عائشة مشيش
الحوار المتمدن-العدد: 4336 - 2014 / 1 / 16 - 19:33
المحور:
الادب والفن
محاولة النبش في الذاكرة ...!
عادت بفكرها ..وهي جالسة إلى شرفة تطل على مشهد كثيرا ما سمعته في تلاوة قرآنية تتحدث عن الجنة ..!
كان مشهدا فردوسيا بكل ما للكلمة من معنى .. كانت جبال الألب مكسوة بطبقة ثلجية بيضاء تطل من بينها على استحياء بعض غصون الصنوبر الخضراء .. وتبدو البيوت بقرميدها الأحمر كأنها حبات رمان منتشرة في تناسق وجمال حرص عشاق الجمال على جعله مشهدا مرسوما بريشة هندسية رائعة للنظر وللسكن ...!!
إلى أيام خلت ليست ببعيدة عادت بفكرها..كان كل شيء مبهجا ..داعيا إلى الآمن والآمان ..
تنهض صباحا لتجد أما رغم انشغالها حريصة على جعل فطورها مناسبة متجددة كل يوم بما تضيفه على مائدتها من ألوان كالحياة, وكأنها كانت تعرف أن تلك اللحظات هي ما تملكه من الحياة .. فازة للورد وفناجين متناسقة للقهوة و عصير برتقال تحرص أن يشرب كل يوم لتقوية نشاط عائلتها ..ونافذة مشرعة على الحياة وحديقة صغيرة , تضفي على المكان قيمة الحياة وروعتها ..
وتجد أبا بعد أن ارتدى ملابسه بعناية نزل إلى زوجته يتعلم منها كيفية إعداد المائدة كل يوم لينسى اليوم الثاني.. وكأنه عمدا يتصنع ذلك ...فتداعبه بقولها انتم بغيرنا لا تستطيعون التحرك ..فيجيبها..
فعلا نحن بدونكم لا شيء..لهذا قررت الزواج بأخرى لكي تتعاونا معا فتصرخ فيه بلطف إن وجدت أحلى فافعل..!؟
كان مشهدا جميلا مثاليا حتى كأنه من فرط مثاليته لم تكن تصدق إنها قد تحظى به العمر كله..
ينزل إلى الإفطار باقي الأبناء ممن بقين في البيت ..ليفطرن وهم على عجل بسبب قرب انشغالهم
كل إلى ميدانه ..
لم تكن تحس إن هذا المشهد قد يتغير لأنه عادي بالنسبة لها..!؟ فهو ما وجدت على الأرض وليس
الذنب ذنبها لأنها لم تعرف غيره ..!! بل ما عرفته في وسطها كان يشبهه وذلك بفروق بسيطة لم تكن لتؤثر
على منطقها وخلفيتها عن الحياة الأسرية ..
تنتهي من فطورها بمساعدة والدتها التي كانت ترى فيها آخر العنقود والتي يجب أن تدلل وأن تحظى بكثير من العطف والحنان , وذلك ما يدعوها إلى الرد على أخواتها ..هي أصغركم وفتاة , ويجب إن تحبونها بحبكم وعاطفتكم ..
لم تكن تحب كثيرا هذا الدلال على خلفية أنها فتاة ..!؟ كان شيء ما ينشأ داخلها ولم تكن بعد قد عرفت ما معنى الرجل والمرأة
أو ما تعني هذه الكلمات النوعية من إشكالات حياتية نظامية عقائدية في حياة المجتمع ككل..؟!!
كانت تعتقد أن النوع هو للتكامل فقط ولم تعرف انه نوع فارق حتى في القيمة وفي درجات الدنيا
التي تجعل من الأنثى شيئا أدنى ومن الرجل شيء أعلى..؟!!
مساواتها بأخواتها في الأسرة لم يكن أحد يشعرها أنه امتياز ..بل كان موقفا عاديا من أبيها وأمها ..وباقي أسرتها الصغيرة..
بدأت تستكشف العالم الخارجي بشيء من الدهشة والاستغراب وكأنها آتية من عالم آخر لا ينتمي إلى هذا الذي تراه ..؟
لم يكن التلفاز من الأشياء المفضلة عند أسرتها, كان الكتاب هو احد الأشياء الجميلة والأساسية في البيت..
كان أبوها يقول ..!
التلفاز هو نتاج رأسمالي مستبد يفتك بعقول المشاهدين وينوب عنهم في التفكير وفي الإجابة دون اختيار..وهذا يلغي العقل ولا يحفز على التفكير السليم ..بينما كان يرى أن الكتاب هو خلاصة فكر يجعلك تسأل وتبحث بنفسك عن الإجابة مما يجعلك تقرأ الثاني والثالث وهكذا إلى أن تجد أجوبة لأشياء وأسئلة عن أشياء أخرى لا تنتهي ....؟!
لهذا كانت مكتبة البيت تحمل من كل نوع وفن وطرف..العلمي على الأدبي على السياسي على التاريخي على الاجتماعي والنفسي ..
تطلعت خارج دائرتها لتجد المرأة مختزلة في أعمال المنزل والسخرة كأنها عبده حتى ولو كانت في بيتها تحمل في بطنها الحياة وتنثر على من حولها بعضا من عمرها , ناسية وهي تفعل ذلك أن تنظر في المرآة إلى وجهها الذي يذبل مع كل نبضة حياة تبعثها إلى الأرض ..لتفاجأ كثيرا بمنافسة لها على الأرض تأخذ ما زرعته هي لتبدأ بذلك رحالات العذاب الطويلة التي لا تنتهي إلا بنهايتها وكأنها الحل الأمثل لمعاناتها ..!!
كان وضع المرأة في بلاد العرب ومنها بلادها المتنوعة الأعراق والثقافات واللهجات والعادات...
منها الجميل والمفرح وأكثرها محزن ومغرق في الغيبيات والتي تجعل المرأة في أكثر درجات الدنيا دونية..
تنفست الصعداء وهي تتذكر النقاشات التي كانت تدور في بيتها عن الحالة العربية المزرية والغائبة في
غياهب الماضي, كانت تحدث نفسها حين تخلوا إليها..!!
لما علينا أن نعيش ما كان , بينما نحن في حاضر تغير عن قبل وتغيرت معايره ومعطياته ..؟!
وكيف نعيش ماضي , وأمامنا مستقبل تتسارع وثيرته بشكل سريع ولا نكاد نلتقط أنفاسنا ونحن نلهث ورائه...؟!
كان وضع الفتيات والنساء عامة يثير غضبها واستيائها , وكانت تسأل كثيرا والديها وأخواتها , لما فلانة وعلانة بهذا الوضع ..؟! لما عليها ان تقبل بهكذا حياة ..؟!
طبعا كان سؤالا ساذجا فالأمر ليس هينا, عرفت ذلك وهي تدرس وتطالع وتبحث, كان على المرأة أن تتحرر اقتصاديا وأيضا فكريا ..وذلك لن يتأتى إلا بثورة فكرية شاملة تشمل الرجل والمرأة معا ..
فلا تحرر للمرأة مادام الرجل مستعبدا لفكره وقيمه البالية ولمصلحته وامتيازاته الحياتية..
كان الأمر يبدو صعبا بحيث يجعل قلبها يئن من تعب الانتظار والحنين لان ترى المرأة إنسانة ذات شخصية وذات مسؤولية وصاحبة قرار واختيار ..
أغمضت عينيها برهة , ثم استرسلت في ذكرياتها الطويلة الغنية رغم قصر سنواتها العمرية..
تفرق الأبناء عن والدتها, من تزوج ومن ذهب للدراسة والباقين على مفترق الطرق ينتظر ساعة الحسم..
ثم....
كانت الهزة الأولى , كان زلزالا عاصفا في حياتها ,كان مرضا خفيا يختبئ بين طيات جسد والدتها .. ؟!
كانت تلك الشعلة من الأناقة والنشاط والفرح والبهجة والامتلاء تخبوا مع الأيام, لتصبح فيما بعد عدم..!!
كان العدم كأنه يتربص بها حين اتفق مع الحياة على اغتيال أمها , بدون أي مبرر سوى رغبة من العدم أن يمتلئ بكل ما فيها من حياة ..
وبعدمها انتهى كل شيء ..خاب بريق عينا أبيها , أصبح لونه باهتا ..أصبح حديثه قليلا, نظراته تذهب بعيدا حيث قلبه يرقد..يبتسم فقط ليقول انأ مازلت هنا ..!!
كان الزلزال أكثر من طاقتها , من احتمالها ..من قدرتها الاستيعابية, لم تستوعب أن تعذب النساء على الأرض, فكيف وهناك من يغتالهن باكرا وفي عمر النضج والعطاء...؟
بدأ بذلك الزلزال عهد ثاني في حياتها, انهمكت في الدراسة والقراءة, كانت تقرأ لتعرف ما لغز الحياة والعدم..؟
كانت تريد أن تعرف ما الحكمة من وجودنا مادمنا سننتهي إن عاجلا أو أجلا..؟
كانت تريد أن تعرف ما هو الله..؟
أن تقرأ عنه ..أسماءه متناقضة ما بين المنتقم وبين الرحيم...؟!!
كيف يكون رحيما ثم ينقلب إلى منتقما ..؟
ولما ينتقم وقد حكم عليهم بالحياة وفق منظومة بيتها من قبل في أوراقه التي قيل أنها أنزلت على أشخاص اختارهم دونا عن الباقين ليضع بذلك دستورا لا يتغير مدى الحياة, وليهدد ويتوعد وأحيانا يشفق ويبعث مغفرته..؟
لما ..؟
ما الحكمة من اجتياز امتحان خاسر لإنسان يحمل في طياته تناقضات الله نفسه ..!!
فهو الرحيم , وأيضا المنتقم..؟
كانت تتساءل وتجد أجوبة وتتساءل ولا تجد كل الأجوبة ...
وعلى غفلة منها جاء الزلزال الثاني الذي لم يتأخر كثيرا في مجيئه حيث اغتال العدم أبيها, فلم يستطيع الانتظار طويلا ليلتحق بقلبه الذي واراه التراب قبل أربع سنوات..
ما أن غادر من فوق الأرض إلى باطنها..حتى غادرت هي إلى أختها , في بلاد للمرأة دورا وقدرا من الحرية والاختيار..
كان قرارا بتغير حياتها والتعود على الوجع بنسيانه أو بجعله ينزوي داخل حجرة من حجرات قلبها الصغير الفتي , كانت تعرف أن محاولة النسيان هي فقط التأقلم مع عدم وجود بعضا منها وتقبل البعض الآخر بديلا عنه..؟
غادرت إلى مدينة عرفتها قديما حين كانت تسافر إليها وهي بعد طفلة تلهو وتلعب وتقفز في مدينة الألعاب التي تشع حياة وبهجة...
بلاد تشع نورا..لمن يبحث عنه ... بلاد لا تتحدث عن العدم كثيرا..بل عن الحياة , عن المستقبل وعن الإنسان الذي يسكن الله ..ولا يسكنه الله ... بل هو اتفاق على الحياة معا دون استبداد احدهما على الآخر ...
وللحديث بقية ...
عائشة مشيش....
#عائشة_مشيش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟