكسي, تجلى في اصطناع نظرة احتقار عامة للحضارة و المدنية الدنيوية الأجنبية,و اعتبارها رجس من عمل الشيطان, في مقابل إعلاء شأن مجدهم الخاص الوحيد المتاح, أي المجد الديني , الذي يتجسد في التوحيد الصافي لإلههم المحلي , فعبادة يهوه وحده دون شريك, و طاعة تعاليم كهنته و الإمتثال لهم و إقامة الطقوس بانتظام- مع تجنب الديانات و الآلهة و التقاليد الأجنبية الغاوية- هي الميزة العظمى لبني إسرائيل, و هو فخر و مجد يفوق كل مجد آخر عجزوا عن تحقيقه..

و مع انبهار مزيد من الإسرائيليين بالحضارة و المدنية البابلية, و تزايد انخراطهم في المجتمع البابلي, و بالتالي تفلتهم تدريجيا من سيطرة الكهنة الدينية, و انجذابهم إلى التقاليد و العادات و نمط الحياة البابلي, لم يكن أمام كهنة يهوه للخروج من المأزق سوى مزيد من التطرف في ادعاءاتهم, تمثلت في مزيد من تمجيد يهوه و إعلاء شأنه, و بالتالي تمجيد الهوية الإسرائيلية مع التخويف الشديد من الأجانب و ثقافتهم و آلهتهم, لإغراء الناس بالإلتزام بأصولهم , و منعهم من الإنجراف في حضارة بابل الملعونة, فصار الشعب اليهودي هو خير الشعوب, لا لسبب معين أو ميزة واضحة امتازوا بها ,و لكن فقط لأن إلههم المحلي هو خير الآلهة و أقواها (رغم عدم كونه الإله الوحيد تماما كما قدمنا), و لا يخفي أن تمجيد الشعب و رفعه فوق الشعوب الأخرى- بل واحتقار تلك الشعوب الاجنبية (الأغيار كما تطلق عليهم التوراة) - هو أنجع وسيلة للحفاظ على الهوية من الذوبان..

و تكفي الإشارة لنص توراتي واحد للدلالة على مدى ما وصلوا إليه من بغض بابل, فنقرأ في المزامير في حديث موجه للمدينة– وسط سيل من اللعنات و الدعوات و النبوءات المشئومة- :"طوبى لمن يمسك أطفالك و يضرب بهم الصخور"!

فحال اليهود مع بابل كان كحال شخص ولد و عاش في قرية بسيطة في الريف المصري مثلا, ثم فجأة وجد نفسه في مدينة نيويورك! ذات الإنبهار و الإعجاب و الإحساس بعقدة النقص, المغلف بالرفض والاحتقار و اللعن, و نفس التأثر لدرجة النقل و الإقتباس,مغلفا بمحاولات جاهدة لإظهار التميز و التأكيد على الهوية الذاتية المستقلة , فرغم الرفض المتعصب لبابل و حضارتها ظاهريا, تأثر اليهود كثيرا باقترابهم من التراث البابلي العريق الديني و الأدبي, و سنرى بصمات ذلك التأثر في ثنايا التوراة..

فإن قلنا أن المرحلة الأولى من تشكيل اليهودية كانت أكثر تركيزا على التوحيد الديني, لاختراع هوية قومية, و تصعيد نفوذ كهنة يهوه, فإن المرحلة الثانية استهدفت الحفاظ على تلك الهوية, عن طريق مزيد من تأكيد تفوق يهوه ووحدانيته, مقترنا بتفوق أبناؤه و أحباؤه على العالمين, إن هم التزموا بعبادة إلههم و طاعته ,مما سيكرس مزيدا من سيطرة الكهنة, و يساعد على اكتمال الدائرة الدينية السياسية المألوفة..

أما المرحلة الثالثة, فبدأت بعد عودة الإسرائيليين إلى القدس على يد قورش 538 ق.م, و فيها تم تأكيد الأفكار السابقة, كرعاية يهوه العظيم لشعبه المختار إذ كافأهم و نجاهم من الأسر و السبي, و اعادهم سالمين إلى مدينة الرب, بعد أن خلصهم من أعدائهم و أسقط مدينة الشر بابل (الذين كان لليهود دور مباشر في سقوطها بتحالفهم التآمري مع الفرس)..

و لتلافي الصراعات بين العائدين من بابل و سكان القدس المقيمين, تكفل الكهنة بالجمع و التأليف بين الأساطير و المعتقدات المحلية المختلفة, و لكن تحت إله واحد و قومية إسرائيلية موحدة, و في تلك الفترة أيضا - التي امتدت حتى زمن المسيحية- تم تدوين الكثير من تلك الأفكار, أو إعادة جمع ما دون منها قديما أو حديثا على مر التاريخ, في شكل كتابات دينية منسقة بإشراف الكهنة,و هذا هو الزمن الفعلي لأول كتاب يهودي موحد و مقدس: التوراة, بعد موسى المزعوم بألف سنة!

اليهودية - اختراع دين


"أنا هو الرب الهك الذي اخرجك من ارض مصر من بيت العبودية.."
لا يكن لك الهة اخرى امامي..
لا تصنع لك تمثالا منحوتا صورة ما مما في السماء من فوق, وما في الارض من اسفل, وما في الماء من تحت الارض..
لا تسجد لهن ولا تعبدهن, لأني أنا الرب إلهك إله غيور, أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني..
التوراة - من الوصايا العشر في سفر التثنية) )

"واذهب الى الكهنة اللاويين والى القاضي الذي يكون في تلك الايام واسال فيخبروك بامر القضاء- فتعمل حسب الامر الذي يخبرونك به من ذلك المكان الذي يختاره الرب وتحرص ان تعمل حسب كل ما يعلمونك- حسب الشريعة التي يعلمونك والقضاء الذي يقولونه لك تعمل- لا تحد عن الامر الذي يخبرونك به يمينا او شمالا- والرجل الذي يعمل بطغيان فلا يسمع للكاهن الواقف هناك ليخدم الرب إلهك او للقاضي, يقتل ذلك الرجل فتنزع الشر من إسرائيل"
التوراة - من سفر التثنية))

وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة""
التوراة - من سفر الخروج))

"قصة ولادة موسى, هي بوضوح خرافة شعبية, إذ تكاد تتطابق كلمة بكلمة مع أسطورة سرجون الأكادي الذي أنشأ الأسرة الأكادية قبل ألف عام,إن التماثل مدهش!"

"قيل أنها في مكان ما على ضفاف نهر الفرات, كانت جنة دلمون في نظر البابليين هي مكان خلق الإنسان.. و عوامل التشابه بين ملحمة دلمون و قصة حنة عدن في سفر التكوين هي أكثر من أن يتم تجاهله"

(تراث موسى- جراهام فيليبس)

هناك نسخ عديدة من قصة الطوفان السومري, وجدت على مر السنين, جميعها أقدم زمنيا من التوراة.. من الواضح أن قصة الطوفان في الكتاب المقدس
هي أسطورة- أسطورة ملفقة و مشوهة أيضا"
(آثار أراضي الكتاب المقدس- ماجنوس مجنوسون)

"وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا- ووضع هناك آدم الذي جبله- وأنبت الرب الإله من الارض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل-وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر- وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة - ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس- اسم الواحد فيشون- وهو المحيط بجميع ارض الحويلة حيث الذهب- وذهب تلك الارض جيد- هناك المقل وحجر الجزع- واسم النهر الثاني جيحون - وهو المحيط بجميع ارض كوش- واسم النهر الثالث حداقل- وهو الجاري شرقي اشور- والنهر الرابع الفرات"
التوراة - من سفر التكوين))

"من الملامح الغريبة في سفر التكوين هو غياب أي إشارة للأحداث الجارية في الشرق الأدني في الألفية الثانية ق.م"
(دراسة عن الكتاب المقدس- صمويل هنري هوك)
إذا فقأ رجلا عين آخر, فتفقأ عينه – إذا كسر رجل سن آخر, تكسر سنه""
القانونان 196 و 200 من قوانين حمورابي – متحف اللوفر))

لم تات اليهودية بفكرة جديدة واحدة, لم تكن موجودة في محيطا و زمانها..

فإذا نظرنا إلى التوراة في إطارها التاريخي, فسنجد إنها ليست سوى جمع انتقائي لبعض الأفكار السائدة في ذلك العصر و في تلك المنطقة, تطبعت بالظروف التي ذكرناها, و ما نتج عنها من آثار سياسية و اجتماعية و نفسية على الجماعة التي دونت تلك الأفكار, فالتوراة ليست أكثر من تأريخ -سيرة ذاتية, لتلك الجماعة ..

إن رواية الخلق و الجنة و شجرة الخلد, هي أفكار مقتبسة من أساطير بين النهرين, إذ نجد أن ملحمة الخلق السومرية البابلية التي ذكرناها تتحدث عن حديقة "دلمون" مهد البشرية, حيث خلقت الآلهة أول ذكر و أول أنثى من طين, كذلك نقلت التوراة عن ملحمة جلجلميش التي جاء فيها الإشارة إلى شجرة الخلود, و فيها أقدم ذكر تاريخي (2750 ق.م) للطوفان الكبيرالذي غمر الأرض, عندما غضبت الآلهة على الناس و قررت تدميرهم, لولا أن أحد تلك الآلهة (إنكي) كان محبا للبشر و قرر مساعدتهم, فاختار أحدهم (يوتنابيشتام – أو أتراخسيس في أساطير لاحقة), و أمره أن يصنع فلكا كبيرا, و يأخذ معه من جميع الكائنات, مما سمح للحياة أن تبدأ بداية جديدة بعد الطوفان..

كذلك المنافسة بين قابيل و هابيل, تذكرنا بأسطورة عراقية تحكي عن صراع الفلاح و الراعي و حكم الآلهة بينهما , وفي التوراة نجد أن قابيل قدم قرابينا إلى يهوه عبارة عن ثمارا و خضرا من زرعه, بينما قدم هابيل الراعي لحوما مذبوحة من حيواناته, و بالطبع تقبل يهوه – المحب لرائحة الشواء كما تنبئنا التوراة- قربان هابيل و رفض قرابين هابيل النباتية.. والقصة تبدو إعلانا رمزيا لإنتصار الرعاة –الذين كان اليهود منهم- على الفلاحين, مع ملاحظة أن النسخة الأصلية في بلاد بين النهرين (و هي حضارة زراعية كما هو معلوم) نجد فيها أن الآلهة تنصر الفلاح و تعلى قدره فوق الراعي, وهكذا فيبدو أن كل إله منحاز لمهنة قومه!

و يوجد في الأدب السومري البابلي قصيدة قديمة (2000 ق.م) تتحدث عن قصة رجل مريض ابتلته الآلهة, في تشابه شديد مع قصة أيوب المعروفة ,لدرجة أن البعض يطلق عليها "أيوب السومري"..

و نقرأ ضمن الأساطير العراقية قصة عن سرجون الأكادي, موحد بلاد ما بين النهرين و منشئ الأسرة الأكادية, فتحكي القصة أنه عندما ولد خافت أمه عليه من القتل, فوضعته في سلة و تركت النهر يحمله, إلى أن وصل إلى قصر أحد الملوك, حيث نشأ و كبر لينازع الملك في ملكه و ينتصر عليه ,و الأسطورة تحمل من التشابه مع قصة موسى – و الذي يسبقه سرجون زمنيا بحوالي ألف سنة - ما يستبعد أن يكون محض صدفة..

أما قصة تلقى موسى الوصايا العشر, فتشبه طريقة تلقي حمورابي لقوانينه المقدسة ,حيث قيل أن الإله (مردوك أو شاماش) كتب تلك القوانين بنفسه على لوح حجري, و هو نفس ما قيل عن الوصايا العشر- أن الله شخصيا كتبها بإصبعه- إذ كان لابد لطريقة نزول أحكام اليهود ألا تقل عظمة و قدسية عن أحكام حمورابي في بين النهرين , مع ملاحظة أن حمورابي -الذي سبق موسى بخمسمائة سنة, هو, وعلى عكس النبي الإسرائيلي- شخص حقيقي مثبت تاريخيا, و لوح قوانينه – على عكس الوصايا العشر- مثبت و موجود اليوم في متحف اللوفر: 3654 سطر من الأحكام و التشريعات القانونية..

ومع معيشتهم وسط البابليين, تعلم اليهود لأول مرة الصلاة و التنجيم و تفسير الأحلام, و أخذوا عنهم شكل الكهانة المؤسسية المنظمة, و اقتبسوا منهم التقويم البابلي, و حتى راحة السبت -الأجازة الأسبوعية الدينية- جاء أصلها من بلاد ما بين النهرين..

أما التأثير الثاني فهو المصري,و قد يكون جاء عن طريقين, أولهما هو تأثير مباشر, فضمن وفود المهاجرين التي استقبلتها كنعان كان منهم – على ما يرى الكثير من الباحثين – مهاجرين جاءوا من مصر إلى فلسطين, و يرجح البعض أنهم أتباع الطائفة الأتونية التي أسسها إخناتون, و أنهم قد نفوا من مصر أو هربوا بعد زوال تلك الديانة وتجريمها في مصر, و يرى سيجموند فرويد أن من ضمن تلك الطائفة كان موسى شخصيا, و أنه كان مصريا - و ليس إسرائيليا - من أتباع إخناتون, و ثاني تأثير قد يكون غير مباشر, عن طريق حضارات وسيطة كفارس و كنعان و بابل نفسها,أي أن تلك الحضارات نقلت عن المصريين, ثم نقل اليهود عن هؤلاء الوسطاء – و إن لم يحتكوا هم أنفسهم بمصر مباشرة..

من تلك التأثيرات المصرية أسطورة الخلق, إذ كان المصريون يؤمنون بالماء الأزلي نون, الذي بدأ منه الخلق, و أن السماء يعلوها ماء من فوقها, فهي كالسقف المسطح يعلو الأرض, و يحول دون نزول الماء, و هو سقف له أبواب تفتح, و يمكن الصعود إليه بسلالم, و هي الرؤية عينها التي تبنتها التوراة (و القرآن لاحقا) للسماء, و كذلك آمن المصريون بخلق الإنسان من طين بيد الإله خنوم, و كانوا يمارسون الختان و كان كهنتهم يحرمون لحم الخنزير, و كانوا يعتقدون أن القلب هو مركز الفكر و العقل في الإنسان, و هي سمات كانت خاصة فقط بالمصريين,ثم اقتبسها آخرين و منهم اليهود..

هناك كذلك مظاهر يهودية تذكرنا بالديانة الإخناتونية تحديدا,مثل التوحيد الصارم الخالص (مع فارق مهم هو عالمية آتون –الشمس- مقابل محلية يهوه) و كذلك كراهية التصوير الديني للآلهة, وإهمال الجانب الأخروي و حياة ما بعد الموت ,و هي سمة إخناتونية تميزها عن الديانة المصرية عموما, و تشابهها التوراة إذ لا نكاد نجد فيها أثرا للبعث أو القيامة أو الحساب!, و هناك أيضا تشابه مدهش –لفت نظر الباحثين – بين ترنيمة إخناتون الشهيرة و المزمور 104 في التوراة, و كذلك فالوصايا العشرة التي تحمل صيغة النفي تذكرنا بما يسمى "الإعتراف الإنكاري" عند المصريين و هي مجموعة من الإعترافات الأخلاقية ينفيها الميت عن نفسه عند مثوله أمام الآلهة في الآخرة إذ يردد: انا لم أقتل – أنا لم أسرق- انا لم أزن-.. إلى آخر سلسلة من اثنين و أربعين ذنبا يتبرأ منها جميعا, تلك التشابهات و الإقتباسات كلها هي مما يرجح نظرية كهنة آتون المنفيين من مصر, و مساهمتهم في تشكيل الديانة اليهودية..

و الكثير من قصص الميثولوجيا المصرية, نجد صداه في التوراة, و في المسيحية و الإسلام لاحقا, فهناك مثلا قصة تسمى "الحلية الخضراء" تدور أحداثها في أيام الملك خوفو, يقوم فيها أحد الكهنة بشق النيل نصفين عن طريق تلاوة تعاويذ, كما شق موسى البحر بعصاه, وهناك أسطورة تحكي عن صراع جرى بين ساحر مصري و آخر حبشي في يوم العيد, و فيها ذكر عقوبات و كوارث حلت على مصر كالإظلام و غيرها, فيما يذكرنا بصراع موسى مع سحرة فرعون و حلول الكوارث على مصر, و في أسطورة أخرى نجد حديثا عن تمثال تمساح سحري, يتحول لتمساح حقيقى ثم يعود جمادا بمجرد أن يمسكه صاحبه,كعصا موسى إياها, و هناك قصة عن ساحر آخر يسمى "ددي", قام بقطع رأس طائر, ثم لصقها و أعاده للحياة, و كذلك نجد قصة تسمى "الأخوين" فيها بعض مشاهد مطابقة لقصة يوسف, أما السبع سنوات عجاف و المجاعة التي لحقت بمصر فنجدها في أسطورة أخرى تتعلق بالإله خنوم (وتخبرنا التوراة أن يعقوب عندما مات, قام ابنه يوسف بتحنيط جثمانه-على الطريقة المصرية) و هناك أسطورة تسمى "سي أوزير" و فيها أن زوجة ولي العهد نامت في المعبد فتجلى لها الإله في الرؤيا, و من ثم استطاعت الإنجاب, فيما سيقتبس في قصص ولادة إسحاق و لاحقا ولادة يحيى, و أشار الباحثون أيضا إلى التشابه –إلى حد تطابق بعض النصوص- بين حكم سليمان في التوراة و بين حكم أمينوبي المصري, علما بأن القصص و الأساطير المصرية تلك موجودة و محفوظة في على جدران المعابد و المقابر و في البرديات (كبردية وستكار في المتحف البريطاني), و تسبق وجود التوراة بأكثر من ألف سنة..

و هناك أساطير عديدة في مصر و كذلك بلاد الرافدين تدور حول غضب الآلهة على الناس, و من ثم قرارها بأن تدمرهم, لعل أهمها–بعد أسطورة الطوفان بالطبع – أسطورة مصرية تحكي عن غضبة الإله رع على البشر, بسبب استهزائهم به لكبر سنه, فأرسل عليهم الإلهه حتحور لتوسعهم قتلا و تفنيهم تماما, ثم ما لبث بعد أن رأي حجم الدمار و القتل أن قرر التراجع و عفا عنهم, و يبدو أن الكهنة اليهود اقتبسوا تلك الـ"تيمة" و استغلوها لمحاربة الفساد الذي تفشى في الشعب, فظهرت قصة لوط الوعظية (و ربما للقصة مغزى آخر هو الإساءة للمؤابيين و العمونيين أعداء اليهود, إذ تقول القصة أنهم أحفاد لوط الذين أنجبهم من بنتيه!), و ستصبح قصص دمار البشر تلك من التيمات المفضلة في القرآن..

أما الفرس- الذين كانوا موحدين أيضا في زمن الإسرائيليين- فأخذ اليهود عنهم فكرة الشيطان, اقتباسا من إله الشر الفارسي أهرمان, المنافس لإلهم المعبود أهورا مازدا, و أمنوا لأول مرة بالملائكة و الشياطين, و تبلورت لديهم الفكرة الأسطورية عن المخلص المنتظر الذي سيعود بعد قرون من موته في آخر الزمان ,و هي فكرة لها جذور في مصر القديمة,ففي عصر الإنهيار الأول بين الدولة القديمة و الوسطى,برزت نبوءة مجيء مخلص يوجد البلاد, ثم تبلورت الفكرة دينيا لتصبح محورا أساسيا في الزرادشتية, و كذلك في الديانة البوذية, ولاحقا ستجد طريقها إلى المسيحية و الإسلام الشيعي, و بدرجة أقل السني..

و على ما يرى بعض الباحثون فإن أسماء إبراهيم و إسحاق و يعقوب و غيرهم, هي أسماء لآلهة -جدود محلية كانت تعبدها قبائل مختلفة في منطقة كنعان و العراق, إلى جوار عشرات الآلهة الأخرى, و أن تبني الإسرائيليين لتلك الأسماء و ربطهم معا كأسرة واحدة كان من باب التوفيق و التأليف بين قبائل بعينها, تحت إله واحد (و قد ينطبق الأمر بصورة مشابهة على الأسباط الإثنى عشر), فإبراهيم في النهاية هو أب مقدس رمزي مشترك لجميع الإسرائيليين , و جاء اسمه –حسب التوراة نفسها- من "أب رحيم" ثم حرف في العربية إلى إبراهيم..

و انتقاء تلك الأساطير و تصنيفها تم كالعادة بحيث يخدم الأهداف الدينية و السياسية المطلوبة ,كالتوحيد الديني القومي و تأكيد تفوق اليهود , و كذلك لتكريس و إضفاء الشرعية على معتقدات و ممارسات معينة, فقصة رؤية إبراهيم الشهيرة و إقدامه على ذبح ابنه, لولا أن افتداه الله في آخر لحظة بكبش عظيم, هي قصة رمزية المقصود بها إعطاء شرعية دينية لإنتقال بني إسرائيل من ممارسة التضحية البشرية بالإبن بالبكر – التي كانت تمارس في أرض كنعان في ذلك الزمن, و مارسها الإسرائيليون كما تخبرنا التوراة- و تحولهم إلى التضحية بالكباش السائد في مصر,أو التضحية بقطع جزء من الجلد (الختان), و إذا تأملنا في قصة إبراهيم فسنجد أنها في الحقيقة لا تستهجن مبدأ التضحية بالأطفال تماما, إنما هي مجرد إعلان لتميز الإسرائيليين و انتقالهم لطقس مختلف, و محاولة لإعطاء تاريخي لهذا الإنتقال الذي أراده الكهنة..

و من التحولات و النزاعات الدينية التاريخية الأخرى التي نرى أثرها في التوراة, هي النزاع القديم بين أحقية الإبن البكر في وراثة الأب Ultimogeniture, مقابل الإبن الأصغر Primogeniture, فنرى قصة يعقوب ابن إسحاق,الذي بادر بشراء حق البكورية من أخيه الأكبر عيسو, مقابل بعض الطعام, ثم قام بحيلة خبيثة مع أبيه- مستغلا سن إسحاق المتقدمة و ضعف بصره- ليتنكر في شكل عيسو و يحصل على البركة من أبيه, و لم يبدو أن يهوه غضب كثيرا من تلك الخدعة, بل حلت البركة في يعقوب و نسله, و رغم تأكيد الشريعة اليهودية الرسمية على حق الإبن الأكبر و التأكيد على عدم تفضيل الأصغر نجد أن يوسف و إفرايم(ابن يوسف) و داود و سليمان, بالإضافة لإسحاق نفسه من قبل– قد حصل كل منهم على بركة أبيه, رغم كونه ليس الأكبر بين إخوته, وهوالوضع الذي جاءت قصة يعقوب لاحقا لإعطاء الشرعية له..

و رغم ربط أساطير الآباء الإسرائيليين بعلاقات تاريخية مع الأمم المختلفة, حيث زخرت قصصهم بهجرات لمصر و العراق و غيرها من البلاد (ربما لإرضاءا لبقايا نزعات قومية موجودة, أو كانعكاس لأصول الكهنة أنفسهم كتبة التوراة), نجد التأكيد دائما على التفوق اليهودي, فموسى برعاية الله انتصر على فرعون و خلص الإسرائيليين من الأسر (و هو كما يبدو إسقاط بأثر رجعي للأسر البابلي نفسه), بعد أن أغرق فرعون و جنوده (الذين كانوا من الحماقة بحيث أن رؤية البحر ينشق أمامهم لم تكن كافية لإيمانهم أو حتى لردعهم, بل دخلوا فيه, فاستحقوا عاقبة الكفر و الغباء معا!), و يوسف الإسرائيلي اللامع تبوأ مكانة اقتصادية رفيعة في أقوى دول العالم القديم, بفضل علمه اللدني في تفسير الأحلام, بالإضافة لنصائحه الزراعية الفذة للمصريين (قليلي الخبرة بالزراعة كما هو معلوم, خاصة إذا ما قارناهم بالبدو العبرانيين,و كذلك إبراهيم واجه النمرود بشجاعة (و كما يمكننا أن نتوقع, فلا يوجد ذكر تاريخي لملك يسمى النمرود) , ثم في هجرته لمصر حصل على أموال و أغنام و عطايا وافرة من فرعون مصري, مقابل حصول الفرعون على زوجته الجميلة ساره (التي أوصاها إبراهيم- لأسباب قد تكون مفهومة- أن تدعي أنه أخوها و أنها غير متزوجة!) , لكن الله يتدخل في آخر لحظة ليشل يد الفرعون المصري قبل حدوث الكارثة,ربما حماية لعرض نبيه, و ربما حماية لنسله المبارك القادم, و يبدو أن فرعون إبراهيم كان أكثر حكمة من فرعون موسى , إذ ترك إبراهيم و زوجته يذهبان بسلام, مع السماح لهما بالإحتفاظ بالهدايا كاملة, و المدهش أن التوراة تخبرنا أن القصة ذاتها تكررت بحذافيرها لاحقا أثناء وجود إبراهيم و زوجته في أرض كنعان, مع ملك فلسطيني يدعى أبيمالك (أبو مالك), بل و ستتكرر القصة في التوراة للمرة الثالثة- لكن هذه المرة مع الإبن إسحاق و زوجته! (و يبقى أن نعلم أنه حسب الأرقام الواردة في التوراة فإن عمر سارة في القصة الأولى كان خمسة و ستين عاما, و في الثانية تسعين!), ثم سنقرأ عن معارك ملك محارب عظيم يسمى داود , قاتل و هزم الفلسطينيين و غيرهم في معارك عنيفة, و دمر مدنهم و قراهم بفضل رعاية يهوه, و نسجت تفاصيل أسطورية عن مملكة سليمان العظيمة التي فاقت قوتها و أبهتها كل ما عداها من الأمم, حيث نرى بناؤه للهيكل العظيم ( بمساعدة الجن و العفاريت), و غيرها من الأمثلة التي نرى فيها عظمة و ذكاء و مهارة اليهود, و رعاية ربهم لهم, مقابل احتقار الحضارات و الأمم الأخرى و آلهتها المزيفة,فيما يبدو و كأنه ناتج عن شعور مرير بالنقص من ناحية تلك الأمم (مثل الفلسطينيين على سبيل المثال, الذين يبدو أنهم كانوا يمثلون "عقدة تاريخية" عند الإسرائيليين,حيث كانوا دائما أكثر قوة و تفوقا عسكريا, فتم تصويرهم في التوراة و كأنهم "شرير القصة" الذي يقوم البطل (عادة داود) بهزيمته مرة تلو الأخرى), فكل مجد أو إنجاز أو انتصار فشل الإسرائيليين في تحقيقه على أرض الواقع, و كل نقيصة أرادوا أن يلصقوها بقوم هم لهم كارهون, و كل مثال أو نموذج أرادوا الإستشهاد و الإقتداء به على الحاضر, قاموا باختراعه في توراة الماضي – بأثر رجعي..

و إلى جانب وصايا و أوامر"الرب",بإلزام العامة –بل و الملوك- بإتباع أوامر الكهنة و طاعتهم طاعة عمياء فيما يقولون, تمت إعادة صياغة التاريخ أيضا, لخدمة ذلك الهدف, فجاء كل مجد أو نصر أو حماية مرتبطا بعبادة يهوه و طاعة الكهنة و إرضاءهم, و جاءت كل مصيبة أو ضعف أو هزيمة كنتيجة مباشرة للشرك بإله بني إسرائيل المحلي و عبادة الآلهة الأجانب و موالاة كهنتهم,فسقوط مملكة إسرائيل الشمالية كان بسبب عبادتهم البعل, مقابل نجاة القدس بفضل يهوه, ثم جاء سقوط يهوذا لاحقا عندما تفشي الشرك و الفساد فيها, و داود جاءت انتصاراته بفضل إخلاصه ليهوه و كهنته, و حين أرادوا أن يجدوا سببا لانهيار مملكة الرب من بعد سليمان (رغم تعهد الله لداود باستمرار ملكه للأبد!) جعلوا داود يخون صديقه و يدفعه للموت في الحرب ليختلي بزوجته , أما سليمان فجعلوه في أواخر أيامه يتجه لعبادة آلهة زوجاته الأجانب, و بالتالي لم يخلص العبادة ليهوه الغيور فانقسمت مملكته من بعده, و موسى قام بذبح ثلاثة آلاف من بني قومه عندما عبدوا العجل في سيناء, (و هو مرة أخرى إسقاط بأثر رجعي على القرن الثامن ق.م, ففي إطار المنافسة الدينية بين يهوذا و إسرائيل, و كما جاء في التوراة ذاتها, أن ملك إسرائيل يربعام حاول تقديم معبود عجل ذهبي, لمنافسة يهوه في الجنوب , و بالتالي عند كتابة قصص التوراة لاحقا كان لابد أن يصير العجل الذهبي رمزا مكروها للشر و الكفر, و أتباعه يستحقون الذبح), و كما يمكننا أن نتوقع تمجد التوراة ملوك يهوذا اليهويين كحزقيا و يوشيا, بينما تلعن عمري و أهاب – الذين كان حكمهما يعد العصر الذهبي لإسرائيل- لأنهما كانا يمجدان البعل..

في هذا الإطار كان لابد لمدينة القدس الغائبة أن تنافس مجد بابل الحاضر , فإلى جانب اعتبارها مدينة مقدسة دينية, كان لابد لها كذلك أن تكون في الماضي مركزا لحضارة إسرائيلية عظيمة – ليست أعظم من مملكة عمري و أهاب فحسب, بل تفوق في عظمتها عظمة بابل و آشور و فارس و مصر مجتمعين- فتم اختراع مملكة بأثر رجعي (سليمان و داود) , كانت فيه المملكتان الشمالية و الجنوبية إمبراطورية كبيرة موحدة, لها اسم الشمالية (إسرائيل) و عاصمتها الجنوبية (القدس), قبل أن تتفكك و تنهار لاحقا, لكن الله وعدهم بالعودة, و كان قد وعد داود باستمرار ملكه , بل و من قبل أعطى وعده للجد الإسرائيلي الأكبر إبراهيم بأن يمنح له و لنسله جميع الأرض التي وطأتها قدماه ( من النيل للفرات على أقل تقدير , أي أن مجرد هجرات إبراهيم المتعددة تعطي حقا إلهيا شرعيا للإسرائيليين في مزيد من الأراضي!), و ارتبطت تلك الأفكار بمجيء المخلص المنتظر الذي سيحقق حلم الوحدة الإسرائيلية, تلك الأساطير شكلت أملا و هدفا للعوام في فترات الضعف الإسرائيلي,و استمر حافزا لهم للتوحد و التمركز حول جماعتهم و كهنتهم و إلههم,على أمل تحقيق هذا الحلم الديني-السياسي الغالي الذي وعد به الله: مجيء المسيح اليهودي الذي سيقيم إمبراطورية إسرائيلية عظمى من النيل للفرات, عاصمتها القدس- مدينة الرب اليهودي و الشعب اليهودي..

و لن يصبح هذا المخلص المنتظر هو البذرة لدين عالمي آخر قادم فحسب, بل إن هذا التراث الهزيل المحلي المتعصب غير المتناسق لجماعة من خاملي الذكر شذاذ الآفاق, الذين انتحلوا هذا التراث و التقطوه التقاطا من بقايا الحضارات العريقة الوثنية في المنطقة, و قاموا بتسخيره لأهدافهم التوحيدية الدينية السياسية الخاصة, سيقدر له أن يصبح كنزا ثمينا و نموذجا يحتذى لكل من يسعى لتحويل دعوة محلية إلى إمبراطورية عالمية, قائمة على التوحيد الديني السياسي المركزي الصارم, و سيتم إعادة اقتباس هذا التراث ذاته في طبعتين: مرة يونانيا-رومانيا, و مرة عربيا..



و للأسف كما قلت فالخطيئة الأولى في الإسلام هي الإقرار بتفضيل بني إسرائيل على أنهم شعب مختار.. وهم حتى ليسوا عرقا مستقلا أصلا و لم يكونوا كذلك في يوم من الأيام..

و الخطيئة الثانية أنهم أنسونا كل ما يتعلق بحضاراتنا العريقة في مصر و بلاد الرافدين و سوريا و جزيرة العرب..

و الخطيئة الثالثة للمسلمين هي ردة الفعل الدينية المعاكسة التي - بدلا من أن تتبني قيم الحرية و الإنسانية و المساواة و المطالبة بالحقوق العادلة و المشروعة للفلسطينيين - حولت المسلمين لشعب مختار آخر فحاربت العنصرية المقيتة بعنصرية مقيتة..
اليهود اطلق عليهم لقب اهم من شعب الله وهو كما قال يهوه لفرعون مثلا ( اسرائيل ابني البكر ) وفي العهد الجديد لا يزال يسمى المسيحين واليهود بـ (ابناء الله) ..

فالاثنين هم ابناء الله مع فارق ان اليهود (الذين لم يؤمنوا) مغضوب عليهم بسبب رفضهم الايمان بالمسيح ولكنهم لا يزالون ابناء الله كالاب الذي يغضب على ابنه لحين ما ينصلح حاله ومجئ المسيح الثاني متوقف على ايمان اليهود به حيث قال لهم (لا تروني من الان حتى تقولوا مبارك الاتي باسم الرب) !

ولكن انهم من ابناء الله من دون الناس فهذا غير صحيح لان البنوة في الكتاب المقدس مرتبطة (بالايمان والمعمودية والاعمال) فالجميع لن ينال الخلاص بدونهم !

وهذا يذكرني بحديث :

أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض ، وهو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فقال : ( ما من عبد قال : لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ) . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر ) . وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر .
الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 5827
خلاصة حكم المحدث: صحيح

بالنسبة للمسلمين .. فكل البشر عند المسلمين هم انجاس ..
فالإسلام عندهم دين مقدس وان كل ما عداه من أديان هي عقائد مدنسة. وان كل من لا يعتنق الإسلام هو نجس ..!

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]

{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران :19]

وهنا اسرح قليلا .. فكيف ينزل اله ديانتين ثم تصبح هاتين الديانتين نجستين بعد ما ينزل دين اخر بعدهم !

ما هذا الاله الذي ينجس اديان هو انزلها

﴿-;-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾-;-


على حد علمي فارتباط البنوة بالإيمان و المعمودية و الأعمال هي من الأقوال اللاحقة حتى على يسوع, فالمسيح لم يقل بها صراحة أليس كذلك؟ بل هو قال أنه بعث فقط لبني إسرائيل..

و حتى لو كان الله سيغضب عليهم إن لم يؤمنوا بيسوع فلا معنى هذا- كما قلت أنت بحق- أنهم ليسوا أبناءه..

و لا أدري كيف يكون الرب المخلص -حسب الإيمان المسيحي- مرسلا فقط لبني إسرائيل؟ و أذكرك مرة أخرى بقصة المسيح و الأم الثكلى بمرض ابنتها و التي أخبرها يسوع أن خبز الأبناء لا يلقى للكلاب.. (و الأبناء هنا هم الإسرائيليون فقط,أما الكلاب فهم- و لا مؤاخذة- أنا و أنت و سائر البشرية!)..

المشكلة يا أخي الكريم -من وجهة نظري- أن الأديان الثلاثة نقوم على نفس الفكرة العجيبة جدا: أن بني إسرائيل هم شعبا مختارا ..كيف و لماذا؟ لا أحد يدري..

لكن الفارق فقط أن المسيحية (ممثلة في بولس و الكنيسة و ليس يسوع المسيح) قررت ما يمكن تسميته بعقيدة الإستبدال- أي أن اليهود "كانوا" شعبا مختارا من دون الناس, ثم تغير الأمر فصار المسيحيون هم الشعب المختار (بدليل قولك أن البنوة مرتبطة بالايمان بالمسيح والمعمودية).. و بالتالي فهذا هو العهد الجديد (مقارنة بالعهد القديم و هو الختان)..

و جاء الإسلام فطبق نفس التكنيك و قال إن اليهود فضلوا على العالمين فعلا و لكن كان هذا حكما مؤقتا في الماضي, أما الآن فقد أصبحنا نحن خير أمة!

و هذا أمر طبيعي و مفهوم, فكل دين لابد لكي ينتشر أن يرفع من شأن أتباعه و يربط خلاص الناس بالإيمان به حصرا..( تخيل دينا يقول آمنوا بي أو لا تؤمنوا لا فرق, هل سيجد أتباعا؟!)

و أسألك يا أخي و أسأل إخواني اليهود و المسيحيين و المسلمين: ما معنى أصلا أن يكون لله أبناءا و شعبا خاصا من دون الناس – حتى و لو كان هذا أمرا مؤقتا ؟ ألسنا جميعا خلقه؟ و ما السبب بنظرك أن اليهود بالذات كانوا يعتبرون أبناء الله - خاصة في ضوء صفاتهم حسب العهد القديم و الجديد -بل و القرآن؟ ما الذي ميزهم أخلاقيا أو فكريا عن المصريين و الرافديين و الفلسطينيين و الهنود و الصينيين؟ و ما الداعي لكي تحتوي التوراة على تلك العنصرية و الوحشية البغيضة و قتل النساء و الأطفال المؤيدة و الموجهة شخصيا من قبل الرب؟ و ما العلاقة بين رب المسيحية الودود الرقيق و رب اليهود رجل الحرب؟!

إن أردت مزيدا من الصراحة عن سر مسألة الشعب المختار هذه, فالتفسير الوحيد لها يظهر حين نكتشف أن جميع القدماء كانوا يعتبرون أنفسهم كذلك! كل حضارة قديمة كان ينص دينها بصورة أو بأخرى على أنهم أبناء الإله و خاصته و شعبه المختار! كل حضارة كان لها آلهتها القومية فآمون رع للمصريين و مردوك للبابليين و بعل للسوريين و شانج تي للصينيين و هكذا..

و لم يختلف اليهود في هذا عن الأمم السابقة (و إن كانوا أكثر تعصبا و انغلافا لظروف خاصة).. كانوا في بادئ الأمر وثنيين (و ارجع للتوراة), و عندما تبنوا التوحيد تبنوا إلها قوميا محليا خاصا بهم هو يهوه رب الجنود.. و حسب التوحيد فكل القدماء كان لهم آلهة و لكن يهوه هو الإله الوحيد "الحقيقي"(!) ..

و عندما ترقى يهوه و صار -بفضل بولس ثم قسطنطين- إلها عالميا, صار أبناؤه اليهود هم أبناء الإله..

بالنسبة للجزء الثاني من كلامك, فالإسلام يعتبر المشركين أنجاس فعلا, و لكن كلمة المشركين في القرآن تطلق على عباد الأوثان. لا المسيحيين و اليهود و الذين يعتبرون أهل كتاب..

صحيح أنه -كما ذكرت أنت- أن البعض يرى الإستدلال أن اليهود و المسيحيين هم مشركون, و لكن للأمانة فالقرآن لا يقول بهذا- هو يسميهم كفارا لأنهم كفروا بمحمد (و هم غالبا في النار), و لكن أكرر: المشركون المقصودون دائما هم الوثنيين العرب..

طبعا أنا لا أوافق أن الوثنيين و لا غيرهم يمكن اعتبارهم نجس فهذها تعصب بغيض, و لكن فقط أعلق ضبطا للمصطلحات..
متفق جزئيا مع ملاحظة أن وصف غير متبعيه بالأنعام -و إن لم يكن عنصرية عرقية- فهو تعصب و قول مرسل غير حقيقي و لا يمكن إثباته بل يدخل في باب السب و القذف..

و النقطة الثانية أن القرآن لم يعارض العنصري اليهودية بل أقر بتفوق العرق الإسرائيلي على العالمين!- حتى و لو كان أمرا مؤقتا فهذا لا يلغي مبدأ العنصرية..


إله أم آلهة في الدين اليهودي.

المراحل الثلاثة للإيمان بالإله في الدين اليهودي

يؤمن أتباع جميع الديانات السماوية (اليهودية، المسيحية و الإسلام) بإله واحد و من الجدير بالذكر أن التوحيد أوضح ما يمكن في الإسلام بينما يثور الجدل في الديانتين الأخرى حول عملية التوحيد و تطورها مع تطور كل ديانة.
نشأ الدين اليهودي ضمن وسط عبادة الآلهة الكثيرة حيث أن ديانات الشعوب المجاورة كانت تعتمد على تعدد الآلهة. و لذلك نجد في العهد ا القديم بعض المواضع التي تتحدث عن تعدد الآلهة: مثل: تكوين: 6 ، مزمور: 82 ، تثنية: 32 ، ملوك 1 :23/5 ، ملوك 2: 23/5 . و مما يثبت هذا الأمر العثور في إحدى الحفريات في جنوب فلسطين على إناء برسم لزوج من الآلهة و مكتوب عليه "يهوه و عشيرة (عشيرته).
من الواضح أن القبائل الإسرائيلية كانت تعرف آلهة أخرى تم دمج عبادتها مع عبادة يهوه *. و لكن كيف تم التحول إلى عبادة الإله الواحد إي إلى الديانة التوحيدية؟
في الأصل كان الشعب اليهودي مؤلفاً من مجموعة من القبائل البدوية التي كانت تتنقل مع مواشيها ضمن مناطق الشرق الأوسط. تميزت هذه المجموعات المترحلة بأنها (أي كل مجموعة) كانت تعيش تحت زعامة ما يعادل الآن "شيخ القبيلة" و من شيوخ القبائل المشهورين لدى القبائل اليهودية وردت الأسماء المشهورة: أبراهام (إبراهيم)، إسحق و يعقوب. كجميع القبائل المترحلة كانت هذه القبائل بحاجة إلى حماية إلهية و لذلك كان الشيوخ يحملون معهم دوما تماثيل صغيرة (صغيرة من أجل سهولة التنقل) لآلهتهم المختلفة (حسب وظائفها: ضد العواصف، ضد رياح الصحراء الحارة، ضد الوحوش، … ألخ) . وجد المنقبون الكثير من هذه التماثيل إثر تنقيبهم في المناطق المختلفة من فلسطين. و كدليل على حكاية "لابان" الني نجدها في: تكوين 32/ 19-35 .
بالإضافة إلى هذه الألهة الصغيرة التي تحمي في حالة الضرورة كان يوجد إله حماية و على ما يبدو أن القبائل خلال ترحالها لم تكن تحمل صنماً أو مجسماً لهذا الإله. من الجدير بالذكر و الملاحظة تشابه أسماء الآلهة في جميع مناطق الشرق الأوسط: إيل، إيلو، إيلي، …، الله. و على سبيل المثال كان الإله الأكبر في أوغاريت: إيل EL و في القدس: إيل إيلجيون EL ELJION في القدس.
أدت التحالفات السياسية و الإجتماعية بين مختلف هذه القبائل إلى صهر التصورات الدينية المختلفة في بوتقة واحدة. و هكذا توحدت الآلهة المختلفة لإبراهيم و يعقوب و إسحاق (إنظر: خروج 3/6 ) في إله واحد و أصبحت مختلف القبائل تؤمن بعبادة إله واحد يحميهم و يقودهم و أصبح إسمه: إيلوهيم (ELOHIM) و يعني "الآلهة".
عبر أساطير و حكايات الكهنة عرف الشعب اليهودي أن "إيلوهيم" قد أنقذهم عدة مرات و لذلك إنتشرت عبادة "يهوه"، هذه الكلمة المؤلفة من أربعة أحرف و التي لا تُلفظ أبداً و التي تحمل في طياتها المعنى: "أنا هنا" (إنظر: خروج: 3/14) و هكذا إتخذت هذه القبائل الإله المشترك "إيلوهيم-يهوه" الذي إسمه يعني: "الآلهة-أنا هنا". من الجدير هنا بالملاحظة أنه بالرغم من كون هذا الإله مذكر إلا أنه حمل في داخله بعض الصفات الأنثوية و ذلك يعود برأينا إلى التفاعل بين الثقافات و الديانات الذكرية و الأنثوية في ذلك الوقت
و كمثال على ذلك نرى أن "الرحمة " هي إحدى صفات هذا الإله و هذه الكلمة هي (رخمة - RUCHAMA) باللغة العبرية و هذه الكلمة تعني لغويا "حضن الأم".
هكذا أصبح إيلوهيم رب الأرباب أو رب جميع الأرباب و هذه كانت الخطوة الأولى في عملية التوحيد في الدين اليهودي في هذه المرحلة التي كان فيها المجمع الإلهي اليهودي يتكون من رب الأرباب و جمع من الآلهة الصغيرة. في هذا المجال تعطينا حكاية "إيليا" في (الملوك الأول: 18 ) نظرة عامة عن الإنتشار الواسع لديانات تعدد الآلهة في تلك الفترة و بشكل خاص فإن النصوص التي تتحدث عن عبادة إله واحد في العهد القديم تتحدث عن وجود آلهة أخرى إلى جانب هذا الإله.
يجب أن لا ننسى هنا أن التوحيد لم يكن "إختراعاً" يهوديا إذ سبق التوحيد في مصر التوحيد اليهودي بسنيين طويلة. فتحت حكم الفرعون إخناتون نشأت الديانة التوحيدية في مصر و لكنها لم تستمر طويلاً و سقطت تحت ضربات الديانة تعددية الآلهة.
لم يكن التوحيد في الديانة اليهودية كافيا من أجل إنشاء و تشكل شعب يهودي واحد من القبائل المترحلة و قد أدت إلى ذلك عوامل أخرى منها أيضا عوامل إقتصادية في صهر هذا الشعب و فيما بعد أصبحت الرموز اليهودية (الختان، النظافة، تقاليد يوم السبت) ضمان لإنتشار و لتأكيد عبادة الرب الواحد.
بإختصار شديد:
مرت الديانة اليهودية في ثلاث مراحل من أجل الوصول إلى التوحيد و هذه المراحل هي:

1- الإيمان بعدة آلهة:

حيث كانت تقوم على الإيمان بعدة آلهة لها وظائف مختلفة. (إنظر: يشوع: 24/2 ، تكوين 31/19-35)
2- عبادة إله واحد و الإعتراف بعدة آلهة:
عبادة إله واحد مع الإعتراف بوجود آلهة أخرى إلى جانبه. (إنظر : تثنية: 10/17)
3- عبادة إله واحد و إنكار وجود آلهة أخرى (التوحيد):
عبادة إله واحد و إنكار وجود إلهة أخرى (إنظر: إرميا: 10/1-15).
-------------------------------------------------------------
*) يهوه : ما هي الطريقة الصحيحة لكتابة هذا الإسم: يهوهJHWH أو يهوفه JEHOVE؟
من الخوف من الرب كان الشعب اليهودي لا يلفظ إسم الرب. أي أنهم كتبوا أحرف الكلمة يهوه و لكنهم لم ينطقوها و كبديل عن ذلك كانوا ينطقون كلمة أدوناي ADONAI التي تعني "سيد" . من أجل المساعدة الكتابية دمج الكهنة في ذلك الوقت كلمتي "يهوه" مع كلمة "أدوناي" فحصلوا على الكلمة يهوفه. و طالما أن الكلمة يهوه لم تُلفظ أبداً لذلك بقي اللفظ الحقيقي لهذه الكلمة غير معروف.
إلهي قل لي من خلا من خطيئة
و كيف ترى عاش البريء من الذنب
إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله
فما الفرق بيني و بينك يا ربي؟


ما أردت عرضه و ما حورت معناه أنت هو أن الديانة اليهودية ما هي إلا تطور عن الديانات التي سبقتها و كذلك فكرة التوحيد ما هي إلا تطور عن الأفكار التي سبقتها ...
كذلك هي المسألة لدى الدين المسيحي أي أن المسيحية هي تطور للدين اليهودي ...
أوافقك الرأي بأن العهد القديم ليس كلاما منزلا و لكنه ليس وحيا أيضا لسبب أساسي و هو إنتفاء إمكانية وجود هذا الإله الذي تدعيه الديانة اليهودية ...
فالعهد القديم ،كما تعرف، هو عبارة عن روايات شفهية منقولة تم تدوينها في فترات مختلفة من أشخاص مختلفين و من ثم تم إدراجها في كتاب واحد لا تسلسل منطقي فيه و لا شيء آخر سوى أخبار منقولة بأغلبها عن قصص و أساطير الشعوب التي سبقتها ثم إنتحالها لشخصية الإله الكبير من أجل الحفاظ على السلطة في أيدي هؤلاء الكهنة



#سامي_المنصوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاساطير في الاديان
- تأثيرات زرادشتية ( فارسية) في - الاديان – 4
- تأثيرات زرادشتية ( فارسية) في - الاديان - 3
- تأثيرات زرادشتيه في الا ديان – 2 -
- تأثيرات زرادشتية ( فارسية) في - الاديان - 1 -
- أساطير صينية ايضاً موجودة في القرآن
- اساطير سرجون السومري و موسى 2
- ألتناقض بين بولس و المسيح - 3 -
- ألتناقض بين بولس و المسيح - 2 -
- ألتناقض بين بولس و المسيح - 1 -
- موسى و سرجون ألاكدي
- هل كان الله هو الإله القمر
- هاروت وماروت
- عام الفيل
- المتاهة الكبرى في ( اليهوديه - المسيحيه - المندائيه – الاسلا ...
- المتاهة الكبرى في ( اليهوديه - المسيحيه - المندائيه – الاسلا ...
- خريطة المتاهة الكُبرى - في اليهوديه المسيحيه الاسلام - 2 -
- خريطة المتاهة الكُبرى - في اليهوديه المسيحيه الاسلام - 1 -
- المتاهة الكبرى في ( اليهوديه - المسيحيه - المندائيه – الاسلا ...
- القطيعة الايديولوجيّة بين اليهود النصارى و العرب - إنجيل الع ...


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي المنصوري - أسطورة شعب الله المختار - أصل التوحيد الإبراهيمي